فقالت: «إن الوجوه لا تدل على الإحساب يا ولدي.»
فقالت: «قد علمت أنه من أمراء العراق وهذا يكفي وهبي أنه أقل من ذلك فقد تسلط على عواطفي بقوة من الله تمجد اسمه فها قد أطلعتك على مكنونات قلبي.» قالت ذلك وأطرقت حياء وقلبها يرقص فرحا لما آنسته من مجاراة والدتها ووعدها بالمساعدة.
فقالت سعدى: «وكيف عرفت حسبه؟»
فانتبهت هند لما ارتكبته من الكذب في ذهابها إلى دير بحيراء فهمت بيدي والدتها وجعلت تقبلهما وتقول: «اصفحي عن زلتي فقد ارتكبت ذنبا يوجب غضبك.»
فقالت: «وماذا تعنين؟»
فأحكت لها حكاية دير بحيراء واعترفت بكل ما دار بينها وبين حماد باختصار وحشمة وهي تطرق تارة وتبتسم أخرى ووالدتها مصغية تتطاول بعنقها حتى أتت على آخر الحكاية فأحست كأنها أفاقت من غفلة فسايرتها وطمأنت قلبها ولكنها صبرتها لتدبير وسيلة لا تشين شرفها أو شرف عائلتها.
فإطمأن بال هند من قبيل رضاء والدتها ولكنها ما زالت قلقة لفرار حماد بل صارت بعد ما آنسته من تلك الملاطفة أكثر قلقا عليه كأن خوفها من المعارضة كان شاغلا لها عن التفكر بما وقع فيه حماد من الخطر فلما فرغت من ذلك الخوف تعاظم قلقها. وكانت الشمس قد مالت نحو المغيب وهما لا تعلمان لو لم تريا الرعاة عائدين بالماشية من المراعي إلى الزرائب بالقرب من الصرح فهمتا بالنهوض ومشتا الهوينا وكل منهما في شاغل فكانت هند في هاجس عظيم على حماد وما هو فيه وهمها كثيرا البحث عنه فرأت أن تغتنم تلك الفرصة للاستعانة بوالدتها على ذلك فدنت منها وأسندت يدها على كتفها وهما ماشيتان وخاطبتها بدالة البنوة قائلة: «ما الحيلة يا أماه لكف سعاية ثعلبة عن حماد أيحل في شرع الله أن يذهب هذا الشهم فريسة الحسد والغدر.»
قالت: «خففي عنك يا ولدي وكوني مطمئنة فإني كافلة نجاته بإذن الله ولا بد من الصبر والتؤدة لنرى ماذا تم من أمر حماد وفراره.»
قالت ذلك وهي ترتاب ببقائه حيا وكانت تحدثها نفسها بأعظام عمل ابنتها وتنازلها إلى حب رجل غريب وعدت نفسها مخطئة بمسايرتها في ذلك ولكن ضعف أملها ببقاء حماد في قيد الحياة كان يهون عليها ذلك فبالغت في طمأنتها حتى وصلت إلى صرح الغدير وقضتا بعض تلك الليلة في مثل هذه الأحاديث وفى الصباح التالى بدأت سعدى تشتغل باستطلاع خبر حماد فعلمت بعد أيام أن هرقل عفا عن عبد الله وأمر له بكتاب الأمان فأخبرت هندا بذلك فاطمأن بالها لعلمها أنه إنما فر خوفا من ثعلبة واتهامه بالجاسوسية فغدت تترقب من يعلمها بمقر حماد لتبلغه ذلك فلم تجد إليه سبيلا فلما طال غيابه زاد قلقها عليه فصبرت نفسها تنتظر ما يأتي به القدر وهي تنذر النذور سرا لدير بحيرا.
الفصل الرابع والعشرون
صفحة غير معروفة