أبطال الرواية
مراجع رواية فتاة غسان
الجزء الأول
1 - ملوك غسان
2 - فتاة غسان
3 - السباق
4 - هند في غرفتها
5 - حماد
6 - مدينة بصرى
7 - دير بحيراء
8 - الراهب بحيراء
9 - لقاء الحبيبين
10 - النجاة
11 - مسبعة الزرقاء
12 - عبد الله في السجن
13 - هرقل
14 - دعوة الملوك إلى الاسلام
15 - أبو سفيان
16 - سيرة صاحب الشريعة الإسلامية
17 - عود عبد الله
18 - جواد حماد
19 - عمان
20 - غزوة مؤتة
21 - حماد وسلمان
22 - عوامل الغيرة
23 - هند وأمها
24 - منادي دير نجران
25 - التفتيش عن عبد الله
26 - الخطبة
27 - كشف السر
28 - موقف هائل
29 - الاستغراب
30 - اليأس من وجود عبد الله
31 - حماد في خيمته
32 - سلمان وأخباره
33 - وعند جهينة الخبر اليقين
34 - ثعلبة
35 - جبلة والحارث
36 - قرطا مارية
37 - حماد وآماله
38 - ساعة اللقاء
39 - الوداع
40 - السفر إلى الحجاز
41 - البحيرة
42 - آبار بدر
43 - سبب الغزوات
44 - غزوة بدر الكبرى
45 - بكر وخزاعة
46 - مكة المكرمة
47 - فتح مكة
48 - اليأس
الجزء الثاني
مقدمة الجزء الثاني من فتاة غسان
49 - المناجاة
50 - حسان بن ثابت الأنصاري
51 - اللقاء
52 - واقعة مؤتة
53 - يوم الشعانين
54 - هند في صرح الغدير
55 - هند والقمر
56 - البشارة
57 - حماد وهند
58 - جبلة
59 - قص الشعر
60 - كشف السر
61 - ملوك الحيرة
62 - مقتل النعمان بن المنذر
63 - السر
64 - وقعة ذي فار
65 - دولة الفرس
66 - المدائن
67 - إيوان كسرى
68 - انس أم جان
69 - ناسك حوران
70 - انذر القاتل بالقتل
71 - البرد والخاتم
72 - كل سر جاوز الاثنين شاع
73 - إن الله مع الصابرين
74 - حصون بصرى
75 - رومانوس وتراجان
76 - فتح بصرى
77 - فتح الحيرة
78 - وقعة اليرموك
79 - خبر مفاجئ
80 - هند في دمشق
81 - حصار دمشق
82 - داخلية دمشق وحال الروم فيها
83 - كنيسة ماري يوحنا
84 - باب الفرج
85 - صلح الشام
86 - خصام أبي عبيدة وخالد
87 - الاستطلاع
88 - مهمة خطرة
89 - خيبة المسعى
90 - سلمان
91 - حصار بيت المقدس
92 - صلح بيت المقدس
93 - الإمام عمر بن الخطاب
94 - جبلة بن الايهم
95 - مشورة وذكرى
96 - وقعة القادسية
97 - ويأتيك بالأخبار من لا تسائله
98 - هند في دير هند
99 - وادي الفرات
100 - الفشل
101 - فتح المدائن
102 - أين هند
103 - أين الشجي من الخلي
104 - المناجاة
105 - لقاء هائل
106 - دير هند الصغرى
107 - قران سعيد
أبطال الرواية
مراجع رواية فتاة غسان
الجزء الأول
1 - ملوك غسان
2 - فتاة غسان
3 - السباق
4 - هند في غرفتها
5 - حماد
6 - مدينة بصرى
7 - دير بحيراء
8 - الراهب بحيراء
9 - لقاء الحبيبين
10 - النجاة
11 - مسبعة الزرقاء
12 - عبد الله في السجن
13 - هرقل
14 - دعوة الملوك إلى الاسلام
15 - أبو سفيان
16 - سيرة صاحب الشريعة الإسلامية
17 - عود عبد الله
18 - جواد حماد
19 - عمان
20 - غزوة مؤتة
21 - حماد وسلمان
22 - عوامل الغيرة
23 - هند وأمها
24 - منادي دير نجران
25 - التفتيش عن عبد الله
26 - الخطبة
27 - كشف السر
28 - موقف هائل
29 - الاستغراب
30 - اليأس من وجود عبد الله
31 - حماد في خيمته
32 - سلمان وأخباره
33 - وعند جهينة الخبر اليقين
34 - ثعلبة
35 - جبلة والحارث
36 - قرطا مارية
37 - حماد وآماله
38 - ساعة اللقاء
39 - الوداع
40 - السفر إلى الحجاز
41 - البحيرة
42 - آبار بدر
43 - سبب الغزوات
44 - غزوة بدر الكبرى
45 - بكر وخزاعة
46 - مكة المكرمة
47 - فتح مكة
48 - اليأس
الجزء الثاني
مقدمة الجزء الثاني من فتاة غسان
49 - المناجاة
50 - حسان بن ثابت الأنصاري
51 - اللقاء
52 - واقعة مؤتة
53 - يوم الشعانين
54 - هند في صرح الغدير
55 - هند والقمر
56 - البشارة
57 - حماد وهند
58 - جبلة
59 - قص الشعر
60 - كشف السر
61 - ملوك الحيرة
62 - مقتل النعمان بن المنذر
63 - السر
64 - وقعة ذي فار
65 - دولة الفرس
66 - المدائن
67 - إيوان كسرى
68 - انس أم جان
69 - ناسك حوران
70 - انذر القاتل بالقتل
71 - البرد والخاتم
72 - كل سر جاوز الاثنين شاع
73 - إن الله مع الصابرين
74 - حصون بصرى
75 - رومانوس وتراجان
76 - فتح بصرى
77 - فتح الحيرة
78 - وقعة اليرموك
79 - خبر مفاجئ
80 - هند في دمشق
81 - حصار دمشق
82 - داخلية دمشق وحال الروم فيها
83 - كنيسة ماري يوحنا
84 - باب الفرج
85 - صلح الشام
86 - خصام أبي عبيدة وخالد
87 - الاستطلاع
88 - مهمة خطرة
89 - خيبة المسعى
90 - سلمان
91 - حصار بيت المقدس
92 - صلح بيت المقدس
93 - الإمام عمر بن الخطاب
94 - جبلة بن الايهم
95 - مشورة وذكرى
96 - وقعة القادسية
97 - ويأتيك بالأخبار من لا تسائله
98 - هند في دير هند
99 - وادي الفرات
100 - الفشل
101 - فتح المدائن
102 - أين هند
103 - أين الشجي من الخلي
104 - المناجاة
105 - لقاء هائل
106 - دير هند الصغرى
107 - قران سعيد
فتاة غسان
فتاة غسان
تأليف
جرجي زيدان
أبطال الرواية
جبلة بن الأيهم:
من ملوك غسان.
الحارث بن أبي شمر:
من ملوك غسان.
عبد الله:
من أمراء العراق.
هند:
ابنه جبلة.
ثعلبة:
ابن الحارث.
حماد:
ابن الأمير عبد الله.
سعدى:
أم هند.
سلمان:
خادم حماد.
خالد بن الوليد:
قائد جيش المسلمين في العراق.
أبو عبيدة الجراح:
قائد جيش المسلمين في الشام.
مراجع رواية فتاة غسان
هذه هي المراجع التي اعتمد عليها المؤلف في تأليف الرواية ووقائعها التاريخية :
تاريخ الطبري - تاريخ أبي الفداء - تاريخ المقريزي - تاريخ ابن الأثير - تاريخ المسعودي - تاريخ العرب لنويل ديفرجه - تاريخ الرومانيين - تاريخ الإنشقاق - تاريخ ابن خلدون - تاريخ الأنبياء - تاريخ الواقدي.
نهاية الأرب في معرفة قبائل العرب.
صموئيل شارب - إسحاق الكندي.
دائرة المعارف البريطانية.
الأغاني للأصفهاني.
كتاب ياقوت.
صناجة الطرب.
عن المؤرخين: جون مري، وملبطرن، وسيريل، ونوركهارت، وفوشيه، ومريل، ووادنتن.
معجم الآثار الدينية.
السيرة الحلبية.
سيرة ابن هشام.
أديان العرب.
السيرة الشامية.
الجزء الأول
الفصل الأول
ملوك غسان
بنو غسان عرب منتصرة كانوا عمالا لقياصرة الروم في الشام وأصلهم يمنيون من بني قحطان هاجروا اليمن بعد سيل العرم، والعرم سد كان بجوار مدينة مأرب باليمن يعرف بسد مأرب تهدم في القرن الأول للميلاد وطافت مياهه على ما جاوره من البلاد والقرى فقل سبيل الناس إلى الاستقاء فنزح أهلها إلتماسا للرزق ومنهم الغساسنة نزلوا ضواحي الشام بقرب ماء اسمه غسان فنسبوا إليه واعتنقوا الديانة المسيحية ويسميهم مؤرخو الإسلام العرب المنتصرة ويعرفون أيضا بملوك غسان. وأول من عرف منهم جفنة عاش في القرن الثاني للميلاد واتصل الملك بعده بنسله فحكم منهم نحو 27 ملكا آخرهم جبلة بن الأيهم وفى أيامه ظهر الإسلام وفتحت الشام على عهد الخليفة أبى بكر الصديق وانقرضت دولتهم كما سترى. ولكن منهم الآن بقية متبعثرة في ضواحي البلقاء واليرموك وحمص.
ومن العرب المنتصرة ملوك الحيرة ويقال لهم المناذرة (جمع المنذر) أو الملوك اللخميون نسبة إلى لخم بن عدي وهم من عرب اليمن نزحوا أيضا بعد السيل وأقاموا في العراق وكانوا عمالا للفرس هناك ونسبتهم إلى ملوك الفرس كنسبة ملوك غسان إلى قياصرة الروم أي أن كلا من الفريقين كانوا عمالا لإحدى هاتين الدولتين.
فالغسانيون كانوا يقيمون في حوران والبلقاء وما جاورهما وكانوا أشبه شيء بالولاة المستقلين تحت رعاية الرومانيين فيمتازون عن ولاة الروم باستقلالهم في حكومتهم الداخلية تحت شروط معلومة فيؤدون الجزية ويمدون الرومانيين بالجند من قبيلتهم عند الحاجة وخصوصا في حروبهم مع الفرس. أو لعلهم كانوا من قبيل أصحاب الإقطاعات والمتعهدين.
وكان العالم قبيل الإسلام تتنازعه دولتان عظيمتان الفرس في الشرق والرومان في الغرب لا يكاد يفتر النزاع بينهما فيستعين الفرس بالمناذرة ويستعين قياصرة الروم بالغساسنة فتولد بين تينك القبيلتين العربيتين المسيحيتين ضغائن توارثها الأبناء عن الآباء وكثيرا ما كانت تقوم الحرب بينهما حتى يكاد يبيد أحدهما الآخر.
والنزاع بين الفرس والروم قديم وكأنه طبيعي بين المشرق والمغرب فقد كانت الحروب متواصلة قبلا بين الفرس واليونان ثم بين الفرس والرومان وكانت عاصمة الفرس المداين بالعراق وعاصمة الرومان القسطنطينية فقضوا أجيالا متوالية وهم بين حرب وصلح تارة يجردون الجند وطورا يعقدون الصلح. ففي النصف الثاني من القرن السادس للميلاد كان ملك الفرس كسرى رويز وإمبراطور الروم موريسيوس (والعرب تسميه موريقى) فثارت في بلاد الفرس ثورة داخلية آلت إلى خلع كسرى فالتجأ إلى موريسيوس فساعده وأعاده إلى ملكه وكان ذلك داعيا إلى مصالحة وهدنة. وفي سنه 602م قتل موريسيوس هذا قتله فوكاس (فوقا) وتولى هو الملك مكانه وكان على الفرس كسرى برويز المذكور وكان صهرا لموريسيوس قد تزوج ابنته ماريا فلما سمع بمقتل حميه اعتبر معاهدة الصلح بينهما لاغية وحمل بجيشه على القسطنطينية متظاهرا بالانتقام من قاتل حميه وهو يضمر الاستيلاء على مملكة الروم فظلت القسطنطينية أثناء حكم هذا الإمبراطور في حصار دائم فمل الناس حكومته فثاروا عليه وأرادوا خلعه فاستدعوا هراكليوس (هرقل) ابن والى القيروان عن الروم فجاء سنة 610م بعمارة بحرية ودخل القسطنطينية عنوة وقتل فوقا وتولى مكانه والفرس قد قاموا على الروم قومة واحدة فكان كسرى محاصرا القسطنطينية بنفسه وكان قائد من قواده محاصرا بيت المقدس وآخر محاصرا الإسكندرية والناس يفرون من وجه الفرس من كل صوب فلم تأت السنة الخامسة من حكم هرقل حتى استولى الفرس على القدس وفى الثامنة (سنة 618) دخلوا الإسكندرية واستولوا على مصر السفلى فلاقوا من أهل الشام ومصر ترحابا وارتياحا لارتباطهم معهم ومع جندهم اللخميين برابطة الوطن الشرقي والعوائد الشرقية فلبثوا تحت نيرهم عشر سنوات ثم اشتغل الفرس بعصيان بعض ولاياتهم فضعف أمرهم فاغتنم هرقل تلك الفرصة وحمل عليهم بجنده فأخرجهم من الشام ومصر وأعاد المملكتين إلى حوزة الروم ولم يكد يستريح هرقل من هذه الحروب حتى جاءه المسلمون في أوائل الهجرة مفتتحين وهو لا يزال في سوريا وحصونه لا تزال متهدمة وجيوشه متبعثرة وسائر قواته متضعضعة.
وكان بنو غسان تحت سيطرة الوالي الروماني المقيم بدمشق بأمر إمبراطور المملكة الرومانية الشرقية المقيم في القسطنطينية فترد الأوامر الإمبراطورية من الإمبراطور إلى والي دمشق وهو يبلغها إلى ملك غسان.
وكان كرسي حكومة الغسانيين تارة في عمان بالبلقاء وطورا في تدمر وأحيانا في الجولان وتارة في بصري عاصمة حوران في ذلك العهد.
ففي نحو السنة السابعة للهجرة (629) كان على الغسانيين في الشام ملكان في وقت واحد أحدهما الحارث بن أبى شمر والآخر جبلة بن الايهم وكان الحارث يقيم في بصرى وفى مكانها الآن قرية صغيرة اسمها اسكي شام أي الشام القديمة وسيأتي ذكرها وبجوار بصرى هذه دير بحيراء الذي نزل عنده أبو طالب ومعه ابن أخيه صاحب الشريعة الإسلامية يوم قدموا الشام للتجارة قبل ظهور الدعوة الإسلامية ببضع وعشرين سنة.
وأما جبلة فهو ابن عم الحارث المشار إليه وكان يقيم بالبلقاء.
الفصل الثاني
فتاة غسان
وكان لجبلة هذا ابنة بارعة في الجمال مع تعقل ورزانة اسمها هند ربيت منذ حداثتها على ظهور الخيل فشبت مولعة بركوبها ومجاراة أعاظم الفرسان في حلبة السباق حتى طار صيتها في القبائل حديث القوم ومضرب أمثالهم قبل أن بلغت العشرين من عمرها.
وكانت تقيم غالبا في صرح الغدير وهو قصر بديع شاهق بناه ثعلبة بن عمرو أحد ملوك غسان في القرن الرابع للميلاد في أطراف حوران مما يلي البلقاء من حجارة ضخمة فيه غرف واسعة تحدق بها الحدائق والبساتين تجرى من تحتها الجداول والسواقي معظم أيام السنة.
وكان بجوار القصر سهل واسع الأرجاء خصصوه لسباق الخيل في مواقيت معينة من العام ينخرط في سلكه أمهر فرسان البلقاء وحوران وقد يقصده أهل البلاد الأخرى وكانت هند تنزل السباق بنفسها وكثيرا ما أحرزت قصب السبق. وكان ذلك السباق تحت رعاية والدها جبلة فيخلع على السابقين خلعا يعينها قبل الشروع في السباق فمن نال قصب السبق احتفلوا بإلباسه الخلعة في مساء يوم السباق احتفالا يحضره الشعراء ينظمون القصائد في مدح السابق ثم تحمل هند الخلعة بيدها وتلبسها للسابق فإذا جاء يوم السباق تقاطر الفرسان من أنحاء الشام وحوران والبلقاء وغيرها يتسابقون إلى إحراز تلك الجائزة.
ففي سنة 629م (سنة 7 للهجرة) بث جبلة المنادين ينبئون الناس بسباق ذلك الفصل وهو فصل الربيع وعين له الجائزة درعا سليمانية كاملة وأمر بإعداد حاجيات الاحتفال بجوار صرح الغدير حتى إذا دنا اليوم المعين تقاطر الفرسان إلى تلك الساحة زرافات ووحدانا بخيولهم وسياسهم وفيهم جماعة كبيرة من الأمراء الغسانيين وغيرهم بعضهم بالعمامة وبعضهم بالكوفية والعقال وبعضهم بالقلانس تشبها بالروم.
ففي صباح يوم الموعد كانت الخيول مصفوفة بجانب السهل صفوفا غير منتظمة والخيام منصوبة ليأوي إليها الفرسان أثناء السباق في صدرها خيمة جبلة وهي فسطاط كبير مبطن بالحرير الأحمر أرضه مكسوة بالبسط والسجاد وقد علقت تلك الدرع في بعض أعمدته ليراها الفرسان ويشتاقوا إلى إحرازها.
فلما أشرقت الغزالة وأعدت الخيول شاعت أعين الفرسان نحو القصر في انتظار هند وأبيها فإذا بالأبواب قد فتحت وخرج جبلة وكان قد جاء من مساء الأمس وبات في القصر استعدادا لحضور السباق فلما أنبئ الناس بخروجه تأدبوا في موقفهم فمر بالحديقة ثم فتحت أبوابها فخرج جبلة وحاشيته وعلى رأسه تاج مرصع تنعكس أشعة الشمس عن جواهره فتبهر الأبصار وكان طويل القامة أصهب (أي يخالط بياض وجهه حمرة) ذو سبال وعثنون عليه أزار من الديباج المزركش يغطى أثوابه ويديه ويجره وراءه. فمشى والخدم تقود أفراسه وراءه معقودة أذنابها وعليها القلائد من الذهب والفضة حتى جاء فسطاطه فجلس في صدره على سرير من خشب العرعر محلى بالذهب وساقوا خيله إلى مرابطها في خيمة خاصة بها ووقف في باب الفسطاط الحاجب وراءه جماعة من الحاشية بعضهم يحمل سيف جبلة وآخر يحمل قوسه ولم يكد يستوي على سريره حتى استأذن الشعراء بالدخول عليه فأذن لبعضهم فدخلوا وألقوا التحية وتربعوا على البساط في أرض الفسطاط فلما رآهم جبلة تذكر حسان بن ثابت وكان يختلف إليه كثيرا ويمتدحه فيصله بالهبات الوافرة ولكن حسانا لما اعتنق الإسلام أقام في المدينة وانقطع عن الغساسنة وغيرهم.
وبعد هنيهة خرجت هند بنت جبلة من قصرها تحف بها جواريها وقد يعرف الناس خروجها برائحة طيبها قبل أن يروها فمرت بحديقة القصر حتى خرجت من بابها وأعين الفرسان شائعة نحوها وأكثرهم إنما يأتي السباق ليتمتع بنظرة منها. فمشت من باب الحديقة مشية تدل على صحة ورزانة وكانت ممشوقة القوام ممتلئة الجسم مستديرة الوجه قمحية اللون مشربة بالحمرة سوداء العينين مع كحل طبيعي لا يكاد يصدق الناظر إليها إلا أنها مكحلة بالأثمد وكان شعرها أسود مضفورا قد أرسلت ضفائره خصلة واحدة على ظهرها وفى أطراف الضفائر قطع من النقود الذهبية أو الحلي وفى أذنيها قرطان في كل منهما لؤلؤة كبيرة وجعلت على رأسها تاجا صغيرا مرصعا وضعته مائلا نحو اليمين وفى عنقها عقد من المرجان وفى أحد معصميها دملج من الذهب عريض مرصع بالياقوت وفى أصابعها الخواتم من العقيق والزمرد وقد أرخت من كتفها رداء حريريا مخططا بألوان بديعة يغطيها إلى الرسغ فلا يظهر من أثوابها إلا أسفل الحذاء. فتخلف بعض جواريها في الحديقة ورافقتها اثنتان منهن إلى الفسطاط وعيون الناس شاخصة إليها عن بعد وهي تنظر إليهم بطرف عينها حياء ورفعة حتى دخلت الفسطاط فرحب بها والدها وأجلسها إلى جانبه وكان كثير الولع بها حتى تسلطت على عقله ورأيه وكثيرا ما كان يستشيرها في أموره ثم وقف الأتباع والخدم خارج الفسطاط ومعهم خادمتاها وكان مقعد جبلة وهند هناك بحيث يشرفان على ساحة السباق ويريان المتسابقين في أول الشوط.
ثم سمعوا جلبة وقيل أن ثعلبة بن الحارث بن أبى شمر صاحب بصرى قد جاء بحاشيته فلما سمعت هند بقدومه غلب عليها الانقباض حتى كاد يظهر على وجهها. أما جبلة فنهض عن سريره إلى باب الفسطاط لاستقبال ثعلبة وكان ثعلبة شابا قصير القامة خفيف العضل نحيف الوجه كبير العينين والأذنين ليس عليه من مهابة الملوك إلا ملابسه الفاخرة فقد كان لابسا طيلسانا من الحرير مزركشا يجر وراءه على عادة الرومان وسيفه أعقف مرصع يتدلى من حمائله إلى يساره وقد أوقف طرفي شاربيه أنفة وكبرا واعتدادا بمنصب والده.
وكان الغسانيون يتحدثون بهند وثعلبة ويزعمون أنهما لا بد من تزوجهما نظرا لما بينهما من النسبة والنسب ولكن ذلك لم يخرج إلى حيز الوجود ولا تخاطب الوالدان بشأنه على أن ثعلبة كان كثير الاعتداد بنفسه وربما حدثته خيلاؤه أن يترفع عن هند لو خوطب بشأنها. أما هي فكانت خالية الذهن من أمر الزواج ولكنها كانت تستنكف من أخلاق ابن عمها ولا تميل إليه ولولا رابطة القرابة ما خاطبته ولا جالسته مطلقا.
فلما وصل ثعلبة استقبله جبلة وعانقه ورحب به وأدخله الفسطاط وأجلسه على سرير بجانب سريره وأخذ يسأله عن والده وسبب تخلفه عن ذلك السباق فاعتذر عنه أنه في شاغل خصوصي حال بينه وبين ما يريد وكان جبلة إنما يكرم ثعلبة إكراما لمنزلة والده ومراعاة لآداب الملوك فيما بينهم.
أما هند فسلمت على ثعلبة سلاما اعتياديا وجلست تتشاغل بالتفرج بمنظر ذلك السهل الواسع وما يتراءى وراءه من الجبال وتتظاهر أنها مهتمة بمنظر الخيول المتزاحمة هناك.
أما ثعلبة فكان يخاطب عمه وعيناه على هند لا لحبه لها بل رغبة في إعجابها به وهي كلما التمس إعجابها زادته ازدراء فلما أتم حديثه مع عمه تحول نحوها فسألها عن عزمها هذه المرة على النزول في ساحة السباق فأجابت وهي تنظر إلى الميدان أنها لا تنوى النزول الآن ولكنها ربما نزلت إذا رأت ما يشوق إلى ذلك.
فلما اقترب الضحى خرج بعض أمراء جبلة وأخذوا يهيئون معدات السباق ويرتبوها فنصبوا حبلا يقف الفرسان عنده إذا عزموا على السباق فيكونون صفا واحدا على استواء واحد ثم تناول أحدهم قصبة طويلة أعدت لذلك اليوم وسار بها إلى آخر الساحة فنصبها هناك فمن سبق اقتلعها وأخذها ليعلم الحاضرون أنه السابق من غير نزاع فيقال لمن اقتلع تلك القصبة أنه أحرز قصب السبق.
الفصل الثالث
السباق
فلما تمت المعدات على هذه الصورة نودي في الفرسان أن يتهيأوا للسباق فركبوا جميعا وجاؤوا واحدا واحدا يلقون التحية على ملكهم جبلة فإذا وصل أحدهم أمام الفسطاط ترجل ودخل فقبل يد جبلة ويد ثعلبة وخرج وكانت هند أثناء ذلك تنظر في وجوه الداخلين كأنها تتوقع رؤية فارس تعرفه وكانت تفعل ذلك وتحاذر أن يشعر بها أحد فوقع نظرها على أحدهم وكان أحسنهم وجها في نحو العشرين من عمره يظهر من لباسه وملامح وجهه أنه ليس من بني غسان وكان ربع القامة أسود العينين حادهما لابسا قباء عربيا وعلى رأسه كوفية من الحرير المزركش شد فوقها العقال فحالما رأته ظهرت عليها البغتة وعلا وجهها بعض الاحمرار ولكنها تجاهلت وتشاغلت ببعض الشؤون فتقدم الشاب إلى جبلة فقبل يده وخرج ولم ينتبه إلى ثعلبة أما سهوا أو عمدا فعظم ذلك على ثعلبة ونظر إلى هند فإذا هي تشيع ذلك الشاب بنظرها حتى خرج من الفسطاط فاستيقظت عوامل الغيرة في قلبه ولا داعي لتلك الغيرة غير ما فطر عليه من الحسد والكبرياء لكنه لم يفه بكلمة.
ثم مر باقي الفرسان حتى تكامل عددهم وركبوا خيولهم واصطفوا إلى الحبل فلم تكن تسمع إلا قرقعة اللجم وصهيل الخيل وأصوات حوافرها تفحص بها الأرض كأنها تلح في طلب السباق ليطلق لها العنان فتجرى في ذلك السهل الواسع الأرجاء وفيها الأدهم والأشقر والمحجل والمجنب والمحبب واليعبوب والكميت وغير ذلك من أصناف الخيل.
وفيما كان الفرسان يتهيأون للسباق كان جبلة وهند وثعلبة يتداولون في من عسى أن يكون السابق في ذلك اليوم فقال جبلة: «ما ظنكما أن يكون السابق من هؤلاء الفرسان اليوم فيفوز بهذه الدرع.» فلم يجب ثعلبة بشيء ولكنه اعتدل في مجلسه وأخذ يلاعب شاربيه ولسان حاله يقول أنا هو السابق ولا أحد سواي وكان كثيرا ما يحرز قصب السبق في مثل هذا السباق ولكنه قلما أحرزه عن استحقاق لان المتسابقين إذا عرفوه وعرفوا منزلته من جبلة تساهلوا في الجري معه فيسبقهم ويظن أنه إنما سبق لمهارته وسرعة فرسه. فلما لم يجب ثعلبة قال جبلة: «ما ظنك براكب ذلك الجواد المحجل أني أراه يكاد يطير عن ظهره وهو الذي نال الجائزة في السباق الماضي.»
فخفق قلب هند عند ذكره أما ثعلبة فهز رأسه مستهزئا وقال: «هذا غلام غر يدعى الفروسية وهي براء منه ولولا الصدفة العمياء ما استطاع نيل تلك الجائزة ولو كنت في مقام ملك البلقاء (يريد جبلة) وكان هذا السباق تحت رعايتي ما أذنت بأن يكون بين فرسانه غريب لا نعرف أصله ولا يليق بنا أن ندخله فسطاط الملك وابنته جالسة لأنه لا يعرف مقام الملوك.» فأدركت هند أن كلام ثعلبة صادر عن غيرة لأنه لا يطيق أن يمدح أحد في مجلسه
أما جبلة فاتخذ كلامه مأخذ التوبيخ ولكنه حمله محمل الإجلال لمقامه مع ما تقتضيه حدة الشباب وقلة اختبارهم فأجابه بلطف: «وما يمنع أن يكون غريبا ويدخل علينا ونحن بنو غسان يضرب المثل بحسن وفادتنا وإكرامنا للغريب.» فخجل ثعلبة وسكت فاستأنف جبلة الحديث قائلا: «ولكنى مع ذلك أستغرب أمر هذا الشاب لسكناه بيننا مسكن الغرباء وكثيرا ما شاهدته وقد خرج للصيد ومعه حاشية كأنه من أبناء الأمراء فمن أي القبائل يمكن أن يكون على أني أراه مبالغا في إخفاء أمره وقد سألت عنه بعض أمرائنا غير مرة فلم ينبئونى بشيء عن أصله ولا يعلم أحد ما مقامه بيننا ولكنى سمعتهم ينادونه حمادا.»
فظن ثعلبة ذلك حجة للفوز في جداله فقال: «وهذا مما يحقره في عيني يا عماه فانه لا يبعد أن يكون جاسوسا مرسلا من ملوك الحيرة فهم ما انفكوا يناوئوننا ويريدون بنا شرا وخصوصا بعد أن نالهم ونال الفرس من حملات جنودنا وجنود الروم هذين العامين.»
فأغضى جبلة عن الجواب ثم جاءه مخبر أن الخيول معدة فكيف يرى الملك أن يكون سباقها قال: «ينقسم الخيالة خمسات يتسابق كل خمسة منهم في شوط على حدة فمن سبق أفرد جانبا حتى لا يبقى أحد لم يجر في حلبة السباق ثم يتسابق السابقون جميعا فمن أحرز قصب السبق منهم فهو صاحب الجائزة.» فعاد المخبر وأبلغ الأمراء المنوط بهم أمر السباق وترتيبه فقسموا الخيالة خمسات فجرت أول خمسة منهم حتى توارت عن النظر لأن مجال السباق يزيد على الميلين فعاد واحد منهم يحمل القصبة فتناولها رجل خفيف العضل سريع الجري أعد لمثل ذلك فأسرع بها وغرسها مكانها وأجلسوا السابق إلى جانب وهكذا كل خمسة على حدة
أما هند فكانت عيناها شائعتين نحو حماد فلما جاء دوره تبعته ببصرها حتى توارى ورفاقه ولبثت تنتظر عودتهم فعادوا والقصبة في قبضته فافرد مع السابقين. فقال جبلة لثعلبة: «أرى الرجل قد سبق.» فأجاب والحسد ملء صدره: «أيعد من يسبق هؤلاء الخمسة سابقا تمهل لنرى سباقه مع السابقين.» فإلتفتت هند وقالت برزانة وهدوء كمن لا يهمه سبق حماد أو لم يسبق: «وما يمنع أن يكون سابقا لهم جميعا كيف نحكم عليه ونحن لا نعلم شيئا من ضعفه أو قوته. نعم يسوؤنا أن يكون السابق غريبا ولكن ما الحيلة إذا سبق أنقبل هذا العار على بني غسان»
فكان لكلام هند وقع السهام على قلب ثعلبة وإتقدت الغيرة في صدره فتبسم كأنه يستخف بقولها وقال: «لا يكون له مسابق سواي ولأعلمنه الفروسية من هذا اليوم.» قال ذلك وملامح الغدر وسوء القصد ظاهرة على وجهه فخافت أن يكون قد نوى بالرجل سوءا فلا يزيده دفاعها إلا غضبا وحقدا فسكتت
وعند الظهيرة أو نحوها انقضت الأشواط الصغيرة فاجتمع عشرون سابقا فأمر جبلة بالاستراحة لتناول الطعام وعلف الخيل
وكانوا قد أعدوا الأسمطة في صرح الغدير وذبحوا الذبائح فجاءت الأخونة يحملها الرجال إلى الخيم على كل خوان منها جفنات وفيها الألوان العربية والرومية وبعض الخمور.
وأمر جبلة أن يجلس الفرسان السابقون معه على خوانه وكان خوانه من ذهب خالص وجفناته من فضة فجاءوا ومعهم حماد فلما وقع نظر ثعلبة عليه جعل يتأمله بعين النقد وحماد لا يلتفت إليه فجلسوا على الأبسطة حول السماط ركعا على ركبة واحدة وأخذوا في الأكل وأراد جبلة أن يقف في خدمتهم على عادة كرام العرب مع ضيوفهم فاستحلفوه أن لا يفعل أو يكفوا عن الطعام فأطاع وجلس معهم والى يمينه ابنته هند والى يساره ابن عمه ثعلبة ولما أتموا الطعام وتناولوا الحلوى وبعض الخمر تلا بعض الشعراء قصيدة ذكر فيها كرم الغسانيين وحسن ضيافتهم فأطرق جبلة خجلا لأنه يستنكف من أن يسمع مدحه بأذنه فلما رأى الشعراء منه ذلك نهض أحدهم وقال: «مهما بالغنا في مدح ملوك غسان لن يأتي بشيء مما قاله فيهم حسان بن ثابت القائل
لله در عصابة نادمتهم
يوما بجلق في الزمان الأول
أولاد جفنة عند قبر أبيهم
قبر ابن مارية الكريم المفضل
بيض الوجوه كريمة أحسابهم
شم الأنوف من الطراز الأول
يسقون من ورد البريص عليهم
كأسا يصفق بالرحيل السلسل
يغشون حتى ما نهر كلابهم
لا يسألون عن السواد المقبل»
فأمر جبلة حاجبه فأعطى كل شاعر صرة فيها مائتا دينار وخمسة أقمصة وكانت الشمس قد دنت من الأصيل والخيل استراحت واستراح فرسانها فنودي في الناس أن هيا إلى السباق وكان حديث القوم: «من يا ترى سينال قصب السبق من هؤلاء العشرين.» وكان حماد أقلهم كلاما وأكثرهم تأملا كأن في نفسه شيئا يكتمه وقضت هند ساعة الغداء وما بعدها تتأمل وجهه خلسة فآنست فيه جمالا وكمالا ورزانة ودعة وكان ثعلبة يراقب حركاتها ونظراتها وينظر إلى حماد نظر الإزدراء وكان حديثه قاصرا على الإطناب بما فعله والده أو ما مر به هو من غرائب الوقائع كقوله مثلا أنه ذهب للصيد فلقيه أسد فلم يفر منه بل هجم عليه وضربه فقتله أو ما شاكل ذلك من الأحاديث الملفقة وكان الحضور يصغون إلى حديثه ويؤمنون أقواله إجلالا لمقام والده وأكثرهم لا يصدقونه وهو يسرد الحكاية وينظر إلى هند يلتمس إعجابها أو استغرابها وهي لا تكترث. أما حماد فلم يكن يظهر اكتراثا به ولا انتباها له لأنه كان حرا لا يطيق التلفيق.
فلما نودي في العود إلى السباق خرج الفرسان العشرون فقال جبلة : «أرى أن ينقسموا إلى أربعة أقسام فيتسابق كل خمسة منهم في شوط فمن سبق أفرد ثم يتسابق السابقون وهم أربعة فمن سبق فلة الجائزة.» فتسابقوا خمسات فانفرد أربعة وحماد منهم.
كل ذلك وثعلبة لم يركب فرسه ولا نزل للسباق أنفة واستكبارا وهو يرجو أن لا يكون حماد من السابقين فلما رآه منهم أوجس خيفة ولو علم أنه سيسبق ما عرض نفسه لمسابقته ولكنه كان لا يزال آملا أن يسبقه مسابقوه فينجو هو من خطر الفشل.
ثم اصطف الأربعة بازاء الحبل ووقف الناس على جانبي الميدان ينتظرون نهاية هذا الشوط فاعتدل الفرسان على صهوات أفراسهم ووقف جبلة وهند وثعلبة بباب الخيمة ينظرون إليهم وقلوبهم تحلق في انتظار عاقبة ذلك السباق فأطلق الفرسان أعنة خيولهم والناس يتبعونهم بأنظارهم وكان جواد حماد متأخرا عنهم فسر ثعلبة بتأخره ظانا أنه سيفشل ولكن هندا علمت أن تأخره لم يكن إلا ضرابا من الفروسية فلما تواروا عن أبصارهم وقفوا ينتظرون رجوعهم فإذا بحماد قد عاد يحمل القصبة حتى إذا دنا من خيمة جبلة سلمها إلى هند فصاح الناس صيحة التبشير بالسبق فتناولت هند القصبة وترجل حماد وقبل جواده بين عينيه وكان عند باب الخيمة رجل يحمل وعاء فيه صغ أحمر من دم الصيد ليحصب به صدر الفرس إشارة إلى سبقه فلما تقدم ليصبغه اعترضه ثعلبة وقال: «تمهل أن السباق لم يتم بعد.» فعجب حماد وظهرت على وجهه ملامح الاستغراب فقال جبلة: «قد وعدنا ابن عمنا ثعلبة أن ينازل السابق.» فلم يجب حماد بل عاد إلى صهوة فرسه ووقف ينتظر ثعلبة فجيء إليه بفرسه وكان من أحاسن الخيل عليه قلادة من الذهب الخالص وسرح مرصع بالحجارة الكريمة فركب وهو يكاد يتميز غيظا وكانت هند في أثناء تلك البرهة فرحة بفوز حماد فشق عليها منازلة ابن عمها له ولكنها عللت نفسها بفشل الباغي وهي تزداد تعجبا بما تشاهده من حقد ثعلبة على حماد وليس بينهما ما يستدعي ذلك ولكن كبير النفس لا يستطيع تصور هذه الدنايا. ثم أمر جبلة فنودي في الناس أن السباق الآن بين حماد والأمير ثعلبة بن الحارث فوقفوا ينتظرون نهاية هذا الشوط وكان بعض الذين فاز حماد عليهم يودون أن يكون ثعلبة السابق وبعضهم يتمنون السبق لحماد ليكون لهم أسوة بابن الحارث صاحب بصرى.
فسار الفرسان في عرض ذلك السهل وقلب هند يخفق لعلمها أن فرس حماد قد تعب وفرس ثعلبة لا يزال نشيطا فلم يمض القليل حتى عاد حماد وفي يده القصبة ووراءه ثعلبة قد ساق جواده إلى الفسطاط وابتدر عمه قائلا: «إنه لم يسبقني هو بل فرسه فانه من خيل الجن أو هو من صلب داحس فرس قيس بن زهير ولو ركبته أنا ما استطاع أحد سبقي.» فسمعه حماد يقول ذلك فنزل عن فرسه وقال له: «إليك فرسي فاركبه وأعطني فرسك.» وكانت هند تنظر إليهما فخافت أن تعود العائدة على حماد وقد شعرت أن حبه تمكن من قلبها في تلك الساعات القليلة ما لا يكاد يتأتى بأعوام.
أما ثعلبة فقال: «ما قاله انتحالا لعذر يغطي به خجله.» وهو لا يظن حمادا يعطيه فرسه فلما تنحى له عنه لم ير مندوحة عن الركوب فركبا ونزلا إلى ساحة السباق حتى تواريا عن الأبصار فلبث الناس ينتظرون عودتهما وكأن على رؤوسهم الطير وكانت الشمس قد مالت نحو المغيب فأرسلت بقية أشعتها الأرجوانية على تلك السهول وما وراءها من الجبال والأودية وقد هدأت الطبيعة وسكن جأش النهار.
فلما أبطأ الفارسان شاعت أبصار الناس نحو حلبة السباق وملوا الانتظار حتى هم بعضهم بأن يلحق بهما ليرى سبب ذلك التأخر وكثر الهرج والمرج وكان أكثر الناس قلقا هند فقد شاعت عيناها وخافت غدر ثعلبة ثم ما لبثت أن شاهدت الغبار وبان من ورائه فارسان هما حماد وثعلبة والقصبة في يد حماد فما صدقت أن رأته وقد كاد قلبها يطير من الفرح أما أبوها فشق عليه أن يكون السابق رجلا غريبا يفوز عليهم جميعا ولكنه رحب به فترجل الفارسان ونزلا إلى الخيمة فأراد حماد أن يعتذر عن ثعلبة فقال : «والله إني لم أسبق الأمير ثعلبة إلا بقضاء وقدر لأنه فارس مبرز يحق لغسان الافتخار به ولو تعود ركوب فرسي قبل الآن لسبقني.» فلم يجب ثعلبة ببنت شفة ثم ناول حماد القصبة إلى هند فرأتها قصيرة فتأملتها فإذا هي مقطوعة بنصال يراها برى القلم فأرادت السؤال عن سبب ذلك فنظر حماد إليها نظرة خيفة كأنه يقول لها لا تفعلي فسكتت وفى نفسها أن تعرف سبب بريها.
ثم تقدم حامل الصبغ الأحمر فخضب به صدر فرس حماد وكان الظلام قد أسدل نقابه أو كاد فأمر جبلة أن يحتفلوا بإلباس الدرع في باحة القصر فأنيرت المشاعل، وسار الناس مشاة وقد غادروا خيولهم مع سياسها بقرب الخيام، ودخلوا الحديقة وفيها الأزهار والرياحين، فنزلوا في بقعة واسعة أعدت لمثل ذلك الاحتفال ضرب فيها سرادق كبير وفرشت أرضه بالبسط، فعلقوا الشموع في جدرانه، وجلس جبلة في صدره على وسادة من الحرير الموشى وجلست ابنته إلى جانبه وثعلبة إلى الجانب الآخر وأجلسوا الشاب على مرتفع ليراه الجميع. ثم أخذت الجواري ينشدن أناشيد التهنئة وجاء بعض رجال جبلة يحمل الدرع ثم وقفت هند وأمارات السرور ظاهرة على وجهها فمشت إلى مقعد حماد فوقف لها وركبتاه ترتعشان إذ رآها قادمة لتلبسه الدرع، فنزع عن رأسه الكوفية والعقال فبانت ملامح وجهه جيدا فازدادت هياما به ولكنها استغربت فيه أمرا استغربه كل من شهد الاحتفال ذلك أن حمادا لما نزع كوفيته ظهر شعر رأسه طويلا حتى غطى ظهره فلم يفهموا معنى إرسال شعره على هذه الصورة.
فتناولت هند الخوذة أولا فوضعتها على رأسه ثم تناولت بقية أجزاء الدرع فألبسته إياها والشعراء ينشدون والجواري يرتلن، وكلهم فرحون إلا ثعلبة فإنه لبث صامتا مقطب الوجه ولا سيما لما رأى ابنة عمه تلبس تلك الدرع لحماد بيديها وهي فرحة بفوزه. أما هي فانتهزت فرصة انشغال الناس بالتفرج وهمست في أذن حماد قائلة: «نلتقي غدا في دير بحيراء.»
فلما تم إلباس الدرع عادت هند إلى مجلسها والناس وقوف، وبعد قليل جاءت الأسمطة ومدت الموائد وجلس الناس للطعام. وبعد انتهاء العشاء تفرقوا فذهب كل إلى سبيله وهم يتحدثون بسباق ذلك اليوم وما كان من حماد. وبقي ثعلبة عند عمه وقد أعمل فكره في مخرج ينجيه مما وقع فيه من الفشل.
أما هند فتظاهرت بالتعب واستأذنت في الذهاب إلى غرفتها.
ولما بقي جبلة وثعلبة على انفراد، قال ثعلبة: «لم يسؤني أن سبق الرجل وإنما ساءني أن يأخذ الجائزة غريب لا يعرف له نسب ويحرم منها أمراء غسان وفرسانهم.»
فقال جبلة: «أما أنا فلم يسؤني أنه نال الجائزة فقد ينالها سواه في سباق آخر، ولكننى أعجب لتستره وقد فاتني أن أسأله عن أصله على أنني سأرسل إليه وأسأله في فرصة أخرى.»
فقال ثعلبة: «لا بد من البحث عنه لئلا يكون جاسوسا أو عينا علينا من قبل اللخميين ملوك الحيرة وكأنني أرى في لهجته ما يدل على ذلك.»
قال جبلة: «ولكن ملك العراق قد خرج من أيدي اللخميين لما علمت من مقتل النعمان بن المنذر وولاية إياس بن قبيصة من قبيلة طي وزد على ذلك أن هذا الشاب لا يظهر في هيئته وشكله ما يدل على جاسوسيته فهو أقرب إلى أولاد الأمراء منه إلى السوقة فإذا كان من أهل الحيرة فهو من أمرائهم لأن الهيبة ظاهرة على وجهه.» فشق ذلك المدح على ثعلبة فعمد إلى الروغان فقال: «وهل يؤخذ الناس بمظاهرهم فكم من رجل تظنه ملاكا فإذا خبرته ظهرت لك عيوبه فتجده من أسافل السوقة فأرى أن نحمله على الإقرار بحقيقة حاله قسرا فإذا كان من أهل الحيرة أخرجناه إلى بلاده وإذا كنت تستنكف من إخراجه فوالدي يخرجه لأنه مقيم بقرب بصرى.»
قال: «سننظر في ذلك غدا.» فلا نحرم وسيلة نستريح بها وقضيا بقية تلك الليلة بالأحاديث المتنوعة ثم ذهب كل منهما إلى منامه في غرفة خاصة بالقصر.
الفصل الرابع
هند في غرفتها
أما هند فدخلت القصر فلاقتها والدتها وكانت شديدة الولع بها لأنها رزقت أولادا كثيرين لم تهنأ منهم بسواها فقبلتها وصعدت بها إلى طابق علوي ودخلت بها الغرفة وأمرت الخدم فأعدوا لها الفراش ثم جاءتها الماشطة بثياب النوم فنزعت حليها وألبستها جلبابا واسعا من الحرير الناعم الشفاف ثم حلت خصلة شعرها ونزعت ما في ضفائرها وعلى صدرها وفى أذنيها ومعصميها من الحلي واستخرجت خلاخلها واعدت لها السرير وهو من خشب الأرز في أجمل ما صنع الصانعون عليه الوسائد الحريرية الملونة غطاؤها من أبدع أنواع النسيج صنع القسطنطينية وكان في الغرفة مشمعة فيها بضع عشرة شمعة تفوح منها رائحة العنبر فقد كان من ضروب البذخ عندهم أن يمزجوا الشمع بشيء من الأطياب فإذا أنير تصاعدت عند إحراقه رائحة الطيب وكان في جدران الغرفة صور جميلة أكثرها من رسوم القديسين صنع بيت المقدس كصورة ولادة المسيح وصلبه وصعوده وكلها متقنة التصوير ملونة بألوان طبيعية وفى بعض جدران الغرفة مرآة هي عبارة عن صفيحة مستديرة من الفضة مصقولة صقلا خصوصيا حتى صارت كالزجاج تعكس النور وترى الأشباح كمرآة هذه الأيام لأن الناس لم يكونوا يعرفون المرآة الزجاجية بعد.
فبعد أن لبست هند جلبابها وقفت أمام المرآة فأصلحت شعرها وثوبها وذهبت إلى السرير فجلست عليه وهي إلى تلك الساعة لم تنبس ببنت شفة وكانت والدتها منذ دخلتا الغرفة جالسة على وسادة تتأمل بجمال ابنتها وقوامها وبما وهبتها العناية من الصحة والعقل وفي نفسها شيء تنتظر فرصة لتبوح به وكانت هند أثناء تبديلها ثيابها غارقة في بحار الأفكار تراجع ما مر بها في ذلك النهار من الغرائب وكلما تذكرت حمادا وسبقه لثعلبة وما أظهره هذا من الحسد وما أدعاه من الفروسية وكيف أنه عاد فشلا ازدادت احتقارا له ونفورا منه وحبا لحماد ولكنها كانت مع ذلك شديدة الحرص على منزلة والدها وشرف قبيلتها وخافت أن يتعلق قلبها بحماد ثم تجد أنه من أصل دنيء فيحول ذلك دون إرضاء والدها وسائر أهلها فتقع في الشقاء وكانت كلما تصورت ذلك اقشعر جسمها فتعلل نفسها بأن من كان في مثل هذه الشهامة وهذه الأخلاق مع ما يتجلى في وجهه من الهيبة والوقار لا يمكن أن يكون دنيء الأصل ثم تعد نفسها بكشف حقيقة حاله عندما يلتقيان في دير بحيراء.
وكانت والدتها واسمها سعدى في الخامسة والأربعين من عمرها لا يزال الجمال ظاهرا في وجهها فقد كانت من أجمل بنات غسان وكثيرا ما تغزل بها شعراؤهم ولما تزوجها جبلة حسده كل أهل عشيرته عليها.
ثم جلست هند إلى السرير بجلبابها وقد أرخت شعرها وحسرت عن زنديها وكانا مستديرين ممتلئتين مشرقين يزينهما الوشم على اليمين منهما صورة الصليب وعليه السيد المسيح مصلوبا وعلى اليسار صورة مريم العذراء تحمل طفلها. ولو رآها حماد في تلك الحال لنطق بقول الشاعر:
نالت على يدها ما لم تنله يدي
نقشا على معصم أوهت به جلدي
كأنه طرق نمل في أناملها
أو روضة رصعتها السحب بالبرد
خافت على يدها من نبل مقلتها
فألبست زندها درعا من الزرد
فاتكأت إلى وسادة من ريش النعام أهدتها إياها إمرأة والي دمشق وألقت رأسها على كفها إلتماسا للراحة وقد ضايقها الجلوس معتدلة بين الرجال طول ذلك النهار فلبثت صامتة لا تتكلم وأفكارها تائهة فتذكرت القصبة التي سلمها إليها حماد عند سبقه الأخير وكيف أنها مبرية مع ما لحظت على وجه ثعلبة من دلائل السوء والحقد فارتابت في أمره وودت السؤال عن سبب ذلك فمنعها حماد كما تقدم.
ثم ابتدأت والدتها بالحديث قائلة: «لماذا لم تنزلي اليوم للسباق يا هند.»
قالت: «لم أر مسوغا لأن الفرسان كانوا كثيرين وطال الجدال بين المتسابقين حتى غابت الشمس فلم يبق وقت لركوبي.»
قالت: «وما الذي دعا إلى هذا الجدال.»
قالت: «بعد أن تم السباق أراد ثعلبة مسابقة السابق فعاد فشلا فزادنا خجلا.»
فتبسمت سعدى تبسما خفيا وقالت: «رأيت الفرسان عديدين فمن نال قصب السبق منهم.» قالت وقد أبرقت أسرتها رغما عنها: «ناله شاب غريب اسمه حماد لا يعرف أحد حسبه فشق ذلك على والدي وابن عمي إذ لا يليق أن يكون السباق في حمانا ويفوز بقصب السبق غريب.»
قالت: «ومن هما الفارسان اللذان تسابقا آخر النهار .»
قالت: «هما ابن عمي ثعلبة وحماد.»
قالت: «رأيتهما عادا مرتين.»
قالت: «تسابقا أولا فسبق حماد فأنكر ثعلبة ذلك على نفسه ونسب السبق إلى الفرس فتنازل له حماد عن فرسه وركب هو فرس ثعلبة ويا ليتنا بقينا على العار الأول لأن ثعلبة عاد مخزولا هذه المرة أيضا ومما استغربته أن حمادا جاء بالقصبة مبتورة كأنها ضربت بسيف.»
فضحكت سعدى وقالت: «ألم يخبركم بسبب بريها» قالت: «لا وكنت عازمة على البحث عن سبب ذلك فرأيت حمادا لا يريد فكففت.»
فقالت: «بورك فيه انه بالحقيقة شهم كريم الأخلاق ولا ريب عندي في أنه رفيع النسب.»
فطربت هند لامتداح والدتها حمادا وقالت: «ما معنى ذلك يا أماه هل تعلمين من أمر هذه القصبة شيئا.»
فهمست في أذنها قائلة: «نعم أعلم يا هند أن تلك القصبة قد قطعت بسيف ابن عمك ثعلبة.» فبغتت هند واشتاقت إلى معرفة تفصيل الخبر فاعتدلت على سريرها وقالت: «كيف وقع ذلك.»
قالت: «إن ابن عمك كان عازما على الفتك بذلك الشاب سامحه الله ووالله لو فعل ذلك لألبسنا عارا لا تمحوه الأيام.»
فازدادت هند استغرابا وقالت لها: «وما أدراك بذلك يا أماه.»
قالت: «رأيتهما رأى العين.»
فقالت: «وكيف تيسر لك رؤيتهما ونحن أقرب إليهما منك ولم نرهما.»
قالت: «تمهلي لأقص عليك الواقع.» فأصغت هند بكل جوارحها فنهضت سعدى إلى الباب فأغلقته وجلست تقص الخبر وتحاذر أن يسمعها أحد فقالت: «لما خرجتم جميعا إلى الخيام وخرج أكثر من في القصر إليكم بقيت أنا وسليمة المولدة وبعض الخدم وكنا نرى المتسابقين يبدأون بالشوط ولكننا لا نرى آخره فخرجنا وفى نفسي أن أرى حلبة السباق وكيف يقتلع السابق القصبة فانه منظر يفرح القلب إذ ليس ألذ من النصر. فخرجنا من بعض أبواب الحديقة إلى البساتين المجاورة ومررنا بضفة الغدير لا يرانا أحد حتى وصلنا إلى مكان تحت شجرة أشرفنا منه على حلبة السباق ونحن على مرمى حجر منها نرى ولا نرى فلما كان السباق الأخير شاهدت ابن عمك متأخرا عن حماد لا لعجز فرسه لأننا رأينا الفرس يستحث فارسه ليطلق له العنان وهو يمسكه كأنه خاف الوقوع عن ظهره ولولا ذلك لكان هو السابق والسبق في الميدان للأفراس إذا أحسن فرسانها ركوبها واستطاعوا الثبات على ظهورها فخوف ثعلبة الوقوع عن فرس حماد أكثر عارا عليه من تأخره عنه أما حماد فأطلق لفرسه العنان وكان يستقبل عرض الفلاة كما تستقبل الأم رضيعها حتى وصل إلى القصبة وفيما هو يقتلعها رأينا ثعلبة هاجما عليه وقد شهر سيفه وهم بقتله فاستلقى حماد السيف بالقصبة فقطعت ثم رأينا حمادا اقتلع ثعلبة من صهوة جواده ورمى به الأرض وجثا على صدره فخفنا أن يقتله ثم سمعنا ثعلبة يستجير به ويستعطفه فنهض عنه وتصافحا وتعانقا وعادا.»
فما أتمت سعدى حديثها حتى اختلج قلب هند إعجابا بشهامة حماد وازدادت احتقارا لثعلبة وقالت لوالدتها: «أهذا هو ثعلبة بن الحارث أيليق بغسان أن يكون ابن ملكها خسيسا إلى هذا الحد أيليق به أن يغدر بشاب في ريعان الشباب ولا ذنب له إلا أنه أفرس منه وزد على ذلك أنه نزيل في بلادنا وله علينا حق الجوار.»
فرأت والدتها في كلامها حقا ولكنها لم تشأ أن تمكن البغض في قلبها وحسبت بنفسها ألف حساب من جملتها أن ثعلبة أرفع بني غسان مقاما وليس أقرب منه للزواج بهند ولعل جبلة يرغب في ذلك فإذا نفرت منه كان نفورها سببا لتنغيص عيش ابنتها فقالت لها: «لا بد لنا من تأنيبه ولومه حتى يرجع إلى الأخلق به وبمن كان في مقامه ونسبه.»
فسكتت هند لا عن اقتناع ولكنها صبرت نفسها لترى ما يكون من أمر حماد غدا وهي تعلم أن ذهابها إلى الدير قد لا يتيسر بغير والدتها فلا يخلو أن تلحظ أم اجتماعها بحماد فماذا تقول لها لو سألتها عنه وتعلم أيضا أن والدتها حادة الذهن سريعة الخاطر دقيقة الملاحظة ففكرت في الأمر قليلا فرأت أن لا بد لها من استطلاع والدتها والاستعانة بها على نيل حماد وقد ارتاحت إلى هذا الرأي لما عاينت من إنصاف والدتها وامتداحها شهامته ولكنها ودت قبل كل شيء أن تجتمع به على انفراد لتطلع منه على حقيقة حاله وتستطلع أفكاره ثم تطلع والدتها على الأمر بالأسلوب الذي تختاره.
فقالت لها: «مضت على مدة طويلة يا أماه وقد نذرت نذرا لدير بحيراء لم أفه بعد ويلوح لي أن ما رأيناه في هذا النهار من السوء إنما كان لتأخرنا عن وفاء النذر.»
قالت: «لعله كذلك فإن لهذا الدير كرامات كثيرة ولا صبر له على تأجيل النذور فأسرعي في إيفائه.» قالت: «أرى أن أذهب إليه غدا إن شاء الله.»
قالت: «ولكننى لا أستطيع الذهاب معك في الغد لأني ذاهبة مع والدك إلى البلقاء فإذا أجلت الذهاب إلى بضعة أيام سرنا معا.»
فسرت هند لهذا الحل الذي جاء من تلقاء نفسه فقالت: «لا أراني قادرة على التأجيل وأخشى أن يزيد غضب الله علينا وأنا لا أرى موجبا لذهابك معي فقد أذهب مع بعض الخدم متنكرة أقضى نهارا هناك ثم أعود.»
قالت: «افعلي ما بدالك.» ثم ذهب كل إلى فراشه أما هند فلم يكد يغمض لها جفن وهي تتذكر ما مر بها بالأمس وتفكر في ماذا تكلم حمادا إذا اجتمعت به في الغد.
الفصل الخامس
حماد
أما حماد فإنه عاد من صرح الغدير تلك الليلة وهو يكاد يعثر بأذياله لانشغال باله بهند وما برحت ألفاظها ترن في أذنيه وهي قولها (سنلتقي غدا في دير بحيراء).
فلما خرج من الصرح لقيه خادمه وكان ينتظره والفرس بقرب الخيام فنزع الدرع عنه وجعلها في خرج على الفرس وركب وسار يطلب منزله وكان مقيما في قرية غربي مدينة بصرى وعلى ستة أميال يقال لها غسام ولم يأت حماد الشام إلا منذ بضعة أشهر جاءها لأمر لا يعلمه إلا واحد. فأقام في منزله المشار إليه يقضي بعض نهاره في البيت وبعضه في الصيد فيصطحب رجلا يظنه والده ومعه بعض الخدم فيخرجون للصيد في ضواحي البلقاء فيعودون وقد اصطادوا بعض الغزلان أو غيرها.
وكان قد تعود ركوب الخيل منذ صباه ومارس الفروسية وفرسه من أجود خيول العرب. وكان قد سمع بهند وقرأ شعرا في وصفها قبل خروجه من بلاده فعلق بها عن بعد ثم دعاه والده أن يصحبه إلى الشام فعول في باطن سره على السعي في التقرب منها لأنه يظن نفسه دونها مقاما. فأخذ منذ قدومه الشام يتردد إلى جهات صرح الغدير راكبا أو ماشيا يتعلل بالمرور هناك لعله يشاهدها وكان ينزل الغدير أحيانا فتراه ويراها وهي لا تفقه لمراده وكلما سمع باحتفال عمومي جاءته هند في الكنائس أو غيرها أسرع إليه وسعى في استلفات انتباهها فكانت إذا رأته ارتاحت إلى رؤيته لجماله وهيبته ورزانته. فلما كان السباق الماضي حضره لأول مرة فأظهر من الفروسية والشهامة وكرم الأخلاق ما زادها ارتياحا إلى مشاهدته واتفق أنها نزلت ذلك السباق هي نفسها فتخاطبا وتبادلا رموزا لا غنى عنها في أوائل الحب فنزل من قلبها منزلا رفيعا وصارت تشعر بشوق إلى رؤيته إذا غاب عنها على أن ميلها هذا لم يكن تجاوز حد الارتياح ولا خطر ببالها أمر الاقتران به على أنها فهمت من إشاراته وحركاته وسائر أحواله أنه طامع بها ولكنها كانت تجهل الحب وسلطانه فلم يذق قلبها طعمه على أنها آنست في حماد أخلاقا وأطوارا تنطبق على أخلاقها وأطوارها من حيث التعقل والرزانة والميل إلى الشهامة والحرية.
فلما شاهدت ما شاهدته في السباق الأخير من شهامته وحريته تقرر في ذهنها أنها خلقت وخلق لها وهذه أول مرة خطر ببالها أمر الاقتران به وساعدها على ذلك ما آنست من ارتياح والدتها إليه وامتداحها شهامته والثناء على مروءته ولكن أمرا واحدا كان يعترضها فيوقفها عن عزمها وهو تستر حماد وكتمان أصله فخافت أن لا يكون ذا حسب يضاهى حسبها أو يقرب منه أو أن يكون على مذهب غير مذهبها فإن العرب كانوا إذ ذاك على مذاهب شتى وفيهم النصارى واليهود والوثنيون والمجوس وظهر في أثناء ذلك الإسلام لكنه لم يكن قد أدرك الشام بعد. على أن الوثنية والمجوسية واليهودية كانت محصورة في جزيرة العرب فكانت المجوسية في بني تميم واليهودية في نمير وبني كنانة وكندة وغيرهم وكان كثير من اليهود في يثرب ناهيك عن خيبر والأوس والخزرج الذين قدموا يثرب بعد سيل العرم وفيهم بنو قريظة والنضير وبنو قينقاع وما هم بالحقيقة من العرب بل هم حلفاؤهم وكانت عرب تلك الجزيرة يقدمون الشام وبصرى وفيهم الوثني والمجوسي واليهودي والنصراني وغيرهم وهم إنما يقدمون للتجارة فيمكثون ببصرى أو في دمشق الشام أو غيرهما بضعة أسابيع أو بضعة أشهر ويعودون.
فخافت هند أن يكون حماد وثنيا أو مجوسيا فيمتنع الاقتران بينهما فطلبت الاجتماع به في الدير لتتحرى ذلك كله.
فلنعد إلى حماد ليلة خروجه من القصر فإنه ساق جواده زميلا وخادمه يجرى إلى جانبه وهو يريد أن يدرك منزله قبل أن يقلق والده لغيابه لأنه فارقه من فجر ذلك اليوم ولم يعد يراه.
وبينما هو في ذلك سمع وقع أقدام جواد مسرع نحوه وصوتا يناديه: «حماد» فقال: «نعم يا أبتي ألعلكم خرجتم للتفتيش عني.»
قال: «كيف لا نخرج وقد أبطأت علينا في العود وها قد مضى هزيع من الليل ونحن كما تعلم في ديار الغربة.»
فسكت حماد وسارا معا على فرسيهما حتى مرا ببساتين القرية بين أشجارها والناس نيام فوصلا المنزل في أطراف تلك القرية فدخلاه وقد أنير غرفه بالمصابيح فأسرع حماد إلى غرفته فجاؤوه بالماء والثياب فغسل وجهه ويديه ورجليه وبدل ثيابه واتكأ إلى وسادة ووالده إلى جانبيه واسمه عبد الله وهو أمير من أمراء العراق اللخميين ذوي اليسار وقد بلغ الخامسة والأربعين من عمره قضى معظمها في الأسفار والحروب في الشام ومصر والحجاز واليمن والعراق فحنكته التجارب وعلمته الأيام ولكنه انقطع في ذلك العام إلى حماد لقضاء مهمة جاء من أجلها إلى بلاد الشام.
فلما جلسا قال عبد الله: «ما الذي أخر مجيئك إلى الآن يا ولدي.»
قال: «ألم أقل لك في مساء الأمس أني سائر في هذا الصباح إلى صرح الغدير.»
قال: «بلى ولكن هل طال مقامكم في السباق إلى الآن وهل كان المتسابقون كثيرين.»
قال: «نعم يا أبتاه أن السباق لم ينته إلى الغروب ثم احتفلوا بإلباس الدرع للسابق أما المتسابقون فكانوا كثيرين وفيهم جماعة كبيرة من أمراء غسان وفى مقدمتهم ثعلبة ابن الحارث صاحب بصرى.»
فقال: «ومن هو السابق يا ترى.»
قال: «ولدك حماد.»
فقال: «لا شلت يمينك هكذا تكون الفروسية فقد سبقت أمراء غسان وأنت غريب بينهم فهل لبست الدرع وأين هي.»
قال: «وقد نلت قصب السبق ولبست الدرع بعد جدال طويل ولكنني عاينت من كرم أخلاق جبلة ورجاله ما حقق لنا ما نسمعه عن حسن وفادة الغسانيين أما الدرع فهي في الخرج.»
فقال عبد الله: «وهل نزلت فتاة غسان للسباق هذه المرة فقد أخبرتني المرة الماضية وسمعت من كثيرين أنها تحسن الفروسية وكثيرا ما تنزل ميدان السباق لمسابقة الفرسان.»
فلما ذكرت هند خفق قلب حماد وظهرت عليه ملامح البغتة ولبث برهة يفكر.
فأدرك عبد الله أنه يفكر في أمر هام.
قال: «ما بالك لا تجيب يا ولدي.»
فانتبه حماد وخجل لما ظهر عليه فقال: «لم أفهم مرادك.»
قال: «سألتك عن هند بنت الملك جبلة هل نزلت للسباق هذه المرة.»
قال: «لا يا أبتاه لم تنزل ولكنها شهدت السباق وختمته بإلباس الدرع للسابق.» قال ذلك وأمارات السرور والهيام ظاهرة على وجهه.
فلحظ عبد الله أن حمادا يحوم حول الشراك فأراد تحقق ذلك فقال له: «وكيف رأيت فتاة غسان هل هي كما نسمع عنها من الجمال واللطف.»
فأبرقت أسرة حماد وطفق يصف جمالها ولطفها وصفا يدل على تعلقه بها فكان يتكلم وعيناه مشرقتان وقلبه يخفق وكثيرا ما كانت تخونه الألفاظ في التعبير عن أوصافها.
فخاف عبد الله على حماد أن يقع في الشراك فأطرق وظهرت عليه مظاهر الانقباض والأسف معا فأتم حماد كلامه وعبد الله مطرق كأن أمرا ذا بال اعترضه.
فنظر حماد إليه وقد عجب لحاله وما طرأ عليه من التغيير بغتة فقال له: «ما بالك يا أبتاه أراك قد وقعت فيما أنبتنى عليه فهل ساءك من أمري شيء.»
قال: «حاشا يا ولدي ولكنني أفكر في هذه الفتاة وما خصها الله به من المواهب والخصال وكذلك تكون بنات ملوك.»
فسر حماد لاستحسان عبد الله لها ولكنه خاف التصريح بأكثر من ذلك لئلا ينكر عليه الأمل بالحصول عليها وهي من بنات الملوك وهو لا يعرف عن نفسه إلا أنه من أولاد بعض الأمراء.
وكان عبد الله من الجهة الثانية راغبا في تحقق ما إذا كانت هند تحب حمادا مثل حبه لها فقال: «أرى هندا قد وقعت من قلبك موقعا عظيما فهل هي عالمة بذلك وهل خطر حماد ببالها.»
فأثر هذا الكلام في قلبه تأثير السهام وعده إهانة له حتى كاد يصرح بكل ما في قلبه ولكنه عاد إلى تعقله وحكمته فقال: «لا أعلم منزلتي عندها ولكنني رأيت منها ميلا وارتياحا لي.»
فقال: «يظهر أن قلبك خدعك فاتخذت لطفها الاعتيادي الذي تظهر به لدى سائر الناس دليلا على حب خصوصي لك.»
قال: «لا أظن قلبي يخونني أو يخدعني فقد علمت من قرائن عديدة أنها تحبني.»
فقال: «وكيف تحبك وأنت غريب ولا نسب ولا نسبة بينك وبينها.»
قال: «أعلم أنها تحبني ...» وسكت.
فقال عبد الله: «أفصح يا ولدى ولا تخف عنى شيئا فأنت تعلم أني منقطع عن العالم كله من أجلك فاشرح ما يخطر ببالك ولا تخف فإن ما يسرك يسرني.»
فقال: «قلت لك أنها تحبني.»
قال: «إذا أنت طامع بها.»
قال: «لا أدري وكل شيء بقضاء وقدر.»
فتحقق عبد الله وقوع حماد في شرك الهوى فبغت وصمت وجعل يتلاهى بنتف عثنونه وقد همه ذلك الأمر كثيرا
فلما عاين حماد منه ذلك ظنه استعظم عليه الطمع ببنت ملك غسان فقال له: «ما بالك لا تتكلم هل ساءك ما ظهر لك مني.»
فابتدره عبد الله قائلا: «لا يا ولدي لم يسئني ذلك ولكنني أفكر في أمر عظيم يهمني كما يهمك وقد قطعنا الصحارى والقفار من أجله وأراك قد شغلت عنه بأمر آخر.»
فقال: «وما تعنى بذلك الأمر العظيم وما الذي شغلني عنه لم أفهم مرادك .»
فقال: «ألم تأت من العراق إلى بصرى لتفي نذرا نذرناه لك منذ 21سنة ولم يبق من أجل الانتظار إلا بضعة أيام.»
قال: «بلى.» فقال: «ما بالى أراك قد شغلت عنه بالحب والغرام.»
فخجل حماد عند سماع ذلك التوبيخ من والده فقال: «وهل يؤخذ من كلامي أني مشتغل بالحب والغرام.» فقال عبد الله: «أوتظن أنني غافل أو تحسب دلائل الحب تخفى على البصير.»
فتحير حماد ولم يدر كيف يدفع قول أبيه ولكنه رأى الأفضل أن يبوح له إذ لا غنى عنه في إتمام قصده فقال: «وهب أني أحببتها وأحبتني فما علاقة ذلك بالنذر ونحن إنما جئنا لقص شعر رأسي في دير بحيراء فما يمنع أن نفعل ذلك ولن نفعل شيئا آخر.»
قال عبد الله: «إن هناك علاقة كبرى لا يمكنني التصريح بها إلا في اليوم الذي تقص شعرك فيه وستعلم إذ ذاك أمورا أنت غافل عنها الآن فلا تلومني على ترددي في أمر حبك لبنت ملك غسان. أنا أعلم أن حبك لها شرف وخصوصا إذا كانت هي تحبك ولكنني لا أستطيع التصريح بشيء إلا في اليوم المعين لوفاء النذر وهو يوم أحد الشعانين فنحن الآن في أواسط الصوم الكبير ولم يبق للموعد إلا بضعة أيام فتتم السنة الحادية والعشرون من ولادتك فنقص لك شعرك ونكشف حقيقة أمرك فتدخل عالما جديدا وتطلع على أسرار ربما كان فيها ما يحول بينك وبين هند.»
فعجب حماد لذلك واشتاق إلى مجيء يوم الشعانين شوقا زائدا وأخذ يفكر في كلام عبد الله ولكنه قال له: «وماذا عسى أن يحول بيني وبينها.»
قال: «قلت لك أني لا أقدر على التصريح بأكثر من ذلك فأرى أن تتبصر وتتأنى ففي التأني السلامة.»
وكان في عزم حماد أن يطلعه على ما تواعدا عليه من الإلتقاء في دير بحيراء فلما رأى منه هذا التهويل كتم أمره وسكت ليرى ما يكون بعد اجتماعه بها ثم يكاشف والده بكل شيء على أنه حسب تهويل والده حيلة في ترغيبه عن هند .
وكان قد مر نصف الليل وغلب التعب والنعاس على حماد ولحظ عبد الله منه ذلك فقال: «هلم بنا إلى الفراش يا ولدي إلى أن يقضي الله بما يشاء ولكنني أوصيك أن لا تقطع أمرا أو تصله إلا بعد يوم الشعانين فإنك إذا فعلت شيئا بعد ذلك إنما تفعله عن بصيرة.»
فسار حماد إلى فراشه وقد همه يوم الشعانين حتى كاد ينسيه هندا وموعدها وود أن يفعل ما أمره به والده ولكن عواطفه غلبت عليه فبات ينتظر صباح الغد انتظار الظمآن للماء فقضى معظم الليل ولم يغمض له جفن وهو يتردد بين حديث الشعانين وحديث هند حتى كان آخر الليل فنام قليلا.
الفصل السادس
مدينة بصرى
وأصبح حمادا في الفجر فهرول إلى ثيابه فلبسها وعبد الله لا يزال نائما فأراد أن يوقظه ليستأذنه في الذهاب إلى بصرى على سبيل التفرج فخاف أن يطلب الذهاب معه فعول على الذهاب بنفسه خفية.
فركب جواده وقد لبس الكوفية والعقال وجعل عليه القباء كالعباء وسار شرقا قاصدا مدينة بصرى ولم يصطحب أحدا من الخدم إخفاء لما سار من أجله وكانت الطريق بين غسام وبصرى على استقامة واحدة كأنها هدمت بالمسطرة والفادن والبركار مرصفة بالحجارة الصلدة على نظام سائر طرق الرومان وقد تأكلت الحجارة من مسير عجلات مركباتهم يحدها من الجانبين حائطان ضخمان ارتفاع كل منهما ذراع. ولم يسر ساعة حتى أطل على بصرى وأول ما شاهده منها حوضها الكبير الغربي الواقع خارج السور وهو عبارة عن خزان للمياه كبير طوله 1250 قدما وعرضه 650 قدما وكان لبصرى أحواض أخرى في الشرق والشمال لخزن الماء خوفا من الجدب لبعدها عن الأنهر والغدران.
فلما دنا من ذلك الحوض عرج نحوه وتأمل إتساعه حتى كاد يحسبه بحيرة كبيرة لأنه كان على معظم امتلائه في أوائل الربيع ثم تحول عنه إلى مرتفع من الأرض ليرى بصرى منه وهو لم يدخلها بعد ولكنه قرأ عنها في كتب الفرس والكلدان وعرف أنها واقعة في جنوبي حوران شرقي نهر الأردن تبعد 90 كيلومترا عن دمشق جنوبا شرقيا و120 كيلومترا من بيت المقدس شمالا شرقيا وأنها قديمة العهد عاصرت دول اليهود ثم اليونان والرومان فلما دنا منها صعد إلى مرتفع فأشرف عليها وقد أشرقت الشمس فإذا هي مربعة الشكل تقريبا مالئة بقعة كبيرة من الأرض المنبسطة وحولها سور يزيد محيطه على أربعة أميال وشاهد خارج السور البساتين والأشجار والكروم وسائر أصناف الغرس ورأى من وراء ذلك سلاسل جبال حوران في عرض الأفق وقد أعجبه منظر المياه في الأحواض حول المدينة تتلألأ بانكسار الأشعة عنها وشاهد في المدينة بنايات هائلة كان منظرها بوجه الإجمال مغبرا لأن حجرها من الصنف الحورانى الأسمر المشهور فاشتاقت نفسه إلى مشاهدة أسواقها فسار نحو بابها الغربي فرأى عنده القوافل وفيها الجمال والبغال والحمير بعضها قادم من العراق يحمل الأقمشة الفارسية وبعضها من اليمن يحمل الأطياب والمر واللبان وشاهد قوافل أخرى تحمل البضائع الرومانية وسائر مصنوعات الشام وتأمل الباب فإذا هو مرتفع هائل الكبر مصنوع على النمط الروماني وفيه العضائد والأعمدة والنقوش على عتبته من الأعلى نقش باللغة اللاتينية لم يستطع قراءته فهم بالدخول من ذلك الباب فرأى الشارع مرصفا بالحجارة والناس يتزاحمون ذهابا وإيابا ففضل الترجل والمسير ماشيا فدخل وقاد الجواد وراءه في شارع المدينة الأكبر وهو يقطعها من الغرب إلى الشرق ويقطعه شارع آخر مثله من الشمال إلى الجنوب وهما أكبر شوارع المدينة ومنهما تتفرع الشوارع الصغيرة والدروب والأزقة والحارات على زوايا قائمة فعجب لانتظام تلك الشوارع وحسن هندامها لأنه لم يشاهد على نظامها ولا في المداين عاصمة الفرس في ذلك العهد.
ولم يكد يخطو في ذلك الشارع بضع خطوات حتى ترأى له عن بعد قنطرة قائمة في عرض الطريق فعلم أنها قوس نصر اعتاد الرومانيون بناءها تذكارا للنصر أو لاحتفال يحق به الفخر فلما دنا من القنطرة رآها مؤلفة من ثلاث أقواس قوس متوسطة كبيرة وقوسين جانبيتين صغيرتين وعلو القنطرة أربعون قدما وعرضها أربعون وسماكتها عشرون وكلها مبنية بأحجار ضخمة قائمة على عضائد مهندمة وفى أعلى القوس كتابة باللاتينية تشوق حماد إلى استطلاع معناها فإلتفت إلى أحد أصحاب الحوانيت وقد عرف من شكل أنفه أنه روماني وكلمه باللغة الكلدانية الممزوجة بالعبرانية فأشار إلى رجل جالس بالقرب منه كأنه يطلب إليه أن يترجم له فجاء فسأله حماد عن تلك الكتابة فقال: «معناها أن يوليوس يوليانوس قائد الفرقة الأولى البرطية بناها.» فأعجب ببذخ الرومان وأيقن أنهم أقرب إلى العظمة والترف من ملوك فارس وقال في نفسه (إذا كانت هذه حالهم وهم في دور الانحطاط فما هو مقدار عظمتهم وبذخهم في أبان مجدهم) فمر من تحت تلك القوس وسار في جهة واحدة فوصل إلى مزدحم من الناس عظيم فإذا هو في متصالب الطرق حيث يلتقي الشارعان الكبيران وهناك الحوانيت الكبيرة وباعة الأقمشة الثمينة ولكنه رأى على أحد أركان ذلك المتصالب بناء شاهقا ذا أروقة ونوافذ وأعمدة ونقوش بديعة فسأل عنه فقيل له: «أنه هيكل بناه الرومان لعبادة الأوثان قبل تنصر قياصرتهم وأما الآن فقد اتخذوا بعضه معبدا والبعض الآخر يسكنه كبار حامية الروم في بصرى.» ووقف في ذلك المكان وإلتفت إلى ما حوله فإذا هو في منتصف المدينة ومن هناك تمتد أربعة شوارع كبيرة تنتهي عند السور بأربعة أبواب غربي وشرقي وشمالي وجنوبي ثم تحول إلى الشوارع الأخرى ليتعهدها ثم يخرج من الباب الشرقي ومنه يصل إلى الدير فشاهد بين أبنية بصرى قصورا شاهقة معظمها من الكنائس وبعضها من الهياكل الوثنية بنيت على عهد الروم قبل تنصرهم وفى جملتها مرسح بديع كانوا يلعبون فيه ألعاب السباق والمصارعة.
وشاهد على تلك الأبنية كتابة بعضها نقوش وبعضها أصبغة وأكثرها مكتوب باللغة اليونانية واللاتينية وبعضها باللغة النبطية.
وأخذ يتأمل ما هنالك من الرساتيق والأسواق وفيها التجار وأكثرهم من الغرباء وبينهم الدمشقي والحلبي والبدوي والرومي والفارسي والعراقي ثم وصل سوق الصناع فوجد أكثر الصاغة من الفرس والروم وصناع الأقمشة الحريرية من الدمشقيين ومر بسوق الأسلحة وفيها صناع السيوف الدمشقية الشهيرة وأكثرهم من أهل دمشق ولاحظ أن أبنية بصرى على اختلاف أشكالها مسقوفة بالحجر عقدا على شكل القبو ورأى الناس تتزاحم في الأسواق رجالا ونساء وفيهم الوطنيون ولغتهم الآرامية أو النبطية وبينهم الروم ولغتهم اللاتينية وبعضهم يتكلم اليونانية وشاهد جماعة كبيرة من العرب الغساسنة لا يزالون على بدواتهم لأنهم يقيمون خارج المدينة ولا يدخلونها إلا لحاجة فعرفهم من لباسهم البدوي وأعجب لما رآه هناك حتى كاد ينسى موعده مع هند ثم انتبه فإذا بالشمس قد كادت تبلغ الضحى فهرول حتى خرج من الباب الشرقي قاصدا الدير وقد عادت إليه هواجسه وشواغله.
الفصل السابع
دير بحيراء
فركب جواده وما سار قليلا حتى وصل إلى مرتفع أشرف منه على بناء كبير شاهده عن بعد وحوله الأشجار والبساتين وشاهد رجلا على حمار يظهر من لباسه أنه من أهل بصرى فسأله عن ذلك البناء فقال: «هو دير بحيراء يا سيدي.»
فساق جواده حتى دنا من الدير وهو يخاف أن تكون هند قد سبقته إليه على أنه يعلم أن المسافة بين الدير وقصر الغدير لا يتيسر قطعها بأقل من بضع ساعات فلا يتيسر لها المجيء قبل الظهر فأخذ يتأمل الدير فإذا هو بناءان أحدهما كبير وفيه قبة فوقها صليب علم أنها كنيسة والآخر صومعة على رابية فترجل وشد جواده إلى شجرة ولو تركه مطلقا ما خاف فراره لأنه أصيل ومشى نحو الكنيسة فإذا هي مبنية على النمط الروماني واسمها كنيسة بحيراء فدخل صحنها حتى جاء البيعة فرأى المكان ديرا وفيه كنيسة وشاهد الرهبان والقسس وكلهم من الروم يتكلمون اللغة اللاتينية وبعضهم يتكلم اللغة السريانية الممزوجة بالعبرانية وهي لغة أهل تلك البلاد بعد السبي وشاهد بعضا آخر يتكلم لغات أخرى فسأل عن سبب هذا الإختلاط فقال له بعضهم: «أن مدينة بصرى مركز أسقفية بلاد العرب الكبرى وفيها يقيم رئيس الأساقفة ومنها يرسل الأساقفة إلى ما تحتها من الأسقفيات.» فدخل البيعة فزار هيكلها وقبل صورها ثم سأل عن دير بحيراء فقيل له: «هو صومعة بالقرب من هذا الدير.»
فسار إليه فإذا هو على رابية ولكنه عجب لنوع بنائه ولم يكد يصدق أنه بيت لأنه عبارة عن خمسة أحجار ضخمة أربعة منها للجدران وواحد للسقف والباب حجر واحد مرتكز على مصراع ورأى الناس يفتحونه ويغلقونه بكل سهولة فسأل رجلا واقفا إلى جانبه يظهر من هيأته ولباسه أنه من أهل دمشق فقال له: «ما هذا البناء وكيف يصنعون الأبواب من الحجارة.» فأجابه: «أن هذا النمط من البناء كثير في بلاد حوران لأن أرضهم صخرية والأخشاب فيها قليلة فيصنعون مصاريع أبوابهم ونوافذ بيوتهم من الحجر وقد يبنون منزلا كثير الغرف وفيه النوافذ والأبواب والأروقة والسقوف ولا يدخلون في بنائه شيئا من الخشب قط.»
فوقف هناك ينظر إلى ذلك البناء الغريب ولم يكد يعرف الباب لو لم ير الناس يخرجون منه فصعد إلى الصومعة حتى وقف عند بابها فإذا هي غرفة مظلمة أشبه شيء بالمغارة لخلوها من النوافذ إلا نافذة ضيقة في بعض جوانبها فدخل فرأى أرض الغرفة حجرا واحدا أيضا وفى جدرانها صور أمام كل صورة مصباح ضعيف النور وفى بعض جوانب المكان راهب هرم قد أرسل لحيته على صدره وتجعد جلد وجهه إلا أنفه فإنه ما زال بارزا كبيرا وقد تناول بيده سبحة طويلة وجلس الأربعاء على حجر منحوت كالمقعد ملتفا بثوبه الرهباني والسبحة في يده والناس يدخلون إليه يتبركون بتقبيل كفه وهو يحرك شفتيه كأنه يدعو لهم فمن زاره سار إلى الدير لزيارة الكنيسة وبجوار الكنيسة غرف لمن أراد الاستراحة أو الإقامة.
فتأثر حماد لمنظر ذلك الراهب الهرم إذ تمثلت له فيه مظاهر الشيخوخة واضحة وضوحا تاما ولكنه لاحظ أمرا واحدا استلفت أنظاره وذلك أنه رأى لباس هذا الراهب كلباس رهبان النساطرة في العراق وكان قد شاهد كثيرين منهم هناك فتقدم نحوه وقبل يديه فنظر إليه الراهب وتأمله كأنه عرفه وأمر بالجلوس فجلس وهو أكثر رغبة منه في مجالسته لأنه ود كثيرا أن يعرف قصة ذلك البناء وكان حماد قد تعلم كل علوم تلك الأيام في مدرسة الرهبان الشهيرة بالعراق فتثقف عقله وصار محبا للاطلاع فلما رأى في ذلك الراهب ارتياحا إلى مجالسته سر سرورا عظيما وتربع حالا فقال له الراهب : «ألعلك من عرب العراق يا ولدي.»
فتعجب حماد لسؤاله فقال: «نعم يا سيدي وكيف عرفت ذلك.» قال: «عرفته من ملامح وجهك لأني عاشرت عرب العراق زمنا. وهل أنت مقيم هنا أم جئت مسافرا.»
قال: «جئت لأفي نذرا علي لهذا الدير.»
قال: «وما هو نذرك.»
قال: «نذرني والدي أن لا يقص شعري أولا إلا في هذا الدير وأنه لا يقصه إلا بعد مضي السنة الحادية والعشرين من عمري وسيكون ذلك في أحد الشعانين القادم فجئت اليوم لنيل البركة والتمتع بمنظر هذه الصومعة إذ كثيرا ما حدثنا أهل بصرى عن الراهب بحيراء. ألعلك أنت هو يا سيدي.»
قال: «لا يا ولدي إن الذي تطلبه قد قتله بعض الأشرار غيلة.»
قال: «كيف قتلوه ولماذا فإني كثير الميل إلى استطلاع خبره.» وقد أراد حماد الانشغال بالحديث لتمضية الوقت ريثما تأتى هند لأن الانتظار صعب.
الفصل الثامن
الراهب بحيراء
فتنهد الشيخ تنهدا عميقا وحملق عينيه وقد نسي شيخوخته وكأن شبابه عاد إليه وأخذ يمشط لحيته بأصابعه وقال: «أما بحيراء فهو من نعم الله على بني الإنسان ولا أظن الأرض تجود بعده بمثله أما حكايته فقد وقعت على خبير فاعلم أن اسمه الحقيقي ليس بحيراء بل يوحنا وأما بحيراء فهو لفظ كلدانى معناه العالم المدقق أو المحقق لقبوه به لطول باعه في سائر العلوم.»
فقال حماد: «وهل عرفته قداستكم معرفة شخصية.» قال: «إني أحد تلامذته وقد تتلمذ له كثيرون غيري من جملتهم سلمان الفارسي أما أنا فقد رافقته من أول ظهوره إلى أواخر أيامه.»
فازداد حماد ميلا إلى معرفة حقيقة بحيراء فقال: «وما هي حكايته فقد شوقتني إلى معرفتها.»
فقال: «اعلم يا ولدي أن المرحوم يوحنا بحيراء كان راهبا نسطوريا على مذهب آريوس ونسطور ولا أظنك تجهل هذا المذهب وإن يكن أتباعه قليلين لمخالفته مذهب القياصرة.»
قال حماد: «نعم أعرف كل شيء عنه وقد اطلعت على دقائقه في المدرسة على أحسن عارفيه.»
فقال الراهب: «فلا حاجة بنا إلى شرحه إذا فأنت تعلم أن أساس هذا المذهب إنكار إلوهية السيد المسيح وإن تسميته إلها غير جائزة وأنهم انتحلوا له اسما فقالوا يجب أن يسمى كلمة الله وإن والدته مريم يجب أن تدعى مظهر الناسوت لا والدة الله قلت لك أني تلميذ بحيراء وأعترف لك أني تلميذه في كل شيء ما خلا هذا المذهب فقد قضيت أكثر أيام صحبتي له وأنا في جدال دائم معه فلم يقنع أحدنا الآخر أما في العلوم الأخرى فله علي الفضل الأكبر فقد أخذت عنه علم الفلك والحساب وعلم الطوالع وسائر علوم هذه الأيام وكان لفراسته وحسن نظره يظنه الناس ساحرا. وكان يقيم أولا بدير في ما بين النهرين بالعراق وكنت أختلف إليه هناك أتلقى بعض العلوم ولم أكن أعرف ما يذهب إليه. فلما أطلع رئيس الدير على انتحاله الاريوسية غضب عليه وأخرجه من الدير فسار قاصدا دير طور سيناء في العقبة على حدود مصر فسرت أنا معه للانتفاع بعلمه وحبا في خيره لعلي أقنعه وأرده إلى مذهب الكنيسة فرحب بنا رهبان طور سيناء وأعجبوا بعلمه وفضله فأقمنا هناك مدة ثم ورد كتاب من ديره الأول إلى رئيس دير طور سيناء أن يخرجه من ديره فأمر بذلك أو يتحول عن مذهبه فخرج وخرجت أنا معه وأتينا هذا الدير وأقمنا في هذه الصومعة معا إلى أمد غير بعيد فانه ذهب إلى مكان في جزيرة العرب لم يسمه ولم أعد أراه من ذلك الحين ثم علمت أن بعض اليهود قتلوه غيلة.»
فقال حماد: «ألا تعلم اسم المكان الذي ذهب إليه.»
قال: «كلا ولكنني ظننته سار إلى الحجاز لحادثة جرت معه على مشهد مني منذ نيف وأربعين سنة.»
قال حماد: «وما هي.»
قال: «جرت عادة القوافل القادمة من بلاد العرب أو غيرها أن تقف هنا للاستراحة من حر الصحراء والاستقاء فيجلس بحيراء بينهم وخصوصا إذا كانوا من الوثنيين أو المجوس وقد أجلس أنا معه أيضا فيأخذ في تعليمهم عبادة الله ولا يريد بهم إلا خيرا وكان يعتقد أن الله ظهر له في الرؤيا وأنبأه أنه سيكون واسطة لهداية بني إسماعيل سكان جزيرة العرب لأن هؤلاء العرب كانوا يعبدون الكواكب أو الأوثان إلا جماعة منهم كانوا نصارى أو يهودا وجماعة أخرى كانت تقر بالخالق وتصدق بالبعث والنشور والثواب والعقاب وفئة قليلة كانت تقر بالخالق وتنكر البعث فكان بحيرا يفكر ليلا ونهارا في مصير تلك الجزيرة وأهلها فرأى مرة رؤيا قصها علينا قال: «رأيت فتى جميل المنظر شهما مولده ببرج الثور والزهرة مع قران المشترى وزحل علمت أنه هو الذي سيهدي أبناء جلدته بني إسماعيل إلى معرفة الله وإن به يقوى أمرهم ويشتد أزرهم وتجتمع كلمتهم فيذللون أبناء عمهم بني إسحاق ويتسلطون عليهم مدة توافق ما أشار إليه دانيال في نبوته وأنه يخرج من العرب اثنتا عشرة دولة.»
فاتفق منذ نيف وأربعين سنة أي في نحو سنة 480 بصروية أن قافلة من قوافل الحجاز وصلت هذه الساحة وفيها جماعة كبيرة من عرب قريش الذين يقيمون في مكة وعندهم مقام شهير يأمه الناس من سائر أنحاء جزيرة العرب وغيرها يسمى الكعبة وعرب قريش هؤلاء كانوا حجاب الكعبة ولهم نسب وشرف يتصل بإسماعيل فنزلت القافلة تحت تلك الشجرة الكبيرة التي تراها شرقي هذه الصومعة فظللتهم جميعا وعقلوا جمالهم وربطوا حميرهم وأنزلوا الأحمال إلتماسا للراحة ثم قدموا للاستقاء فخرج بحيرا لمخاطبتهم وتعليمهم فشاهد بينهم غلاما جميلا تلوح عليه ملامح المهابة والنجابة والذكاء فحالما رآه بغت وإلتفت فقال لي: «أنظر إلى هذا الغلام فانه مولود في البرج الذي قلت لكم عنه وهو الذي سيهدي بني إسماعيل.» ثم سأل كبير التجار عنه فتقدم رجل كهل تتجلى في وجهه دلائل الجلال والوقار فخاطبه بشأنه فقال: «من يكون هذا الغلام» فقال: «هو ابن أخي» فأنبأه بحيراء بمستقبله وقال له: «احذر عليه من اليهود فإنهم إذا عرفوه كادوا له كيدا.» وسأله عن اسمه فقال: «اسمه محمد واسم عمه أبو طالب.» وأقام أولئك الركب عندنا مدة وقد آنست ببحيرا إكراما لهم وترحابا بهم لم أعهده به مع غيرهم ثم ساروا إلى بصرى فالشام وعادوا بعد ذلك إلى مكة ثم كانوا كلما مروا بنا أقاموا عندنا كالعادة.»
فقال حماد: «وهل صحت نبوة بحيرا.»
قال: «نعم لأن ذلك الغلام القريشي أصبح نبيا كبيرا تسمى ديانته الإسلام وقد انتشرت سطوته في كل جزيرة العرب ويسمى أتباعه المسلمين ويحدثنا التجار القادمون من الحجاز عن أعماله وحروبه وانتصاره ما يفوق طور التصديق فسكان جزيرة العرب بعد أن كانوا قبائل متشتتة يغزو بعضها بعضا اتحدت كلها قلبا وقالبا تحت لوائه ولا يبعد أن يحمل بهم على الشام والعراق.»
فقال حماد: «وأظنني سمعت شيئا عن هذا النبي يوم كنت في العراق فما رأيك إذا حمل على الشام والعراق.»
فبهت الشيخ وفكر برهة ثم أغرورقت عيناه بالدموع وقال: «آه يا ولدي لا أظنه إلا يستولي عليهما جميعا لما نعلمه من اختلال الأحوال، فإن قيصر الروم لم يكد يتم حروبه مع الفرس وهذه قلاعنا وحصوننا لا تزال متهدمة وحكامنا في شاغل عن ترميمها بالانقسامات الدينية التي هي أصل هذا الشقاء ألا ترى بطاركتنا في جدال دائم على أمور ما أنزل الله بها من سلطان فبطريرك الإسكندرية يقاوم بطريرك القسطنطينية ويخالفهما بطريرك انطاكية. وقد كانت ديانتنا واحدة لأن السيد المسيح واحد علم تعليما واحدا فأبت مطامع بني الإنسان إلا الانقسام فتعددت الفرق المسيحية وأشهرها ثلاث الآن وهي: (1) الملكية القائلون بقول مركيانوس الملك على عهد الشقاق الواقع بين نسطوريوس وكرللس وهم الروم (2) اليعقوبية القائلون بمقالة كيرللس الإسكندراني ويعقوب البردعانى وساورس صاحب كرسي انطاكية (3) النسطورية القائلون بقول نسطوريوس وترى الشعوب منقسمة أيضا مثل هذا الانقسام حتى تمكن العداء بينها حمانا الله من عواقب الغرور.»
وما أتم الراهب الشيخ كلامه حتى أنهكه التعب لما أثر فيه من حال الروم وما خافه عليهم من سطوة العرب فتململ وتنفس الصعداء وتزحزح من مكانه كأنه يطلب الاتكاء فنهض حماد وقد علم أمورا لم يكن عالما بها قبلا ومال ميلا كثيرا إلى معرفة التفصيل ولكنه خاف التثقيل على الشيخ بعد ما آنس من تعبه وملله وشغل عن ذلك باستبطاء هند عن المجيء فودع الراهب وقبل يده وطلب رضاه وخرج فإذا بالشمس قد مالت عن خط الهاجرة فجلس على حجر منحوت قائم تحت شجرة كبيرة لعب النسيم في أوراقها وتطايرت الطيور بين أغصانها فألقى ظهره على جزعها وأخذ يفكر بما سمعه من ذلك الراهب فغلب عليه الملل وهو لم ينم بالأمس إلا قليلا فغمضت عيناه لحظة رأى فيها حلما من قبيل ما سمعه من الراهب فخيل له أنه سار إلى المدينة بالحجاز وشاهد المسلمين عاكفين على صلواتهم وإن نبيهم قال له: «أنت لست حمادا وستلاقى عذابا ولكنك تجد بعد العسر يسرا.»
ثم أفاق من صوت صهيل الخيل فإلتفت فإذا بفارسين بلباس أميرات البلقاء وراءهما خادمان وقد وقف الفارسان تحت شجرة بالقرب منه فنهض للحال فرآهما تتلثمان ولكنه عرف من الفرسين أنهما هند وإحدى خادماتها فتشاغل ببعض الشؤون لئلا ينتبه أحد لحاله ولبث ينتظر إشارتها وقلبه يخفق فمشت نحو الصومعة وهو واقف لا يبدى حراكا حتى صعدت إليها ودخلت الباب فانتظر هنيهة فلم تعد فمشى نحو الصومعة يتردد بين الصعود والبقاء فإذا بإحدى الملثمتين قد عادت نحوه فعرف من مشيتها أنها ليست هندا فلما دنت منه قالت له: «أتعرف تاجرا يبيع الحلي كان واقفا هنا.» فأدرك أن هندا تسأل عنه باسم أحد باعة الحلي لتخفي أمره عن الخادمة فأجاب على الفور: «أنا هو ذلك التاجر فما غرضك.»
فقالت: «إن سيدتي تفتش عنك.»
قال: «وهل تريد ابتياع شيء الآن.»
قالت: «نعم فأين بضاعتك.»
قال: «هي في مخزني على مقربة من هذا المكان ولكن الحلي التي أبيعها غالية الثمن لا يستطيع اقتناءها إلا الأغنياء فإذ كانت سيدتك من أهل اليسار أتيتها بما تريد.»
فتبسمت المرأة تبسم الاستخفاف وقالت: «نعم أنها أقدر نساء حوران والبلقاء على ذلك.»
فقال: «أين هي.»
قالت: «في الصومعة فتفضل.»
فصعد وركبتاه ترتجفان حتى دخل الصومعة فرأى هندا جالسة على مقعد من الحجر فألقى التحية وتجاهل قائلا: «أين التي تريد الحلي.»
فقالت هند: «هي أنا فأين حلاك.»
قال: «هي في المخزن على مقربة من هذا المكان هل أذهب لاستجلابها.»
قالت: «لا ندري ما نحتاج إليه منها فربما أتيت بما لا حاجة لنا به وتركت ما كانت إليه حاجتنا.»
فقال: «قولي ما هي أنواع الحلي التي تحتاجين إليها فآتيك بأحسن ضروبها وأعود حالا ولا سبيل لنا غير ذلك.»
قالت: «حسنا تفعل فنحن نحتاج إلى أقراط من اللؤلؤ وأساور من الذهب المرصع فأت بما تصل إليه من أحسن أنواعها.»
الفصل التاسع
لقاء الحبيبين
فقال: «سمعا وطاعة» وعاد فركب فرسه وسار بأسرع من لمح البصر حتى دخل بصرى وهرول إلى سوق الصاغة وكان لا يخلو جيبه من بدرة لما قد يحتاج إليه في غربته فابتاع بضعة أساور وبضعة أقراط من أجمل الأزياء الشائعة إذ ذاك وعاد حالا فلما دخل الصومعة لاقاه بعض الخدم وقال له: «ألعلك بائع الحلي» قال: «نعم» قال: «إن مولاتنا تنتظرك في بعض غرف دير بصرى» فعاد إلى الدير فلاقته الخادمة ودخلت به على سيدتها وهي في الغرفة على إنفراد وكانت قبل مجيئه مضطربة استعدادا لساعة اللقاء فلا تسل عن خفقان قلبها واصطكاك ركبتاها ولكنها تجلدت لئلا تلحظ خادمتها منها شيئا يكشف حقيقة أمرها فلما دخل استقبلته استقبالها رجلا غريبا فأمرت له بوسادة جلس عليها وجلست هي على وسادة أخرى.
فجعل حماد الأساور والأقراط بين يديها فقلبت شيئا منها وتظاهرت أنها أعجبت بإحدها فقالت: «ما رأيك بهذه الأساور» قال: «هي من صنع القسطنطينية وصناعتها دقيقة يفضلها العارفون على هذا النوع فانه صنع خراسان.»
فقالت له: «بأى ثمن تبيعها؟» قال: «أنها غالية الثمن يا مولاتي فهي تساوى خمسمئة دينار (ولم تكن تساوى حقيقة إلا عشرة دنانير).»
قالت: «لا بأس من غلائها ولكنني لا أستطيع ابتياعها ما لم أرها لوالدتي.»
فقال حماد: «حسنا تفعلين وأين هي والدتك.»
قالت: «في منزلنا على بعض غلوات من هذا المكان ولكنك لا تعرف من نحن فلا تأمن أن نسير بها جميعا فسأرسلها مع هذه المرأة وأبقى أنا هنا ريثما تعود فإذا استحسنتها والدتي أرسلت الثمن معها فاشتريتها ودفعت الثمن وإلا فإني أعيدها إليك كما هي.»
فقال: «ولكنني لا أستطيع البقاء هنا طويلا.»
قالت: «لا تخف فإن هذه المرأة ستسير على جواد سريع الجري وإذا أبطأت عوضنا عليك الخسارة كن مطمئنا.»
فقال: «أرجو إذن أن تحتفظ بالأساور لئلا يقع شيء من أحجارها أثناء التقليب.»
قالت: «لا تخف إنني أحرص منك عليها ولولا ذلك لأرسلتها مع سواها من الخدمة وهي أيضا متى عادت نابت حظها من بضاعتك.» قال: «حسنا.»
فتناولت الأساور ولفتها في منديل وناولتها إلى الخادمة وقالت لها: «اركبي الفرس وخذي معك الخادمين وأسرعي إلى والدتي واعرضي هذه الأساور عليها وأخبريها عن الثمن كما سمعت وعودي بالجواب حالا.»
قالت: «سمعا وطاعة» وركبت وسارت وقد أملت أن تحظى من مولاتها بهدية من تلك الحلي.
أما هند وحماد فبقيا في الغرفة على إنفراد فقضيا برهة صامتين مطرقين والهوى يتكلم ثم خاطبته هي قائلة: «لقد أحسنت فهم مرادي يا حماد.»
فنظر إليها وتنهد وقال: «كيف لا أفهم مرادك وأنت إذا نطقت إنما تنطقين بلساني أو افتكرت إنما تفتكرين بجناني.» فأطرقت حياء برهة تفتش بين الحلي الملقاة أمامها كأنها تريد التكلم ويمنعها الحياء ولبث هو ينظر إلى وجهها وقد هام بحسنها وانبهر لما يتجلى في محياها من نضارة الشباب وما ينبعث من عينيها من أشعة الذكاء وما زال صامتا يرجى أن تفوه بكلمة تجر الحديث ليشكو ما في فؤاده.
فقالت: «أظنك تستخف بي وتحسب جسارتي هذه وقاحة.»
فتنهد وقال: «حاشا لي أن أبخس فتاة غسان حقها أو أن أجحد النعمة التي أولتني إياها بهذا الاجتماع وكيف أحظى بمشاهدة بنت ملك غسان ولا أعد نفسي أسعد خلق الله.»
قالت: «أن هذه الملكة أصبحت أسيرة بكماء لا تعرف ما تقول فقل أنت لعلك تعبر عن بعض ما بي.»
قال: «إذا سمحت مولاتي أقول أني أسيرها وعبدها ولا أحسب تنازلها إلا منة وكرما.»
قالت: «أتعلم يا حماد لماذا اجتمعنا في هذا البيت وهو من بيوت الله.»
قال: «لا أدري يا سيدتي فلعلك أمرت باجتماعنا لتوبيخي على جسارتي لأني تطاولت على مقام الملوك.»
قالت: «كلا فانك لم تفهم مرادي ولا أنت تتكلم بلساني ولا تفتكر بجناني.»
قال: «ماذا إذن.»
قالت وقد توردت وجنتاها: «جئت لأهنئك بتلك الدرع التي دلت على سبقك فأنت السابق وفى الإشارة غني.»
قال: «أما تلك الدرع فإنها أثمن ما نلت وسأنال من خيرات هذا العالم فهي واقيتي من نوائب الزمان وتعويذة أتقى بها حبائل الشيطان ولكن من أين لي أن أكون السابق وأنا رجل غريب لا تعرفون من أمري شيئا والمقام مقام الملوك.»
فنظرت إليه بطرف عينها وقد ذبل جفناها وأبرقت حدقتاها وقالت: «ولكن لكل مجتهد نصيب وما الملك يا حماد إلا من ملك القلوب وتسلط على العواطف لا من جمع الأموال وحاز على حطام الدنيا الفانية وما السابق الفائز إلا من حاز جائزة السباق ولبس الدرع على مشهد من الناس.»
فإلتفت إليها وقد تحقق رسوخها في حبه وقال: «ذلك سخاء عهدناه ببني غسان فهل تتعطفين على عبدك بكلمة تشفى غليله وتبرد لظاه.»
فتنهددت وقد اشتد بها الهيام وقالت: «ماذا أقول وكل جارحة من جوارحي تنطق بما في هذا القلب (وأشارت إلى قلبها) ولكنني مالي أرى حمادا يبخل علينا بكلمة.»
قال: «بماذا يبخل حماد ولم يبق له ما يجود به ولا يرى حاجة إلى القول وليس جارحة من جوارحه إلا وقد كتب عليها أنه أسير هواك.»
فنظرت إليه وقد أخذ الحياء منها مأخذا عظيما وقالت: «أعذرني يا حماد على ضعفي فجنس النساء مهما بلغت قوته فهو ضعيف فأشفق وقل كلمة.»
فمد يده إلى يدها فإذا هي باردة كالثلج وخيل له أنها ذائبة بين أنامله وما لمسها حتى شعر بقشعريرة أشبه بمجرى كهربائي سرى في سائر أعضائه ولا ريب أنها شعرت هي بمثل ذلك أيضا فجعل يدها بين يديه وقال: «أقول كلمة وأرجو أن لا تكون ثقيلة عليك.»
فأطرقت ثم قالت: «قل قل لقد نفد صبري وأخشى أن يخوننا الوقت.»
قال: «اعلمي أني أسير حبك ولا أبغى من هذا العالم إلا رضاك فماذا تقولين.»
قالت: «انك تعبر عن عواطفي.»
فأدرك حماد أنها تحبه وتميل إليه ولكنه ما زال خائفا من أن يسبقه ثعلبة إليها مع علمه أنها غير مخطوبة له ولا هي تحبه ولكنه خاف أن تحلو في عينيه حسدا فيطلبها ويتراضى والدهما جبلة والحارث ويتغلبا على رأيها فأراد اختبارها من هذا القبيل فقال لها: «وما شأن ابن الحارث.»
قالت: «لا شأن له فهو حارث غير حاصد.» فقال: «وما شأن من لم يحرث أو يغرس.»
قالت: «أن الغرس غرس الله وإذا لم يبن رب البيت باطلا يتعب البناؤون.»
فضغط على أناملها وهم بتقبيل يدها فمنعه الحياء فأعادها وهو يرنو إليها وقال: «ولكن كيف ترضين بمن لا تعرفين نسبه فلا نأمن أن يطالبنا ابن الحارث غدا بحقوق القرابة.»
قالت: «أن من القلب إلى القلب دليل ولا نعرف لنا قرابة توجب مطالبة ولا نحن نرضى بالتقرب منه بعد ما عرفناه من خساسته.»
فقال: «وما الذي دلك على خساسته.»
قالت: «لقد دلتني تلك القصبة فإنها جماد ناطق.»
فعجب لإشارتها إلى القصبة وظهر له أنها عالمة بأمر ثعلبة بالأمس فأراد تحقق ظنه فقال: «وماذا قالت لك القصبة.»
قالت: «لقد نطقت نطقا صريحا أن ابن الحارث جبان دنيء.»
فقال: «وقد مل الألغاز فما قولك بمن لا تعرفين حسبه ولا نسبه.»
قالت: «فمن كان قلبه دليله لا يخش العطب فحماد لا يمكن أن يكون من السوقة لأن أخلاقه جديرة بالملوك فإذا لم يكن ملكا فهو أمير جليل.»
قال: «ولعله كان من قوم بينهم وبين والدك عداوة.»
فجذبت يدها من بين يديه بلطف وتنفست الصعداء ولسان حالها يقول:
أحبك ما لو كان بين عشائر
وقد كانوا أعداء لجر التصافيا
فلم يبقى عنده ريب بصدق حبها له فاعتدل في مجلسه وقال لها: «أن أسيرك يا حبيبتي ليس من طبقات الملوك ولا هو من السوقة بل هو أمير ابن أمير ولكنه دون مقام جبلة ابن الأيهم ملك غسان.»
فاطمأن بالها بأنه ليس من السوقة فأرادت أن تعرف من أي القبائل هو وكانت قد لحظت من لهجته أنه من أمراء العراق فقالت: «ألعلك من أمراء العراق.»
قال: «نعم يا سيدتي فهل غير ذلك شيئا من شعورك.»
قالت: «كلا بل أنت فوق ما تمنيت فإنكم بنو لخم أصحاب نسب وحسب ومنكم بنو ماء السماء.»
فإلتفت إليها وقال: «أما وقد تنازلت إلى حبي فإني طوع إشارتك فهل ترين لهذا الأسير حظا من قربك»
قالت: «لقد أبنت لك مرادي وكشفت لك عواطفي وأنت على ما رأيته فيك من الحزم والدراية فلا تعدم وسيلة في استرضاء والدي.»
فعظم عليه الأمر لعلمه أن استرضاء والدها من أصعب الأمور عليه وهو يعلم منزلته منها فضلا عن الضغائن بين لخم وغسان فبهت برهة ولم يتكلم.
فابتدرته قائلة: «ما بالك تتردد فهل خفت الطريق.»
قال: «لا أخاف شيئا في سبيل قربك ولكنني أرى الطريق وعرا لما أسسه أجدادنا من الضغائن بين لخم وغسان.» فتبسمت وقالت: «لا تخف يا حماد أن ما يصعب عليك يهون علي فكن مطمئنا إني معك وهذا يكفي.»
قال: «قد رضيت بذلك فإن رضاك من رضى المولى وها أني قد كرست حياتي في خدمتك.»
وكانت الشمس قد توارت وراء الحجاب وأظلمت الدنيا ولم تعد تتعارف الوجوه فهما بالخروج من الغرفة وفيما هما يودعان والقلبان يخفقان ويودان البقاء هناك طول العمر إذ سمعا صهيل الخيل خارج الدير ورأيا الرهبان في جلبة فوقفت هند بغتة. فقال حماد: «ما الذي راعك يا حبيبتي.»
قالت: «أظن ثعلبة قادما للدير فلعله علم باجتماعنا فجاء يريد بنا سوءا فالأولى أن نفترق لئلا نفتح بابا للكلام.»
وما أتمت كلامها حتى دخل عليهما رجل عليه ملابس الباعة ببصرى ومد يده فألقى قطعة من الحلي في جيب حماد ثم استخرجها مدعيا أنها كانت في جيبه وإن حمادا كان قد سرقها فتناولها الرجل وقال: «هذه الأساور لي فمن أين جئت بها أنها مسروقة من مخزني.» فلم يجبه حماد ولكنه صفعه على وجهه فقلبه على قفاه خارج الغرفة وإذا بجماعة من جند بصرى قد هموا بحماد فأمسكه أحدهم بذراعه وقال له: «انك سارق» فنفر حماد منه وصاح به قائلا: «اخسأ يا كلب العرب» وصاحت بهم هند: «دعوه» فهمس هو في أذنها: «احذري أن تخبريهم من أنت لئلا يفتضح أمرنا» فتجمهروا حوله وهموا بالقبض عليه ثم سمعوا صوتا يقول: «امسكوا هذا اللص وائتوني به حيا أو ميتا إنه جاسوس ذميم.» فعرف حماد صوت ثعلبة فخرج نحو الصوت والجند يفرون من أمامه ويتفرقون حوله ولم يستطع أحد القبض عليه فصاح به: «تقدم أنت يا جبان لنرى من هو الخائن.» واستل حماد خنجره وهجم على الجموع يبحث عن ثعلبة فلم يعرفه بينهم فاعترضه أحدهم وهم بالقبض عليه فطعنه حماد طعنة أصابت كتفه فصاح من شدة الألم فتفرق الناس فأراد حماد الفرار خوف الفضيحة فتذكر هندا فخاف أن يفتك بها ذلك الخائن فعاد إليها وقال لها: «انجي بنفسك لئلا نقع كلانا وفى وقوعك عار علينا.» فقالت: «حاشا لي أن أتركك بين أيدي هؤلاء اللئام والله لن يظفروا منك بطائل.» وهمت بأحدهم فاستلت حسامه وهجمت على الجند وكانوا عديدين فتفرقوا أيدي سبا فقالت: «خسئ الأنذال هلم إلى.» وخرجا معا والليل قد سدل نقابه فأسرعا إلى فرسيهما فركباهما وسارا.
وكان ثعلبة قد بات تلك الليلة في صرح الغدير كما قدمنا فقضى ليلته هاجسا في أمر حماد وما ناله من السبق في ذلك اليوم وكيف تظاهرت ابنة عمه بميلها إليه واستخفافها بثعلبة وكان كلما تصور هندا تلبس حمادا الدرع والناس يرتلون وينشدون انقدت نيران الغيرة والحسد في صدره وهاجت فيه حاسة الغدر وشعر بميل نحو هند حتى أصبح شديد الرغبة في خطبتها بعد أن كان يترفع عنها وكل ذلك من عوامل الحسد فإن الرجل قد يرى فتاة فلا يعتد بها ولا يظن بها نفعا فإذا سابقه إليها أحد وآنس منها ميلا إلى هذا واستخفافا به حسنت في عينيه وخصوصا إذا وقع بينهما تناظر أو تسابق فكان ثعلبة يتوقع من خطبته هندا انتقاما من حماد وتشفيا من هند لأنه لحظ منها شماتة به ففي حرمانها من حبيبها شفاء لما ثار في قلبه من عوامل الغيرة. فبات ليلته تلك في قصر الغدير يفكر في ذلك فلما أصبح أخذ يتجسس لعله يعلم شيئا من أخبار هند فسار إلى المطابخ وتظاهر بالتفرج بمناظر الأطعمة وكيفية ذبح الذبائح فسمع بعض الخدم يتحدثون بعزم هند إلى دير بحيراء في ذلك اليوم.
أما هند فلم تستطع الخروج قبل ذهاب ثعلبة فلما علمت أنه سار مع والدها ووالدتها تنكرت وسارت كما قدمنا.
أما هو فاضطر لمرافقة جبلة وامرأته إلى قرب البلقاء استجلابا لإعجابهما ثم عرج إلى بصرى فلم يصلها إلا عند الغروب فدبر حيلة للقبض على حماد بتهمة اللصوصية والجاسوسية حتى إذا نفيت الواحدة ثبتت الأخرى فجاء بأحد خماري بصرى وأوعز إليه أن ينتحل حيلة يتهم بها حمادا بالسرقة ليكون له بذلك ذريعة للقبض عليه فإذا قبض عليه اتهمه بالجاسوسية أو فتك به بلا تهمة. ولتمام حيلته كان أبوه الحارث قد سار إلى بيت المقدس في عصارى الأمس أثناء غياب ثعلبة في السباق وسبب ذهابه أن هرقل إمبراطور الرومان ويسميه العرب قيصر الروم كان قد تغلب على الفرس وأخرجهم من الشام وانتهى من حروبه معهم في تلك السنة وكان قد نذر أنه إذا كشف الله عنه جنود الفرس سار ماشيا على قدميه من حمص إلى بيت المقدس فلما نصره الله بعث إلى الحارث بن أبى شمر أن يوافيه إلى بيت المقدس ليعد له الإنزال ويرمم ما تهدم من الأسوار والحصون في أثناء الفتح. فاستغنم ثعلبة غياب والده واستخدم الجند كما شاء فجاء بشرذمة منهم إلى الدير وفعل ما فعله كما قدمنا.
فلما سمع صوت حماد ورأى السيف بيد هند فر هو ورجاله على أن يكمنوا لهم في بعض الطريق.
الفصل العاشر
النجاة
أما حماد وهند فساقا جواديهما نحو صرح الغدير ولكنهما سارا في طريق غير الذي ظنا الخادمة تعود منه لئلا تلتقي بهما فيكشف أمرهما فلما خلوا في الصحراء وأمنا من العيون قال حماد: «تبا لذلك الخائن والله لوددت أن تكون تلك الطعنة في صدره فنتخلص من شره.»
فقالت : «يا ليتها كانت كذلك ولكن هذا الخائن سينال جزاء فعلته هذه على أننى أخشى أن يكون قد كمن لنا في بعض الطريق.»
فقال حماد: «طيبي نفسا يا حبيبتي فإن جنود غسان كلها وجنود قيصر وكسرى لا تستطيع أن تمس شعرة منك ما دمت حيا مقيما إلى جانبك ولقد شهدت منك اليوم شجاعة حقرتني في عيني نفسي فسبحان من جمع فيك شجاعة الرجال ورقة النساء وأراني ساعة وقنت وذلك الحسام بيدك حسبت الجنود تفر من أمامك وشعرت بقوة فوق العادة ولو اجتمعت حولي جيوش مجيشة ما حسبت لها حسابا.»
قالت: «تلك دوافع المحبة قد تذهب برشد صاحبها فيقتحم الأهوال ولا يبالي بحياته ولعلي أتيت بما أواخذ عليه ولكنني فعلت ذلك مدفوعة بحب حماد.»
فقال: «لا تكرهوا أمرا لعله خير لكم فقد شعرت بعد هذه الواقعة أن ربط المحبة بيننا قد زادت متانة ولا أرى في السماء أو الأرض ما يمكن أن يحول بيني وبينك.»
فأوقفت هند فرسها كأنها تريد التصريح بأمر ذي بال فأوقف حماد فرسه فمدت يدها إليه فمد يده وتصافحا وقالت: «أعاهدك عهدا مقدسا أني باقية على حبك إلى آخر نسمة من حياتي ولو حال دون ذلك كل مصاعب بني الإنسان.»
فنسي حماد موقفه لعظم غرامه بها وسروره بما شاهده من حبها وقال لها: «أن هذا العهد يا هند لينسيني كل أسباب الشقاء ووالله لاقتحمن أعظم الأخطار وأجوب الفيافى والقفار في سبيل حبك يشهد علينا سهيل والميزان وسائر نجوم السماء والله أكبر الشاهدين.»
فأطرقت هند وقد غلب عليها الحياء ولسان حالها يقول: «وأنا أعاهدك بذلك أيضا.»
فقال لها حماد: «أما وقد تعاهدنا على الحب فلتكن تلك الأساور عربون المحبة وقد قدمتهما لك عن غير قصد وهي تقدمة حقيرة بجانب مقام بنت ملك غسان فهل تقبلين بها تذكارا.»
فنظرت إليه وفرسها يشاغلها بالأقدام والأحجام كأنه شعر بما يتقد فوقه من لواعج الغرام وقالت: «ذلك يدلك على أن حبنا مقدر منذ الأزل وقد أراد الله أن تكون هذه الأساور عربونا لذلك الحب فسأحافظ عليها ما بقيت ولكن أتعلم ما هو تذكاري عندك.» قال: «كيف لا أعلم وصلصلة تلك الدرع لا تزال ترن في أذني فهي تسقيني غائلات الزمان بإذن الله.»
قالت: «لقد أحسنت فهم المراد حرسك الله ووقاك.»
فلما تبادلا العهد وخزا الفرسين ولم تمض برهة حتى صارا على مقربة من صرح الغدير وقد عرفاه من النيران الموقدة بالقرب منه وهي نار القرى كان يوقدها الغسانيون لإهداء المارة ممن يريدون طعاما أو مبيتا.
فوقف حماد وقال: «هذا قصرك فسيرى إليه فإني عائد إلى منزلي.»
فقالت: «أخاف عليك ذلك الخائن وأخشى أن يكون كامنا برجاله في بعض المكامن والليل بهيم فربما أراد بك سوءا.»
فهز رأسه استخفافا وقال: «ذريه وكل جند أبيه ولا تخافي علي بأسا بإذن الله فألحت عليه أن يدخل القصر بحيلة الضيافة منفردا.» فقال: «إنك لتزيدينني رغبة في المسير منفردا وإني لأستحيي من نفسي أن أخاف ابن الحارث ورجاله ولو كانوا ألوفا.» فلما لم تجد سبيلا إلى إقناعه ودعته فقبض على يدها وضغط عليها وجددا الوعد وعدا طاهرا وقالت: «سر بحراسة المولى وكلاءته.» وسارت هي نحو القصر فلبث هو واقفا حتى تحقق دخولها الحديقة فتحول نحو منزله وهو على مسافة بعيدة عنه فوخز جواده وجد في المسير زميلا وقد ترك قلبه في صرح الغدير ونسي نفسه فلم يشعر إلا وهو في مكان لم يعرفه فأوقف جواده ونظر إلى ما حوله فإذا هو في أرض قفر لم يعهدها قبلا ففكر برهة لعله يفقه أين هو فلم يستطع فنظر إلى النجوم وأبراجها وكان خبيرا بعلم الفلك فرأى أنه أخطأ الطريق وإن منزله في جهة غير التي كان سائرا فيها فشكر علم الفلك لأنه كان وسيلة في اهدائه إلى سواء السبيل وحول عنان جواده نحو الجهة التي ظن أنها تؤديه إلى منزله حتى وصل إلى البساتين والمغارس.
وفيما هو سائر زميلا بين الأشجار والطريق كثيرة الحصى إذ سمع وقع حوافر جواد مسرع نحوه فأصاخ بسمعه وأحدق بعينيه لجهة الصوت فإذا به يقترب نحوه فأمسك بعنان جواده حتى مشي خببا ينظر إلى جهة الصوت والظلام حالك فإذا بالفارس يدنو منه ثم سمع صوتا يناديه: «حماد.» فعرف أنه صوت أحد خدمته فأجابه: «سلمان» وهو اسم ذلك الخادم قال: «نعم يا سيدي قف عندك» فوقف حتى تقابلا فقال حماد: «ما الذي جاء بك الآن.»
قال: «أدر عنان جوادك واتبعنى لأخبرك الخبر.» وأسرع فتبعه وسارا اهجاما وهما لا يتكلمان وقد انشغل بال حماد لذلك حتى بعدا عن مساكن الناس وانفردا في الصحراء فأمسكا عنانى الفرسين فقال حماد: «قل يا سلمان ما سبب هذا العدو وما الذي جئت من أجله.»
قال: «جئت بأمر من سيدي والدك أن تفر من غسام إلى عمان.»
قال: «ولماذا؟» قال: «لأن صاحب بصرى بعث شرذمة من رجاله فقبض على سيدي والدك واستولى على كل ما في البيت.»
فبغت حماد وقد علم السبب ولكنه تجاهل وقال: «ولماذا فعلوا ذلك.»
قال: «زعموا أنه جاسوس من ملك العراق فساقوه مجبورا إلى بصرى وسمعت الرجال يسألون عنك في بادئ الرأي فلما لم يروك قبضوا على سيدي والدك ونهبوا المنزل ولم يغادروا شيئا فأسر إلي والدك أن أقتفي أثرك وأفر بك إلى عمان ننتظره هناك شهرا فإن أبطأ علينا بحثنا عنه في بصرى.»
قال: «وهل أصابوه بسوء.»
قال: «كلا يا سيدي ولكنهم أوثقوه وساقوه إلى بصرى ولا بد من أن يقصوا أثرك للقبض عليك وهذا ما حمل سيدي على تحذيرك فنحن ذاهبون إلى جهات عمان نقيم فيها متنكرين شهرا ثم يقضي الله بما يشاء.»
فانقبضت نفس حماد عند ذلك وكادت تخنقه العبرات وعلم أن الذين قبضوا على والده هم ثعلبة ورجاله فحدثته نفسه أن يثنى عنان جواده إلى بصرى وقد كبر عليه الفرار ولكنه أطاع والده وسار مع سلمان صامتا يفكر في حاله مع هند وكيف ساقه الحب إلى هذه العاقبة فبعد أن مشيا مدة صامتين قال حماد: «أتعرف هذه الطرق يا سلمان.»
قال: «نعم يا سيدي أعرفها جيدا فقد طرقتها مرارا مع سيدي والدك منذ بضعة أعوام.» وكان سلمان شابا في الثلاثين من عمره رافق عبد الله في أكثر أسفاره حتى حنكته التجارب وعلمته الأيام وكان نبيها فطنا يستهلك في خدمة مولاه وكان عبد الله يركن إليه في مهماته ويثق به في معظم أعماله فلما تحقق وقوعه في الأسر عهد إليه العناية بحماد وهو يؤمل أن يتخلص من أسره فيجتمع به فأمره أن يسير به إلى عمان وهي مدينة قديمة واقعة على نحو ستين ميلا من بصرى جنوبا مع انحراف نحو العرب كانت تسمى في عصر الإسرائيليين (ربان عمون) وكانت عاصمة العمونيين الذين تضافروا هم الموابيون وأخرجوا سكان شرقي البحر الميت والأردن واحتلوا مكانهم ولهذه المدينة ذكر كثير في التوراة وقد تخربت مرارا حتى بناها بطليموس فيلاذلفوس ملك الإسكندرية في القرن الثالث قبل الميلاد وسماها فيلاذلفيا ثم صارت في أوائل الميلاد أسقفية ذات أهمية كبرى يقيم بها أسقف تحت إدارة أسقف بصرى الأكبر فيها كثير من الأبنية الرومانية كالقلاع والهياكل والكنائس.
وما زال حماد وسلمان يسيران زميلا حتى انتصف الليل وبعدا عن بصرى كثيرا فوقفا وقد تعبا وتعب الجوادان وطلع القمر وكان في ربعه الأخير فأرسل أشعته على تلك السهول والجبال والأرض خالية لا أثر للآدميين فيها ولكنها مكسوة بالغابات وأكثرها من شجر الزيتون والجوز فسارا حثيثا وحماد غارق في بحار التأمل تتقاذفه الهواجس وقلبه يخفق تارة حنوا لهند وطورا خوفا على والده فإذا تصور ثعلبة إتقدت نيران الانتقام في جسمه وود لو يلقاه ليقطعه إربا إربا ولكنه كظم ما في نفسه وعاد إلى الحديث مع سلمان والجوادان يجريان على الرمل لا يسمع لحوافرهما صوت والجو هادئ وضوء القمر ضعيف. فقال حماد: «أخبرني يا سلمان كيف فعل هؤلاء الطغام بوالدي وبالمنزل.»
قال: «كنا في غفلة ومولاي في قلق لغيابك من الصباح وهو لا يدري إلى أين سرت فلما غابت الشمس ولم تأت أزداد قلقه فهم بالركوب للتفتيش عنك وفيما نحن في ذلك وقد أسرجت جوادي لأرافقه إذ سمعنا صهيل الخيول ووقع حوافرها وتقاطر الرجال عشرات فأحاطوا بالمنزل فسألناهم عن الخبر فقالوا: «أين الأمير حماد» وأغلظوا بالمقال فسألنا عن أمرهم فلم يجيبونا إلا بالشتم والسباب فأجبناهم بمثل مقالهم فهموا بسلاحهم وخيلهم وقبضوا على سيدي الأمير بعد أن دافع دفاعا حسنا وكان أعزل فأوثقوه وسقطوا على المنزل فنهبوه فاغتنمت فرصة اشتغالهم بالنهب ودنوت من سيدي فأوصاني أن أقتفي أثرك وأحذرك من المجيء كما أخبرتك ولولا التقادير لقبضوا علي ولكنني بحمد الله تمكنت من الفرار وجئت إليك.»
فقال: «وهل أخذوا متاعنا وأموالنا.»
قال: «أنت تعلم يا سيدي أن المثمنات من الذهب والفضة مكنوزة في مكان لا يعرفه أحد سوانا ولكنهم أخذوا ما عثروا عليه من الأثاث.»
فتذكر حماد الدرع فقال: «وهل أخذوا الدرع التي جئت بها الأمس.»
قال: «كلا فإنها في هذا الخرج على فرسي وقد حفظها الله صدفة لوجودها في هذا الخرج.»
فسر حماد لبقاء الدرع لأنها تذكار من حبيبته هند.
وفيما هما في الحديث آنسا نارا عن بعد فقال حماد: «وما هذه النار ألعلنا على مقربة من القرى.»
فوقف سلمان ونظر إلى ما حوله وفكر قليلا ثم قال: «إن النور الذي تراه هو في بلدة يسمونها بيت الجمال أو أم الجمال فإذا شئت أن نتحول إليها فعلنا وإلا فإننا سنشرف على جدول فيه ماء نشرب منه ونسقى جوادينا ونبيت فيه بقية ليلتنا.»
قال: «دعنا من البيوت لئلا ينكشف أمرنا.»
الفصل الحادي عشر
مسبعة الزرقاء
وسارا حتى أشرفا على واد فيه ماء جار من الشرق إلى الغرب وقد غطته الأشجار من الجانبين فوقفا في أعلاه ونظرا إلى أسفله فهالهما منظره لسكون الطبيعة وهدوء الليل وضعف الأظلال لا يسمعان سوى نقيق الضفادع وقرقرة حبل القر وحفيف الشجر حفيفا بمرور النسيم وشعرا ببرد خفيف فترجلا ونزلا الوادي يقودان الجوادين وراءهما وضوء القمر لضعفه لم يكن يريهما الطريق إلا بصيصا وكانا يسمعان لوقع حوافر الخيل دويا يردده الصدى من جوانب الوادي حتى يخال لهما أن فرسانا آخرين قادمون إليهما ثم لا يلبثان أن ينتبها إلى الصدى على أن هيئة المكان كانت مستطلة عليهما وخصوصا سلمان فقد كان أكثر وجلا من حماد ليس لضعف فيه بل لعلمه أنهما على مقربة من الزرقاء وهي مسبعة مشهورة بالضراوة وفيها السباع ولكنه كتم ذلك على حماد لئلا يثير هواجسه واتخذ التدابير اللازمة للدفاع عند الحاجة فظلا سائرين حتى اقتربا من الماء ونظرا إلى موقفهما فإذا هما في واد بين جبلين والوادي تكسوه النباتات وبينها أشجار هائلة.
فشد سلمان الفرسين إلى شجرة على مسافة من الماء ريثما يستريحان قبل الشرب وسار مع حماد إلى الماء فغسلا وشربا فنزع حماد كوفيته وعقص شعره لئلا يرف على كتفيه ووجهه ثم افترش سلمان عباءته على منبسط من الأرض تحت شجرة جلسا عليها والجوادان يصهلان ويفحصان الأرض في طلب الماء.
ثم اتكأ حماد وجلس سلمان إلى جانبه يحادثه وحماد ساكت وذهنه مشتغل بنقيق الضفادع ونعيق الغربان على تلك الأشجار وحفيف الورق والأغصان وخرير الماء ولولا شواغله بهواجسه في والده وهند وثعلبة لخاف منظر ذلك الوادي ولكنه كان لا يزال متهيجا تتقاذفه الشواغل فلبث صامتا لا يتكلم فتركه سلمان وسار إلى الجوادين فحلهما وجاء بهما إلى الماء ووقف بهما على منحدر بالقرب من مجلس حماد وضم العنانين وربطهما ووقف بجانبهما يتلاهى ببند حسامه وعيناه شاخصتان إلى قمم تلك الجبال كأنه يتوقع محذورا وحماد غافل عن كل ذلك بهواجسه فلما روى الفرسان أعادهما إلى مربطهما وجاء إلى مجلس سيده وأسند ظهره إلى جزع الشجرة وكان التعب قد أخذ من حماد مأخذا عظيما فالتف بعباءته وغلب النعاس عليه فنام أما سلمان فلم يستطع رقادا خوفا من غائلة السباع وجعل يتوسل إلى الله أن يمضي ذلك الليل بسلام فما زال كذلك إلى قبيل الفجر فذبلت عيناه وهو جالس ولم يكد يغمضهما حتى سمع صهيل الجوادين معا وقرقعة اللجامين فانتبه ونظر إليهما فإذا بهما قد أجفلا فخفق قلبه واستعاذ بالله ونهض لساعته وإلتفت يمنة ويسرة فلم ير شيئا ثم سمع قرقعة حجارة تتدحرج من قمة الجبل المقابل لهما حتى وصل بعضها إلى الماء على مقربة منه وأجفل الجوادان وأكثرا من الصهيل فانتبه حماد وصاح: «ما هذا يا سلمان.»
فقال: «انهض يا سيدي اننا في خطر.» فنهض حماد وأسرع سلمان إليه قائلا: «نحن على مقربة من الزرقاء فلعل بعض السباع جاءت ترد الماء ولا خوف علينا منها لأن الماء يفصل بيننا وبينها فهلم إلى جوادك ولنعد من حيث جئنا.» فهما بالجوادين وما كادا يركبان حتى رأيا أسدا منحدرا نحو الماء يتمايل عجبا بمشيته المعهودة والأحجار تتدحرج أمامه وعيناه تتلألآن كأنهما سراجان متقدان فاثنيا العنانين نحو الجبل فسمعا صوتا كالرعد القاصف ارتجت له جوانب الوادي فقال سلمان: «هذا هو زئير الأسد يا سيدي فأسرع بنا ولا تخف فإن الماء حائل بيننا وبينه.»
فوخزا الجوادين وصعدا حتى وصلا إلى مرتفع والأسد يزأر عن بعد وهما يحسبانه وراءهما لهول صوته ومجاوبة الصدى فلما وصلا قمة الجبل إلتفتا إلى الوادي وكان النور قد لاح فشاهدا الأسد عند الماء يشرب.
فقال حماد: «ما فعلت بنا يا سلمان وكيف جئت بنا إلى هذا المكان.»
قال: «جئته مضطرا وعهدي به بعيدا عن مسبعة الزرقاء والظاهر أن هذا الأسد قد بعد عن عرينه كثيرا فورد الماء ولا يلبث أن يعود ولا خوف علينا بإذن الله.» فوقفا برهة ينظران إلى مجرى الغدير في أسفل الوادي فإذا بالأسد بعد أن شرب إلتفت يمينا وشمالا وزأر زأرة اصطكت لها مسامعهما وكان ذلك أول عهد حماد بالزئير أما سلمان فكان قد شاهد الأسد وسمع زئيره في بعض حدائق كسرى بالمداين ورآها تتغالب وتتصارع.
أما حماد فما زال يراعى الأسد في صعوده الجبل وهو يتمايل بمشيته تيها وقد أرسل ذنبه فوق ظهره حتى توارى عن نظرهما وكانت الشمس قد أشرقت أو كادت وأحس حماد بالجوع فضلا عن التعب فقال: «ما عهدك بالطعام هنا.» قال: «خل عنك الاهتمام به فإني كافل كل أسباب الراحة فسر بنا قليلا فإننا لا نلبث أن نصل إلى دير على مقربة منا نقيم فيه يومنا ضيوفا ونبيت ليلتنا ثم نصبح مسافرين.» قال: «حسنا» ومشيا برهة فأشرفا على بناء فوقه قبة عليها صليب فعلما أنه دير وفيه كنيسة فنزلا هناك فاستقبلهما الرهبان بالترحاب وأنزلوهما على الرحب والسعة فقضيا ذلك النهار في الراحة والطعام وكان طعامهما قاصرا على ألوان بسيطة لكنها لذيذة وفى جملتها أنواع من الجبن والقشدة واللبن واللحم المقلي مع البيض وأنواع التين المجفف والزبيب والجوز والمشمش المجفف فضلا عن الخمر المعتقة فإن خمر الديور مشهورة بجودتها ولاقيا من حسن وفادة أهل الدير ما شغلهما عن هواجسهما على أن حمادا لم يهدأ له بال ولا برحت صورة هند من مخيلته كما كانت لما فارقها المرة الأخيرة ليلا راكبة إلى قصر الغدير وهو ينتظر وصولها إليه.
فباتا تلك الليلة في الأحاديث المتنوعة وأكثرها مما جر إليه حديثهما عن ذلك الأسد فعلما أن المسبعة بعيدة عن الدير ولكنها في طريقهما إلى عمان ولا بد للسائر إلى عمان من المرور فيها إلا إذا دار في طريق طويل بعيد.
ولما أصبحا تزودا وصليا وسارا على بركة الله وسلمان يفضل المسير في الطريق البعيد خوفا من السباع وحماد يأنف من خوفه ويثنيه عن عزمه.
الفصل الثاني عشر
عبد الله في السجن
فلنتركهما سائرين إلى عمان ولنعد إلى عبد الله وما كان من أمره فقد تقدم أنه سار إلى بصرى بتهمة الجاسوسية مخفورا وهو يعجب للعنف الذي اتخذه الرجال في القبض عليه ونظرا لعلمه ببراءة ساحته تحقق أنه لا يلبث أن يقف أمام الحارث حتى يثبت براءته فيفرج عنه فيذهب إلى عمان حيث يلتقي بحماد ثم يأتيان لوفاء النذر بدير بحيراء وهذا ما حمله على ضرب الأجل شهرا وقد فاته السبب الحقيقي للقبض عليه.
أما الجند فساروا به إلى بصرى وحجروا عليه في غرفة من غرف قلعتها جنوبي السور فبات بقية ليلته قلق البال على حماد لئلا يأتي المنزل وهو لم يلتق بسلمان فيقع في الفخ فلما مضى الليل ولم يأتوا به ترجح عنده نجاته. وفى الضحى جاءه رجلان عليهما لباس الجند الروماني وهو الخوذة من النحاس الأصفر يتدلى منها خصل من شعر أذناب الخيل والأدراع من الفولاذ تحتها أثواب حمراء لا تتجاوز الركبة وكان هذان الجنديان يحمل كل منهما حربة صغيرة وترسا من الفولاذ وعلى صدر كل منهما شرائط من الحرير مزركشة بالذهب على شكل حرفين أحدهما
II
عرف أنه الحرف الأول من اسم الإمبراطور هرقل والثاني لم يعرف تفسيره ولكنه الحرف الأول من اسم الفرقة التي ينتمى إليها الجنديان ولكن هذه العلامة قلما كان يتقلدها غير الخيالة منهم وكان مع الجنديين رجلان من جند ثعلبة بلباسهما العربي فأشاروا إلى عبد الله فتقدم وصعدوا به إلى طابق علوي في القلعة حتى وصلوا قاعة مفروشة بأحسن الأثاث الروماني وفى صدرها عظيم روماني علم من لباسه ومقعده أنه رئيس الحامية الرومانية كان جالسا في صدر القاعة على كرسي مذهب يصعد إليه بدرجتين متشحا بقميص مدرع بحراشف من نحاس محلاة بالذهب تحته ثوب ضيق لا يتجاوز الساقين إلا قليلا وكان ضخما كثير العضل والدهن وشاهد بين يديه رجالا أكثرهم في مثل لباسه وهم أهل مجلسه من الروم إلا رجلا جالسا بالقرب منه عليه لباس العرب عرف أنه ثعلبة بن الحارث فتحقق عبد الله أنهم يسوقونه إلى قائد جند الروم ببصرى فدخلوا به إليه فوقف متأدبا وهو موثق فخاطبه القائد وكان اسمه رومانوس بواسطة الترجمان قائلا: «ما اسمك.»
قال: «عبد الله.»
قال: «من أي البلاد أنت»
قال: «من العراق.» «وما هي مهنتك» «أني من أمراء العراق أعيش من ريع أملاكي أو أتجر ببعض أصناف التجارة.» «وما الذي جاء بك إلى هذه الديار» «جئت لأفي نذرا نذرته لدير بحيراء.» «وما هو نذرك» «أن أقص شعر ولدي في العشرين من عمره.»
فإلتفت رومانوس إلى ثعلبة وتخاطبا سرا ثم نظر ثعلبة إلى عبد الله واستقدمه حتى دنا منه فقال له: «كيف تدعى أنك جئت لقص شعر ابنك وأنت مقيم هنا منذ أشهر ولم تقصه.»
قال: «لأني نذرت أن لا أقصه إلا في يوم أحد الشعانين القادم.»
فضحك استخفافا بتلك الحجة وقال: «تلك حجج واهية لا ترد عنكم تهمة فأنتم جواسيس من قبل ملوك الحيرة ولولا ذلك ما أقمتم في قرية بعيدة وتسترتم عنا وحاولتم إخفاء أمركم فمن كان في مثل ما أنتم فيه من اليسار لا يترك مدينة بصرى بمنتزهاتها وشوارعها ومراسحها وملاعبها ويقيم في قرية حقيرة مثل قرية غسام فاعترف بالحقيقة لئلا يزداد العقاب عليك.»
قال: «قد قلت لكم الصدق كل الصدق.»
فقال: «ليس للصدق نصيب من مقالك وزد على ذلك أنكم تدعون بالانتساب إلى أمراء العراق وقد أمسكنا غلامك أمس بسرقة.»
فلم يفهم عبد الله معنى هذا القول وظنه يقوله ليستطلع شيئا جديدا عنه فقال: «لعلكم أسأتم الفهم فإننا لا نعرف مثل هذه الأعمال ولدينا من نعم الله ما يكفينا مؤونة السرقة أو غيرها.»
فهز ثعلبة رأسه استهزاء ثم أخذ يلاعب شاربيه عجبا وقال: «قد تحققت الآن جاسوسيتك وسنكشف ذلك عيانا.» ثم قام إليه وأخذ يفتش أثوابه وجيوبه بدعوى البحث عن أوراق أو أشياء أخرى تؤيد تهمته فوجد في بعضها حقا فتحه فإذا فيه خاتم فيه فص كبير من العقيق الأحمر فتأمله ثعلبة فإذا عليه كتابة بالحرف السطرنجيلى وهو من الأقلام التي كانت مستعملة في العراق فحالما قبض ثعلبة على الخاتم ظهرت البغتة على عبد الله ولكنه تجلد.
فجعل ثعلبة يقلب الخاتم بين يديه ويتأمله فلم يستطع قراءته فإلتفت إلى رجل من التراجمة حوله وقال له: «هل تستطيع قراءة ما على هذا الخاتم.»
فأخذه وقرأه وجعل ينظر إلى عبد الله تارة والى الخاتم أخرى ظهرت على وجه عبد الله ملامح الخوف والحضور ينتظرون ما يقوله الترجمان حتى مل ثعلبة الانتظار فقال له: «قل ماذا قرأت.»
قال: «أن على هذا الفص اسم «النعمان بن المنذر.» وعليه شارة الملك» فبهت الجميع وجعلوا يتأملون ذلك الخاتم واحدا واحدا وينظرون إلى عبد الله وأخيرا خاطبه رومانوس قائلا: «كيف اتصل هذا الخاتم إليك.»
فأجاب وهو يحاول أن لا يتلجلج وقال: «ابتعته من بعض الصاغة.»
فانتهره ثعلبة قائلا: «أتقول بعد هذا أنك لست جاسوسا وأنت تدعي أنك ابتعت خاتم النعمان بن المنذر ملك العراق من بعض الصاغة. متى كانت خواتم الملوك تباع في الأسواق قل ما الذي أوصل هذا الخاتم إليك.» فلم يجب.
فأعاد السؤال عليه ثانية وثالثة فأصر على الصمت.
فتفاوض ثعلبة ورومانوس سرا ثم قال لعبد الله: «أن وجود هذا الخاتم معك مما يزيد الشبهة بخيانتك إلا إذا أخبرتنا كيف وصل إليك وما هي حكايته.»
فسكت ولم يجب. فازداد حنق ثعلبة وقال له: «قل أجب.»
فقال عبد الله: «قلت لك أني لا أعرف عنه غير ما قلته لك وهو أنه وصل إلي بالعرض في سوق الصاغة فالظاهر أن حضرة المترجم لم يحسن القراءة أو لعل ما قرأه اسم رجل يشبه اسم الملك النعمان.»
فضحك ثعلبة وقال: «هذه دعوى فاسدة ولو كان والدي الحارث هنا الآن لأثبت نسبة هذا الخاتم إلى النعمان ملك العراق لأنه شاهد ختمه على كتبه مرارا وعلى كل فإنك ستبقى في السجن حتى تعترف بالحقيقة وإلا فأنت مقتول شر قتلة.»
قال عبد الله: «افعل ما بدا لك فما أنا ممن يخافون القتل لأني برئ.»
قال: «سترى عاقبة وقاحتك هذه عندما يأتى بابنك الغلام الغر ونريك خيانته رأى العين.»
ثم إلتفت ثعلبة إلى الحراس الأربعة وكانوا لا يزالون وقوفا على الباب وقال: «خذوه بعد أمر البطريق (القائد رومانوس) إلى برج القلعة وأبقوه مخفورا ريثما ننظر في أمره.»
وكان لقلعة بصرى برج متشامخ يستحيل الفرار منه لأن المسجون إذا حاول الفرار لا طريق له إلا النافذة فإذا وثب منها لا يدرك الأرض إلا ميتا.
فصعدوا به طابقين آخرين وأدخلوه البرج وهو غرفة صغيرة ذات نافذتين وباب صغير فاقفلوا الباب عليه وتركوه وشأنه فلما خلا بنفسه أخذ يتأمل في ما مر به في الليل الماضي وذاك الصباح ويراجع ما سمعه عن ابنه فلم يفهم معنى اتهامه باللصوصية ولكنه شكر الله لوقوعه هو ونجاة حماد لأنه ما زال متحققا تخلصه من تلك الشراك على أن ظهور ذلك الخاتم عرقل مساعيه ولبث برهة يفكر ثم نهض إلى نافذة البرج الشرقية فأشرف منها على مدينة بصرى كلها بناياتها وشوارعها وأسوارها وحولها الأحواض المائية الكبيرة وأشعة الشمس تنعكس عن أسطحتها وكان الجو صافيا فنظر إلى ما وراء ذلك فشاهد في عرض الأفق جبلا عليه بناء يكاد البعد يحجبه عن نظره ولكنه عرف أنه قلعة سرخد (صلخد) الشهيرة وبينها وبين بصرى طريق حجري على استقامة واحدة مرصف بالحجارة الضخمة كسائر الشوارع الرومانية الكبرى وخيل له أن بصرى وضواحيها حديقة يانعة في وسط صحراء قاحلة لأن بلاد حوران جبلية جرداء غبراء اللون.
وتحول من هناك إلى نافذة جنوبية فأشرف على أرض أكثر خصبا من تلك يتراءى فيها عن بعد قرية أم الجمال لا يتميز شيء من أبنيتها لبعدها فتذكر حمادا ومسيره إلى عمان فقال في نفسه (لعله الآن يقرب ذلك المكان مع سلمان). ثم هاجت به هواجسه وتذكر ما مر به منذ شبوبته وخاف أن يقتل قبل أن يبوح لحماد بسره وقد كتمه عنه وعن سائر أهل الأرض نيفا وعشرين سنة فتراكمت عليه الهواجس حتى نسي موقفه وما هو فيه من الخطر الشديد.
فقضى نهاره في مثل ذلك فجاؤوه ببعض الطعام فلم يتناول منه شيئا وبات تلك الليلة وعاد في صباح اليوم التالي إلى النافذة فحدثته نفسه أن يثب من ذلك البرج لعله ينجو فنظر إلى أسفله فإذا هناك هوة عميقة لا يمكن أن يصل إلى قاعها حيا فصبر نفسه ينتظر ما يجيء به القدر.
وفى اليوم الثالث أفاق على أصوات النواقيس من الأديرة والكنائس فأطل من النافذة المشرفة على المدينة فرأى الناس في هرج ومرج وقد زينت الشوارع بسعف النخل وأغصان الزيتون وخرج الناس زرافات ووحدانا يحملون الشموع وأغصان الزيتون يأمون الديور والكنائس وفيهم الرجال والنساء وأولادهم بين أيديهم يحملون الأزهار والشموع وقد تربوا بأحسن ما لديهم من اللباس وأنواع الزينة فعرف أنه يوم أحد الشعانين والناس يحتفلون به على جاري العادة فهاجت هواجسه وتذكر حمادا وموعده بنذره فعظم عليه الأمر واشتد به ذلك حتى بكى ولكنه ما لبث أن عاد إلى صوابه وتجلد تجلد الرجال المحنكين الذين خبروا الدهر وعرفوا تقلبات الزمان فقال في نفسه (إن الدهر لا يستقر على حال فلا بد لهذه الأزمة من إنفراج).
فقضى ذلك اليوم وبضعة أيام أخرى لا يأكل إلا قليلا وقد هدأ روعه وجعل يفكر في وسيلة ينجو بها من تلك الورطة وهو في كل ذلك يحمد الله لنجاة حماد من ذلك لأنه لا يصبر على الأذى ولا تعود مشاق الزمان وكوارث الحدثان. ففي ذات صباح جاءه الحراس وأمروه بالنزول إلى المجلس فنزل وقد استعد للدفاع فلما وقف بين يدي رومانوس وثعلبة قال له هذا: «كيف ترى نفسك.»
قال: «أرى أني أسير بين يدي حضرة البطريق.» «لماذا لا تعترف بحقيقة أمرك ونحن نعدك بالإفراج.» «قلت لكم الحقيقة فلم تصدقوني.» «انبئنا أين هو ابنك فنعفو عنك.» «من أين لي أن أعلم ذلك وقد أخذتموني على غرة وهو خارج البيت فلا أعلم مقره.»
ثم ناداه رومانوس قائلا: «أنظر يا هذا إذا أنت أصررت على الإنكار لا نرى بدا من إرسالك إلى مولانا الإمبراطور في حمص فهو أولى بالاقتصاص منك وإذا وصلت إليه لا ينجيك من بين يديه حيلة فالأفضل لك أن تعترف بالحقيقة هنا وتنجو بنفسك.»
قال: «قلت لكم الحقيقة فلم تصدقوني فافعلوا ما بدا لكم.»
فأمر رومانوس بإعداد خفر يسير بعبد الله والخاتم إلى حمص فيدفعهما إلى الإمبراطور هرقل فقال عبد الله بنفسه: «لعل في ذلك بابا للفرج فإن الإمبراطور أكثر رأفة وتعقلا من هؤلاء.» فاركبوه فرسا وهو موثق وحوله عشرة خفراء بينهم خمسة من جند الروم بلباسهم المتقدم ذكره وقد ركبوا الخيل بلا ركاب على جارى عادتهم.
الفصل الثالث عشر
هرقل
وكان هرقل إذ ذاك في حمص جاءها على أثر انتصاره على الفرس انتصارا لم يكن يتوقعه فنذر أن يسير إلى بيت المقدس ماشيا فوصل عبد الله إلى حمص وقد خرج هرقل منها على قدميه وفاء لنذره والحارث بن أبى شمر الغساني قد جاء حمص ليتولى تدبير ما يلزم لذلك المسير فكان هرقل يسير ماشيا والبطاركة والأساقفة بين يديه وقد لبس التاج وتوكأ على الصولجان متزملا بوشاح ارجواني مزركش وأمامه الحارث ورجاله يفرشون له البسط في الطرق ليمشى عليها فسار عبد الله مخفورا وراء الموكب من حمص إلى بيت المقدس ورأى الجند يحف بالموكب وكلهم مشاة يتقدم كل فرقة منهم علم في أعلاه نسر من الفضة أو صليب إلا سرية صليبها من الذهب مرصع بالياقوت والألماس كانت تحيط بالموكب عن قرب. وكان الناس في أثناء الطريق يخرجون من القرى والمدن لمشاهدة الإمبراطور ماشيا وحاشيته حوله يسيرون جميعا على البسط والسجاد والناس يلقون الأزهار على الطرق وبعضهم ينثرها على الإمبراطور ورجاله وآخرون يرشون الطرق والمارة بالأرواح العطرية على أنواعها حتى وصلوا بيت المقدس وقد زينها أهلها وخرج البطريرك والأساقفة بالصلبان والمباخر يحرقون فيها البخور والند والعنبر ويسيرون بالمشاعل أمامهم فاستقبلوا الإمبراطور على مسافة خارج المدينة وعادوا به بالتراتيل والأناشيد والصلوات والناس يزاحم بعضهم بعضا يتسابقون لمشاهدة الإمبراطور وكانت شوارع بيت المقدس تعج عجيجا بالمارة فضلا عن المطلين من النوافذ والشرفات والأسطحة حتى وصل الموكب إلى كنيسة القيامة والنواقيس تدق والقسس يرتلون ويسبحون ثم أقيمت الصلاة شكرا لله على ما أولاهم من النصر على أعدائهم الفرس.
كل ذلك وعبد الله وحراسه يرافقون الجماهير فلاحظ عند إشرافهم على أسوار المدينة أنها متهدمة وآثار منجنيق الفرس والروم لا تزال ظاهرة فيها حتى لحق معظمها بالأرض وما زالوا سائرين حتى أتوا دار الحكومة فساقوا عبد الله إلى السجن فلما أصبحوا ساروا إلى الحارث بن أبى شمر فبلغوه الرسالة وسلموا إليه عبد الله وحكوا له حكايته ودفعوا إليه الخاتم فحفظه حتى يعرضه على هرقل فبقي عبد الله في محبسه شهرا لم يتمكنوا في أثنائه من تقديمه إلى هرقل لتزاحم الوفود من سائر الأنحاء يهنئون الإمبراطور بما أوتيه من النصر.
فلما تمت مهمة الحارث وهم بالرجوع إلى بصرى تذكر عبد الله فاستأذن هرقل أن يدخل به عليه فأذن له فساقوه مخفورا إلى قاعة كبيرة بالقرب من الكنيسة أعدت لجلوس الإمبراطور ورجال دولته قد أحدق بها الخفر بأسلحتهم وملابسهم الرسمية وقوفا إجلالا للإمبراطور فدخل أولا الحارث ثم استدعى عبد الله فدخل القاعة وقد هاله ما فيها من مظاهر الأبهة والعظمة فشاهد الإمبراطور جالسا في صدر القاعة على سرير من الذهب الخالص يكاد لمعانه يبهر الناظرين وعلى رأسه تاج مرصع يتلألأ كالمصابيح وعلى منكبيه وشاح من الخز سماوي اللون مزركش بالذهب وفى يده صولجان الملك وهي عصا طويلة من الذهب المرصع في أعلاها رسم النسر الروماني مرصع بالحجارة الكريمة. وكان هرقل كبير الجثة عظيم الهيبة زاد المشهد وقارا وإلى يمينه بطريرك أورشليم بملابسه الرسمية وعصاه وإلى يساره سرجيوس بطريرك القسطنطينية وإلى كل من الجانبين القواد والأساقفة وسائر رجال الدولة على كراس من الذهب وكانت أرض القاعة مكسوة بالسجاد المزركش والأبسطة الثمينة.
ورأى بين الأساقفة أسقفا شاهده مرة في الحيرة وهو كيروس أسقف فاسيس في بلاد الأكراد وكان يسمع بسعة علمه ودهائه فعجب لوجوده هناك وازداد عجبا لما رآه جالسا بجانب البطريرك الأورشليمى في منزلة البطاركة ورأى بجانب البطريرك القسطنطيني بطريركا لم يعرفه.
فلما دخل عبد الله هاله الموقف ولكنه تجلد وقد علمته الأيام أن ما يراه من مظاهر الأبهة ليس إلا أعراضا زائلة وأن الحق سلطان يعلو ولا يعلى عليه. ولم يكن من شأن الإمبراطور النظر في مثل هذه الدعوى الجزئية لولا ما همه من أمر الخاتم فأحب استطلاع أمره بنفسه فلما مثل عبد الله بين يديه خاطبه والحارث يترجم بينهما فتناول الإمبراطور الخاتم بيده وقال لعبد الله: «من أين أتيت بهذا الخاتم.»
فأجابه عبد الله مطرقا: «قد جاءني بطريق العرض يا مولاي فاشتريته بالثمن.»
قال: «لا يعقل أن مثل هذا الخاتم يباع بالأسواق أو يلقى على الطرق وهب أنك وجدته على قارعة الطريق ألم يكن الأجدر بك تسليمه إلى صاحبه.»
فقال عبد الله: «مولاي يعلم أن صاحب هذا الخاتم إذا صح أنه النعمان بن المنذر عامل كسرى على الحيرة فهو في عداد الأموات منذ نيف وعشرين سنة.»
قال الإمبراطور: «أليس من أبنائه أحد حيا تسلمه إليه.»
فسكت عبد الله.
فقال الإمبراطور: «ما بالك لا تجيب أجب ولا تخف وهب أنك جاسوس أو شبه جاسوس فنحن لا نخاف الجاسوسية بعد أن منحتنا العناية الصمدانية أكاليل النصر على أكاسرتكم.»
فقال عبد الله: «لقد نطق مولاي ببراءتى من الجاسوسية من تلقاء نفسه والحمد لله إذا لم يبق ثم حاجة إليها والصلح قد عقد بين جلالته وكسرى ملك الفرس بعد أن كان ما كان من ظهوره عليه.»
قال هرقل: «نعلم ذلك ولكننا شديدو الرغبة في معرفة كيفية وصول هذا الخاتم إليك وسبب إقامتك بجوار بصرى كل هذه المدة متنكرا على ما علمت من عاملنا هناك.»
فظل عبد الله مطرقا ولم يجب.
فقال الإمبراطور: «قل يا رجل قل فإن هرقل امبراطور الروم يخاطبك.»
فجثا عبد الله عند قدمي الإمبراطور كأنه يحاول تقبيلهما وقال: «أنا أعلم ذلك يا سيدي ولكنني لا أستطيع التصريح بأكثر مما فهت به بين يديك.»
قال: «إذن أنت تكتم أمرا تحاذر أن تبوح به.»
قال: «أجل لقد صدق مولاي.»
قال: «أتكتم ذلك عن إمبراطور الرومانيين ألا تخاف بطشه أو تخشى الحكم عليك بالإعدام.»
قال: «لا أظن أحدا يخاف الموت ولكنني أفضله على التصريح بهذا السر وها أني بين يديك فأمر بما تشاء.»
فعجب هرقل لهذا الإصرار وقال: «يا للعجب أتقول ذلك ولا تخاف.»
قال: «أني على يقين يا مولاي بأن موتى وحياتى بين شفتيك ولكنني لا أستطيع غير ذلك.»
فإلتفت هرقل إلى من حوله من البطاركة والأساقفة والقواد وقال: «ما قولكم بهذه الجسارة فإني أراني أزداد ميلا لمعرفة سر هذا الخاتم.» فإلتفت البطريرك الأورشليمى إلى عبد الله وحرضه على الإقرار عبثا وفعل مثل ذلك أيضا البطريرك الأنطاكى وغيرهما بلا جدوى.
فأراد هرقل تهديده فأمر بالجلاد فجاء والسيف بيمينه فقال له: «ائتني برأس هذا الرجل» فقاده إلى باحة الكنيسة وعبد الله يسرع أمامه لا يتردد لحظة فربط عينيه وأركعه على نطع ودار حوله دورة والإمبراطور يراه من داخل فلما دار الدورة الثانية استقدمه هرقل وأمر بحل رباط عينيه وقال له: «ألا تزال مصرا على الكتمان.»
فقال عبد الله: «أقسم برأس مولانا الإمبراطور وسر التثليث المقدس أن ليس في أمر هذا الخاتم ما يمس جلالتكم بوجه من الوجوه ولكن كتمانه فرض علي واجب لا أستطيع التحول عنه.»
فازداد الإمبراطور استغرابا وقال لمن حوله: «وكيف العمل إذا.»
فقال عبد الله: «إذا أذن مولاي في أمر يكون فيه راحة لخاطره فعلته.»
قال: «وما هو.»
قال: «إننا معشر النصارى نحترم سر الاعتراف فإذا شئتم أن أبوح بسر هذا لغبطة البطريرك الأورشليمى على شرط أن يشير إلى جلالتكم في علاقة هذا السر بكم أو عدمها بغير أن يصرح بتفاصيل قصتى فإذا قال لكم أن لا علاقة لها بكم تحققتم صدق قولي وعذرتمونى على كتمانه.»
قال: «لا بأس من ذلك.» وأشار إلى البطريرك فخلا بعبد الله في الكنيسة ساعة أطلعه فيها على سر ذلك الخاتم.
ولما هما بالرجوع إلى القاعة قال عبد الله: «أرجو من مولاي البطريرك أن يخبرنى عن البطريرك الجالس بجانب البطريرك سرجيوس من هو.»
قال: «هو اثناسيوس بطريرك اليعاقبة ومقامه في الأسكندرية وقد جاء لمقابلة الإمبراطور ولعله يغتنم الفرصة للمداولة معه بما هو جار من الاختلاف المذهبى بين الملكية واليعاقبة في القطر المصري.»
فقال: «وهل ذلك الاختلاف لا يزال متمكنا فقد بلغنا أنه كاد يزول.»
فتنهد البطريرك وقال: «ظنناه كاد يزول ولكنه لم يزل فإن مولانا الإمبراطور رجل حازم ذو رأى سديد وقد علم بعاقبة هذا الانقسام فلاح له أن يختلق وسيلة للتوفيق بين القائلين بالطبيعتين والمشيئتين والطبيعة والمشيئة فاستعان بالبطريرك سرجيوس القسطنطينى فاستنبط منذ بضع سنوات عقيدة متوسطة وهي الاعتراف بطبيعتين في المسيح لهما مشيئة واحدة وفعل واحد وعرض عقيدته هذه على البطاركة والأساقفة فقبلها أكثرهم. وفى عزمه أن ينقل البطريرك اثناسيوس إلى كرسي أنطاكية ويرسل الأسقف كيرلس إلى الأسكندرية فيجعله بطريركا ووليا عليها ولعله يقصد بذلك التوفيق بين الكرسيين الأنطاكي والاسكندري ولكنني لا أظنهما يتفقان فإن التعصب متمكن من الجانبين وليست هذه الاختلافات في اعتقادى إلا مماحكات لفظية يتمسك بها بطاركتنا إلتماسا للسلطة الدنيوية ولكن هذه إرادة الله فما أجمل المملكة المسيحية إن تكون مذهبا واحدا نقول قولا واحدا تأييدا لدولة الروم العظمى فقد كفانا ما نجم عن هذه الاختلافات من الأحن والمصائب ولا نزال نتوقع ما هو فوق ذلك فنطلب إلى الله أن يلطف بعباده.»
فعجب عبد الله لهذه الاختلافات وأعجب برغبة هرقل في جمع كلمة رعيته وتحقق ما سمعه عن تأنيه وحزمه ولكنه لم يكن يرجو له الفوز ببغيته لما يعلمه من تمكن الشحناء بين الأحزاب ثم قبل يد البطريرك وخرجا.
وفيما هما عائدان نحو القاعة شاهد الحرس في هرج وبينهم رجل غريب بلباس أهل البادية ليس عليه غير الشملة والعمامة تقلد حساما أعقف وحمل رمحا وحربة وقد علاه الغبار ولوحته الشمس وظهرت على وجهه آثار الأسفار وكان عبد الله خبيرا بقبائل العرب لكثرة اختلاطه بهم فلاح له أن الرجل من أهل الحجاز فعجب لمجيئه وليس في بيت المقدس كله أحد في مثل لباسه وشكله ولولا اشتغاله بأمر نفسه لخلا به وسأله عن حاله ولكنه اضطر لمرافقة البطريرك إلى قاعة الإمبراطور فدخلا وجلس البطريرك في مجلسه ووقف عبد الله في موقفه.
فقال هرقل للبطريرك: «كيف رأيت الرجل؟» قال: «رأيته صادقا وفى لهجته وهو معذور في كتمان أمره وأمر هذا الخاتم وقد أطلعنى على خلاصة حكايته فإذا هي مستقلة عن جلالتكم ولا علاقة لها بالروم قاطبة ولكنه سر مقدس أقسم على كتمانه فلا يستطيع التصريح به إلا في حينه.»
الفصل الرابع عشر
دعوة الملوك إلى الاسلام
فاقتنع هرقل وإلتفت إلى عبد الله وعبد الله مطرق إجلالا ووقارا وقال: «قد أخبرنا غبطة البطريرك بعذرك في الكتمان فصفحنا عنك فكن مطمئنا آمنا.» وناوله الخاتم بيده ونادى الحارث فوقف بين يديه فبلغه عفوه وأمره أن يدفع إليه كتاب الأمان فتقدم عبد الله وجثا أمام الإمبراطور وشكر نعمته وتقهقر يريد الخروج فرافقه الحارث إلى باب القاعة ثم رأى ذلك البدوي قد أذن له بالدخول وفى يده رق من جلد يريد تقديمه إلى الإمبراطور فاعترضه الحارث فقال البدوي: «بيدي كتاب إلى جلالة الإمبراطور أريد تسليمه إليه.» فأخذ الحارث الكتاب فإذا هو مختوم بالطين فقدمه إلى هرقل فاغتنم عبد الله انشغال الحارث وانزوى في بعض جهات القاعة بين الجميع ووقف ينظر إلى ما يكون من أمر ذلك الكتاب.
فرأى هرقل قد فضه وتأمله فلم يستطيع قراءته فناوله إلى ترجمانه فنظر إليه ثم قال: «انه مكتوب بالحرف الكوفي باللغة العربية.»
فقال هرقل: «أتله علينا.» فقرأه فإذا فيه
بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم والسلام على من اتبع الهدى أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين وإن توليت فإن أثم الأكابر عليك (الختم)
محمد رسول الله
فلما أتم قراءته ترجمه فبغت كل من في الجلسة لشدة لهجته فإلتفت هرقل إلى من حوله كأنه يستشيرهم في شأنه وهو لم يفهم المراد منه لأنه لم يكن يسمع بتلك الدعوة إلا همسا فقال: «ومن ينبئني بحكاية هذا الرجل؟» فلم يستطع أحد إيضاحا كافيا فنظر إلى أطراف القاعة فشاهد عبد الله فأشار إليه فهرول نحوه متأدبا فقال له: «هل سمعت شيئا عن صاحب هذا الكتاب؟» وأمر بالكتاب فدفع إليه فقرأه وقال: «نعم يا مولاي أن صاحبه نبي ظهر في مكة في بلاد الحجاز من قبيلة يقال لها قريش دعا الناس إلى عبادة الله وكان أكثر العرب يعبدون الأوثان فأجابه جماعة كبيرة منهم بعد أن قاسى مشقات جسيمة من اضطهاد بعض أقاربه وأعمامه وأهل وطنه فهاجر إلى يثرب فنصره أهلها وشدوا أزره وانتشرت دعوته في أقاصي بلاد العرب ويظهر من كتابه هذا أنه يدعو مولاي الإمبراطور إلى التصديق به.»
فلما سمع أرباب المجلس قوله كثر اللغظ فيما بينهم وأظهروا الاستخفاف فإلتفت هرقل إليهم كأنه يستطلع رأيهم فقالوا له: «أن في كتاب هذا الرجل جرأة كبيرة إذ لا نرى مسوغا أن يحتقر الإمبراطور إلى هذا الحد.» فأشار هرقل إشارة فهم الحاضرون منها أنه يلتمس سكوتهم فسكتوا وإلتفت إلى البطريرك عن يمينه فاستخصه بالسؤال.
فقال البطريرك: «أني أرى في هذا الكتاب جرأة لم يسبق لها مثيل لأن كتابه يبدأ في خطابه بذكر اسمه ثم يذكر اسم جلالتكم فقد قال: «من محمد رسول الله إلى عظيم الروم» والعادة في خطاب الإمبراطور أن يكون الاستهلال باسمه ثم اسم مخاطبه فأرى بعد أمركم أن لا تعيروا هذا الكتاب التفاتا.»
فقال هرقل: «ولكن علينا أن نبحث عن سيرة هذا النبي وصفاته ثم نحن مخيرون في ما نفعله فهل تعرفون أحدا من قريش نسأله عنه.»
فقال الحارث: «أعرف أميرا من أمراء مكة عظيما اسمه أبو سفيان قدم في هذه الأثناء لتجارة في غزة وهو أقدر من يخبرنا عن صفات هذا النبي.»
فقال هرقل: «إلي به.»
فقال الحارث: «سمعا وطاعة فسيكون هذا الرجل هنا بعد بضعة أيام أن شاء الله.»
قال الإمبراطور: «فلنعقد مجلسا إذ ذاك يحضره هذا العراقى لأنه يعرف العربية فلعله يفيدنا شيئا.»
الفصل الخامس عشر
أبو سفيان
فقبل الحارث الأرض بين يدي هرقل ووقف متأدبا ثم ارفضت الجلسة.
فخرج عبد الله في جملة من خرج وقد أسف لتأخره هناك وود الإسراع إلى حماد وقد داهمه الوقت ولكنه كان قد شاهد أبا سفيان في بعض أسفاره إلى مكة ولم يكلمه فأحب أن يراه ثانية ويسمع حديثه عن صاحب هذه الدعوة فسار توا إلى دار الضيافة بالدير فأقام على الرحب والسعة وخرج في أثناء ذلك إلى المدينة فطاف أحياءها وتفرج بمشاهدها فرأى فيها اخلاطا من إليهود ولغتهم جميعا العبرانية المشوهة بالألفاظ الكلدانية وفيهم جماعة من السريان ورأى جماعة كبيرة من الروم وفى أيديهم أعظم متاجر البلاد وأرفع مناصبها وما منزلة الوطنيين بينهم إلا منزلة الخدمة ولم يسمع في أحاديث الناس إلا الجدال بين القائلين بالطبيعة والقائلين بالطبيعتين فتيقن أن ذلك الخصام سيكون سببا لسقوط هذه الدولة.
فلما كان الوقت المعين للاجتماع اجتمع بالحارث وسارا معا إلى كنيسة القيامة فدخلا صحنها فشاهدا جماعة من البدو عرف عبد الله من لباسهم أنهم من عرب الحجاز ففطن أنهم رجال أبى سفيان ونظر فيما بينهم فرأى رجلا يمتاز عنهم جميعا بحسن زيه وكبر عمامته وإتساع عينيه عليه العباءة المزركشة وقد تقلد الحسام بخلاف سائر رجاله فقد كانوا يتقلدون الرماح ومعظمهم مكشوفو الرؤوس وفيهم من قد شد رباطا حول شعره من الأعلى.
فلم يتكلم عبد الله ولكن الحارث تقدم إلى أبي سفيان فوقف له هذا وقد عرفه أنه الحارث بن أبى شمر فألقى إليه التحية وأخبره أنه جاء انقيادا لأمر الإمبراطور فقال له: «تربص ريثما ندخل على مولانا ثم نبعث إليك.»
ثم وصل الحارث وعبد الله إلى القاعة فعلما من وقوف الحرس عند الباب أن الإمبراطور هناك فدخلا وتأدبا فأمر هرقل باستقدام ذلك القرشي فخرج الحارث ثم عاد وحده وأخبر الإمبراطور أن الرجل أبى الدخول إلا بحسامه. قال هرقل: «فليدخل» ولم تمض لحظة حتى دخل أبو سفيان ومعه بعض رجاله فبهرهم ما في القاعة من أنواع الزينة ودلائل البذخ فوقف أبو سفيان أمام الإمبراطور ثم قبل الأرض بين يديه وحياه قائلا: «أبيت اللعن» وهي تحية الملوك في الجاهلية فتلطف معه وأمره بالجلوس فتربع على الأرض وجعل سيفه عرضا على فخديه وجلس رجاله وراءه فعلم هرقل أنها عادتهم في الجلوس فلم يعترضه ثم خاطبه بواسطة الترجمان قائلا: «من أي القبائل أنت.»
قال: «من قريش حماة الكعبة.» «وما تعني بالكعبة.» «هي حج إلى الآلهة.» «أتعرف رجلا اسمه محمد ظهر فيكم يدعو الناس إلى دين جديد.» «نعم أعرفه وهو من ذوي قرابتي لكنني لست على دعوته فقد جاءنا بدعوة جديدة ونحن على دين آبائنا وطالما نهيناه عن ذلك فلم ينته»
قال هرقل: «لقد همني أمر هذا الرجل وأود أن أعرف حقيقة حاله فهل تنبئني عنه وعن دعوته وما يدعو الناس إليه»
فأصلح أبو سفيان مجلسه في تربعه كأنه يعد نفسه لجلوس طويل ومشط لحيته بأصابعه وأطرق قليلا يفكر في أمر ذى بال.
فابتدره هرقل قائلا: «ما بالك لا تجيب وقد اقترحنا عليك أمرا يهمنا الإطلاع عليه ألعلك تجهله.»
قال: «كلا يا سيدي ولكنني تذكرت بدء أمر محمد هذا وتذكرت والده ثم ما كان من دعوته وانتشارها فتجدد استغرابي له فإذا أذنت بأن أقص عليك خبره فعلته.»
قال: «ذلك ما أقترحته عليك فقل.»
الفصل السادس عشر
سيرة صاحب الشريعة الإسلامية
فأسند أبو سفيان كوعيه على ركبتيه ليستريح في جلوسه وإلتفت إلى من حوله فإذا هو محاط بجماعة كبيرة من البطاركة والأمراء والقواد فعلم أنه يقص حكايته على أعظم رجال الروم والترجمان يترجم كلامه للحضور إلا من كان عارفا العربية منهم كالحارث وعبد الله فقال: «اعلم أيها الملك أبيت اللعن أن محمدا صاحب هذه الدعوة الذي توصل إلى مخاطبة جلالتكم قد ربي يتيم الأبوين صفر اليدين على أنه من أصل عريق في الشرف والسؤدد من قبيلة قريش التي أنا منها ويتصل نسبنا بعدنان ونسب عدنان يتصل بإسماعيل بن إبراهيم فنحن من أشرف العرب نسبا وأطيبهم طينة. وكان جدنا إسماعيل قد بني لنا بيتا تحج إليه الناس من أقطار العالم اسمه الكعبة بناه في مكة بالحجاز وهي مسقط رأسي ومحل إقامتي ومركز تجارتي ومقام أهلي.
وكانت ولاية هذا البيت تارة في قريش وطورا في سواهم حتى اغتصبها منهم منذ قرنين أو أكثر بنو خزاعة وهم قبيلة من عرب اليمن القحطانية إذ لا يخفى على مولاي القيصر أن العرب كافة يرجعون في أنسابهم إلى أبوين هما: (1) اسماعيل الذي قدمت ذكره ومنه قبيلتنا وسائر قبائل الحجاز (2) قحطان ومنه بنو حمير وسائر قبائل اليمن. ولم تستطع خزاعة الاستبداد بولاية الكعبة إلا لما كان من تفرق أمر قريش وضعفهم حتى ظهر جدنا قصي فبذل الدم والمال حتى ظهر على خزاعة واسترجع ولاية البيت إلى قريش وتولى هو كل أعمال الكعبة وهي الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء.»
فلم يستطع الترجمان فهم هذه الألفاظ وأشكل عليه تفسيرها فقال هرقل: «أفهمنا ما معنى هذه الأعمال.»
فقال أبو سفيان: «أعلم يا سيدي أن مكة لا حكومة فيها مستقلة كحكومة جلالتكم بل هي مكان عبادة لأن الكعبة حج يزوره الناس كما يزور النصارى ديرا من الديور ولكنها أعظم من ذلك كثيرا فمن تولى أعمالها كانت إليه حكومة مكة وولاية أمرها على نسبة ما يتولى من تلك الأعمال فمن تولى الحجابة كانت له حجابة الكعبة أي أن مفاتيحها تكون بيده يفتحها لمن أراد ويمنعها ممن أراد وأما السقاية فهي أن في داخل الكعبة بئرا قديمة يقال لها بئر زمزم احتفرها جدنا اسماعيل فمن يتولى السقاية تكون تلك البئر في عهدته يسقي الحجاج منها. أما الرفادة فهي خرج أو مال تدفعه قريش إلى من يتولى الرفادة فيصنع منه طعاما للحجاج الذين يزورون الكعبة من أقطار الأرض لأنهم ضيوف عليه وأما اللواء فهو العلم الذي يعقدونه للحرب وصاحب اللواء يعقد الألوية للجند الذاهبين إلى القتال وهو بمنزلة قائد الجند عندكم. أما الندوة فهي مجلس القضاء ولها بيت في الكعبة يجتمع فيه رجال قريش للمشورة والمداولة وصاحب هذه الدار هو صاحب الشورى والرأى وإليه يرجع الأمر. ففي الأمور الخمسة تجتمع السلطة المطلقة لمن يتولاها للدين والدنيا فيكون القضاء والجند والكعبة والمال في قبضته فقد حاز جدنا قصي شرف مكة كله وقطع مكة أربعا بين قومه وبه اجتمعت كلمة قبيلتنا وعادت إليها سطوتها وعلا نجم سعدها فتيمنت بأمره حتى صارت لا تزوج امرأة لرجل من قريش إلا في داره ولا يتشاورن في أمر نزل بهم أو يعقدون لواء لحرب قوم من غيرهم إلا في داره يعقدها لهم بعض ولده ولا تدرع جارية إذا بلغت أن تدرع إلا في داره يشق عليها فيها درعها. وجملة القول كان أمره في قومه من قريش في حياته ومن بعد موته كالدين المتبع لا يعمل بغيره.
وكان لقصي هذا أربعة أولاد وهم عبد الدار وعبد مناف جدنا وعبد العزى وعبد فلما شاخ قصي كان عبد مناف قد شرف في زمان أبيه وعظم أمره وكذلك عبد العزى وعبد فأراد قصي أن يشرف عبد الدار وكان بكره فدعاه إليه وأوصى له بمناصب الكعبة الخمسة المتقدم ذكرها فصار شرف مكة كله إلى عبد الدار وبنيه من بعده.
فخلف عبد الدار أولادا وخلف عبد مناف أولادا آخرين وهم عبد شمس وهاشم وعبد المطلب ونوفل وكانوا رجالا أشداء وعبد شمس هو جدي فغبط بنو عبد مناف بني عمهم عبد الدار على ما في أيديهم من أمر الكعبة ونازعوهم عليه حتى كاد يفضي أمرهم إلى الحرب ثم تداعوا إلى الصلح واقتسموا ذلك الشرف فيما بينهم فأعطيت السقاية والرفادة إلى بني عبد مناف وأعطيت الحجابة واللواء والندوة إلى بني عبد الدار وتم الصلح على ذلك وانحسم الخلاف. ولا تظنوا أني أطلت الكلام على غير طائل أو أني دخلت فيما لم أسأل عنه فإن لما قلته علاقة كبرى فيما سألتمونى عنه.
فتولى السقاية والرفادة أولا عبد شمس ولكنه كان كثير الأسفار لا يقيم في مكة إلا قليلا فعهد بهما إلى أخيه هاشم وهاشم هو جد محمد الذي تسألونني عنه أي أبو جده ثم مات هاشم فوليهما أخوه المطلب وكان سمحا سمته قريش الفيض لسماحته.
وولد لهاشم ولد سماه شيبة ثم سمى عبد المطلب لحكاية طويلة لا محل لها هنا وهو جد محمد أبو أبيه فلما مات المطلب تولى الرفادة والسقاية ابن أخيه هذا أي عبد المطلب وولد لعبد المطلب عشرة أولاد ذكور منهم عبد الله والد محمد.
وكان عبد المطلب قد أراد حفر بئر زمزم فمنعه أقاربه من ذلك فلاقى منهم أمورا صعابا ولكنه فاز أخيرا بحفرها فنذر أنه إذا ولد له عشرة أولاد ثم بلغوا منه حتى يمنعوه من مثل ذلك لينحرن أحدهم عند الكعبة فلما بلغوا ومنعوه جاء الكعبة ليفي نذره ولم يكن يدري من ينحر من أولاده فاستخار هبل الصنم الأكبر القائم في الكعبة بواسطة القداح.»
فأشكل أمر هذه الأقداح على الترجمان ولم يستطع تفسيرها فاستفسره عنها.
فقال أبو سفيان: «أن لنا في الكعبة أصناما كثيرة اتخذناها وسيلة بيننا وبين من نعبد وأعظمها صنم اسمه هبل عنده سبعة قداح (أي أسهم بلا ريش) كل قدح عليه كتابة بمعنى قدح قد كتب عليه (العقل) وقدح عليه (نعم) وقدح عليه (لا) فإذا أرادوا أمرا ضربوا به في القداح فإذا خرج (نعم) فعلوا ما جاؤا من أجله أو (لا) لم يفعلوه وقدح فيه (منكم) وقدح فيه (ملصق) وقدح فيه (من غيركم) وقدح فيه (المياه) إذا ارادوا أن يحفروا للماء ضربوا القداح وفيها ذلك القدح فحيثما خرج علموا به.
فجاء عبد المطلب إلى هبل وقال لصاحب القداح إضرب على بني هؤلاء بقداحهم هذه وأخبره بنذره فاصطنع لأولاده عشرة أقداح وأعطى كل رجل منهم قدحه وقد كتب عليه اسمه وكان عبد الله والد محمد الذي نحن في صدده أصغر بني عبد المطلب وكان أحبهم إليه فلما ضربت القداح طلع القدح أن يذبح هو فهم عبد المطلب بذبحه فمنعته قريش من ذلك وقالوا: «لا بل يجب أن تعذر فيه» فانطلق به إلى عرافة في المدينة (يثرب) فوجدوها بخيبر فجاؤها فسألوها عذرا فسألتهم: «كم دية الرجل عندكم؟» قالوا: «عشرة من الإبل.» قالت: «فخذوا الغلام وعشرة من الإبل وإضربوا عليه وعليها بالقداح فإن خرجت عليه فزيدوا من الإبل عشرة فعشرة حتى يرض إليكم وتخرج القداح عليها فتنحروها.» فخرجوا وضربوا بالقداح فما زالت تخرج على عبد الله حتى بلغ عدد الإبل مائة فخرجت عليها فذبحوها ونجا عبد الله وبقي حيا وتزوج فولد له محمد.
ولم أطل عليكم الكلام إلا لتعلموا مقدار ما نحن فيه من تعظيم الكعبة وأصنامها فإنها ضالتنا وغايتنا نستشيرها ونستخيرها وإليها تحج الناس من سائر أقطار الأرض ولنا بها منفعة من حيث الاتجار لما يأتينا بواسطتها من أصناف الناس عربها وعجمها وقد ذكرت لكم كم سفكنا من الدماء في سبيل استبقائها فهي مصدر نعمتنا ومنبع أقواتنا ومرجع آمالنا وقد مضى عليها القرون الطوال قائمة والناس يكرمونها ويعظمونها ويذبحون عند أصنامها الذبائح ويقدمون إليها بالهدايا إلى اليوم فهذه كلها قام صاحب هذا الكتاب (وأشار إلى الرق أمام هرقل) يدعو الناس إلى إزالتها وهدم ما بناه أجداده فيها.»
فلما بلغ أبو سفيان من كلامه إلى هذا الحد ظهرت على وجه هرقل مظاهر الاستغراب وخاطب البطريرك إلى يمينه باليونانية قائلا: «أرى هذا الرجل يشكو ممن يريد هداية قومه عن عبادة الأصنام فإذا كانت هذه هي غاية هذا النبي فنعمت الغاية.» فتداول الحضور هذا الحديث برهة على نحو ما قال الإمبراطور وازداد شوقهم لمعرفة بقية الحكاية وكيف استطاع القيام بهذا المشروع على خطارته مع ما ذكر أبو سفيان من يتمه وضعفه فإلتفت هرقل إلى أبى سفيان وقال له: «لقد أفصحت فيما قلت فهل لك أن تحكي لنا حكاية هذا النبي وكيف توصل إلى أن يدعوكم إلى ذلك.»
فقال أبو سفيان: «قد رأيت أبيت اللعن كيف نجا عبد الله بن عبد المطلب من الموت وكان أبوه يحبه فزوجه امرأة من قريش اسمها أمينة ولم يمكث عبد الله مع إمرأته إلا برهة يسيرة ثم قضت عليه الأحوال بالسفر إلى غزة التي أنا آت منها الآن ولكنه مرض في سفرته هذه فعادوا به إلى مكة فمات قبل أن يدركها وهو بجوار يثرب فدفن هناك وإمرأته لم تره.
وكانت أمينة حين مات عبد الله حاملا ولم يترك لها إلا أربعة من الإبل وقطيعا من الماشية وجارية اسمها بركة. وكانت أمينة تقيم في بيت بضواحي مكة عند جبل شرقي مكة اسمه جبل أبي قبيس وهناك ولدت ابنها هذا في عام الفيل الذي جاء به أبرهة الأشرم من قبل الحبشة لفتح مكة (سنة 570م) فلما ولدته كان جده عبد المطلب في الكعبة فحملوه إليه فباركه وسماه محمدا ومن عادتنا أيها الملك أن نرضع أولادنا من المراضع ويندر أن يعيش لنا ولد على لبن أمه ونختار المراضع من أهل البادية لصحة أجسامهن فاختارت له أمه مرضعا من أهل الطائف اسمها حليمة فأرضعته حولين قضاهما في سهول الطائف وأوديته فنشأ نشيطا وسمعت الناس يتحدثون عن طفوليته أخبارا غريبة لم نسمع بمثلها من ذي قبل منها أن مرضعه تركته يلعب مع ولدها ذات يوم خلف البيوت فإذا بولدها قد جاء يقول: «أن أخي القرشي أخذه رجلان عليهما ثياب بيض فشقا بطنه.» فخرجت هي تلتمسه فوجدته منفردا فسألته عن أمره فقال: «جاءني رجلان عليهما ثياب بيض فاضجعاني وشقا بطني فالتمسا فيه شيئا لا أدري ما هو وغسلاه بالثلج.» فخافت حليمة على الغلام فحملته إلى أمه بمكة فقضى فيها مدة يرعى الغنم ويطوف الأحياء مع الأولاد وكان كل من رآه أعجب بذكائه وجماله ونور محياه ولكنه لم يكد يبلغ السادسة من عمره حتى توفيت والدته في الأبواء بين مكة والمدينة فدفنت هناك فأصبح الغلام يتيم الأبوين فاحتاطه جده عبد المطلب وأحبه أكثر من حبه أولاده فكان الناس يكرمونه من أجل جده وكان على صغر سنه يجالس الحجاج القادمين لزيارة الكعبة وفيهم العلماء والشيوخ ويحادثهم بما يجتذب به قلوبهم وعواطفهم وبعد سنتين توفي عبد المطلب فولى السقاية ابنه العباس أما الرفادة فانيطت ببني نوفل من ولد عبد شمس جدنا فأصبح محمد يتيما غريبا فكفله أبو طالب أحد أعمامه وكان أبو طالب أقل من العباس مالا ولكنه كان وجيها مقدما في قريش فاحتضن الغلام وتولى تربيته والسبب في احتضانه إياه دون سائر أعمامه أن أبا طالب وعبد الله والد محمد كانا أخوين من أم واحدة.
وأعترف لك أيها الملك العظيم أن كفالة أبى طالب هذه كانت سببا عظيما في نجاح دعوة محمد وبقائه حيا لأن أبا طالب كان وجيها في قريش محترما مكرما فأقام محمد في بيته كأحد أولاده. وكان أبو طالب إذا خرج إلى تجارة أو سفر اصطحب محمدا فينزل الديور ويجالس الرهبان والعلماء وأشهر حادثة سمعتها عنه نزوله في دير بحيراء قرب بصرى فقد أخبرنا بعض الذين رافقوه في رحلته تلك أن الراهب بحيراء أنبأه بأمور كثيرة من مستقبل حياته وأوصى عمه أبا طالب أن يعتني به ويخاف عليه اليهود. وكان محمد إذا عاد من سفر قضى معظم ساعات نهاره في الكعبة يحادث الناس ويجادلهم ويطارحهم وهم يعجبون لذكائه وقوة برهانه فقد كان على صغر سنه ذكى الفؤاد فصيحا واسع الاطلاع بما اكتسبه من مجالسة عمه ومخالطة الناس في أسفاره مع أنه كان أميا لا يعرف القراءة وهو لا يزال كذلك إلى الآن وكان مع ذلك مخلصا حسن الطوية حتى لقبوه بالأمين فإذا جاء أو ذهب قالوا جاء الأمين أو ذهب الأمين.
وأهل مكة أيها الملك أهل تجارة يحملون الأموال من مشارف الشام واليمن وفارس والعراق إلى مكة وغيرها وهم مشهورون بالتجارة كثيرا حتى أن نساءهم كن يتعاطينها وكان في مكة امرأة مشهورة بالغنى اسمها خديجة بنت خويلد من سلالة عبد العزى بن قصي الذي قدمت ذكره وكانت لشرفها وغناها تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم فسمعت بمحمد وكان قد بلغ الخامسة والعشرين من عمره واشتهر بالاستقامة والنشاط فعرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجرا وتعطيه أفضل ما كانت تعطى غيره فسار في تجارتها مع غلام لها اسمه ميسرة وعاد وقد اكسبها مالا طائلا فأحبته وعرضت عليه أن يتزوجها ففعل فولدت له أولادا وهم القاسم وهو يكنى به (فيقال أبو القاسم) والطاهر والطيب وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة أما القاسم والطاهر فماتا قبل أن ظهر بدعوته
واتفق إذ بلغ الخامسة والثلاثين من عمره ونحن لا نعرف من أمره غير ما عرفناه من حسن خصاله ومهارته واستقامته أن قريشا اجتمعت لبناء الكعبة وكنت في جملتهم وسبب اهتمامنا بذلك أن نفرا سرقوا كنزا للكعبة كان في بئر في جوفها ووجدنا تلك السرقة عند رجل من خزاعة فقطعنا يده وعمدنا إلى بناء الكعبة وتسقيفها وكان البحر قد رمى بسفينة عند جدة لرجل من تجار الروم فتحطمت فأخذنا خشبها وأعددناه لتسقيفها وكان بمكة رجل قبطي يحسن صناعة النجارة فاغتنمنا هذه الفرصة لبنائها واقتسمنا العمل فيها لكيلا يحوز أحدنا من الشرف في ذلك أكثر مما يحوزه الآخر فجئنا بالحجارة والأخشاب حتى تم البناء ولم يبق إلا الركن فاختصم الناس في من يرفعه منهم وكانت كل قبيلة تدعي الأحقية في رفعه حتى تعاظم الخصام وهموا بالقتال فاتفق رأى عقلائنا أخيرا أن يحكموا فيما بينهم أول داخل من باب المسجد في ذلك اليوم فكان أول داخل محمدا فقالوا: «هذا هو الأمين قد رضينا بحكمه.» فأخبروه الخبر فرأى رأيا حسنا لم يخطر على قلب أحد منا وذلك أنه أتى بثوب واسع جعل ذلك الركن فيه وقال: «لتأخذ كل قبيلة بناحية منه.» فرفعناه جميعا حتى بلغنا به موضعه فوضعه هو بيده وانحسم الخلاف وقد حدث هذا بعد حرب الفجار بخمس عشرة سنة وحدث حرب الفجار بعد عام الفيل بعشرين سنة وكان لعمله هذا أثر حسن جدا في أذهاننا فخرج الناس من الكعبة وهم يتحدثون بفطنته وتعقله وكنت في جملة المعجبين به ولا أزال أعترف بفضله لولا ما أراد من تحقير آلهتنا وتعييب أصنامنا كما سأقصه عليكم.
وفيما نحن نتحدث بحسناته ونعجب بأخلاقه حتى بلغ الأربعين من عمره فسمعنا بانقطاعه عن الناس واعتزاله في الشعاب والجبال حتى صار يأوي إلى الكهوف ويقول أن الملاك جبريل ظهر له وعلمه الصلاة فعلمها لامرأته خديجة ولزيد بن حارثة مولاه ولعلي بن عمه أبي طالب وكان علي غلاما صغيرا وعلمها أيضا لعبد الله بن أبي قحافة الذي يسمونه الآن أبا بكر وتبعه آخرون وهو يتلو عليهم آيات يقول أن ربه علمه إياها ونحن لا نعبأ بذلك لأنه لم يمس آلهتنا بعيب ولكنه ما لبث أن جمع عمومته وأهل عشيرته الأقربين إلى وليمة ودعاهم إلى ترك الآلهة فأجابه عمه عبد العزى (أبو لهب) منكرا عليه جرأته هذه ونصح له أن يرجع عن ذلك فأبى ولم يزدد إلا تمسكا ثم بلغنا أنه سب آلهتنا وعاب أصنامنا فشق ذلك علينا فاجتمعنا وفينا نخبة من أشراف قريش وتداولنا في أمره وما جاء به فتهيأ لبعضنا أن نقتله فقال البعض الآخر: «إننا إذا قتلناه إنما نسيء عمه أبا طالب وهو رجل جليل القدر فالأفضل لنا أن نخاطبه بشأن ابن أخيه وخصوصا أن أبا طالب هذا ظل على دين آبائنا حتى مات ولم يؤمن بدعوة ابن أخيه.» فسرنا جميعا إلى أبي طالب في منزله فتلقانا على الرحب والسعة وأكرم وفادتنا على جاري عادته فلما استقر بنا المقام قلنا: «يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا فاما أن تكفه عنا أو أن تخلي بيننا وبينه فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه فنكفيكه.» فأجابنا أبو طالب جوابا لطيفا ووعدنا وعدا حسنا وردنا ردا جميلا فانصرفنا عنه على أمل أن يدع ابن أخيه عن عمله فإذا هو باق على ما كان عليه وما زلنا نسمع مثل ما كنا نسمعه عنه قبلا وكان ممن أيد دعوته من قريش ابن عم إمرأته خديجة وكان اسمه ورقة بن نوفل وكان نصرانيا مثلكم فاشتد غضبنا وهممنا بأن نفتك به ثم رجعنا إلى مجاملة عمه فاجتمعنا إليه مرة أخرى وقلنا له: «يا أبا طالب إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا وإننا لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا حتى نكفه عنا أو ننازله واياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين.» فآنسنا هذه المرة من أبي طالب انصياعا وكأنه عول على إجابة سؤلنا إذ لا طاقة له على فراق قومه وعشيرته ومعاداتهم وبلغني أنه لما خرجنا من منزله بعث إلى ابن أخيه فقال له: «يا ابن أخي إن قومك قد جاؤا إلي فقالوا كذا وكذا فابق علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق.» فآنس من إهاصراره على معتقده وبقائه على عزمه ما كاد أن يغضبه لولا أن محمدا قال له: «يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهر أو أهلك فيه ما تركته.» ثم بكى فرق له قلب عمه وتذكر أن ابن أخيه في منزله وله عليه حق الجوار فعاد إلى نصرته وطمأن قلبه ووعده أن لن يسلمه أبدا.
ثم علمنا ذات يوم أن محمدا ذكر آلهتنا فيما نزل عليه من كتابه فقال: «أفرأيتم اللات والعزى ومنات الثالثة الأخرى تلك الغرانيق العلى أن شفاعتهن لترتضي.» وذلك ما كنا نعتقده فسررنا سرورا لا مزيد عليه وقلنا ها قد تم الوفاق ثم ما لبث أن رجع عن ذلك وأبدل هذه الفقرة بفقرة تزيدنا نفرة منه فقال أن تلك إنما ألقاها الشيطان على لسانه ثم ذكر آلهتنا بكل سوء فقال: «إنها أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم.» إلى غير ذلك مما زادنا نفورا وبعدا.
فحرنا في أمرنا مع هذا الرجل ولبثنا نتوقع فرصة نتخلص بها منه ونرجو رجوعه فإذا هو باق على عزمه وكثيرا ما كان بعض رجالنا إذا إلتقوا به تهددوه وهو لا يبالى وفيما نحن في ذلك إذ سمعنا أن عمه حمزة بن عبد المطلب قد آمن بدعوته وأخذ يناصره وحمزة هذا رجل شديد تهابه قريش فإشتد به أزره وإزداد ثباتا في دعوته فقلنا: «لندعون محمدا الينا نكلمه ونخاصمه حتى نعذر فيه.» فاجتمعنا في الكعبة وفينا كل أشراف قريش واستقدمناه فجاء فقلنا له: «قد بعثنا إليك لنكلمك فإننا لا نعرف رجلا من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك لقد شتمت الآباء وعبت الدين وشتمت الآلهة وسفهت الأحلام وفرقت الجماعة فما بقي أمر قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا فنحن نسودك علينا وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك (والرئي التابع من الجن) بذلنا لك أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نعذر فيك.»
فأجابنا بقلب لا يهاب الموت قائلا: «ما بي ما تقولون ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل علي كتابا وأمرنى أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لحكم الله حتى يحكم الله بيني وبينكم.» فأردنا أن نمتحن اعتقاده فقلنا له: «إن كنت غير قابل شيئا مما عرضناه عليك فانك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلدا ولا أقل ماء ولا أشد عيشا منا فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فيسير عنا هذه الحال التي قد ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا وليفجر لنا فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق وليبعث لنا من مضى من آبائنا وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخ صدق فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك وعرفنا به منزلتك عند الله وأنه بعثك رسولا كما تقول.» فأجابنا وهو لا يتلجلج ولا يتردد قائلا: «ما بهذا بعثت إليكم إنما جئتكم من الله بما بعثني به وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر إن الله تعالى يحكم بيني وبينكم.» وطال الجدال بيننا في مثل ذلك وهو باق على قوله حتى خرج ونحن لا نرى سبيلا إلى الإيقاع به.»
وكان أبو سفيان يتكلم والجميع صامتون يتطاولون بأعناقهم فلما وصل إلى هذا الحد جعلوا ينظرون بعضهم إلى بعض وهم يعجبون لما سمعوه فقال بطريرك القسطنطينية لهرقل: «أني لا أرى هذا الرجل إلا قد جاءهم بالحق وهم إنما يشكون من دعوته إياهم إلى دين الله.» ثم عادوا إلى استماع بقية الحديث فقال هرقل: «وما جرى بعد ذلك.»
قال أبو سفيان: «وما زال أمر هذا الرجل يستفحل حتى كثر أنصاره ومن غريب ما رأينا منهم أنهم كانوا يحتملون منا الأمور الصعاب والاضطهاد الشديد على أن يكفروا به فلم يفعلوا حتى إذا ضيقنا عليهم فر جماعة منهم إلى بلاد الحبشة فحماهم ملكها وأخذ يناصرهم أما محمد فبقي في مكة يدعو الناس بالحسنى والصبر ونحن غافلون حتى سمعنا بإسلام عمر بن الخطاب وهو من أعظم رجال قريش فتأيدت دعوته به كما تأيدت بحمزة فعظم أمره واشتد أزره فصار دعاته يتكاثرون يوما بعد يوم بما ينضم إليهم من القبائل فخفنا عاقبة ذلك فاجتمعنا وائتمرنا على أن نكتب كتابا نتعاقد فيه على بني هاشم وبني عبد المطلب أن لا ننكح إليهم ولا ننكحهم ولا نبيعهم شيئا ولا يبتاعوا منا شيئا فكتبنا صحيفة تعاهدنا عليها وتواثقنا وعلقناها في جوف الكعبة ولكنها ما لبثت أن نقضت لأننا تعهدناها يوما فإذا هي قد أكلتها الأرضة فتشاءمنا بذلك وأسقط في يدنا فلبثنا ننتظر ما يأتي به الزمان.
فمنذ عشر سنوات تقريبا توفي أبو طالب وخديجة فذهب الذي كنا نهابه ونجل مقامه فنلنا من محمد ما لم ننله قبلا فسمناه أنواع العذاب والاضطهاد حتى كثيرا ما كنا ننثر التراب على رأسه فخرج من مكة إلى الطائف يلتمس النصر من قبيلة ثقيف التي قضى زمن رضاعته بينهم فلم ينل خيرا بل كانوا يسبونه ويؤذونه ويعترضون له في الطريق ويسومونه ألوان العذاب حتى ظنناه يرتجع ويترك دعوته ولكنه لم يزدد إلا ثباتا وكان يذهب إلى المواسم حيث تجتمع القبائل للبيع والشراء كموسم عكاظ وغيره ويعرض نفسه عليهم ويدعوهم إلى دينه فكان أكثرهم إقبالا عليه قبائل الخزرج من أهل المدينة (يثرب) فإنهم بايعوه بيعات تعرف ببيعات العقبة لوقوعها في مكان اسمه العقبة بقرب مكة.»
فقال الترجمان عند ذلك: «وما معنى المبايعة عندكم؟» قال: «هي أن يتراضى الفريقان على أمر كالبيع والشراء وسمعت أن لهذا الرجل مبايعة يؤخذ منها تعهد المبايعين أن يكونوا على دعوته ومن أمثلة ذلك قولهم له: «بايعناك على أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه في معروف.» وقد كانت بيعة العقبة هذه أول أمر الأنصار وهم أهل المدينة وقد سماهم الأنصار لأن أمره ضعف بعد وفاة عمه وخديجة كما قدمت فجاء الخزرج وبايعوه ونصروه فسماهم الأنصار وهؤلاء ساروا إلى المدينة ونشروا دعوته بين أهلها فتبعه منهم كثيرون فلما رأى تضييقنا عليه بمكة أمر أصحابه بالمهاجرة إلى المدينة وسماهم المهاجرين تمييزا لهم عن الأنصار المتقدم ذكرهم.
فلما علمنا بذلك وتبين لنا أنه إذا سار هو إلى المدينة سيمتنع بأنصاره وأصحابه وربما عادوا إلى مناوأتنا فاجتمعنا في دار الندوة التي ذكرت لكم أن قصيا جعلها في الكعبة للمشورة وتفاوضنا في ماذا نفعل بهذا الرجل فقال بعضنا: «ننفيه» وقال آخرون: «إن نفيه لا يمنع اجتماعه بأصحابه وأنصاره.»
فقال آخرون: «فلنقتله ونجعل دمه متفرقا بين القبائل لئلا يجتمع أعمامه بنو عبد مناف على المطالبة بدمه.» فجئنا برجال من كل القبائل وسرنا جميعا خلسة حتى أتينا منزله وتربصنا له ريثما ينام فلما ظنناه نام وقد شاهدنا رجلا ملتفا ببردة حسبناه هو ثم خرج هو إلينا ونحن نظنه سواه فكلمنا وحثا التراب على عيوننا وفر من أمامنا فتركناه ودخلنا على النائم فإذا هو على ابن عمه ففر الآخر من أمامنا ونجا الجميع وتبعه من بقي من أتباعه في مكة إلى المدينة وهناك نصره المهاجرون والأنصار وهم جنده إلى هذا اليوم مع ما انضم إليهم من القبائل على أثر الحروب التي حاربها والغزوات التي غزاها فانه لم يدع قافلة لنا تمر بالمدينة إلا غزاها وفرق أسلابها وأموالها بين رجاله حتى كانت بيننا وبينه واقعة بدر الكبرى والصغرى وواقعة أحد وغير ذلك مما يطول شرحه.»
فعجب هرقل لحديث أبي سفيان ورآه لم يفرغ من حديثه حتى علا وجهه الاكتئاب والأسف فقال له: «وكيف حال صاحبك اليوم.»
قال: «قد انتشر أمره بين القبائل في سائر بلاد العرب إلا مكة فإنها لا تزال ممتنعة عليه ونظنها ستمتنع برجالها وقد بلغني أنه سيقدم لفتحها ولكنه سيلقى منا غير ما لاقاه في وقائعه الأخرى ومما يدلك على اغتراره بنفسه أنه خاطب الإمبراطور هرقل قيصر الروم بمثل هذا الخطاب على أننا ما برحنا نسمعه من بدء دعوته يقول أن كنوز كسرى وقيصر ستفتح له.»
فقال هرقل: «يؤخذ من كلامك أن الرجل جاءكم بالقول الحق فإن عبادة الله أولى من عبادة الأصنام وأنتم إنما قاومتموه ظلما.»
فقال أبو سفيان: «أن أكثرنا أيها القيصر يعتقد بالله ولكننا نتخذ الأصنام «ليقربونا إلى الله زلفى» ونعترف بالبعث والإعادة ولكننا لا نؤمن بالرسل.»
فاعترضه أحد البطاركة قائلا: «فلا نظنكم قاومتموه إلا خوفا على تجارتكم أن تبور إذا هدمت كعبتكم وقل توارد الناس إليها فهي مصالح دنيوية آثرتموها على مصلحة الآخرة.»
ثم أشار هرقل إشارة فهم الحضور منا أنه اكتفى من حديث أبي سفيان فتقدم الحارث إلى أبي سفيان وأومأ إليه فوقف وقبل الأرض بين يدي هرقل فقال له الإمبراطور: «لقد سرنا لقاؤك واستفدنا من حديثك ولكنك تكبدت المشقة بالقدوم إلينا جزاك الله خيرا.» فقبل أبو سفيان الأرض ثانية وقال: «أبيت اللعن أيها الملك العظيم فإني بالمثول بين يديكم أفاخر أهل الحجاز كافة إذ قلما تيسر لأحد منهم أن يخاطب قيصر الروم.» قال ذلك وخرج ورجاله معه فأمر له هرقل بخلعة من الحرير المزركش.
ثم إلتفت هرقل وتناول الكتاب وهو من الرق وأمر أن يحفظ في قصبة من ذهب وأمر بهدية إلى دحية حامل الكتاب وسلم إليه الكتاب وصرفه.
الفصل السابع عشر
عود عبد الله
أما عبد الله فما صدق أن فرغ أبو سفيان من حديثه وخرج حتى خرج هو معه فلما إلتقيا في صحن الدار سلما وكان أبو سفيان لا يذكر وجه عبد الله ولكن عبد الله رآه بمكة في بعض السنين على أنهما تعارفا وتصافحا حالا لما بينهما من رابطة اللغة في أرض قل فيها العرب فسأله أبو سفيان عن مسيره أو إقامته فقال: «إني مسافر إلى عمان.» فقال أبو سفيان: «لكن في طريقك إليها أودية وعقبات فهل أنت معتاد السفر فيها.»
قال: «قد سرت إليها من غير هذه الطريق منذ بضعة أعوام.»
فقال أبو سفيان: «أما وقد تعارفنا وترابطنا فلنسر معا لأننا عازمون على الحجاز وقد يسهل علينا المرور بعمان فإذا أقمت هناك ودعناك وسرنا في سبيلنا ولكن قافلتنا لا تزال في غزة وفيها جمالنا وأثقالنا وخيولنا فلنقم هنا يوما أو يومين ريثما نستقدم القافلة ونسير جميعا.»
قال عبد الله: «حسنا تفعل فها أني ذاهب لوداع الحارث ثم أقضى بعض المهام ونلتقي الليلة في الساحة بقرب الكنيسة.»
قال أبو سفيان: «نعم الرأي رأيت.»
وافترقا فعاد عبد الله إلى القاعة وكانت الجلسة قد أرفضت فإلتقى بالحارث خارجا يبحث عنه فلما لقيه سأله الحارث عن غيابه فإعتذر بأنه كان في شاغل.
فقال له: «هل تسير إلى بصرى فتكون بمعيتي.»
فتحير عبد الله بماذا يجيبه وخاف إذا أبى الذهاب معه أن يحمل ذلك محملا سيئا وهو بالحقيقة لا يريد الذهاب إلى بصرى قبل أن يلتقي بحماد وخاف أن يخبره عن عزمه على عمان مع أبي سفيان لئلا يستغشه فوقع في حيرة ولكنه أثنى على تلطفه في استصحابه وشكر عنايته في إنقاذه وقال له: «إن مجيئي إلى بيت المقدس قد حبب إلي الإقامة فيها مدة قبل أن أسير إلى بصرى على أني حيثما كنت إنما أكون في ظل حمايتكم وحماية مولانا الإمبراطور.»
فوافقه على ذلك وسلم إليه كتاب الأمان وودعه فسار عبد الله حتى التقى بأبي سفيان فقضيا بضعة أيام في القدس حتى جاءت القافلة فتهيأوا للسفر وكانت القافلة تنتظرهم خارج المدينة وفى صباح اليوم الثالث أعدت الخيول لركوب أبي سفيان وحاشيته.
فقال أبو سفيان لعبد الله: «هل عندك جواد لركوبك.»
قال: «كلا لأني تركت فرسي في بصرى.»
فأمر أن يعطى له فرس من أفراس حاشيته وقال له: «اركب هذا الجواد الآن فإذا وصلنا القافلة أعطيناك فرسا يليق بك.»
الفصل الثامن عشر
جواد حماد
فركبوا حتى جاؤوا القافلة خارج المدينة فجلسوا للاستراحة قليلا وعبد الله لا يرتحاح إلا إلى السفر استعجالا لملاقاة حماد ولكنه أطاعهم فجاؤوه بفرس عليه سرج ثمين فلما وقع نظره عليه اختلج قلبه في صدره لأنه يشبه فرس حماد ثم تأمله جيدا فإذا هو هو بعينه فأعاد نظره على السرج فإذا هو سرج فرس حماد فدنا منه ولمسه بين عينيه فآنس بالفرس حنوا إليه وارتياحا إلى لمسه فتحقق أنه هو فرس حماد بعينه فبغت وكان أبو سفيان واقفا على مقربة منه يراعيه فلما رأى ذلك منه سأله عن أمره.
فقال: «أني في ريب من أمر هذا الفرس لأنه فرس ولدي.»
فقال أبو سفيان: «وكيف عرفته.»
قال: «عرفته من لونه وقده وسرجه وقد ربيته منذ كان مهرا رضيعا وأعرف أمه قبله.»
فعجب أبو سفيان لهذا الإتفاق الغريب وقال له: «وأين كان ولدك.»
قال: «كان راكبا من بصرى إلى عمان فأين ظفرتم بهذا الفرس.»
قال: «ظفرنا به تائها بالقرب من الزرقاء.»
فخاف عبد الله أن يكون لضياع هذا الفرس سبب يوجب قلقا فأعاد السؤال ثانية عن كيفية عثورهم عليه.
فقال أبو سفيان: «كنا قادمين من الحجاز إلى الشام منذ بضعة أسابيع وفيما نحن بالقرب من الزرقاء نحاذر أن نقترب من مسبعتها إذ شاهدنا هذا الفرس تائها في الصحراء فأرسلت بعض رجالي في أثره وبعد العناء والمشقة قبض عليه فجاء به إلي فسقناه معنا إلى غزة ثم جئنا به إلى هنا كما ترى.»
فبهت عبد الله ولبث صامتا لا يتكلم وقد غلبت الهواجس عليه مخافة أن يكون حماد قد ذهب فريسة السباع وفر جواده منه وهو يعلم أن الفرس أصيل لا يترك صاحبه إلا إذا مات أو أسر أو غاب عنه فترقرقت الدموع في عينيه رغما عنه ولكنه تجلد وقال: «أراني كثير القلق على ولدي ولا يهدأ لي بال حتى أتفقد المكان الذي وجدتم الفرس فيه.»
فقال أبو سفيان: «هو قريب من طريقنا إلى عمان فإذا شئت عرجنا إليه وبحثنا معك عما تريد فإن أمر ولدك يهمنا كما يهمك.»
ثم ركبوا أما عبد الله فلم يشأ أن يركب فرس ابنه بعد ما رأيه من أمره فأركبوه غيره وساروا وهو لا ينبس ببنت شفة لاشتغاله بالهواجس فقضوا يومين سائرين وعبد الله لا يأكل ولا ينام إلا قليلا حتى صاروا على مقربة من الزرقاء فقال أبو سفيان: «ها أننا بقرب المسبعة فلنترك القافلة وجمالها وأحمالها ولنصطحب بعض الفرسان إلى ذلك السهل حيث عثرنا على الفرس يركض فيه.»
فعرجوا وهم عشرة رجال وفيهم أبو سفيان وعبد الله وساروا يحاذرون أن يلقاهم أسد أو وحش آخر على أنهم لم يكونوا يخافون ذلك والوقت نهار وهم كثاره فلم يسيروا إلا قليلا حتى وقف أبو سفيان وقال: «هذا هو المكان الذي عثرنا فيه على الفرس فقد رأيته يركض في هذا السهل.»
فقال عبد الله: «وأين هي المسبعة.»
قال: «هي إلى يميننا فإذا رأيت أن نعرج نحوها فعلنا.»
فقال عبد الله: «لا أراني قادرا على العود قبل أن أقتفي أثر حوافر الجواد لعلي أقف على أثر ولدي فإني أخاف أن يكون قد ذهب فريسة الوحوش والعياذ بالله.» فقال أبو سفيان: «مر بما تشاء فإننا بين يديك.» وأمر رجاله فتفرقوا بين التلال يبحثون عن آثار الآدميين وبعد برهة عاد أحدهم يسوق جواده زميلا حتى دنا منهم فقال: «رأيت آثار أناس بالقرب من شجرة هناك.»
فهمز عبد الله جواده وتبعه أبو سفيان في أثر الرجل حتى دنوا من المكان فإذا هناك شجرة كبيرة تحتها آثار جواد مقتول لم يبق منه إلا جمجمته وسرجه وبعض عظامه فعرف عبد الله من السرج أنه جواد سلمان خادمه فصاح قائلا: «هذا هو جواد سلمان فأين حماد وسلمان.» وأخذ يبحث حول الشجرة وبالقرب منها فرأى آثار نسيج عرف بالتأمل فيه أنها عباءة فظنها عباءة حماد قد مزقتها أنياب الوحوش فلطم كفا بكف وقال: «وهذه هي عباءته فأين بقاياه ألعل الأسود أكلته كله.» قال ذلك وتناول قطع العباءة وجعل يقبلها ويذرف الدموع ويصيح: «وا ولداه قد أكلتك السباع آه أين أنت.» ولم يعد يستطيع الوقوف.
فتأثر أبو سفيان وكل من حضر من حاله ولولا خشونة البداوة وتعودهم القتل والنهب لبكوا معه أما أبو سفيان فقال له: «هون عليك يا أخا لخم فإننا لم نتحقق موت الغلام بعد وأنت لم تعثر بأثر من أثار جثته.» وأخذ يخفف عنه ويطمئنه بمثل هذا الكلام وهو لا يهدأ له بال ولا ينفك عن البكاء بل جعل يلطم كفا بكف ويقول: «أهذه هي آخرة حياتك يا حماد آه من لي بالأنياب التي نهشت جلدك الناعم فأحطمها وأين تلك المخالب التي غرست أظافرها في لحمك فأمزقها كما مزقته آه وا ولداه أهذا هو وفاء النذر أهذه عاقبة الاصطبار عشرين عاما لنقص لك شعرك.»
فلما رأى أبو سفيان شدة اضطراب عبد الله وعظم بكائه رق له وخاف عليه فجلس إلى جانبه وأمسكه بيده وأخذ يخفف عنه بما يؤمله ببقاء ابنه حيا وقال له: «إن ما رأيناه من الآثار لا يدل على شيء مما خفته فلو كان الأسد فتك بالغلام لرأيت شيئا من بقاياه وهب أن الأسد أكل ثيابه فهو لا يستطيع أن يزدرد سيفه ورمحه فلو كان ما تظنه صحيحا لرأيت سلاحه باقية هنا على الأقل فلعله فر ونجا ولم يفتك الأسد بغير هذا الفرس إرجع إلى صوابك وتبصر في الأمر فإنك رجل عاقل خبير وزد على ذلك أن البكاء لا يجديك نفعا هلم بنا نبحث في هذا الجوار لعلنا نقف على ما يكشف لنا الغامض.»
فقال عبد الله: «صدقت يا أخا قريش أن البكاء لا يجديني نفعا ولكنني أخاف إذا بحثت أن لا أزداد إلا فشلا ويأسا فدعني أبكي ولدي وأقبل عباءته في هذه الصحراء حتى يلقاني الأسد الذي افترسه فإما أن أنتقم له منه أو أن يفترسني فنموت جميعا فإن ذلك خير لي وأبقى.»
فما زال أبو سفيان يدافعه حتى سكن روعه فنهض وسار ماشيا بين التلال والصخور وأبو سفيان يصحبه ورجاله منبثون في أنحاء السهل يساعدونهما في إلتفتيش فوصل عبد الله وأبو سفيان إلى غدير صغير أشرفا عليه من أكمة فآنس عبد الله عند الغدير شبحا فهرول نحوه فإذا به ثياب وسلاح فتأملها فإذا هي عباءة حماد ورمحه وسيفه فضم السيف إلى صدره وصاح: «هذا هو سلاحه وهذه هي عباءته لا تلك فأين هو؟» فأخذوا يبحثون في ذلك الجوار حتى ملوا إلتفتيش وكادت الشمس تميل إلى الأصيل ولم يجدوا شيئا فتحقق عبد الله أن حمادا قد ذهب فريسة الأسد فعاد إلى البكاء والنوح حتى انفطر قلب أبي سفيان له وأشفق عليه فأخذ يعزيه ويخفف أحزانه وهو لا يزداد إلا بكاء.
فقال أبو سفيان: «ما يجدينا البكاء يا أخا العرب إننا لا نستطيع رد الضائع ووالله لو كان ابنك أسيرا في إيوان كسرى أو قصر قيصر لبذلنا أنفسنا في سبيل إنقاذه لأن لك علينا حق الجوار وزد على ذلك أنك رجل قد وقعت من نفسي موقعا عظيما فسررت بلقائك وها أنني بين يديك فافعل ما تراه فإني أطوع لك من بنانك.»
فسكت عبد الله ولم يجب ولبث برهة غارقا في بحار الهواجس يراجع في ذهنه تاريخ حياته وما جاء من أجله إلى بصرى وما كان من أمر النذر ثم رجع إلى صوابه وتجلد تجلد الرجال المدربين فعلم أن البكاء لا يجد به نفعا فرأى من الحزم أن يتدبر الأمر بالصبر والتروي فلاح له أن يسير إلى عمان يفتش فيها عن حماد فلعل أحدا ينبئه بحاله ونظر إلى الشمس وقد قاربت الزوال وبينهم وبين الطريق بضعة أميال ورأى أبا سفيان ورجاله واقفين في خدمته ينتظرون أمرا يطيعونه فيه فخاف أن يسبب لهم البقاء هناك أذية فقال لأبى سفيان: «إني يا أخا قريش شاكر لحسن صنيعك وأخشى أن أكون سببا لضرر ينالك على يدي ونحن في هذه الصحراء التي شربت دم ولدي فسيروا إلى مقصدكم بحراسة الله ودعوني أسير في طريقي.»
فأجابه أبو سفيان قائلا: «دع عنك الهواجس واعلم أننا لا نبرح هذا المكان إلا وأنت في مقدمتنا فلسنا بتاركيك وحدك فإذا رافقتنا فإننا في خدمتك حتى تصل مأمنك وإذا شئت المسير معنا إلى مكة فإنك تنزل في بيتنا على الرحب والسعة فاختر لنفسك.»
فهم عبد الله بأبي سفيان وضمه وبكى لما آنسه من تعزيته وقال: «لقد وفيتم الكيل وأجزلتم الجميل أما المسير معكم فغير مستطاع ولا بد لي من النظر في الأمر فإما أن أسير إلى عمان أو أعود إلى منزلي بقرب بصرى حتى يحكم الله بما يشاء.»
قال: «إننا إذن في ركابك إلى عمان ثم إلى حيث تشاء.» قال ذلك وأمسك بيده وسار به فمشى عبد الله وسيف حماد بيده يتنسم منه رائحته وعادوا جميعا إلى القافلة.
وكان عبد الله في أثناء عودته صامتا يفكر في حاله ويتردد بين أن يسير إلى عمان وهو لا يدري ما يلقى هناك بعد ما داخله من الريب في أمر حماد وهو يرجح موته على أنه لما نظر في الأمر طويلا وراجع ما مر به من أهوال ذلك اليوم اعترضه أمل رأى من خلاله بصيصا هيأ له حمادا حيا وذلك أنه فكر في أمر ما عثر عليه من بقاياه فلم يجد دليلا قاطعا بموته وهو لم يعثر بشيء من جثته فقال في نفسه (لو أكلته السباع لبقيت منه بقية مثل بقية ذلك الجواد من جمجمة أو عظام أخرى أو قطع من ثوبه ممزقة) ثم فكر في ما وجده من السلاح فإذا به لم يره في الموضع الذي رأى فيه بقايا الجواد فقضى مدة يتردد بين اليأس والرجاء حتى وصلوا القافلة.
فقال أبو سفيان: «ما ترى يا أخا لخم هل تسير معنا إلى الحجاز أو تزمع إلى مكان نوصلك إليه في أنحاء الشام أم تريد أمرا نقضيه لك.»
فقال عبد الله: «إني والله لا أدري ماذا أقول ولا أعلم ماذا أعمل فأرى أن تتركوني في هذا المكان أفكر في أمري حتى ألهم أمرا أعمله فإني لا أفقه من أمري شيئا.»
فقال أبو سفيان: «لسنا تاركيك وأنت في هذه الحال.»
فقال عبد الله: «لقد غمرتوني بفضلكم وأنسيتموني حزني بتعزيتكم أما وقد أصررتم على ذلك فإني أود الذهاب إلى عمان لعلي أستطلع خبرا جديدا.»
وكانت الشمس قد آذنت بالزوال فباتوا ليلتهم هناك وأصبحوا باكرا يريدون عمان فدنوا منها والشمس قد دنت من مغيبها فقال عبد الله: «أستودعكم الله فإني معرج إلى عمان أنتظر ما يأتي به القضاء.»
الفصل التاسع عشر
عمان
فودعوه وانصرفوا وقد تركوا عنده فرس حماد وبعض الزاد فلما انفرد عبد الله بنفسه نظر إلى عمان وقد أشرف عليها من مرتفع فإذا هي مدينة خربة لم يبق من أبنيتها الرومانية إلا بضعة متهدمة أعظمها هيكل خرب على تل بالقرب من غدير كاد ماءه أن يجف ورأى على مقربة من ذلك المكان بيوتا حقيرة يسكنها بعض الفقراء لا تكاد تزيد على قرية حقيرة فسار نحو الهيكل وقطع إليه على جسر يظهر من منظره أنه كان عظيما وتهدم فوصل الهيكل ماشيا يقود الفرس وراءه وهو يحرص عليه حرصه على ابنه لأنه من آثاره.
فما وصل ذلك البناء حتى غابت الشمس وأغبر وجه الأفق فجلس على حجر من أحجار الهيكل ملقى عند بابه وأمسك بزمام الفرس ونظر إليه فرآه هادئا كئيبا كأنه شعر بما يخامر قلب عبد الله من الهواجس فشاركه في الأسف على فقيده ثم نظر عبد الله إلى ما حوله فإذا هو في أرض خالية من أنفاس الناس لا يسمع فيها صوت ولا يرى فيها إلا أشباح بعض التلال أو الأحجار أو الأشجار وإلتفت إلى ذلك البناء على عظمه فرأى الذلة والمسكنة قد ضربتا عليه لما يتجلى فيه من آثار الخراب فكان له بذلك عبرة عن مصير الإنسان فتذكر حاله مع حماد وما مر به في ذلك اليوم من الأهوال فغلب عليه القلق واشتد به الحزن حتى ترقرقت الدموع في عينيه ثم حانت منه إلتفاتة فرأى بيوت القرية عن بعد فحدثته هواجسه أنه سيجد حمادا بين أهلها فنهض بغتة يريد الذهاب إليها ثم عاد إلى صوابه فقال في نفسه (لا أراني إلا في أضغاث أحلام أن حمادا قد أصبح في عداد الأموات) فعادت إليه أحزانه فجلس على ذلك الحجر وعاد إلى البكاء.
وقضى مدة في مثل هذه الحال يتردد بين اليأس والرجاء والليل قد سدل نقابه وعلا نعيق الغربان وضجت أصوات الضفادع في ذلك الغدير القليل الماء فخاف أن يكون في بقائه هناك خطر على حياته من وحش يفترسه أو لصوص تسطو عليه فيقضي نحبه قبل أن يتحقق أمر حماد فعاد إلى ذكرى أحزانه فأمسك بحسامه وقبله وأجهش في البكاء.
وما زال في مثل ذلك حتى شعر بالبرد والنعاس على أثر ما قاساه من تعب المشي فأسند رأسه إلى جدار الهيكل وهو بين اليقظة والمنام وعنان الفرس في يمينه فما شعر إلا والجواد يصهل ويفحص الأرض بحوافره فعلم أن هناك أمرا ذا بال فوقف وأصاخ بسمعه وحدق بعينيه فلم ير شيئا ولا سمع صوتا فعاد إلى متكأه وهو لا يستطيع الرقاد لشدة هواجسه فألقى بأذنه إلى الأرض ليستطلع سبب اضطراب الجواد لعله يسمع أصواتا أو يستنبئ نبأ جديدا فسمع وقع أقدام كثيرة فعلم أن الجواد لم يجفل عبثا وإن جماعة قادمون إلى ذلك المكان فهيأ نفسه للدفاع وصعد إلى ربوة بالقرب منه لعله يرى أشباحا عن بعد فلم ير شيئا لأن الظلام كان شديدا فعاد إلى مكانه وهو يتوقع أمرا خطيرا فشغله ذلك عن هواجسه برهة فقضى بقية ذلك الليل في مثل هذه الحال حتى دنا الفجر وكان قد غمض جفنه قليلا فأفاق على صهيل الجواد فرأى بالقرب منه جماعة كبيرة من الرجال في لباس البدو فظنهم لأول وهلة من رجال أبى سفيان لأنهم في مثل زيهم وقيافتهم ولكنه ما لبث أن سمع بعضهم يناديه منتهرا ثم هموا به يريدون القبض عليه فهم بالركوب على الجواد للدفاع عن نفسه فتجمهروا حوله وهم كثار فلم يستطع دفاعا فقبضوا عليه وأوثقوه وساقوه وهو يكاد يتمزق غيظا فقال لهم: «ما تريدون مني ولا ثأر بيني وبينكم.» فناداه أحدهم قائلا: «كيف لا ترى ثأرا بيننا وبينك وأنت من رجال غسان وقد قتلتم رسولنا وأهنتم نبينا.»
فقال: «لقد أخطأتم المرمى فما أنا من غسان وإنما أنا غريب في هذه الديار.»
فقالوا: «إذا كنت صادقا فيما تقول فبرئ نفسك أمام أميرنا.» قالوا ذلك وساقوه موثقا وأخذوا سلاحه وفرسه فمشى معهم برهة فأشرف على خيام مضروبة ورأى جموعا كثيرة من عرب الحجاز ومعهم الأحمال والأثقال والخيول والجمال فساروا به إلى فسطاط كبير علم من العلم المنصوب أمامه أنه فسطاط الأمير وكان العلم أبيض ولم يكد يدنو من الخيمة حتى تقاطر الرجال زرافات ووحدانا وكلهم من أهل البادية مكشوفو الرؤوس تغطى أبدانهم شملات يلتحفونها إلا قليلين منهم وقد لوحت وجوههم الشمس وظهرت عليهم آثار الأسفار ومعظم سلاحهم من الرماح والنبال.
فلما وصل الفسطاط أوقفوه خارجا ودخل بعضهم ثم عاد فقاده إلى داخل فرأى في صدر المجلس رجلا بعمامة وجبة جالسا على بساط وبين يديه بضعة من رجال في مثل لباسه فعرف أنهم أمراء ذلك الجيش فاستعاذ بالله مما هو مساق إليه فخاطبه الأمير قائلا: «من أنت يا أخا العرب ألعلك من رجال الحارث بن أبي شمر.»
قال: «لست من أهل هذه الديار.»
فقال: «ألست من غسان.»
قال: «كلا.»
قال: «وممن أنت.»
قال: «من لخم.»
قال: «وما جاء بك إلى هذا المكان ولخم تقيم في العراق. ألعلك ممن جاؤوا لنجدة الروم من لخم وجذام وبلقين فقد علمنا أن هرقل قد جند جندا فيه أخلاط من العرب المنتصرة.»
قال: «لست من أولئك بل جئت في حاجة ولا ألبث أن أعود.»
قال: «أصدقنا الخبر فإنك أسير بين أيدينا.»
قال: «قلت لكم الصدق.»
قال: «وما دليلك على ذلك.»
وكان عبد الله قد عرف من لغتهم ولباسهم أنهم من قريش فتذكر أبا سفيان فظن استشهاده به ينجيه من الخطر فقال: «ودليلي أنني كنت في الأمس مع أبي سفيان أمير قريش وهو صديق لي حميم فإذا كان بينكم اسألوه.»
فما أتم كلامه حتى قطب الأمير وجهه وقال له: «أأنت صديق لذلك الكافر فإنك لم تزدنا في شأنك إلا شكا وما الذي جرك إلى صداقة هذا الزميم.»
فارتبك عبد الله في أمره ولم يدر كيف يخلص نفسه من ذلك الإقرار ولكنه تجلد وقال: «عرفته منذ بضعة أيام فقط وقد جاء لتجارة إلى هذه الأنحاء فاصطحبته زمنا يسيرا ثم افترقنا بالأمس.»
قال ذلك وقد تذكر حكاية أبي سفيان وعدواته لصاحب دعوة الإسلام فأدرك أنه بين يدي رجال صاحب الدعوة الإسلامية فلم يزد شيئا.
فقال له الأمير: «لو اقتصرت على كونك من لخم لكان سهلا ولكنك أقررت بأنك صديق لعدونا فأنت مقيم في أسرنا حتى نرى ما يكون من أمرك.» ثم أمر فأخرجوه مخفورا إلى خيمة منفردة جعلوه فيها.
الفصل العشرون
غزوة مؤتة
ولو كان عبد الله ممن لم يتعودوا الأخطار لاستعظم الأمر كثيرا ولكنه لعلمه ببراءته صبر نفسه حتى يتمكن من إظهار حقيقة حاله على أنه ما زال في ريب من أمر هذا الجيش ومجيئه من الحجاز إلى الشام فأحب الإطلاع على مهمته حتى يعرف كيف يخلص نفسه فلما وصل الخيمة جاءه بعض الخفر وأخذ يسأله عن أبي سفيان وكيف لقيه وأين فارقه فاغتنم تلك الفرصة فقال للرجل: «إلى أين تقصدون بهذا الجند.»
قال: «نقصد مشارف الشام لحرب الروم.»
قال: «وما الذي دعاكم إلى حربهم.»
قال: «دعانا إلى حربهم ما رأيناه من وقاحتهم.»
فقال: «وما أوجب ذلك وأنتم من قريش على ما يظهر ومقامكم في الحجاز وليس بينكم وبينهم علاقة.»
فقال: «أن نبينا محمدا الذي أرسله الله نذيرا للناس كافة أنذرهم بكتاب يدعوهم فيه إلى الإسلام فما وصل الكتاب إلى الغسانى أمير العرب المتنصرة حتى مزقه وقتل رسولنا فاشتد الأمر على نبينا فبعث مولاه زيد بن حارثة في هذا الجند لقتال الروم.»
فقال عبد الله: «قد رأيت رسولكم إلى هرقل بمثل هذا الكتاب فلم يفعل به مثل ذلك.»
قال: «ذلك كتاب غير الذي ذكرته لك أرسله قبله أما قولك أن هرقل لم يفعل مثل فعل الغساني فلأنه هاب ملكنا وأما الغساني فقد غره جهله وسوف يلقى منا ما لقيه عرب الحجاز واليمن ممن أبوا الإسلام.»
فقال عبد الله: «ومن هو الأمير الجالس في صدر الخيمة ومن هم الأمراء الذين حوله.»
قال: «هو زيد بن حارثة مولى رسول الله أما الأمراء الآخرون فالجالس منهم عن يمينه هو جعفر بن أبى طالب ابن عم نبينا والجالس عن يساره عبد الله بن رواحة وقد أوصى لهما بالإمارة على هذا الجيش لكل منهما عند الحاجة وقد أمرنا نبينا أن نأتي المكان الذي قتل فيه رسولنا وهي قرية يقال لها مؤتة فندعوا أهله إلى الإسلام فإن أبوا قاتلناهم حتى نفنيهم عن آخرهم أو يحكم الله بيننا وبينهم.»
فأدرك عبد الله سر الأمر. فقال للرجل: «وما الذي جنيته أنا حتى سقتموني أسيرا وما أنا من الروم ولا من غسان.»
قال: «لا أظن عليك بأسا من هذا الأمر ولو لم تتظاهر بصداقتك لأبى سفيان لكان ذنبك خفيفا ولكنك ستبقى في أسرنا لعلنا نحتاج إليك في أثناء الحرب.»
فسكت عبد الله وقد هان عليه ما خافه ولبث ينتظر ما يأتي به القدر ولكنه ما لبث أن هدأ روعه من قبيل الخطر عليه حتى عاد إلى هواجسه بشأن حماد وكلما ترجح له موته تمنى أن يقتل فيلحق به.
وبعد يومين من دخوله في الأسر تهيأت تلك الحملة للمسير إلى مؤتة فلنتركهم في طريقهم ولنعد إلى حماد وما تم له مع سلمان.
الفصل الحادي والعشرون
حماد وسلمان
تركنا حمادا وسلمان وقد خرجا من الدير وسلمان يفضل العدول عن ذلك الطريق لما خافه من مسبعة الزرقاء وحماد يحبب إليه المسير فيه خوفا من طول المسافة إذا عدلا عنه.
فلما رأى سلمان إصرار حماد أطاعه وسارا في أقرب الطرق ولكنه ما لبث خائفا غائلة ذلك السبيل فعول على الاحتراس وإتخاذ وسائل الوقاية فأوعز إلى حماد فلبس درعه تحت أثوابه وسارا حتى أمسيا بالقرب من غدير نزلا على ضفته فما لبثا أن تناولا شيئا من الزاد حتى تعاظمت هواجس سلمان وكأن نفسه حدثته بخطر قريب فهم يتجسس المكان قبل اشتداد الظلام. وكان حماد قد نزع عباءته وسلاحه وجعلهما إلى جانبه على ضفة الغدير فلما نهض سلمان نهض حماد معه وقادا فرسيهما وراءهما وصعد إلى أكمة أطلا منها على السهل المحدق بهما وجعلا ينظران إلى ما حولهما من السهول وفيها بعض الآكام تتراءى كأنها جماعات من الناس أو أسراب من الوحوش فهالهما ذلك المنظر ثم سمعا زئيرا عن بعد فأجفل الجوادان وأخذا يفحصان الأرض بحوافرهما.
فقال سلمان: «ها قد أحدق الخطر بنا وهذا ما كنت أتخوفه يا سيدي فهلم بنا إلى النجاة.» فقال حماد: «وماذا ينجينا؟» فإلتفت سلمان فرأى شجرة فقال: «عليك بهذه الشجرة نتسلق أغصانها فإن الأسد لا يقوى على الوثوب إليها.» فأسرعا وقد نسي حماد سلاحه وعباءته فشدا الجوادين إليها وتسلقا أغصانها والجوادان لا ينفكان عن الصهيل.
ثم سمعا صوت الزئير يدنو منهما فتمسكا بالأغصان وهما يحاذران أن يراهما الأسد مع علمهما بامتناعهما عليه ثم ما لبثا أن رأياه واثبا عن أكمة بالقرب منهما أما الجوادان فإنهما أجفلا وصهلا صهيلا طويلا ونفرا يريدان الفرار فانقطع زمام فرس حماد فطلب عرض الصحراء وأما فرس سلمان فلم يستطع التخلص قبل أن ظفر به الأسد فقبض على صدره بمخالبه فوقع الفرس إلى الأرض فهم به الأسد فمزق عنقه بأنيابه فسال دمه فأخذ ينهش في لحمه.
ثم وقف الأسد ونظر إلى ما حوله فرأى عباءة سلمان فهم بها كأنه ظنها رجلا فمزقها بين أنيابه ومخالبه أي ممزق وأخذ يتمايل بمشيته المعهودة حول الشجرة وقد تنسم رائحة الرجلين في أعلاها مع عجزه عن إدراكهما فجعل يحك جلده بجذعها ويزأر أي زئير حتى مالت الشجرة بهما وخافا السقوط فتماسكا بالأغصان وتثبتا في مكانيهما وقلباهما يخفقان خوفا وحذرا والأسد لا ينفك عن الزئير والمسير ذهابا وإيابا وعيناه تتلألآن في الظلام كأنهما سراجان منيران والفرس يخور خوار الثور حتى مل الأسد فزأر زأرة دوى لها ذلك السهل الواسع ورددت صداها تلك الآكام وأرسل ذنبه فوق ظهره وعاد من حيث أتى فلبثا يراعيانه في مسيره وهو يخطر الهوينا متبخترا تهيا وعجبا حتى واراه الظلام عنهما ولكنهما ما زالا يسمعان زئيره عن بعد وهما صامتان لا ينبسان ببنت شفة فلما تحققا النجاة منه وهما لا يصدقان أنهما نجوا قال سلمان: «أرأيت يا سيدي ما كنت أخافه فشكرا لله الذي أنبت هذه الشجرة في هذه الصحراء لتكون سببا لنجاتنا من الموت بين مخالب الأسد.»
فتحقق حماد عظم الخطر الذي نجوا منه ولكنه أسف لذهاب فرسه. فقضيا معظم الليل مستترين في تلك الشجرة يخافان الانحدار منها حتى انبلج الصبح فنزلا ونظرا إلى فرس سلمان فإذا هو مضرج بدمائه ولا حياة فيه فقال سلمان: «هلم بنا نطلب عمان على أقدامنا وقد كان في طاقتنا أن نذهب إليها راكبين ولكن هذه إرادة المولى فنشكره لنجاتنا من مخالب الأسد وما خسرناه إنما هو متاع يسهل التعويض منه.»
فقال حماد: «إن الفرس عزيز عندي كما تعلم فهل تظننا نظفر به بعد.»
فقال: «دعنا والأفراس فإن منها شيئا كثيرا حيثما حللنا فسر بنا حالا لنقطع هذه المسبعة قبل أن يدركنا الظلام.»
فقال: «ولكنني أعزل وقد تركت السيف والرمح والعباءة على الغدير فعد بنا للبحث عنها.»
فقال: «لا أراني قادرا على تعيين المكان الذي كنا فيه لأن الطرق تشابهت علي وأخشى إذا أطلنا البحث أن تفوتنا الفرصة للنجاة وقد نجونا من الأسد مرتين فلا نأمن أن ننجو منه في المرة الثالثة ونحن على أقدامنا فهلم بنا.»
فأطاعه حماد وسارا إلى عمان فوصلاها وأقاما فيها بقية الشهر المعين فلم يأت عبد الله فقضيا أسبوعا آخر وهما على أحر من الجمر فلم يأت أحد فابتاعا جوادين آخرين عادا عليهما نحو بصرى عن طريق غير التي جاءا بها خوفا من غائلة الأسود وهما في هاجس على عبد الله وغيابه وأخذا يدبران وسيلة يدخلان بها المدينة أو ما جاورها ولا يعلم بهما ثعلبة أو أحد من رجاله.
أما حماد فكان بين هاجسين عظيمين هند من جهة وعبد الله من جهة أخرى ولكنه شكر الله لبقاء الدرع لأنها تذكار ثمين عنده.
فلندعهما في حيرتهما ولنذهب بالقارئ إلى بصرى وما كان من أمر ثعلبة بعد أن تم له القبض على عبد الله وإرساله مخفورا إلى بيت المقدس كما قد رأيت.
الفصل الثاني والعشرون
عوامل الغيرة
تركنا ثعلبة بعد ذهاب عبد الله في بصرى وفي نفسه غل على هند لا يهدأ له بال إلا بالإيقاع بحماد فبث رجاله في ضواحي المدينة للبحث عنه فلم يقف له على خبر فأنفذ نفرا من خاصته سرا يتجسسون حال عبد الله بعد ذهابه إلى هرقل فأنبأوه بما كان من عفو الإمبراطور عنه ومسيره مع أبى سفيان ولكنهم لم يعرفوا عنه شيئا بعد ذلك لأنهم لم يتجرأوا على مرافقة القافلة خوفا من انكشاف أمرهم.
أما ثعلبة فإنه اندفع بعوامل الغيرة على الإنتقام من حماد وإيقاع الأذى بهند وشعر بانعطاف إليها لا حبا بها بل رغبة منه في أن يحرمها من حبيبها وقد تكون تلك الغيرة سببا للحب الحقيقي على ما نراه عادة في الناس فقد يعاشر الشاب فتاة أعواما لا يهمه من أمرها شيئا ولا يخطر له الاقتران بها وربما كان في نفسه ترفع عنها وقد يزعم أنها لو عرضت عليه لا يرضاها فإذا آنس منها ميلا إلى غيره أو رأى غيره ميالا إليها وخصوصا إذا كان الحب متبادلا بينهما فإن عوامل الغيرة تثور في قلبه ويتحول حبه الفاتر إلى شغف شديد ولا يرتاح له بال إلا بنيلها ولا يقتصر ذلك على هذا النوع من الحب ولكنه يتناول سائر أنواعه فقد ترى عقارا أو متاعا معروضا للبيع ولا يهمك إبتياعه فإذا رأيت الناس يقبلون عليه آنست في نفسك ميلا إلى شرائه والظاهر أن ذلك غريزي في الناس على إختلاف أدوار حياتهم فإذا أردت أن تطعم الطفل شيئا لا يحبه نفر منه فإذا تظاهرت بإعطاء ذلك الشيء إلى سواه رأيته يطلبه بلجاجة ويتناوله بلذة.
فثعلبة لم يكن يهمه أمر الزواج بهند ولا هو أحبها حب الزواج إلا بعد ما آنس من ميلها إلى حماد فدفعته عوامل الغيرة إلى الإقتران بها ولكن خبث فطرته جعل ذلك الميل مقرونا بالإنتقام ولما لم يجد سبيلا إلى ذلك بالقوة عمد إلى الحيلة فحدثته نفسه أن يشكوها إلى والديها ويكشف لهما ما كان من إنفرادها بحماد في الدير ولكنه خاف أن تكون تلك الوشاية سببا لغضب عمه حتى ينقلب عليه لعلمه بمنزلة هند عنده فربما صدقها وكذبه ورغب في حماد عنه. فلم ير سبيلا إلى شفاء غله إلا بخطبتها من أبيها وهو يعلم أن والدها لا يرده فلما عاد أبوه من بيت المقدس بسط له عزمه على الإقتران بها لما بينهما من رابطة القرابة فسر أبوه بذلك ووعده أن يخاطب جبلة في الأمر.
فركب ذات يوم إلى البلقاء في موكبه وحاشيته فاستقبله جبلة بالتجلة والإكرام وإن يكن في نفسه منه غيرة لإحرازه الوجاهة عليه لدى هرقل فلما إلتقيا ودار الحديث بينهما ذكر الحارث رغبته بمصاهرته فأبدى له ارتياحا ووعده بتمام الأمر قريبا وهو غافل عما تضمره هند من البغض لثعلبة والاشتغال بحب حماد.
فلما رجع الحارث إلى بصرى خلا جبلة بإمرأته تلك الليلة وذكر لها حديث الحارث فلم يسمع منها إيجابا ولا سلبا لعلمها بما في نفس ابنتها من الاحتقار لثعلبة ولكنها استمهلته ريثما تطارح الفتاة وتطلع على رأيها وإن تكن عوائدهم لا تبيح للبنات حق الإختيار في مثل هذا الشأن ولكن هندا كانت متغلبة على عواطف والدها حائزة على نفوذ يؤذن بمراجعتها واستشاراتها.
الفصل الثالث والعشرون
هند وأمها
أما هند فقد تركناها ليلة الدير عائدة إلى القصر وقد تمكنت من حب حماد والإعجاب بشهامته إلى درجة لم تعد تراعي معها حقوق الوالدية وخصوصا بعد ما عاينته من غيرة ثعلبة وغدره ولكنها وصلت القصر وقلبها لا يزال مشيعا حمادا في عودته وهي تدبر حيلة تتخلص بها من لوم والدتها على غيابها فلما دخلت القصر رأت والدتها في قلق لغيابها فبادأتها بالعتب على تأخير الخادمة بالأساور فقالت الوالدة: «إننا استحسنا الأساور وأعدنا الخادمة بها لتعجيل حضورك.» فأدعت هند أنها انتظرت رجوعها حتى حلك الظلام فلما أبطأت استصحبت بعض خدمة الدير حتى أوصلها إلى ذلك المكان فاستغربت والدتها ذلك الإتفاق وجعلت تعتذر لها عما حملتها من المشقة وقالت: «لعل الخادمة سارت إليك من طريق غير الذي جئت به ولا تلبث أن تعود.»
فتظاهرت هند بالتعب وسارت إلى غرفتها وهي غارقة في بحار الهواجس وقلبها واجس على حماد من غدر ثعلبة لما تعلمه من لؤمه وخيانته.
فقضت تلك الليلة بمثل هذه الهواجس لم يغمض لها جفن إلى قبيل الصباح فنامت قليلا فلما أصبحت جعلت تتنسم الأخبار ممن يذهب من خدمة صرح الغدير إلى بصرى لابتياع حاجيات القصر.
فما لبثت أن علمت بالقبض على عبد الله وفرار حماد فشكرت الله على نجاته ولكنها ظلت في خوف عليه وهي لا تستطيع سبيلا إلى الوقوف على خبره فقضت بضعة أيام منقبضة النفس لا يلذ لها طعام ولا يهنأ لها عيش حتى ظهر أثر ذلك على وجهها ووالدتها تبالغ في تسليتها وتستغرب ما ألم بها وهند تعتذر بإنحراف صحتها على أثر التعب من ليلة الدير.
فجعلت تصطحبها في أثناء النهار إلى ضواحي القصر تقضيان الساعات معا في البساتين على ضفاف الغدير وهند لا تزداد إلا انقباضا وضعفا حتى إمتقع لونها وقل طعامها فارتابت والدتها في أمرها وازدادت حنوا لها وميلا لاستطلاع حقيقة حالها فلم تجد إلى ذلك سبيلا. وقد قدمنا أن سعدى كانت من الذكاء والفطنة على جانب عظيم فأساءت في ابنتها ظنا وخيل لها أن لذلك التغيير سببا مهما فعولت على إغتنام الفرص لكشف ذلك السبب فلما خاطبها زوجها بأمر ثعلبة ورغبته في هند إتخذت ذلك الأمر وسيلة لاستطلاع ما في ضميرها فدعتها ذات يوم للخروج معا إلى الغدير على حدة فأمرت بعض الخدم فأعدوا لهما وسائل الراحة فخرجتا حتى أتتا ضفة الغدير وكان الجو صافيا والنسيم عليلا والماء يجرى أمامهما وكانت هند بلباس البيت وقد ضفرت شعرها ضفيرة واحدة أرسلتها على ظهرها وشدت عصابة حول رأسها كمن يشكو الصداع فقضت مسافة الطريق من القصر إلى المكان المقصود تسير الهوينا صامة تجر ذيل ردائها وراءها وتتشاغل تارة في رفعه عن الأرض لئلا يعلق ببعض الأشواك النابتة في ذلك البستان وطورا تلهو بالتأمل في ما يتطاير عن أشجاره من الطيور فلما وصلت المكان إتكأت على وسادة من الحرير المزركش صنع دمشق فوق بساط ثمين تحت شجرة ظللتهما ساعة العصر وكانت والدتها قد جمعت بعض الأزهار في ضمة واحدة جاءت بها إليها فتناولتها هند وهي لا تتكلم فهمت بممازحتها فقالت: «إليك هذه الأزهار فإن لتقديمها معنى هل تفهمينه.»
فتناولت هند الأزهار وهي لا تفهم المراد.
فقالت لها والدتها: «ما بالك لا تجيبينني على سؤالي.»
قالت: «إسأليني فأجيبك.»
قالت: «قد سألتك فأجبت.»
قالت: «لم تسأليني ولا أجبتك.»
قالت: «بلى قد أجبت.»
قالت: «كيف ذلك وأنا لم أفه بكلمة.»
قالت: «أن تناولك هذه الأزهار من يدي جواب على سؤالي.»
قالت: «لم أفهم مرادك يا أماه فأفصحي.»
قالت: «أضمرت في باطن سري وأنا أقدم هذه الأزهار إليك أنك إذا قبلتها من يدي كان أخذها جوابا على ما في نفسي.»
قالت: «ما لي أراك تخاطبينني بالرموز فإني لم أقل شيئا.»
قالت: «ما لنا ولهذا فإني أسألك سؤلا آخر فهل تصدقينني فيه.»
قالت: «قولي فإني طوع أمرك.»
قالت: «أتحبين ابن عمك ثعلبة.»
فلما سمعت اسمه بغتت وعلا وجهها الاحمرار ثم عقبه الاصفرار بغتة وظهر الانقباض عليه ولم تجب.
فقالت والدتها: «قد وعدت بالجواب ولا أراك تجيبين.»
قالت: «لأني لم أر مسوغا لهذا السؤال ولم أفهم مرادك منه وأنت تعلمين منزلة هذا الشاب عندي.»
قالت: «ما لنا وللمزاح فإني أسألك سؤالا صريحا فأرجو الجواب عليه صريحا فهل تحبين ثعلبة.» فتجلدت هند وتجاهلت قائلة: «أليس هو ابن عمي فأحبه محبة الأعمام وإن يكن لا يستحق هذه المحبة.»
قالت: «ولكنني أسألك هل تحبينه محبة غير هذه.» فأدركت هند مغمز كلام والدتها فنفرت ولم تجب.
فاقتربت سعدى منها حتى احتك جنباهما وقالت: «ما بالك لا تجبينني فإن والدك كلفني بالسؤال عن ذلك فماذا أجيبه.»
فسكتت هند ولبثت برهة تفكر في مراد أمها فتوسمت من وراء هذا الكلام شيئا قرأته على ملامح وجهها ولكنها تجاهلت وأظهرت عدم الإكتراث فظلت متكئة تنظر إلى والدتها شذرا كأنها تقول لها كفي المزاح في هذا الموضوع.
فكررت والدتها السؤال بهذا المعنى فاعتدلت هند في مجلسها ونظرت إلى والدتها والاستغراب ظاهر على وجهها وقالت: «أفصحي يا أماه فإن لسؤالك معنى انقبضت له نفسي فما تعنين بحبي لهذا النذل السافل غير الحب الذي أوجدته القرابة رغما عني.»
ففهمت والدتها ما في قلب هند من الحقد على ثعلبة وكانت قد لاحظت منها ذلك قبلا فأرادت المبالغة في التجاهل حتى تستطلع أفكارها فقالت: «لا تسارعي إلى الطعن في ابن عمك فإنه سيكون أقرب إليك من ذلك.»
فنفرت هند حتى وقعت الأزهار من يدها ونظرت إلى والدتها نظرة العتب وقالت لها: «أرجو أن لا أسمع منك يا أماه ما يكدر عواطفي فإني لا أرى مسوغا لتكديري بهذه الألغاز فليس لثعلبة وطر عندي ولا هو ممن يطمع بقرابة فوق هذه فوحبك لو استطعت التبرؤ منه لفعلت وأنت أعلم الناس بمنزلته عندي وأظنك أقدر مني على الجواب عن هذا السؤال أم أنت تمازحيني.»
قالت: «بل أقول الجد فإن عمك الحارث خاطب والدك بشأنك فماذا نجيبه.»
فإلتفتت هند إلى والدتها باستخفاف كأنها تقول لا أصدق ما تقولين.
فأجابتها بملامح عينيها وابتسامها أنها تريد الجد وقالت: «لا بل أسألك سؤلا صريحا هل تحبين ثعلبة.»
فنهضت هند عند ذلك وتظاهرت بجمع الأزهار التي كانت قد وقعت من يدها وازداد وجهها امتقاعا وظنت سكوتها جوابا كافيا وظنها في محله ولكن سعدى كانت تبالغ في التجاهل لعل الحديث يجرها إلى معرفة سبب انقباض ابنتها بعد ليلة الدير فقالت لها: «ما بالى أخاطبك فتتشاغلين عن جوابي ألعل خطابي لا يستحق الجواب عندك.»
فترامت هند على صدر والدتها بدالة الوالدية وقبلت يدها وقد خجلت لهذا التوبيخ وقالت: «حاشاي أن أفعل ذلك يا أماه ولكنني أعجب لسؤالك وإصرارك على طلب الجواب وأنت تعلمين أني أريد التبرئ من القرابة القديمة فهل أجر علي عيبا آخر فليس لثعلبة وطر عندي.»
فقالت: «أظنك شغلت عنه بغيره.» قالت ذلك وتظاهرت بالمزاح ولكنها آنست في وجه هند تغيرا سريعا فعلاه الاحمرار بغتة وسكتت.
فقالت سعدى: «ما بالك لا تجيبينني وأرى وجهك يتكلم وعيناك تعترفان فما بال لسانك لا ينطق.»
فتذكرت هند حبيبها واشتغالها به عن كل شيء وتصورت ما أتاه ثعلبة من الأذى له فاشتد بها الأمر حتى ترقرقت الدموع في عينيها فحولت وجهها عن والدتها إخفاء لما كاد يظهر من عواطفها وتشاغلت بمراقبة غزال نافر رأته يثب على التلال عن بعد وظلت صامتة ويكاد الدمع يتناثر من عينيها.
فازدادت والدتها إرتيابا في شأنها فقالت في نفسها (هذه هي الفرصة المناسبة لكشف المخبأ) فقالت لها: «ما بالك تحولين وجهك عني يا هند ألعلك تخفين شيئا.»
فظلت هند متلفتة وتمنت أن تكون في خلوة لتطلق لدموعها العنان.
فأمسكتها والدتها بيدها وحاولت تحويل وجهها نحوها فأفلتت هند وغطت وجهها بكمها لئلا يظهر بكاؤها فتحققت سعدى أن هندا تبكى فكاد قلبها ينفطر عليها فقالت: «ما بالك يا هند ما الذي يبكيك ألعلي أصبت ظني وهل أنت تخفين شيئا عني.»
فأوغلت هند في البكاء وهي تحاذر أن تسمع والدتها شهيقها حتى بللت كمها ولم تستطع التسلط على عواطفها فتحققت سعدى أن هندا قد وقعت في الشراك وأن قلبها في شاغل ولكنها لم تفقه لحقيقة الحال فحاولت استطلاع السر فقالت: «إذن أنت في شاغل عن ثعلبة.»
فظلت هند صامتة خجلا وقد سترت وجهها بكمها بين يديها.
فسكتت سعدى وأخذت تفكر في من عسى أن يكون ذلك الشاغل وخافت أن تلح على ابنتها بالسؤال فتزيدها خجلا فلا تعترف لها بالواقع.
فمضت بضع دقائق وهما صامتتان وأخيرا تظاهرت سعدى بالجد ونادت هند قائلة: «أما وقد ظهر منك ما ظهر فلم يعد ثم داع إلى الإخفاء فقد تحقق لدي أنك في شاغل ذي بال فأفصحي يا ابنتي وقولي ما في ضميرك فإني والدتك وأنت تعلمين حبي لك فإجعليني مكان سرك وإتخذيني صديقة لا والدة وأطلعيني على مكنونات قلبك فنحن الآن في خلوة لا يرانا أحد وقد قضيت أياما أفكر في ما غيرك وقبض نفسك وأنت تخفين عنى حقيقة حالك. أما ابن عمك ثعلبة فإنه لن ينال منك شعرة وأنا أعلم الناس به وهبي أن والدك رضي به فأنا لا أرضاه لك.»
ثم همت بها وضمتها إلى صدرها وقبلتها وهند تبالغ في تغطية وجهها حياء فقالت لها سعدى: «أفصحي يا ابنتي وأخبرينى فقد نفد صبري قولي ما في نفسك فإني معينة لك على مرادك.»
فلما سمعت هند كلام والدتها رفعت رأسها من بين يديها فنظرت إلى والدتها بعينين قد أذبلتهما الدموع وغيرهما الهيام وحاولت الكلام فمنعها الحياء فأعادت وجهها إلى ما بين يديها وألقت نفسها على صدر والدتها وقد أخذ الهيام منها مأخذا عظيما.
فرفعت سعدى رأس هند بين ذراعيها وقالت: «قولي يا ولداه لا تخافي فإننا في خلوة لا يرانا أحد هل تحبين أحدا.»
فتنهدت هند تنهدا عميقا ولم تجب فإتخذت والدتها التنهد جوابا شافيا فقالت: «ومن ذا الذي تمكن حبه منك حتى تسلط على قلبك ونحن نحسبك أثبت جأشا من الرجال وما عهدي بك مسترسلة لعواطفك إلى هذا الحد.»
فأطرقت هند وقالت: «لا بأس بي ولا أنا أحب أحدا ولكنني أحب التخلص من هذا العالم فإني تعيسة قد كتب علي العذاب من يوم ولدت.» قالت ذلك وعادت إلى البكاء.
فانصدع قلب والدتها لذلك وجعلت تقبلها وتضمها إلى صدرها وتقول: «ما هذا الكلام يا هند ألعلك يئسة ممن تحبين.»
فنبذت هند الحياء عند ذلك وقالت: «نعم يا أماه إني يئسة فإبكي على ابنتك واندبيها فإنها تعيسة شقية.» فتحققت سعدى ظنها فأرادت معرفة الباقي.
فقالت: «وما سبب تعاستك وأنت فتاة غسان وزهرة هذه البلاد والناس يتحدثون بتعقلك ويحسدك أترابك على مقامك.»
فقالت: «على أي شيء يحسدونني
هم يحسدوني على موتى فوا أسفي
حتى على الموت لا أخلو من الحسد»
فازدادت سعدى تحرقا وتساقط الدمع من عينيها وهي تحاول التجلد خوفا على هند وقد أدركت أنها عالقة بحب رجل لا سبيل لها إليه فقالت لها: «لا تذكري التعاسة وأنت الآمرة الناهية ولا تخشي بأسا وأنا الآخذة بيدك العاملة على رضاك فأفصحي عن ضميرك فقد كفانا بكاء واعلمي أن ثعلبة سيرتد خائبا ولو كان مستهلكا في هواك.»
فحرقت هند أسنانها عند ذكر ثعلبة وقالت: «إن الشر كله من هذا الخائن وهو وحده سبب هذا الشقاء وهل تظنين رغبته في خطبتي من عظم حبه لي.»
قالت: «وكيف إذن؟»
قالت: «إنه فعل ذلك إنتقاما من ذلك الشهم الذي أبقى على حياته كرما وأنفة.»
فتذكرت سعدى حكاية السباق وما كان من شهامة حماد وأحست كأن غشاوة انقشعت عن عينيها فأيقنت أن الفتاة مغرمة بحماد فبغتت ولم تبد جوابا لعلمها أن الرجل غريب في تلك الديار وكانت قد سمعت بفراره والقبض على والده بتهمة الجاسوسية فوقعت في حيرة على أنها لم تنفر من ذكر هذا الشاب في عرض الحديث بل كانت ترتاح إلى ذكره والتحدث عنه لما ظهر لها من شهامته وكرم أخلاقه ولكنها استغربت وقوع هند في هواه مع أنفتها وعلمها بغموض حسبه وعدم سنوح الفرصة لها للاجتماع به وحسبت وقوع ذلك من قبيل التقادير الإلهية.
فنظرت هند إليها لتستطلع ما يظهر منها بعد هذا التلميح فلما رأتها صامتة قالت: «ألم أقل لك أني تعيسة فها أن مجرد الإشارة إلى سبب بلائي أضاع حنوك وألقاك في حيرة.»
فقالت: «كلا يا ولدي فقد وعدتك بالإنتصار لك ولا أزال على الوعد ولكن الخبر جاءني على حين غفلة فبغت له فهل أنت تحبين ذلك الشاب إنه بالحقيقة شهم كريم النفس وأنت تعلمين منزلته عندي من يوم السباق.»
فسكتت هند وكان سكوتها جوابا صريحا.
فعادت سعدى إلى استغرابها واستعظمت زفاف ابنتها إلى رجل لا يعرف له حسب ولا نسب فضلا عن إتهامه بالجاسوسية والقبض على والده وغضب الحارث وثعلبة عليه فلاح لها أن بقاء هند على عزمها سيكون سببا لنفور بين زوجها وابن عمه ولكنها لم تستطع مكاشفة هند بذلك خوفا عليها من سلطان الغرام بعد ما عاينت من شغفها وشدة تعلقها بحماد فعمدت إلى الملاينة فسايرتها في مجرى عواطفها ريثما ترى ما يكون من أمر ثعلبة وقبضه على حماد فقالت لابنتها: «أن حمادا أهل لحبك ولكن كيف بلغت هذه الدرجة من الحب والرجل غريب عنا.»
فقطعت هند الكلام وقالت: «ألم أقل لك أني صائرة إلى الهلاك لأني علمت بما يخامر ذهنك ولكن ما الفائدة من كل ذلك وحماد في مكان لا نعرفه ولعله ذهب فريسة غدر ذلك اللئيم.» قالت ذلك وعادت إلى البكاء.
فقالت والدتها: «لا تجزعي يا هند إن الله على الباغي ولكني أستغرب تعمد ثعلبة الإيقاع بهذا الشاب وليس بينهما علاقة.»
قالت: «هو الحسد والغيرة ولؤم الطمع فوالله أن هذا الخائن لا يساوي قدة من نعل حماد» قالت ذلك وهي تشرق بدموعها .
فأخذت سعدى تخفف عنها وتطيب قلبها حتى سكن روعها فأحبت الإطلاع على تاريخ ذلك الحب وكيفية وقوعه فقالت لها: «كيف تسلمين قلبك إلى رجل لا تعرفين حسبه ولا نسبه وأنت في ما يعلمه من تعقلك ودقة نظرك وحسن رويتك.»
قالت: «إنه حسيب نسيب وسيماه في وجهه.»
فقالت: «إن الوجوه لا تدل على الإحساب يا ولدي.»
فقالت: «قد علمت أنه من أمراء العراق وهذا يكفي وهبي أنه أقل من ذلك فقد تسلط على عواطفي بقوة من الله تمجد اسمه فها قد أطلعتك على مكنونات قلبي.» قالت ذلك وأطرقت حياء وقلبها يرقص فرحا لما آنسته من مجاراة والدتها ووعدها بالمساعدة.
فقالت سعدى: «وكيف عرفت حسبه؟»
فانتبهت هند لما ارتكبته من الكذب في ذهابها إلى دير بحيراء فهمت بيدي والدتها وجعلت تقبلهما وتقول: «اصفحي عن زلتي فقد ارتكبت ذنبا يوجب غضبك.»
فقالت: «وماذا تعنين؟»
فأحكت لها حكاية دير بحيراء واعترفت بكل ما دار بينها وبين حماد باختصار وحشمة وهي تطرق تارة وتبتسم أخرى ووالدتها مصغية تتطاول بعنقها حتى أتت على آخر الحكاية فأحست كأنها أفاقت من غفلة فسايرتها وطمأنت قلبها ولكنها صبرتها لتدبير وسيلة لا تشين شرفها أو شرف عائلتها.
فإطمأن بال هند من قبيل رضاء والدتها ولكنها ما زالت قلقة لفرار حماد بل صارت بعد ما آنسته من تلك الملاطفة أكثر قلقا عليه كأن خوفها من المعارضة كان شاغلا لها عن التفكر بما وقع فيه حماد من الخطر فلما فرغت من ذلك الخوف تعاظم قلقها. وكانت الشمس قد مالت نحو المغيب وهما لا تعلمان لو لم تريا الرعاة عائدين بالماشية من المراعي إلى الزرائب بالقرب من الصرح فهمتا بالنهوض ومشتا الهوينا وكل منهما في شاغل فكانت هند في هاجس عظيم على حماد وما هو فيه وهمها كثيرا البحث عنه فرأت أن تغتنم تلك الفرصة للاستعانة بوالدتها على ذلك فدنت منها وأسندت يدها على كتفها وهما ماشيتان وخاطبتها بدالة البنوة قائلة: «ما الحيلة يا أماه لكف سعاية ثعلبة عن حماد أيحل في شرع الله أن يذهب هذا الشهم فريسة الحسد والغدر.»
قالت: «خففي عنك يا ولدي وكوني مطمئنة فإني كافلة نجاته بإذن الله ولا بد من الصبر والتؤدة لنرى ماذا تم من أمر حماد وفراره.»
قالت ذلك وهي ترتاب ببقائه حيا وكانت تحدثها نفسها بأعظام عمل ابنتها وتنازلها إلى حب رجل غريب وعدت نفسها مخطئة بمسايرتها في ذلك ولكن ضعف أملها ببقاء حماد في قيد الحياة كان يهون عليها ذلك فبالغت في طمأنتها حتى وصلت إلى صرح الغدير وقضتا بعض تلك الليلة في مثل هذه الأحاديث وفى الصباح التالى بدأت سعدى تشتغل باستطلاع خبر حماد فعلمت بعد أيام أن هرقل عفا عن عبد الله وأمر له بكتاب الأمان فأخبرت هندا بذلك فاطمأن بالها لعلمها أنه إنما فر خوفا من ثعلبة واتهامه بالجاسوسية فغدت تترقب من يعلمها بمقر حماد لتبلغه ذلك فلم تجد إليه سبيلا فلما طال غيابه زاد قلقها عليه فصبرت نفسها تنتظر ما يأتي به القدر وهي تنذر النذور سرا لدير بحيرا.
الفصل الرابع والعشرون
منادي دير نجران
ففيما هي ذات يوم جالسة في غرفتها تفكر في أمره سمعت مناديا بجوار القصر يقول: «من نذر نذرا لنجران المبارك.» فأطلت من النافذة فرأت فارسا متزملا بعباءة وعلى رأسه قلنسوة الرهبان وفى يده صليب من الفضة فعلمت أنه منادي دير بحيراء يطوف البلاد والقرى يجمع النذور على جاري عادته في كل عام.
فلما سمعت اسم ذلك الدير هاجت عواطفها وتذكرت حبيبها وما دار بينها وبينه هناك فتوسمت في ذلك المنادي خيرا لعلمها أنه كثير التجوال فأحبت محادثته لعلها تستطلع منه خبرا سمعه عن حماد أثناء تجواله فأمرت بعض الخدم أن يستقدمه ففعل فتحول الرجل ودخل القصر حاملا خرجا فجاء به إلى هند فحياها تحية الملوك وناولها الصليب فقبلته وقبلت يده وقدمت له وسادة جلس عليها ووضع الخرج إلى جانبه.
وكانت أمها في شاغل ببعض مهام القصر وليس في الغرفة سوى هند فتأملت وجه الرجل فإذا هو غير الراهب الذي كان يمر بهم عادة فخافت أن يكون قد جاء بحيلة للسرقة أو نحوها فسألته إذا كان يريد الذهاب إلى قاعة الطعام فأثنى على كرم الغسانيين واعتذر بأنه لا يحتاج إلى طعام.
فقالت: «من أين أتيت يا حضرة الأب.»
قال: «أتيت من تجوالي في جهات البلقاء أجمع النذور.»
فقالت: «هل جمعت شيئا كثيرا.»
قال: «نعم يا سيدتي أن المسيحيين في هذا العام أكثروا من النذور حتى ملأت خرجي هذا من خيراتهم.» وتناول الخرج بيده وهزه فسمعت له صوتا يشبه صليل الحديد.
فقالت: «ما هي أنواع النذور التي جمعتها هذا العام أني أسمع لها صليلا.»
قال: «أن في خرجي هذا نذورا كثيرة لم يدخل دير بحيراء مثلها منذ عمر حتى العام.» قال ذلك وتبسم فارتابت هند بقوله وأدركت أن وراء تبسمه معنى خفيا.
فقالت: «وكيف تأتى لك ذلك والنذور تحمل إلى هذا الدير ذهبا وفضة وحجارة كريمة من اقاصي البلاد.»
قال: «لم اخرج لهذه المهمة إلا في هذا العام فجئت بالعجائب الغرائب.»
فرأت في كلامه لهجة غريبة فلم تستغرب ذلك لعلمها أن الرهبان في دير بحيراء أخلاط من أمم كثيرة ولغات شتى ولكنها ازدادت شبهه في مغزى كلامه.
فقالت: «وما هي الغرائب التي اتفقت لك دون سواك.»
قال: «جئت الدير بنذر لم يسق له مثيل لا لغلاء ثمنه بل لغرابته.» قال ذلك وحل رباط الخرج ومد يده إليه وحاول إخراج ما فيه فسمعت صليلا كصليل الدرع فتذكرت درع حماد فاختلج قلبها في صدرها وعلا وجهها الاحمرار فقالت: «هات ما عندك.» فاستخرج يده وفيها قطعة من درع لم يقع نظر هند عليها حتى امتقع لونها وغلبت عليها البغتة لما آنست من المشابهة بينها وبين درع حماد فتناولتها وتأملتها فإذا هي هي بعينها فإلتفتت إلى الراهب فرأته يتغافل عنها ولكنها قرأت على وجهه سرا يحاول إخفاءه والابتسام يكاد يظهره فابتدرته قائلة: «من أين أتتك هذه الدرع ومن الذي أعطاكها.»
قال: «أعطانيها صاحبها.»
فقالت: «هل تعرف مكانه فإنها مسروقة من عندنا.»
فإلتفت إليها قائلا: «لا أظن صاحبها سارقا بل هو رجل أمين وقد ابتاعها بثمن غال جدا.»
فقالت: «ربما كان ذلك كما تقول ولكنني اعلم أن هذه الدرع كانت عندنا فلابد لي من رؤية الذي أعطاكها فهل هو قريب من هذا المكان.»
قال: «هو قريب جدا وإذا صدق ظني فهو في اقرب مكان منك وأنت تعلمين انه ليس سارقا.»
فأدركت انه يلغز بحماد وانه عالم بشيء مما بينهما فتجاهلت ولكن الحياء والبغتة غلبا عليها فقالت: «ما تعنى بهذا الكلام أراك تقول جزافا.»
قال: «كلا يا سيدتي أني أتكلم عن ثقة ولكنك تتجاهلين والحقيقة ظاهرة على وجهك.»
فتحققت عند ذلك انه رسول من حماد ولكن سوء الظن سبق إلى ذهنها مخافة أن يكون قادما بدسيسة من ثعلبة فتجاهلت أيضا وقالت: «أراك تقول كلاما لا افهمه أو لعلك مخطئ في ظنك.»
قال: «لست مخطئا لأني أتكلم عن ثقة وان شككت بمقالي سلي الأساور تصدقك الخبر.»
فقالت: «وأي الأساور تعني.»
قال: «الأساور التي بيعت هذه الدرع بها وإذا بالغت في التجاهل جئتك بتاجر الحلي عينه.»
فأيقنت عند ذلك انه رسول حماد إليها وحدثتها نفسها أن تسأله عنه صريحا ولكنها تجلدت ريثما تخبر والدتها بذلك فنهضت للحال ولم تفه بكلمة وسارت إلى غرفة والدتها وخلت بها وأخبرتها بما كان فقالت والدتها: «أخشى أن يكون الرجل جاسوسا من ثعلبة فلا تبوحي له بشيء قبل أن نتحقق رسالته.»
فجاءت سعدى وهند تتبعها فلما دنت من الراهب وقف لها وحياها فتظاهرت بالجفاء قائلة: «ألعلك قادم من دير بحيراء الآن.»
قال: «كلا يا سيدتي بل أنا آت من البلقاء.»
قالت: «أرني الدرع.» فأراها إياها فتحققت أنها الدرع التي نالها حماد جائزة سبقه يوم السباق فتناولتها من يده وقالت له: «أن هذه الدرع مأخوذة من عندنا ولعلها مسروقة فهل تعرف الذي أعطاك إياها.»
فتبسم الراهب تبسما يمازحه ريب وقال: «أظنني اعرفه.»
فقالت: «وأين تركته.»
قال: «تركته في بعض قرى البلقاء على بضع ساعات من هذا القصر.»
قالت: «هل هو مقيم هناك أم راحل.»
قال: «هو مقيم ينتظر عودتي.»
قالت (وقد استغربت ذلك): «وماذا يتوقع من رجوعك وأنت تقول انه دفع إليك هذه الدرع نذرا نذره إلى الدير فما معنى رجوعك إليه أني أرى في كلامك تناقضا.»
قال: «لا مناقضة في ما أقول لان صاحب هذه الدرع شرط في نذره أنها لا يكون نذرا إلا بعد أن أعود إليه بخبر عن أمر يهمه.» قال ذلك وهو ينظر إلى هند بطرف عينه كأنه ينتظر إشارة منها فآنس في وجهها إشراقا فتبسم وأومأ بجفنيه نحو والدتها كأنه يقول لها هل أبوح بالسر أمامها.
فتحققت هند أن الرجل مرسل من حماد إليها ولكنها تجلدت ولم تجبه.
فجلس والدرع في يده ينتظر ما تأمر به هند.
أما هي فأومأت إلى والدتها وخرجتا معا وتركتا الراهب في الغرفة فلما خلتا قالت هند وقلبها يرقص فرحا: «لا ريب عندي يا أماه أن الرجل رسول من حماد ويظهر من أساليب كلامه انه آت ببشرى خير ولكنه لم يتجرأ على التصريح بذلك أمامك لظنه انك لا تعلمين بما بيني وبين حماد ولا ريب عندي بإخلاصه فاسمحي لي بمخاطبته صريحا فنسمع منه الخبر الصحيح» فأجابتها والدتها إلى ما أرادت فجلستا في غرفة منفردة وأرسلتا إلى الراهب فجاءهما والخرج على ذراعه فلما جلس قالت له سعدى: «عزمت عليك أن تخبرنا بحقيقة حالك ومن هو صاحب هذه الدرع وكان لعزمة الأمراء عند العرب حق أن تطاع.» فنظر الراهب إلى هند كأنه يستشيرها في الجواب فقالت له: «قل ولا تخف.»
فمد يده إلى الخرج واستخرج الخوذة وقال: «إذا كنت لا تعلمين الذي ألبسته هذه الخوذة بيدك فمن العبث أن أخبرك عنه.»
فخفق قلب هند وعلا وجهها الاحمرار وقالت: «نعم نعرفه فقل أنت ما اسمه.» قال: «اسمه حماد يا سيدتي.» فأبرقت اسرة الفتاة أي إبراق ولولا حجاب التعقل والرزانة لرقصت طربا لذكره ولكنها أمسكت نفسها فاكتفى الرجل بما قرأه في عينيها من آيات البشر فشاركها في ذلك وانتظر جوابها.
فقالت له: «صدقت هو حماد فأين هو الآن.»
قال: «هو في خلوة لا يجسر على القدوم إلى هذه الديار لأسباب لا يجهلها عامة غسان فضلا عن خاصتهم.»
فقالت سعدى: «قل لنا إذن من أنت فإني لا أظنك راهبا.» فرفع القلنسوة عن رأسه وقال: «لا أظنكما تعرفانني ولكنني أعرفكما بنفسي فإني عبدكما سلمان خادم سيدي الأمير حماد.»
فاستأنستا به كثيرا وأخذت هند تسأله عن حال حماد وما مر به فقص عليها الخبر منذ خروجهما فرار من غسان إلى أن نجوا من الأسد وسارا إلى عمان وعادا منها إلى أن قال: «وقد جئت متنكرا بهذا اللباس وتركت سيدي حمادا في بعض القرى في قلق شديد على والده وفي شوق ولهفة لمولاتي.» (وأشار إلى هند).
فقالت سعدى: «ألم يبلغكما خبر سيدك الأمير عبد الله بعد.»
قال(وقد حملق عينيه ومال بكليته لاستماع خبره): «كلا يا سيدتي فما هو خبره.»
قالت: «قد علمنا أن الإمبراطور هرقل عفا عنه وأمر بصرفه مصحوبا بكتاب الأمان.» فانبسط وجه سلمان عند سماعه الخبر وود لو يكون طيرا فيسرع إلى حماد يبشره بذلك ولكنه استشار سعدى في الأمر فقالت: «أرى أن تسرع إلى مولاك بالخبر وطمئنه عن هند وقل له أن والدتها تهديك السلام ولكن احذر أن يعلم احد في الأرض انك جئت هذا المكان أو نطقت بهذا الكلام فليبحث هو عن والده وستتصل الأخبار بيننا عند الحاجة على مقتضى الأحوال وليكن هو مطمئن البال والأيام بيننا.» وكانت هند تسمع كلام والدتها فلا تبدي ملاحظة ولم تكتف بهذه المواعيد البعيدة بل كانت تود أن تضرب أجلا للقاء ولكن الحشمة أمسكتها عن الكلام. أما سلمان فسر كثيرا لما آنسه في سعدى من الرضاء عن حماد ولكنه رأى قولها مختصرا مقتضبا لا يشفى غليلا على انه اقتنع بما لقيه وما سمعه فلبس قلنسوته وودعهما وخرج إلى فرسه وسار قاصدا حمادا. أما سعدى فلما تحققت بقاء حماد حيا ورأت هندا قد انتعشت قواها وزال امتقاع لونها الذي كان السبب الأول في تحريك حنوها حتى سايرتها في ما دار بينهما بشأن حماد مع ما كانت تظنه من موته أو انقطاع خبره فلما تحققت بقاؤه تمثل لها الأمر مجسما وندمت على ما فرط منها من مجاراة هند بشأن حبها حمادا على غموض حسبه مع ما تخشاه من إيقاظ الفتنة بين زوجها والحارث إذا منعت ثعلبة من ابنتها ثم تذكرت غدر ثعلبة وكره هند له فصوبت ردها طلبه ولكنها أحست بصعوبة ذلك فلبثت برهة صامتة تفكر في الأمر وهند تتأمل في ملامح وجهها وتنتظر ما يبدو منها فلما طال سكوتها توسمت فيها التردد فانقبضت نفسها وعادت هواجسها إليها فتركت والدتها وسارت إلى غرفتها وألقت نفسها على السرير حزينة لتراجع في ذهنها حكاية سلمان وما قالت والدتها له فلم تر في قولها ما يشفى غليلا فأحست أن والدتها إنما كانت تسايرها ظاهرا فعظم عليها الأمر.
وفيما هند في ذلك جاءت والدتها وكانت لا تزال منقبضة النفس فرأت الدموع تتلألأ في عيني ابنتها فهاج حنوها ونسيت هواجسها ودنت منها وهي تبتسم وأخفت ما في نفسها وهند تنظر إلى وجهها لعلها تستطلع شيئا جديدا فلما رأتها تبتسم اطمأن بالها ولكنها أدركت أنها إنما فعلت ذلك حنوا فعمدت إلى إثارة شفقتها إلتماسا لمساعدتها فتظاهرت بالغضب دلالا وتيها وأطرقت هنيهة لا تتكلم.
فقالت سعدى: «مالي أرى الهواجس قد عادت إليك ألم يكفيك ما سمعته عن حماد؟» فلم تجب.
فازدادت سعدى حنوا والفت يدها على كتف ابنتها وقالت لها: «ما بالك ساكتة يا هند ألم تشكري الله على أنعامه.»
قالت: «شكرته كثيرا ولكنني أراه لم يأذن بانقضاء زمن تعاستي لأني لم أكد اسمع ما سرني حتى رأيت ما كدرني.»
قالت: «وما الذي يكدرك بعد ذلك.»
قالت: «يكدرني أن أرى حبل المساعدة كاد ينقطع.»
قالت: «وماذا تعنين بذلك.»
قالت: «أعنى ما أقرأه على وجهك من آيات التردد ولا لوم عليك فقد عاملتني بما استحقه.» قالت ذلك وقد وقفت تتشاغل بحل ضفيرتها وعقصها أمام المرآة فرافقتها سعدى وهي تنظر إليها وتتوقع منها ابتساما فرأتها لا تزال منقبضة فخافت أن تعود إلى حالها من الضعف فهان عليها كل ما تريده وصممت على مساعدتها فعلا فتظاهرت بالاستغراب وهمت بها فقبلتها وضمتها إلى صدرها قائلة: «انزعي عنك الظنون يا هند فإني على ما تريدين ولسوف ترين مني ما يسرك.»
فانتعشت هند لما سمعته ولكنها تظاهرت بإنكار ذلك وقالت: «يكفيني أملا بلا عمل فإني أراك تسخرين بي.»
فضحكت سعدى حتى قهقهت وأظهرت المزاح قائلة: «ذلك خلق المحبين فإنهم لا يستقرون على حال.»
فنظرت هند إليها شذرا وشعرها لا يزال محلولا وأصابعها تتخلله فلما رأت والدتها تضحك انبسط وجهها وعادت إليها الآمال فتبسمت ولكنها حولت وجهها نحو المرآة وتشاغلت بضفر شعرها.
فمدت سعدى يدها إلى الضفيرة وتناولتها وقالت وهي تتم ضفرها: «دعينا من ضفر الشعور فإننا في ما هو ادعى إلى الاهتمام.»
فقالت هند: «لا أرى الاهتمام بشيء آخر إلا عبثا.»
فقالت: «أمن العبث أن نتخلص من مطالب ثعلبة.»
فلما سمعت اسمه نفرت وانقبض قلبها ولكنها توسمت بابا للفرج فقالت: «يا حبذا ذلك لو صح.»
وكانت سعدى قد فرغت من ضفر الشعر فأمسكتها بيدها وأجلستها إلى السرير ونظرت إليها نظرة فهمت هند منها أنها تريد الجد فأصغت إليها فقالت: «دعينا من الهواجس يا هند ولنبحث في الأمر بالتروي.»
فقالت: «قولي ما تريدين واذكري وعدك.»
قالت: «لا أقول إلا ما يرضيك ولكنني اعلم انك عاقلة رزينة ولا أظنك ترتابين من حبي لك وانعطاف والدك نحوك وإذا أتينا أمرا ساءك أو سرك إنما نأتيه إلتماسا لراحتك.»
فخافت هند أن يكون وراء هذه المقدمات نصيحة تمنعها من حماد فلبثت صامتة وقلبها يخفق في انتظار إتمام الحديث.
فقالت سعدى: «لا يسعني الإغضاء عن إهمالك البحث عن أصل حماد وفصله فان الحب يعمى ويصم فأتقدم إليك أن تستجمعي رشدك وتسألي عقلك هل هو مساعد لك على ما رضيه قلبك.»
قالت: «نعم يا أماه أني في كمال عقلي ولا أرى في عملي هذا خطأ ولا ريب عندي إذا خاطبت حمادا واستطلعت أخلاقه وأطواره انك ترين فيه مثل ما رأيته أنا فهو شاب كامل الصفات كريم الأخلاق ولا بد من أن يكون ذا حسب ونسب فإذا لم يكون ملكا ارضيا فهو ملاك سماوي ولا اقل من أن يكون اميرا وزد على ذلك أن ما شهدناه من شهامته وكرم أخلاقه يؤهله لمصاهرة والدي وقد قيل المرء بأصغريه لا ببرديه فهي انه غير حسيب فهو لا ريب شهم كريم.» قالت ذلك وعلامات الهيام ظاهرة على وجهها تخالطها ملامح الخجل.
فقالت سعدى: «إذا كان الأمر على ما تقولين فإني أهنئك بهذا النصيب ولكننا يجب أن نتدبر الأمر بالحكمة حتى لا ينجم عن عملنا ما يضر بمصلحة والدك أو يأول إلى حرب وأنت تعلمين علاقته بابن عمه الحارث وما بينهما من المنافسة المموهة بالمجاملة فنخشى أن يأول عمان هذا إلى حرب تتقد نارها وتسفك الدماء من اجلها.»
فقالت: «أتريدين إذن أن أرضى ثعلبة و ....»
فقطعت سعدى كلامها قائلة: «كلا لا أريد ذلك ولا أرضاه ولكنني أريد أن لا تستعجلي في الأمر فان في العجلة ندامة.»
قالت: «وماذا افعل إذن.»
قالت: «أتركي تدبير ذلك إلي على ما تقتضيه الأحوال ولا ريب عندي انك ستنالين مناك على أهون سبيل.»
قالت: «ها أني قد ألقيت حملي عليك وجعلت قيادي في يديك فافعلي ما تريدين.»
فقبلتها سعدى وطمأنتها ثم تركتها وسارت إلى غرفتها.
الفصل الخامس والعشرون
التفتيش عن عبد الله
أما سلمان فعاد إلى حماد وكان في مأمن خفي ينتظر عودته بفارغ الصبر فلما لقيه استطلعه الخبر فأجابه وأمارات الانبساط ظاهرة على وجهه وبشره بالعفو عن والده وبقاء هند على حبها ورضاء والدتها بذلك فلم يكن يوم اسعد على حماد من ذلك اليوم فأبرقت أسرته وتمثلت له السعادة خادما مطيعا وقضى بقيه يومه يردد حديث سلمان عن هند وما ينطوي تحت كلام والدتها لكنه ما لبث أن عاد إلى ذكرى والده وقد خاف عليه طول الغياب فاستشار حمادا في أمره فقال: «أرى أن نبحث أولا عنه فإذا التقيا به تركنا تدبير ذلك إليه.»
فقال حماد: «أنسير إلى بصرى متنكرين.»
قال: «لا خوف علينا بعد ما صدر من العفو ولكن ثعلبة ثعلب لا يركن إليه فامكث أنت هنا ودعني أسير بنفسي إلى منزلنا في غسام ومتى وصلت المكان علمت حقيقية الخبر.»
فقال: «وكيف تعلمه.»
قال: «أني ذاهب للبحث عن المخبأة التي تركناها بجوار منزلنا لا يعلم بها احد سوانا فإذا لم أجدها علمت أن سيدي أخذها فنعلم انه عاد من سفرته فنبحث عنه في بصرى وجوارها وإلا فنعلم انه لم يعد بعد فأسير إلى بيت المقدس للتفتيش عنه.»
فاستحسن حماد الرأي فباتوا ليلتهم ولما أصبحوا ركب سلمان بلباس الرهبان وترك حمادا في منزل رجل من بقايا الأنباط الذين كانوا يقيمون في جنوبي البلقاء. وكان الأنباط في الزمن القديم أمة عظيمة ذات عز ومجد وكانوا واسطة عقد التجارة بين مصر والشام والعراق وبلاد العرب يقيمون شرقي العقبة بين مصر والشام وبلاد العرب ولا تزال بعض آثارهم باقية حتى الآن في ما يسمى باترا أو بطرة ويغلب على الظن أن أصلهم من أنباط ما بين النهرين. وما زالت دولتهم قائمة حتى غلبهم الرومانيون في أوائل القرن الثاني للميلاد فتشتت شملهم وتفرقوا في البلاد واختلطوا بقبائل العرب الأخرى. ومن طرق معائشهم التنجيم وقد حملوه معهم بين النهرين.
وكان صاحب المنزل المشار إليه طاعنا في السن لم يرزق أولادا يعيش من زراعة بقعة من الأرض الصغيرة ولم يكن يحب الغسانيين لأنهم على زعمه احدث نعمة من الأنباط وان الأنباط أولى منهم بالسيادة وسبب بغضه لهم الحسد وذلك طبيعي في من كان من سلالة الحكام ثم رأى السيادة في غير أهله فانه لا يستطيع حبهم أو الإذعان لهم إلا قهرا فإذا خلا بنفسه ندد في حكومتهم وعدد معائبهم وهو من أدلة الضعف في بني الإنسان.
وكان سلمان لما عاد بحماد من عمان قد عثر على هذا الرجل واستطلع حاله فعلم أنه أحسن ملجاء يلجأ سيده إليه ريثما يعود إليه بخبر هند فلما عاد بخبرها كما تقدم واتفقا على ذهابه إلى غسام سار إليها وهو مطمئن البال ولكنه غادر حمادا على مثل الجمر في انتظار رجوعه.
فلم يمض يومان حتى عاد سلمان ومعه التحف والنقود التي كانوا قد خبأوها بجوار منزلهم فدفعها إلى حماد وهو منقبض النفس كاسف البال فسأله عن أمره.
قال: «أني خائف على سيدي من دسيسة ابن الحارث وأخاف أن يكون قد غضب لما ناله من العفو فأنفذ إليه رجالا اغتالوه.»
قال: «وما الذي حملك على هذا الظن.»
قال: «أني تدبرت الأمر واستطلعت الخبر من أهل بصرى سرا فعلمت أن الخبر بالعفو وصلهم من عشرة أيام وان سيدي خرج من بيت المقدس مع قافلة سارت إلى الحجاز رأسا فهل تظنه سار معها.»
فقال حماد: «وكيف يعقل أن يسير إلى الحجاز ونحن على موعد من لقائه في عمان فلا يبعد أن يكون قد رافق القافلة إلى جوار عمان ثم عرج إليها.»
فقال سلمان: «ولكنه يعلم أن موعدنا فرغ إذ قد مضى الشهران أو أكثر منذ افترقنا.»
فقال حماد: «لعله أراد المرور بعمان ليتحقق عودتنا منها فلا يلبث أن يعلم بذلك حتى يعود فلنصبر قليلا نتنسم أخباره.»
فصمت سلمان وهو لا يزال خائفا على سيده ولكنه تظاهر بالاقتناع تخفيفا عن حماد وكان لا يزال بزي الرهبان وقد غشيه الغبار فنزع ثيابه وغسل وجهه وكان صاحب المنزل قد خرج في بعض المهام وترك كلبه يحرس المضارب ريثما يعود.
فاغتنما تلك الفرصة واخفيا ما جاء به سلمان من الأموال فجعلا بعضه في جيوبهما وبعضه بين الثياب.
الفصل السادس والعشرون
الخطبة
تركنا هندا في صرح الغدير وقد أملت الحصول على حماد ولكنها كانت ترى إظلالا من الريب تعترض آمالها لان ذكاءها ودقة نظرها أوحيا إليها شكا في رضاء والدتها عن حماد أما هذه فكانت تحاول إقناع نفسها في صلاح ما وعدت هندا به ولكنها مازالت ترى في ضميرها ما يعترض مقاصدها على أنها كانت تتغلب على ذلك الضمير إرضاء لابنتها وتنتظر ما يأتي به القدر.
وفيما هي جالسة ذات يوم في الصرح جاءها بعض الخدم ينبئها بقادم من البلقاء فهرولت إليه لعله جاء بخبر من جبلة وقد طال أمد غيابه فرأت فارسا ترجل وقبل يدها فعرفت انه من رجال زوجها فاستطلعته الخبر فقال: «أن الأمير جبلة قادم إليكم في صباح الغد وهو يقرئك السلام.»
فقالت: «أهلا ومرحبا فإننا نستعد لاستقباله.» ثم دخلت وقد علمت انه آت ليسألها بشأن هند وثعلبة.
فانقبضت نفسها وشعرت بحرج المقام وجعلت تفكر في حل ذلك المشكل وفيما هي غارقة في بحار الهواجس جاءت هند وكانت قد رأت الفارس وعلمت سبب مجيئه فخفق قلبها لما يعترض آمالها من الشكوك وتوقعت أن ترى والدتها في ارتباك فلما علمت بخلوتها دخلت بغتة فرأتها في ما تقدم من الانقباض فحيتها فانتبهت سعدى لحالها فحاولت الابتسام لتخفي ما يخامر قلبها فابتدرتها هند بصوت مختنق قائلة: «لا يشغلك شاغل يا أماه فما في الأمر ما يدعو إلى هذا الاهتمام.»
فقالت سعدى: «لست في اهتمام يا ولدي ولكنني اشعر بانحراف في صحتي.»
فقالت: «صدقت ولكن سببه هند هذه.»
قالت: «حاشا وكلا فانك تسليتي ومنشأ سعادتي ألا ترينني حالما وقع نظري عليك انشرح صدري وانبسط وجهي.»
قالت: «أرى ذلك ولكنني أرى عليه صبغة التكلف فلا ترتبكي ولا تقهر نفسك فان كل حال تزول.» وأرادت هند أن تختبر والدتها وتستعيد وعدها لها قبل قدوم والدها لان على اجتماعهما هذا يتوقف مستقبلها.
فقالت سعدى: «ما بالك تكلمينني بالرموز ألم تتحققي حتى الآن أني على ما وعدت.»
قالت: «قد تحققت ذلك ولكنني أراني سببت لك تعبا وارتباكا.»
قالت: «أن تعبك راحة فاقلعي عن هذه الظنون وهلم بنا نتدبر الأمر فنتفق على خطة نسير عليها لأن والدك قادم غدا ولا أظنه إلا فاتحا حديث ثعلبة فما ظنك فيما نجيبه به.»
قالت: «أنت تعلمين ما في قلبي فأجيبيه بمقتضى حكمتك أما أنا إذا سئلت فلا جواب عندي غير السلب ولومهما كلفني ذلك.»
فقالت: «هبي انه سألنا عن سبب هذا الرفض فهل اذكر له حكاية حماد.»
قالت: «لا أدري ما تقولين ولكنني أخبرتك بمكنونات قلبي وقد وعدتني بتدبير الأمر فافعلي ما تشائين.»
فسكتت سعدى وقد وطنت نفسها على مجاراة ابنتها وخرجت من الغرفة وأمرت أهل القصر بضرب المضارب وإعداد الذبائح لاستقبال جبلة وحاشيته في صباح الغد.
فأصبح الصباح وقام الخدم لإعداد ما يلزم ففرشوا البسط ونصبوا الخيام وذبحوا الذبائح وأوقدوا النيران ولبست سعدى وهند أحسن ما لديهما وتهيأ للاستقبال فلما كان الضحى ظهر الغبار من جهة البلقاء فعلم أهل القصر بمجيء جبلة ورجاله فخرجوا لملاقاتهم وأطلت سعدى من بعض النوافذ المشرفة على ذلك السهل أما هند فتسلقت على سريرها وفرائصها ترتعد لهول ما تصورته من غضب والدها إذا علم بما في نفسها ثم ما لبثت أن سمعت قرقعة اللجم وصهيل الخيل بجوار القصر فعلمت بوصول والدها وفرسانه فخفق قلبها ولكنها تجلدت وأطلت من الشرفة فرأت الفرسان قد تحولوا إلى الخيام المضروبة لهم هناك وترجل والدها أمام الحديقة ودخل بلباسه الفاخر وقد لف رأسه بكوفية والعقال حولها والتف بالعباءة فوق الطيلسان فاستقبلته سعدى بوجه باش يخامره بعض الانقباض ثم جاءت هند فقبلت يده فضمها وقبلها واستغرب ما رآه في وجهها من النحول فسألها عن سبب ذلك فأجابته والدتها بأنها تشكو من ألم عارض فساروا جميعا إلى قاعة مفروشة بالبسط والسجاد والوسائد فدخل ثعلبة ممسكا هندا بيدها حتى جلس في صدر القاعة وأجلسها إلى جانبه وقد تنبهت فيه عواطف الشفقة لما آنسه فيها من الضعف فما صدق انه خلا بها وبوالدتها حتى سألهما عن شكوى هند منه فطمأنتاه وألحتا عليه أن يبدل ثياب السفر ويستريح ففعل وقد أوصى الخدم بإصلاح ما يحتاج إليه رجاله من الزاد.
أما سعدى فآنست في وجه زوجها انقباضا لم تعهده فيه وخصوصا عند مقابلته هندا بعد غياب طويل فعولت على استطلاع السبب بعد الغداء والاستراحة ولكنها لم تستطيع ذلك لانشغاله بمشاهدة غرف القصر ونزوله إلى الإسطبل يتفقد أفراسا له كان قد تركها هناك ولكنها لاحظت انه إنما كان يتلاهى بذلك تخلصا من سؤالها واستفهامها.
فلما كان المساء جلسوا للطعام وكل منهم في هاجس فلم يدر بينهم حديث غير ما لا بد منه كالتماس الآنية أو استبدال بعض أنواع الطعام أو الشراب ونحو ذلك.
فلما فرغوا من العشاء تفرق الخدم يهتمون بشؤونهم وبقي جبلة وزوجته وابنته في القاعة على حدة وكان جبلة متكئا على وسادة وهند إلى جانبه ووالدتها بين يديه.
فنظر إلى هند وتأمل وجهها ثم إلتفت إلى سعدى وقال لها: «لقد اطلنا الغيبة عليكم هذه المرة لشواغل انتابتني وكنت أعد النفس بالقدوم إليكم منذ أيام فلم استطعه إلا اليوم وكنت احسب مجيئي هذا يفرج كربتي فلم أر إلا ما يزيدني انقباضا.»
فتطاولت سعدى بعنقها نحوه قائلة: «ليس في هند ما يدعو إلى الانقباض فقد يمر على الإنسان أيام يتوعك بها مزاجه لغير سبب يعرفه ولكنني توسمت في وجهك انقباضا منذ قدومك هذا الصباح وكنت أغالط نفسي وأحسبني مخطئة أما وقد أقررت به من فيك فأرجو أن تفصح عن السبب.»
قال: «ليس في ما تشاهدينه من الانقباض ما يهمك الاطلاع على أسبابه فهو أمر عارض لا يدعو إلى البحث.»
فقالت: «لا أظن أمرا يهمك لا يهمنا ومهما كان من شأنه فان بالنا لا يهدأ إلا بمعرفته.»
فقال: «دعينا من الخوض فيه وقد يكون سحابة صيف تنقشع ولا تمطر.»
فاشتاقت سعدى إلى استطلاع الخبر وعلمت انه منقبض من خبر سمعه ولم يتحقق صدقه. فقالت: «هب انك لم تتحقق ما سمعته فاطلعنا عليه.»
قال: «جاءنا قادم من الحجاز يخبرنا بقدوم جند من العرب لمحاربتنا.»
فبغتت سعدى وقالت: «وما سبب قدومهم ولا نعرف بيننا وبينهم ما يوجب حربا.»
فهز رأسه واعتدل في مجلسه وجعل يمشط لحيته بإصابعه وقال: «أن هؤلاء العرب عصابة قوية برئاسة نبي ظهر بينهم يدعو الناس إلى دين جديد وقد بعث كتابا يدعونا فيه إلى دينه فوصل كتابه إلى الحارث فمزقه وامتهن حامله فشق ذلك على صاحب الدعوة فأنفذ جندا من رجاله لمحاربتنا فبثثنا العيون والأرصاد لمراقبة مسيرهم ولا نعلم متى يصلون.»
فبغتت هند عند ذكر الحارث وقالت في نفسها (قد كتب علينا الشقاء على يد الحارث وابنه فلا حول ولا) ولكنها نظرت إلى والدها وقد ثارت فيها الحمية وقالت: «وما يخيفنا من قدوم هؤلاء العدنانيين ونحن بني غسان رجال أشداء لا نرهب القتال.»
فانشرح صدر جبلة لما أظهرته هند من الشهامة وقال: «نعم إننا لا نخاف حربهم ولكننا كنا في غنى عن حشد الرجال وإعداد معدات الدفاع وحصوننا لا تزال مهدمه على اثر حروبنا مع الفرس سامح الله الحارث لما جره علينا من البلاء.»
فقالت سعدى: «يظهر أن هؤلاء العدنانيين إنما يريدون قتال الحارث لا قتالنا.»
قال: «نعم ولكننا جميعا تحت سيطرة الروم فإذا احتاجوا إلى دفاع استنجدونا جميعا ولا يسعنا إلا الإذعان.» فقالت هند: «أيخطئ الحارث ونحن نحارب عنه.»
قال: «ذلك ما لا بد منه إذا دعت الحالة إليه وسنرى ما يكون من أمر هذا الجند ولكن الحارث جاءني بالأمس وتداولنا في الأمر مليا وأخذنا في حشد الرجال وإعداد معدات القتال وعلى الله الاتكال.»
فلما سمعت سعدى باجتماع الحارث بزوجها أيقنت أنهما تداولا في شأن هند وتوقعت أن تسمع حديثه من جبلة ولكنها علمت انه لا يذكر ذلك وهند حاضرة تظاهرت بالملل وقالت: «أظنك تعبا من جراء السفر في هذا الصباح فهل تريد الذهاب إلى الفراش.» فأدرك مرادها فأجاب دعوتها ونهض ونهضت هند ولم يفتها المراد من ذلك فانصرفت إلى غرفتها بدعوى الرقاد وقد نظرت إلى والدتها بطرف خفي كأنها تذكرها بوعدها فافترقوا وخلت سعدى بزوجها في غرفة الرقاد وقد أعد له الخدم ثياب النوم فبدل ثيابه وبدلت هي ثيابها وكلاهما صامت يفكر في جهة والموضوع واحد.
الفصل السابع والعشرون
كشف السر
فاتكأ كل منهما على سريره والسريران متقابلان وفي الغرفة شمعات مضيئة على مائدة وقد هدأ الليل واستولى السكوت على ذلك الصرح لذهاب الناس إلى منامهم إلا ما كانوا يسمعونه من صهيل خيول في معسكر حاشية جبلة عن بعد.
فبدأ جبلة بالكلام قائلا: «عهدت إليك مهمة منذ أيام وكنت أتوقع قدومك إلينا بخبر إتمامها فأبطأت حتى استبطأ الحارث جوابي فجاء يستعجلني فيه وقد آنست منه تغيرا لما كان يتوقعه من سرعة الإجابة خصوصا بعد ما سمعه من قدوم هؤلاء العدنانيين فانه يرى التعجيل في الاقتران قبل وصولهم.»
فأحست سعدى بما جرته على نفسها من المشاق بما أكدت لهند من الوعود فترددت برهة في الجواب.
فابتدرها جبلة قائلا: «ما بالك لا تجيبينني ألعل في الأمر مندوحة للتردد.»
قالت: «لا أعلم ذلك ولكنني اعلم أن هندا لم ترصحة منذ ذكرت لها هذا الأمر.»
فقال: «وماذا كان جوابها.»
قالت: «لا سلبا ولا إيجابا.»
قال: «إذن هي راضية.»
قالت: «لا يدل السكوت على الرضاء في كل حال.»
قال: «وقد بغت وماذا إذن العلك فهمت ما يدل على الرفض.»
قالت: «لا أدري ... ولعلي مخطئة في ظني.»
فقال وقد استغرب جوابها: «قولي أفصحي فإني أرى وراء توقفك ما يأول إلى خطر جسيم.»
فقالت: «وأي خطر تخافه.»
قال: «ألا تعلمين أن رفض هذا الأمر يأول إلى نفور بيننا وبين الحارث.»
فقالت: «وهي تتجاهل مراده وأي علاقة بين الأمرين أيكون الزواج قسرا.»
فهب من مجلسه وقد زاد استغرابا وقال: «أبلغ من هند أن ترفض ما اختاره لها والداها.»
قالت: «لا تقل (والداها) بل قل (والدها) فقط.»
فحملق وقال وقد علا صوته: «العلك مجارية لها على قحتها يا سعدى.»
فأجابته بصوت خافت قائلة: «لا لم أجارها في شيء ولكنني خفت عليها الموت فإذا كنت ترى أن تجود بهند فريسة لذلك الرجل زوجها به.» قالت ذلك وأطرقت وقد شرقت بدموعها.
فبهت جبلة عند سماع تلك العبارة ولبث برهة يحسب نفسه في منام ثم قال: «وماذا تعنين يا سعدى ألعلك تتكلمين عن ثقة.»
قالت: «لم اذكر لك إلا ما تحققته بعد جدال طويل وإذا كنت لا تصدق مقالي فهذه هند ادعها إليك وخاطبها وجها لوجه فقد نفذت حيلتي فيها.»
فرجع جبلة إلى صوابه وتذكر حبه هندا وما يعجب به من شهامتها وتعقلها ولكنه ما زال على ما يخافه من عواقب ذلك الرفض فقال لها: «ادعيها إلي لأخاطبها واسمع اعتراضها.»
فوقفت سعدى وهمت بالخروج إلى غرفة هند ولكنها علمت أن مجيئها وجبلة في حال غضبه قد ينتهي إلى عاقبة وخيمة فرأت من الحكمة أن تخفف من غضبه وتهدئ روعه قبل مجيئها فتقدمت منه والدموع ملء عينيها وقالت: «ها أني ذاهبة لاستقدامها ولكنني أنبهك إلى أمر أرجو أن لا يبرح من بالك.»
قال: «وما ذلك.»
قالت: «أنت تعلم شهامة هند ورقة إحساسها وخصوصا بعد ما عانته من الضعف على أثر حديثي معها بشأن ثعلبة وتعلم أيضا أن ثعلبة كما نعرفه نحن ليس كفوءا لها مع ما خبرناه من خساسته وغدره ولا تظنه يحبها بل هو يريد قتلها فإذا علمت ذلك تدبر الأمر بالحكمة وخاطبها بالحسنى ولا تطمع في إكراهها لئلا تسوقها إلى حتفها فنندم حين لا ينفعنا الندم فمن الحكمة أن نأخذها بالين والمطل ريثما نتغلب على عواطفها.»
فقال جبلة: «لقد نطقت بالصواب ولكنني لا أراني قادرا على التخلص من شر أتوقعه بسبب ذلك على أني لم أفهم سبب رفضها إياه وهو ابن عمها ولا اعرف في غسان من هو اقرب نسبا منه ولا أليق بمقامها فما سبب هذا البغض.»
قالت: «أما كرهها له فسببه دناءته وخساسته فقد عاشرته أعواما طوالا فلم تجد فيه شيئا من أنفة الرجال وكرم أخلاق بني غسان وطالما حدثتني بذلك عنه منذ أعوام وكثيرا ما كنا نذكر سيئاته بحضورها فلا يسعنا بعد ذلك إقناعها بنزاهته وكرم أخلاقه.»
فقال جبلة: «لا أنكر عليك ذلك يا سعدى ولكنك تعلمين ما بيننا وبين ابن عمنا الحارث من المنافسة المستترة برداء القرابة تحت ظل المجاملة ولا ريب عندي أن رفض طلبه يجرنا إلى حرب ونحن في حال تدع إلى اجتماع الكلمة لما سمعنا من أخبار الحجاز.»
فقالت: «أني موافقة لك على ما تقول ولكنني على ثقة مما قلته لك وأقوله أيضا وهو أن إصرارنا على اقترانها بثعلبة يقودنا إلى ما نندم عليه ساعة لا ينفعنا الندم فهي لا تحبه ولا ترضاه ولا يمكن أن ترضاه فهل يهون علينا أن نخسر هندا وهي ثمرة حياتنا ومرجع آمالنا أنضعها بين يدي ذلك الجبان الخسيس وهو لا يحبها.» قالت ذلك والدموع تتناثر من عينيها.
قال: «أراك واثقة بعدم حبه لها ولو كان كذلك لم يطلبها.»
قالت: «أنا متحققة ذلك مما سأقصه عليك في فرصة أخرى اما الآن فإني داعية هندا إليك لتسمع كلامها شفة لشفة والتمس منك أن ترفق بعواطفها ما استطعت لأن العنف لا يجدينا نفعا.»
قالت ذلك وخرجت والمصباح بيدها حتى أتت غرفة هند فرأت الباب موصدا وآنست في الغرفة صوتا فأصاخت بسمعها فسمعت بكاء يتخلله شهيق فعلمت أن هندا تبكى فطرقت الباب ونادتها باسمها فأبطأت قليلا ثم فتحته فأدنت سعدى المصباح من وجه هند ونظرت إليها فإذا هي ذابلة الأجفان محمرة العينين كاسفة البال فانفطر قلبها لذلك المنظر المريع فوضعت المصباح على الأرض وهمت بها وجعلت تقبلها ودموعها تتساقط حنوا وشفقة وهي تقول: «لا تبكى يا ابنتي لا تبكى ولا تحزني فلا يكون إلا ما يسرك.»
فقالت: «كفاني يا أماه تعزية ومسايرة فقد سمعت غضب والدي بأذني.»
قالت: «وما الذي أسمعك كلامه وأنت هنا.»
قالت: «مررت بالباب فسمعته ينهرك وهو مصر على قوله وما ذلك إلا لتعاستي فإذا كان لا يزال على عزمه فاستودعك الله.» قالت ذلك وعادت إلى البكاء.
فقبلتها سعدى وقالت: «لقد أخطأ ظنك يا هند فان والدك يكاد يسلم معي برفض ثعلبة وهو إنما ينتظر مخاطبتك في شأنه ليسمع الجواب من فيك فهيا بنا إليه فإنه ينتظرنا في الغرفة.» وأرادت سعدى أن تدخل على زوجها بهند وهي باكية لعله يرق لها فيجاريها على مرامها.
الفصل الثامن والعشرون
موقف هائل
فأحبت هند الانتظار برهة ريثما تجف دموعها فلم تمهلها فسارتا حتى وصلتا الغرفة وجبلة متكئ على فراشه وقد استبطأ إمرأته وأحب البقاء متكئا إظهارا لما في نفسه من العتب على هند أما هي فدخلت مطرقة وقد تكسرت أهدابها وذبلت أجفانها واحمرت عيناها وتوردت وجنتاها واسترسل شعرها على ظهرها ومشت حتى اقتربت من سرير والدتها فوقفت وأسندت كتفها إلى الحائط ذليلة كئيبة ولبثت مطرقة.
فلما رآها جبلة على تلك الحال حن لها ونسي غضبه ولكنه ما زال مكبرا عملها فخاطبها قائلا: «ما رأيك يا هند.»
فظلت صامته تتشاغل بأهداب ضفيرتها بين أناملها.
فقال: «ما رأيك بابن عمك ثعلبة.»
فلما سمعت اسمه ارتعدت فرائصها وعاد البكاء إليها فأمسكت نفسها عن الشهيق ولكنها لم تستطع امساك دمعها عن الانحدار فلما شاهد جبلة تلك الدموع تتقطر عن خديها شعر كأن قلبه يتقطر دما عليها.
فقال: «ما بالك لا تجيبينني ونحن إنما بعثنا إليك لنسمع الجواب من فيك قولي ما جوابك على طلب ثعلبة.»
فلم تعد تتمالك عن الشهيق فتحولت من الغرفة وأرادت الخروج فأمسكتها سعدى بيدها وهمت بإرجاعه فألقت بنفسها إلى الأرض وأخذت في البكاء حتى كاد يغمى عليها.
فجعلت سعدى تخفف عنها وأومأت إلى زوجها أن يكف عن السؤال وجاءتها بماء رشتها به وسقتها منه قطرة حتى هدأ روعها وجبلة صامت ينظر إليها وقلبه يكاد يتقطع وقد هان عليه كل صعب فقال لها: «قد فهمت يا هند انك لا تحبين ثعلبة فهل تحبين والدك وعشيرتك.»
قالت وهي تشرق بدموعها: «نعم احبك وأحبها وان كنت ترى في تسليمي لذلك الخائن راحة لك ولعشيرتك فإني راضية بالموت فداء عنك وعنها وهذه روحي بين يديك فافعل بي ما تشاء.»
قالت ذلك وترامت على والدها فضمها إلى صدره والدموع تتساقط من عينيه رغما عنه وجعل يقبلها ويخفف عنها وهو يقول: «لا تجزعي يا هند أني على ما تريدين فهوني عليك واستجمعي حواسك.» قال ذلك وأجلسها إلى جانبه فجلست وهي تجمع شعرها وترسله إلى ظهرها وكان قد مال إلى الأمام عند استلقائها على والدها ولما رأت في والدها هذا الانعطاف تذكرت ما لا يزال في طريقها من العقبات بشأن حماد لعلمها أن والدها سيعظم أمر حماد أكثر ما أعظم أمر ثعلبة فعولت على اغتنام تلك الفرصة وهو في حال الإنعطاف لنيل رضاه عنها فعادت إلى البكاء.
فعجب لبكائها بعد مجاراته لها في العدول عن ثعلبة وكان يظن ذلك كافيا لزوال كل أحزانها فلما رآها تبكى ظنها لم تفهم مراده فقال: «كفى البكاء فقد أغفلنا ثعلبة وطلبه فهدئي روعك.» فلم تزدد إلا بكاء فأدركت والدتها ما في نفسها فأومأت إلى والدها أن يكف عن السؤال هنيهة ودنت من هند وجعلت تمسح دموعها بمنديلها وتقبلها ثم أمسكتها بيدها وخرجت بها إلى غرفتها فلما خلت بها سألتها عن مرادها بذلك فقالت: «دعيني يا أماه دعيني أبكى على صباي فقد أدركت ما جررته على نفسي من البلاء.»
فعلمت أنها تشير إلى أمر حماد وما تخافه من غضب والدها إذا علم بحبها له فقالت: «اشكري الله يا هند إننا قطعنا نصف الطريق بأمان والله يساعدنا على الباقي.»
فقالت هند: «لم نقطع إلا السهل منها وقد بقي الوعر يا أماه.»
قالت: «أن الذي نجانا من ثعلبة لا يبخل علينا بحماد طيبي نفسا وقرى عينا.»
قالت: «لا يطيب لي عيش فقد زهقت روحي قبل أن اقطع السهل الهين وكيف وقد وصلنا إلى العقبة التي أرجو اجتيازها فقد رأيت ما أعظمه والدي من أمر ثعلبة وهو يعلم خساسته ويعتقد بأنه ليس أهلا لي فمن يتجرأ على ذكر حماد أمامه وهو رجل غريب يقول انه لا يعرف أصله ولا فصله آه يا لتعاستي وسوء حظي.»
وكانت سعدى تعتقد مثل اعتقادها وربما خافت أكثر من خوفها ولكنها لما رأت حال ابنتها هان عليها ركوب ذلك المركب الخشن فجعلت تخفف عنها وتنشط آمالها وهند تبالغ في إظهار يأسها.
فقالت سعدى: «خففي عنك وانهضي إلى فراشك وعلي تدبير ما تريدينه ولك علي أن لا يصبح الصباح إلا وقد رضي والدك بكل ما تريدين.»
فلما سمعت هند ذلك شعرت بانتعاش وأحست كأن قلبها انفتح وقد انفرجت الأزمة ولكنها استبعدت ذلك كثيرا فإلتفتت إلى والتها شذرا وتبسمت تبسم طفل نال أمرا كان يتطلبه باكيا فقبض عليه وهو لا يصدق انه ناله فلما رأتها سعدى في تلك الحال زادت انعطافا إليها وابتسمت لها والدموع ملء عينيها وقالت: «هوني عليك فقد قلت لك أني ضامنة لك ما تريدين ألا يكفيك ذلك.»
قالت: «يكفيني يا أماه ولكنني أرى والدي صعب المراس فلا أظنه يشفق على قلبي.»
قالت: «لا تستعظمي أمرا تريدينه والله قادر على كل شيء فاذهبي إلى فراشك وها أني ذاهبة إلى السعي في مرامك والله يفعل ما يشاء.»
الفصل التاسع والعشرون
الاستغراب
فسكن روعها وعادت إليها آمالها وألقت حملها على والدتها وسكتت ثم نهضت ومشت إلى الفراش وقد أنهكها التعب وخارت قواها من هول ما قاسته تلك الليلة ولما رأت والدتها تهم بالخروج استحلفتها أن تبذل جهدها في إقناع والدها فأكدت لها الوعد وخرجت حتى أتت غرفة زوجها فإذا هو في انتظارها ليستطلعها سبب ما شاهده من هند فلما ابتدرها بالسؤال قائلا: «أتظنين هندا تبقى على عزمها من رفض ثعلبة فقد رأيت أني جاريتها في أمر ربما آل إلى حرب دموية بيني وبين الحارث ولكنني فعلت ذلك مدفوعا بشفقتي على الفتاة وأنا أرجو أن أعود إلى إقناعها في فرصة أخرى ألا تساعدينني على ذلك.»
فابتسمت وأظهرت الاستغراب قائلة: «أتظنني جاريت هندا في عملها هذا عبثا ألم أقل لك أني إنما فعلت ذلك رغما عني وقد خفت على حياة ابنتنا ولو علمت أن الإصرار ينفعنا شيئا ولو بعد حين ما سمعت منها قولا ولكنني رأيت ذلك لا يجدينا غير خسارة لا تعوض. أليست هند ثمرة حياتنا ومرجع آمالنا وزهرة عمرنا أليست تعزيتنا في شيخوختنا ألم نفاخر بها ملوك العرب ونفضلها على خيرة البنين أليست هي فتاة غسان ومضرب أمثالهم أليست هي أفرس فرسانهم وأكرم كرامهم أنسيت وقد رأيتها تبكى كالطفل أنها تجاري فرسان غسان في حومة الميدان وإذا ركبت جوادها تطاولت إليها الأعناق وحامت حولها القلوب ألم تكن هند إذا وقفت في حومة الوغى واستحثت الرجال على دفاع الأعداء أنهضت هممهم وأثارت حميتهم أغرك منها ذلها وانكسارها الليلة فنسيت هندا وما هي امثل هذه الفتاة يسهل التسليم بها لرجل لا يساوى قدة من نعلها. ثعلبة وما ثعلبة أليس هو ذلك الجبان الغر الذي رأيناه يحقد كالفيل ويحتال كالثعلب ويغدر كالعقرب أنسيت يوم السباق وما كان شأنه مع ذلك الشاب الغريب يوم سبقه مرتين حتى إذا سابقه ثالثة عاد من حلبة السباق وفى يده قصبة السبق مبرية بري القلم ألا تذكر انك رأيت القصبة مبرية.»
وكان جبلة في أثناء ذلك صامتا وقد أعجب بفصاحة سعدى وانسجام حديثها فلما ذكرت القصبة تذكر انه رآها مبرية فقال: «نعم اذكر ذلك.»
قالت: «أتدرى سبب بريها فوالله وشرف بني غسان لو أطلعتك على سر الأمر للعنت الساعة التي ولد فيها ثعلبة ببني غسان ولوددت لو أن حمادا مكانه لأنه أشبه بشهامتهم وكرم أخلاقهم.»
فمال جبلة استطلاع السبب فقال: «وما سبب بريها؟» فسرت سعدى لإصغاء زوجها إلى حديثها فقصت له حكاية القصبة وبالغت بما أظهره حماد من الشهامة وكرم الأخلاق وما كان من دناءة ثعلبة وخساسته فلم تكد تفرغ من حديثها حتى انقبض وجه جبلة لما جره ثعلبة من العار على الغسانيين وأحس بارتياح إلى حماد فقال: «تبا لثعلبة ورعيا لذلك الشاب فيا ليته قتله ولم يسمعنا هذا الحديث عنه.»
فتنسمت سعدى من جبلة إصغاء لحديثها فقالت: «أما وقد فتح الحديث وجرنا الكلام إلى هذا الحد فأسألك مسألة ستكون جوابا لسؤال سألتنيه الليلة.»
فقال: «وما ذلك.»
قالت: «أتدرى ما الذي حمل ثعلبة على خطبة هند بعد ما علمته من تباعده عنها.»
قال: «وما تعنين بتباعده.»
قالت: «ألم تكن هند ابنة عمه منذ ولدت.»
قال: «بلى.»
قالت: «ألم يكن يجدر به أن يخطبها لنفسه منذ أعوام وقد يخطب أبناء العم أطفالا.»
قال: «بلى.»
قالت: «أتدرى ما الذي امسكه عن خطبتها حتى الآن.»
قال وقد بهره قولها وتطاول بعنقه لاستكمال حديثها: «لا أدري وما ظنك بذلك.»
قالت: «لأنه يحسب نفسه ارفع منها مقاما أو لعله كان يتوقع أن نعرضها عليه فإذا قبلها إذ ذاك إنما يقبلها كرما ومنة.»
قال جبلة وقد أقطب وجهه وتعاظم غضبه: «خسئ النذل وخسئ أبوه قبله.»
قالت: «بل خسئ كل من يقول قوله فقد علمت أن ثعلبة لم يكن عازما على خطبة هند لو لم يحدث ما حرك غيرته وهاجه على الانتقام وإذا أذنت أن اكشف لك الغطاء فعلت.»
قال وقد مال بكليته إلى استطلاع السر: «نعم أني شديد الميل إلى معرفة ذلك قولي.»
قالت: «ولكنني استحلفك بحبك هندا أن تبقى على حبها وتشفق على صباها وتعذرها في ما رأيته أو تراه من حالها.»
قال: «لقد عذرناها من قبل فلا حاجة إلى الاستحلاف.»
قالت: «إنما استحلفك على أمر لم تعلمه بعد.»
فازداد شوقا وقال: «قولي لقد نفد صبري.»
قالت: «قد علمت حسد ثعلبة حمادا على أثر ما ناله من قصب السبق عليه وقد تعاظم حسده لما رأى هندا تلبسه تلك الدرع وهي إنما فعلت ذلك بأمرك.»
قال: «نعم.»
قالت: «وقد رأيتك وأنت رجل معجبا بشهامة ذلك الشاب ولا يخفى عليك أن النساء أكثر إعجابا بشهامة الرجال وخصوصا من كانت مثل هند في مقتبل العمر وريعان الشباب.» قالت ذلك وهي تراعي ما يبدو من جبلة ولم تكن تتوقع إلا استغرابه فحملق جبلة ونظر إليها والشرر يكاد يتطاير من عينيه وقال: «وماذا تعنين.»
قالت وهي تتردد بين أن تصرح له أو تبقى على الكتمان: «أعني انه لما رأى هندا معجبة بحماد ثارت في قلبه نيران الغيرة والحسد والانتقام و ....»
فقطع عليها الكلام قائلا: «أظنك تعنين أكثر من ذلك.»
فرأت سعدى أن تصرح بالحقيقة لترى ما يكون فقالت: «ربما أعنى انه ظنها تحب حمادا فأراد خطبتها ليحرمها منه فينتقم منهما جميعا.»
فبهت جبلة وقد ارتاب من كلام سعدى بعد ما آنس من ترددها ولكنه استزادها إيضاحا فقال: «هل كان ذلك منه على سبيل الظن فقط.»
قالت: «لا أدري إذا كان يتجاوز الظن.»
فقال: «أراك تدافعينني وتكتمين شيئا آخر فأفصحي عما في ضميرك.»
فسكتت وقد خافت التصريح.
فالح عليها وهو في ريب من أمرها وقال: «أفصحي.»
فقالت: «وهب أني اكتم شيئا آخر فما الفائدة من الإفصاح.»
فأدرك أن في ضميرها سرا تخاف إفشاءه فرارا من غضبه فقال وقد اشتد قلقه وحمي غضبه: «قولي أفصحي فهل علمت يقينا أن هندا تحب ذلك الشاب.»
فأطرقت ولم تجب ولكنها أشارت بكتفها وحاجبيها أنها لا تعلم.
فقال: «ما بالك لا تجيبين ألعلها تحبه.»
فنظرت إليه وقد عولت على التصريح فلما رأت تقطب حاجبيه وحملقة عينيه خافت اشتداد غضبه فنهضت وتظاهرت بتأجيل الحديث إلى وقت آخر وقالت وهي تهم بالخروج: «لا اعلم وسأبحث عن ذلك وأخبرك.»
فامسكها بيدها وأقعدها وقال لها: «يكفى مدافعة فإنك تعلمين فقولي ولا حاجة إلى التسويف بعد أن فهمت ما فهمته من خلال حديثك.»
فقالت: «فإذا كنت قد فهمت فلماذا تستعيدني ما قلته.»
قال: «إذن هي تحبه وتريد الاقتران به.»
قالت: «ربما كان ذلك.» وأعرضت عن جبلة متشاغلة بإصلاح فراشها وأظهرت عدم الاكتراث.
فحمي غضبه وأمسكها بيدها وجذبها إليه بعنف وقال: «ما بالك تستخفين بغضبي كأنك لا ترين في الأمر ما يستحق الاهتمام إلا يهمك أن تقترن ابنتك برجل غريب لا نعرف أصله لا فصله وقد يكون من السوقة.»
فنظرت إليه عاتبة لما أظهره من العنف وقالت بصوت منخفض: «وهذا الذي حملني على الكتمان لعلمي أنك ستتلقى الخبر بما اعمله من تعلقك بشرف الغسانيين وإنكارهم مثل ذلك على بنات ملوكهم على أن حمادا ليس من السوقة بل هو من أمراء العراق بني لخم.»
فخجل لما كان من خشونته في خطابها والغضب يمنعه من الاعتذار ولكنه أمسكها بلطف وقال لها: «ألا تنكرين أنت ذلك أيضا. وهي انه أمير فبيننا وبين العراقيين عداوة لا تؤذن بالمصاهرة.»
قالت: «لا أخفي عليك أني استعظمت الأمر عند سماعه لأول وهلة ولكنني تلقيته بالحكمة والصبر لأرى حيلة في تدبيره ولو علمت أنت حال هند كما علمتها أنا لفعلت مثل فعلي ولكن ما الفائدة من الكلام وقد نسيت حنوك وشفقتك فافعل ما تشاء وإذا ماتت هند فاللوم لاحق بك.» قالت ذلك وهي تنظر إليه والدموع ملء عينيها.
فلما شاهد ذلك منها سكن غضبه وصبر نفسه ونظر إليها بطرف يكاد يدمع وقال: «وما الحيلة التي ترينها والحال كما قلت.»
قالت: «إذا أذنت أن ننظر في الأمر بعين الحكمة دبرت لك حيلة ينصرف بها هذا المشكل على أهون سبيل وإلا فالأمر لك.»
فبهت وقال: «ما الرأي قولي.»
فجلست إلى جانبه وخاطبته باهتمام قائلة: «أما الرأي فهو أن نتظاهر بالرضاء عما أرادته هند ثم ندبر حيلة نتخلص بها من حماد لا يكون فيها ضغط على عواطفها.»
فقال: «وكيف ذلك.»
قالت: «سأخبرها غدا أن حمادا إذا طلبها منك لا تمنعه منها ثم أبين لها ترفع مثلها عن الاقتران برجل غريب لم يثبت لنا نسبه وهي لا تنكر ذلك ثم احبب إليها أن يعمل عملا نقترحه عليه يكون له فخر يغنيه عن النسب فإذا قبلت ولا أظنها إلا قابلة لعلمي بعزة نفسها اقترحنا على حماد أمرا يقرب من المستحيل فإذا استطاعه كان اقترانه بهند أمرا مقضيا من الله سبحانه وتعالى فلا مندوحة لنا عن القبول به.»
فارتاح جبلة إلى هذا الرأي وسألها عما تنوى اقتراحه فقالت: «سننظر فيه ونقر عليه ريثما يئين الوقت.»
فسر لتعقلها واثنى على ما أظهرته من الروية والحكمة فقالت له عند ذلك: «دعنى اذهب إلى هند وأطمئنها لئلا تقضي الليلة ساهرة فتعود إلى الضعف.» قالت ذلك وخرجت فرأت هندا في انتظارها على مثل الجمر.
أما هند فلما رأت والدتها قادمة نهضت لملاقاتها وهي تنظر إلى وجهها تتفاءل بما تقرأه عليه من آيات البشر فرأتها تبتسم فسكن بلبالها فاستطلعتها الخبر فطمأنتها وأكدت لها أن والدها لا يمانعها في ما تريده فلم تصدقها حتى أقسمت بحبها لها فانبسط وجهها ولم تتمالك عن الابتسام وكان سرور والدتها أكثر من سرورها ولكنها ما زالت تفكر في الحيلة ثم ودعت ابنتها وخرجت ولم تنم هند تلك الليلة من شدة الفرح.
الفصل الثلاثون
اليأس من وجود عبد الله
تركنا حمادا في انتظار خبر والده وسلمان يتردد إلى بصرى وضواحيها يسأل عنه حتى يئسا من العثور عليه هناك فقلق حماد لذلك كثيرا وخاف من سوء يصيبه وكان سلمان في مثل قلقه فعاد ذات يوم من بصرى وكان قد ذهب إليها للبحث عن سيده ولم يقف له على خبر فوصل خيمة حماد فرآه غارقا في بحار الهواجس فلما دخل ناداه حماد: «ما وراءك يا سلمان.»
قال: «ما زلت على ما فارقتني ولا أراني قادرا على الصبر بعد هذا الانتظار فأذن لي بالمسير إلى بيت المقدس أو عمان للتفتيش عن سيدي فقد مللت الانتظار.»
فقال حماد: «ألا ترى أن أسير أنا معك.»
قال: «لا حاجة إلى ذهابك فامكث هنا ريثما اعود.»
فقال: «هل تسير إلى بيت المقدس أم إلى عمان.»
قال: «أرى أن أسير إلى بيت المقدس أتتبع خطوات سيدي منها حتى أقف على خبره فضلا عما في الطريق من هنا إلى عمان من الأخطار التي لم ننسها بعد.»
قال: «سر بحراسة الله ولا تطل الغياب فإني في انتظارك وأنت تعلم حالي من القلق.»
فودعه وخرج على جواده وقد لبس ثياب السفر وسار قاصدا بيت المقدس فوصلها بعد أيام فجال في شوارعها حتى انتهى إلى خان علم من قيافة صاحبه انه عربي فدخل والتمس مبيتا عنده فأعد له غرفة نزل فيها وأرسل جواده إلى الإسطبل ثم بدل ثيابه وجاء إلى صاحب الخان فجلس إليه وجعل يحادثه في مواضيع مختلفة حتى تطرق إلى حكاية هرقل وما كان من مجيئه إلى هناك فآنس في الرجل علما ببعض الحكاية فقال له: «وهل رأيت القيصر يوم مجيئه.»
قال: «رأيته مارا بموكبه يوم وصوله ثم تراكمت علينا الأشغال لتقاطر أهل القرى والبلاد إلى بيت المقدس لمشاهدته.»
فقال: «وهل يرد عليكم كثير من العرب أم كل زائريكم من الروم والسريان واليهود من أهل هذه البلاد.»
قال: «قلما يرد علينا قوافل من العرب أما في هذا العام فقد جاءنا كثير منهم.»
فقال: «وما سبب ذلك.»
قال: «لان قيصر بعث إلى أمير من أمراء الحجاز يقال له أبو سفيان فجاء برجاله وحاشيته وقافلته فنزلوا جميعا في هذا الخان ومكثوا مدة بيننا فانتفعت المدينة بقدومهم لما يبتاعونه من الطعام لهم والعلف لخيولهم ويظهر أنهم من أهل الرخاء خلافا لما تعودناه من فقر أهل الحجاز وقلة أموالهم كما هو مشهور من جدب أرضهم.»
فقال سلمان : «كثيرا ما سمعت بأبي سفيان هذا وعهدي به من أعظم أمراء مكة وانه كثيرا ما يقدم برجاله إلى الشام وضواحيها للاتجار.»
فقال: «ولكنه قلما يأتي بيت المقدس أما في هذا العام فقد جاء بأمر من الإمبراطور.»
قال: «وما الذي دعا الإمبراطور إلى استقدمه ومن يكون أبو سفيان حتى يهتم إمبراطور الروم باستدعائه.»
فأحكى له حكاية الكتاب الذي ورد على هرقل وما كان من أمره حتى انتهى إلى سفره من بيت المقدس.
فأراد سلمان أن يستطلع خبر سيده فقال: «أظن العرب الذين يأتونكم كلهم أو أكثرهم من الحجاز ويندر أن يأتيكم أحد من أهل العراق.»
وكان الخاناتي قد علم من لهجة سلمان انه عراقي فقال: «كثيرا ما يأتينا تجار من العراق أيضا ولكن قدومهم يكون غالبا في أزمنة المواسم والأعياد عندما يكثر الواردون إلى القبر المقدس لان الناس يحجون إلى أورشليم من جميع أقطار العالم فيأتي الباعة والتجار من سائر البلدان أيضا لعرض سلعهم وبضائعهم وأهل العراق يحملون إلينا مصنوعات الفرس كالسجاد ونحوه وشيئا من محصولات العراق كالتمر وغيره.»
فقال: «هل جاءكم أحد منهم في هذه الأثناء.»
قال: «رأيت كثيرين ولكن لم ينزل منهم احد عندي إلا أميرا جاءنا يوم سفر أبي سفيان وسار معه.»
فتوسم سلمان من ذلك خيرا فقال: «وهل عرفت اسم ذلك الأمير.»
قال: «أظنني سمعتهم ينادونه عبد الله.»
فتحقق سلمان انه سيده بعينه فقال: «هل تعرف شيئا عن هذا الأمير بعد سفره.»
فأطرق الخاناتى هنيهة ثم قال: «لقد أذكرتني من شأن هذا الأمير ما يتفطر له القلب.»
فاقشعر بدن سلمان عند سماعه ذلك حتى ظهر الارتباك على وجهه وتطاول بعنقه نحو الخاناتى وقال: «لقد شغلت بالي يا أخا العرب بما أشرت إليه فهل أصيب الأمير عبد الله بسوء.»
قال: «كلا لم اسمع عنه شيئا من هذا القبيل ولكنني علمت انه أصيب بفقد ولد له أكلته السباع في مسبعة الزرقاء.»
فعجب سلمان وإلتفت إلى الخاناتى باهتمام وقال: «اعترف لك يا سيدى أن أمر هذا الأمير يهمني كثيرا لأنه سيدي وأنا إنما جئت للتفتيش عنه فهل تتفضل بتفصيل حكايته وما تم له ومن أنبأه بمقتل ابنه.»
قال: «لا أخفي عليك شيئا اعرفه من هذا القبيل فقد جاءنا هذا الأمير يوم سفر أبى سفيان ولحظت انه سار في ضيافته فلما خرجت القافلة أرسلت معها بعض خدمة الخان ليشيعوها لعلها تحتاج إلى إرشاد في اختيار بعض الطرق دون غيرها وكان مع القافلة جواد عثر عليه شاردا في بعض السهول أثناء مجيئهم إلى الشام فلما همت القافلة بالمسير قدم أبو سفيان ذلك الجواد للأمير عبد الله ليركبه فلما رآه هذا عرفه انه جواد ولد له كان قد فارقه في بعض جهات الزرقاء فالتبس عليه أمر الجواد وفراره واحكي حكايته هذه لأبي سفيان فرافقه هذا مع بعض رجاله إلى المكان الذي رأوا الفرس فيه وبلغني أنهم عثروا على بقايا فرس آخر تحت شجرة وأشياء أخرى استدلوا منها على ذهاب الغلام فريسة السباع فبكى ذلك المسكين بكاء مرا وندب ابنه وبالغ أبو سفيان بتعزيته فلم يتعز.»
وكان سلمان أثناء هذه الحكاية مصغيا وقلبه يخفق فلما وصل الخاناتي إلى هذا الحد أحس سلمان بقشعريرة وقف لها شعره وقال للرجل: «وماذا تم له بعد ذلك.»
قال: «سمعت انه لما تحقق موت ابنه لم يعد يحلو له الذهاب إلى منزله في بصرى فسار مع القافلة إلى الحجاز.»
فقال سلمان: «وهل تحققت انه سار إلى الحجاز.»
قال: «هذا ما سمعته ولا أدري إذا كان قد عدل عنها بعد ذلك.»
فقال سلمان وقد ظهرت البغتة على وجهه: «أني اعترفت لك بأهمية هذه الحكاية عندي واشكر الله لنزولي عليك حتى سمعت هذا الحديث منك ولكنني أرجو أن تزيدني إيضاحا ما استطعت.»
فقال الخاناتى: «لقد رأيت من اهتمامك وظهور البغتة على وجهك ما حرك في الاهتمام لمعرفة مصير هذا الأمير فلندع المكاري الذي قص الخبر علي بعد عودته لعله يزيدنا إيضاحا.» قال ذلك ونادى المكاري وكان مشتغلا ببعض شؤون الخان فجاء فسأله عما يعلمه من تفاصيل حكاية عبد الله.
فاحكى القصة كما قالها الخاناتى مع بعض التفصيل حتى انتهى إلى مسير القافلة بعد الرجوع من مسبعة الزرقاء فقال: «رأيت ذلك الأمير عائدا على قدميه يحمل سيف ابنه وعباءته وكان قد عثر عليهما عند ضفة غدير هناك فاستأنس بهما واشتم رائحة ابنه منهما وأما الجواد فكان مسوقا وراءه كئيبا كأنه عام بمصير صاحبه فلما وصلوا إلى الطريق دعاه أبو سفيان للمسير معه إلى الحجاز أو أن يوصله إلى منزله في بصرى فقال انه يريد العود إلى بصرى ثم تردد في الذهاب إلى الحجاز ولكنه رافقه وساروا جميعا وعدنا نحن ولا نعلم ما تم له بعد ذلك.»
فقال سلمان: «ألم تسمعه يذكر عمان وعزمه المسير إليها.»
قال: «لا أذكر أني سمعته يقول شيئا من هذا القبيل.»
فبهت سلمان برهة يفكر في ما سمعه وقد علم أن سيده لا يصبر على ما ظنه من ذهاب حماد فريسة للسباع وخاف أن يكون قد حمله ذلك على مهاجرة الشام والمسير إلى الحجاز مع أبي سفيان ولكنه رأى ذلك إذا فعله سيده لا يخلو من المسارعة وهو يعلم أن عبد الله عاقل لا يأخذ الأمور بمظاهرها فلبث برهة يفكر ثم استأذن الخاناتي في الذهاب إلى غرفته ليتبصر في الآمر بعد أن شكره لما قصه عليه.
فلما خلا في غرفته أخذت تتقاذفه الهواجس وهو يفكر في الأمر وقد انقبضت نفسه خوفا مما قد يصيب سيده من عواقب اليأس وعظم عليه الرجوع إلى حماد بهذا الخبر المشئوم فضلا عن انه لا يفيده شيئا فقضى بقية ذلك النهار وطول الليل في مثل هذه الهواجس فلاح له بعد إعمال الفكرة أن يتبع خطوات سيده بنفسه فيسير إلى عمان لعله يقف على ما يحلو له الحقيقة.
فلما أصبح سار إلى الخاناتى وأطلعه على عزمه واستأذنه في مسير ذلك المكاري معه فأطاعه فركب سلمان والمكاري في ركابه وكلما مرا بمكان احكي له المكاري واقعة حاله حتى تجاوزا طريق المسبعة ووصلا إلى النقطة التي عاد المكاري منها فقال سلمان: «ألا تسير معي إلى عمان لعلنا نسمع هناك خبرا جديدا.»
قال: «أني في ركابك إلى حيثما تريد ولكنني سمعت منذ أيام أن بالقرب من عمان جماعة من قريش جاؤوا لمحاربتنا فلا نأمن إذا رأونا أن نقع في أيديهم غنيمة باردة.»
فتذكر سلمان انه سمع مثل ذلك قبل خروجه من بصرى أيضا فتردد في الأمر ولكن نفسه لم تطاوعه على الرجوع قبل الوصول إلى عمان فقر رأيه على الذهاب إليها من طرق مجهولة لا يطرقها إلا القليل من الناس والمكاري يعرفها فسارا حتى انتهيا إلى عمان فلم يجدا فيها أثرا ولا خبرا.
فعاد سلمان يئسا حزينا لا يدري كيف يقابل حمادا بهذا الخبر الابتر على انه كان يتوهم أن سيده ولو أطاع عواطفه في حال تأثرها وسار إلى الحجاز لا يلبث أن يهدأ روعه ويعود إلى البلقاء للبحث عن ابنه ولا اقل من يرجع إلى بصرى بعد أن عفي عنه فيتفقد ما ادخروه من المال والمثمنات في منزلهم بغسام.
فقضى سلمان طول الطريق في عودته وهو يفكر في ذلك وكثيرا ما حدثته نفسه أن يتأثر سيده إلى الحجاز لو لم يعترضه الشك في مسيره إليها وعول أخيرا على الرجوع إلى حماد والمداولة معه في هذه الشؤون فإذا تحقق ذهابه إلى الحجاز سار للتفتيش عنه فيها.
فلما وصلا إلى منعطف من الطرق يؤدي إلى البلقاء رأسا أثنى على المكاري وأكرمه وودعه وسار قاصدا حمادا.
الفصل الحادي والثلاثون
حماد في خيمته
لم يكد يتوارى سلمان عن حماد يوم خروجه إلى بيت المقدس حتى أحس حماد بالوحشة لإنفراده في تلك الخيمة بعيدا عن حبيبته قلقا على والده فجلس يفكر في ما مر به ذلك العام من الأهوال وما رآه من حوادث الأيام وتذكر حاله قبل قدومه البلقاء يوم كان خلي البال لا يعرف الهواجس فعلم أن السبب في ذلك كله الحب فتذكر هندا وما ناله من رضاء والدتها فرقص قلبه طربا ونسي ما ينتابه من الشواغل والحب مع ما وصفه به أمام العاشقين بقوله.
فعش خاليا فالحب راحته عنى
فأوله سقم وآخره قتيل
فهو إذا رضي الحبيب تعزية للمحبين ينسيهم الهموم ويخفف عنهم الأحزان.
فلم يكن لحماد تعزية في غربته وهواجسه إلا رضاء حبيبته فإذا تراكمت عليه الأحزان تذكرها وتصور قربها فتنتعش جوارحه وتثوب إليه آماله فينجلي صدره وتنبسط نفسه.
فلبث في خيمته برهة يتردد بين اليأس والرجاء ينقبض تارة وينبسط أخرى حتى كان المساء فسمع خوار ثور بين الخيام فعلم أن مضيفه عائد من مرعاه فحسده لسذاجته وقلة شواغله ولبث يفكر في أ مره وود لو انه في مثل حاله خلي البال قليل البلبال لا يهمه من دنياه إلا ما يرجوه من غلة أرضه أو نتاج ماشيته ولكنه تذكر أن ذلك الشيخ لا يعرف الحب ولا شعر بلذته فخيل له انه أشبه بالحيوان الأعجم منه بالإنسان.
وفيما هو يتأمل سمع وقع خطوات بالقرب من الخيمة علم من خفتها أنها خطوات الشيخ لأنه كان لا يمشي إلا حافيا فاحتفر لاستقباله فإذا به قد دخل الخيمة والمنجل لا يزال في يده وقد كسا لحيته وعمامته الغبار وانفتح قميصه عن صدره فبان الشعر متجعدا كأنه نبت الربيع يعانق بعضه بعضا فلما رآه حماد وقف له وحياه إكراما لشيخوخته فألقى الشيخ المنجل عند باب الخيمة ودخل وعلى وجهه ملامح البشر حتى كاد يبتسم وكان قد عاشره أياما لم ير ثغره باسما قط على انه قلما رآه منقبضا أو مهتما فلما رآه يبتسم أحس بارتياح وسرور ودعاه إلى جانبه وأخلى له مجلسا على البساط فأبى الجلوس إلا على الأرض فجلس وهو يحك إحدى كفه بالأخرى لينزع ما لصق بهما من التراب فلما تفتت التراب عنهما جعل ينفض لحيته البيضاء لينزع عنها ما علق بها من الأتربة.
فبدأ حماد بخطابه قائلا: «كيف أنت اليوم أيها الشيخ أرجو أن تكون في خير وعافية.»
فنزع الشيخ عمامته وتشاغل بنقرها لينفض غبارها وقال: «نحمد الله على خيراته فقد سرني اليوم أن بقرتي ولدت عجلا أبلق ولا يمضي عليه العام أو العامان حتى استخدمه في الحراثة فيغنيني عن تربية البنين وهمومهم.»
فعجب حماد لسذاجة البدو وقلة هموم أهلها فأراد مداعبته فقال له: «أيكفيك من دنياك رعاية الماشية وتربية العجول والغسانيون متمتعون بالسلطة والسيادة.» وكان حماد عالما بما يتقوله الأنباط على الغسانيين كما تقدم.
فضحك الشيخ مستهزئا وقال: «لا يغرنك من دنياك يوم نعيم فإنها لا تحسن يوما حتى تسئ أياما فلا تفرح للحارث الغساني من اجل يوم استبد فيه فقد جاءه من ينزع عنه السيادة ويلحقه بأجداده أصحاب السيل العرم الذين إنما جاؤونا فرارا من الفقر بعد أن كانوا يقيمون في أرض تستقي من مستنقعات يجمعونها من مياه الأمطار وراء سد من حجر فلما أنهدم السد سال الماء فاغرق السهول ولم يعودوا يستطيعون بناء السد لضعفهم وقلة تدبيرهم فأجدبت أرضهم ففروا في جملة من فر منها إلى هذه البلاد منذ قرون متطاولة وقدر لهم الملك عن غير استحقاق فجاءهم الآن من ينزع الملك منهم ويكسر شوكتهم ويعلمهم مالهم وما عليهم.»
فعلم حماد أن الشيخ يشير إلى حكاية سيل العرم في جهات اليمن وما كان من تفرق بني قحطان بعده والغسانيون في جملتهم ولكنه لم يفقه ما أراده من قوله بقرب زوال ملكهم فقال له: «وما تعنى بزوال ملكهم ونحن لا نراهم يزدادون إلا قوة ومنعة.»
قال: «ألم تسمع بالعدنانيين الذين قدموا من الحجاز في هذه الأثناء فقد جاؤوا جماعة كبيرة ليقتصوا من الغسانيين ويبيدوهم عن آخرهم.»
فقال: «وما اوجب الاقتصاص وأي علاقة بينهما والحجاز على مسافة أيام من الشام والناس هناك في شاغل بإصلاح دينهم فقد ظهر فيهم من يدعوهم إلى دين الله وقد سمعت بأنه انشأ فيهم دولة جديدة دانت لها كل بلاد العرب فأهل الحجاز في شاغل عن هذه البلاد.»
فضحك الشيخ وقال: «كل ذلك من تدبير الله. وأما ما اوجب مجيء العدنانيين فهو وقاحة الحارث الغساني وكبرياؤه فقد أنبأني بعض المارين من هنا أن نبي قريش الذي ذكرته كتب إلى الحارث كتابا يدعوه فيه إلى دينه فبدلا من أن يقرأه ويتأمله ويرد الرسول ردا جميلا مزق الكتاب وأهان الرسول فشق ذلك على صاحب الرسالة فأنفذ جندا لحرب الحارث وفتح بلاده.»
فاهتم حماد بذلك الخبر كثيرا لعلمه أن الحرب إذا قامت عرقلت مساعيه وحالت بينه وبين ما يريد فضلا عما يخافه على هند من الخطر لان جبلة لا بد له من نصرة ابن عمه الحارث على انه لم يكن يخاف انهزامهم أو خذلانهم لما كان يتوهمه من ضعف أهل الحجاز وقلة خيراتهم كما هو مشهور عن تلك البلاد منذ القدم ولكن خوفه على هند من عواقب الحرب همه كثيرا فلبث برهة يفكر في أمره ثم قال للشيخ: «وهل أنت واثق بمجيء هؤلاء الحجازيين.»
قال: «لا ريب عندي من ذلك.»
قال: «العلك سمعت الخبر عن ثقة.»
قال: «سمعته من خبير وهمني أمره كثيرا حتى تحققته إذ يسرني خذلان الغساسنة فقد قلت لك أنهم أعداؤنا.» وكان ذلك الشيخ النبطي يظن حمادا يفرح بسقوط دولة بني غسان لأنه من لخم ولم يدر من له في صرح الغدير.
فلبث حماد صامتا لا يدرى ماذا يعمل وتذكر سلمان ووالده فتراكمت همومه فإلتفت إلى الشيخ فإذا هو قد ذبلت عيناه وغلب عليه النعاس شأن المشتغلين مثل شغله على خلو بالهم وخصوصا من كان في مثل سنه فانك بينما أنت تخاطبه في شأن لا تلبث أن تراه ينام فتركه حماد واشتغل بهواجسه.
ثم أفاق الشيخ مذعورا لصوت ثيرانه وهم بالخروج من الخيمة وهو يقول: «لقد تقاتل الثوران.» فخرج حماد في أثره وكان الليل قد سدل نقابه فسارا حتى دنوا من مربط الثيران فإذا هي لا تتقاتل ولكنهما شاهدا بينها جملا غريبا فتقدم الشيخ إليه وامسكه بعنقه وأبعده عن ثيرانه حتى دنا به من نار موقدة يستضاء بها وحماد يراعيه بعينيه ولم يكد الشيخ يتأمل ذلك الجمل حتى ضحك وقال: «وهذه ناقة من نوق أهل المدينة قد تخلفت عن جند الحجاز الذي قلت لك أنهم جاؤوا لحرب الغسانيين.»
فقال حماد: «وما الذي دلك على ذلك.»
قال: «دلني عليه شكل الرحل فانه خاص بأهل المدينة وكثيرا ما أرينا من أمثال هذه النوق مارة بنا إلى الشام وغيرها.»
فقال حماد: «يظهر أن هؤلاء العدنانيين قد أصبحوا على مقربة منا.»
فقال الشيخ: «لا أظنهم قريبين فقد يكون بيننا وبينهم مسافة أيام ولعل هذه الناقة قد تاهت منذ بضعة أيام.» قال ذلك وهو يعقلها ويأتي لها بالعلف.
فتركه حماد وعاد إلى خيمته وقد تمثل له الأمر بجسامته فعظم عليه أن يذهب أمله أدراج الرياح لاشتغال جبلة بالحرب فشعر باحتياجه إلى سلمان فصبر نفسه ريثما يعود إليه بخبر والده.
الفصل الثاني والثلاثون
سلمان وأخباره
وبعد أيام عاد سلمان كاسف البال لخيبة مسعاه في إلتفتيش عن سيده وكان حماد قد مل الانتظار فاستطلعه كنه ما علمه فاحكي له ما سمعه ثم قال: «يلوح لي أن سيدي رافق أبا سفيان إلى الحجاز إذ يظهر مما سمعته انه تحقق خبر مقتلك فلم يبق له وطر في الحياة ولعل أبا سفيان حبب إليه السفر ورغبه في المسير إلى الكعبة فجاراه.»
فقال حماد: «لا أظنه يفعل ذلك قبل أن يأتي بصرى ويستخرج المخباة التي خبأناها في غسام.»
فقال: «وما أدرانا انه لم يأت بعد أن استخرجناها أو لعله أرسل من يبحث عنها فلم يظفر بها وعلى كل حال أن سيدي ليس في فلسطين ولا البلقاء ولا عثرت عليه في عمان ويؤخذ من مجمل ما سمعته انه سار إلى الحجاز فهل تأذن لي في الذهاب إلى مكة للتفتيش عنه.»
قال: «لو كنا على يقين من ذهابه إليها لسرت أنا بنفسي ولكننا إنما نرجم بالغيب وزد على ذلك إننا في حال تدعو إلى القلق من أمر الحرب المنتظرة بين الحجازيين والغسانيين وقد سمعتك تشير إليها في أثناء حديثك وكنت في ريب من أمرها مع أني سمعتها من شيخنا النبطي منذ أيام.»
فقال سلمان: «أما مجيء هؤلاء الرجال فلا شك فيه لأني شاهدت معسكرهم شهادة عين بجوار عمان وأما سيدي فالأرجح انه سار إلى الحجاز أو لعله أصيب بما عاقه عن المجيء إلى البصرى ولا يلبث أن يأتي إليها فإذا لم نره بعد أيام علمنا انه سار مع أبى سفيان إلى مكة.»
فلم ير حماد بدا من التربص لما سيظهر من هذا القبيل ولكنه عاد إلى امره مع هند وما عسى أن يكون من شأنها بعد طول الانقطاع وخاف أن يتغلب الفتور على قلبها فيذهب سعيه هدرا.
فقال: «عليك يا سلمان أن تتردد إلى بصرى لعلك تسمع شيئا عن والدي ولا تنس البحث عن هند ووالدها فقد علمت ما داهم الغسانيين من امر الحرب على حين غفلة وأخشى إذا حمى وطيسها أن تذهب آمالنا كلها أدراج الرياح.»
فقال سلمان والقلق ظاهر على وجهه: «وما أدراك أنني غافل عن هذا الأمر وهو شاغل فكرى ليلا ونهارا وكنت عازما على استئذانك في الذهاب إلى بصرى في صباح الغد فقد سمعت الناس يتقولون أقوالا لم أصدقها.»
فبغت حماد وقال: «وماذا عسى أن يكون تقولهم وعمن يتقولون قل ما الذي سمعته.»
قال: «لم أسمع شيئا يوجب قلقا لأني على يقين من حب هند وثباتها في حبك.»
فازداد حماد اندهاشا وقال: «هند؟ وما شأن هند وماذا يتقول الناس عنها قل ياسلمان.»
قال: «هدئ روعك فإني لا أخفي عنك شيئا وخصوصا أن ما سمعته لا يوجب قلقا ولا يجر إلى خوف.»
فقال حماد وقد نفد صبره: «قل ماذا يقولون.»
قال: «سمعت الناس يتحدثون في بصرى وضواحيها أن ثعلبة طلب الاقتران بهند.»
فلما سمع حماد اسم ثعلبة مقرونا باسم هند وقف شعره واقشعر بدنه وقال: «وكيف طلب ذلك ومتى.»
قال: «سمعت انه طلبها بواسطة والده الحارث وان والده خاطب جبلة فوعده.»
فصاح حماد: «وبماذا وعده.»
قال سلمان وهو يبتسم: «ما لى أراك قليل الصبر خفف عنك وأصغ إلى ما أقول فقد عهدتك صبورا حازما.»
قال: «إني صبور على كل شيء إلا على هند قل ما كان وعده.»
قال: «وعده بمخاطبة الفتاة أو بالحري بمشاورة والدتها إذ لا تجهل أن اقتران البنات قلما يتوقف على إرادتهن.»
فقال حماد: «وماذا كانت النتيجة.»
قال: «لم أتحقق الخبر بعد فقد قال بعضهم انه خاطبها ولم تقبل وقال آخرون انه لم يخاطبها بعد ولكن صديقا لي من أهل بصرى صادقته على أثر هجوم ثعلبة على منزلنا يوم قبضوا على سيدي الأمير وأظنه أعلم الناس بحقيقة الواقع أنبأني أمس وقد لقيته في الطريق بجوار بصرى أن الحارث استبطأ جواب جبلة بشأن هند فسار إليه ثانية يستعجله في الجواب على أثر قدوم هؤلاء الحجازيين لأنه يريد التعجيل في الاقتران قبل انتشاب الحرب.»
فخفق قلب حماد كمن أخفق مسعاه ووقف وقد امتقع لونه وقال: «ما هذه الأحاديث يا سلمان فإني أراني في حلم أتظن آمالنا ومساعينا قد ذهبت عبثا وهل ترضى هند بابن عمها ثعلبة.» قال ذلك والدمع يكاد يتناثر من عينيه.
فإتقدت الشهامة والغيرة في قلب سلمان وهم بحماد فضمه إلى صدره وقال له: «خسئ النذل أن هندا أرفع من أن تدنس قلبها بمحبته وأنت اعلم مني بأنفتها وعزة نفسها وكرهها لثعلبة ويلوح لي أن البطء في جوابها ناتج عن تمنعها.»
فانتعش حماد لذلك الكلام ولكنه مازال خائفا من أن تؤخذ الفتاة قسرا فقال: «حاشا لقلب هند أن يحب ذلك الخائن ولكنني أخاف أن تحمل على القبول به مراعاة لعلاقة أبويهما لما بينهما من النسب وما يخشى من عواقب الرفض فقد يصعب على هند أن ترفض ما يريده أبواها.»
فقال سلمان: «لا يصعب عليها ذلك ووالدتها نصيرة لها فقد آنست من هذه المرأة يوم قابلتها وأنا في زي الراهب ما دلني على دهائها وقوة جنانها فهي إذا أرادت تحويل زوجها عن أمر لا يصعب عليها.»
قال حماد: «ومن ينبئنا ببقائها على ذلك ونحن لم نر من حديثها في ذلك اليوم ما يدل على إخلاصها لنا وزد على ما تقدم أن مجاراة جبلة في رفض ثعلبة لا يضمن لنا رضاءه بسواه.» (يريد نفسه).
فأدرك سلمان وعورة المسلك ولكنه أظهر الاستخفاف به وقال: «دع ذلك إلي فإني ذاهب في صباح الغد لاستطلاع الخبر وتدبير الحيلة والله يفعل ما يشاء.»
فسكت حماد لا عن اقتناع ولكنه صبر نفسه ينتظر ما يأتي به القدر.
الفصل الثالث والثلاثون
وعند جهينة الخبر اليقين
وباتوا تلك الليلة وحماد لم ينم إلا قليلا لما تراكم عليه من الهواجس أما سلمان فقضى ليلته يفكر في سبيل يوصله إلى المراد فنهض في الصباح التالي وفي نيته الشخوص إلى صرح الغدير لاعتقاده أن الخبر اليقين عند هند فلبس ثياب الرهبان وركب جواده وسار حتى إذا أتى الصرح سأل عمن يقيم فيه فقيل له أن جبلة برحه منذ ايام بعد أن جاءه لزيارة. فتقدم إلى باب الحديقة فاستقبله بعض الخدم وسأله عن غرضه فقال انه جاء بمهمة من رئيس دير بحيراء إلى الأميرة سعدى وطلب مقابلتها فسألوها فأذنت بدخوله فلما خلت به عرفنه فسألته عن حماد فأنبأها بحاله وإنه جاء يستطلع ما تم من أمره فاستدعت هندا وكانت في غرفتها تفكر في حماد وهي لا تعلم مقره فلما سمعت بمجيء سلمان خفق قلبها وأسرعت إليه وأمارات البغتة تلوح على وجهها فلما رآها سلمان قام لها وسلم عليها وطمأنها عن حماد وسألها عن صحتها فطمأنته وكان سلمان في أثناء الحديث يراقب حركات سعدى لعله يلاحظ فيها ما كان يخافه من أخلاقها فآنس منها ما حقق آماله برضائها ولكنه ما زال قلقا لما عساه أن يكون من أمر ثعلبه وطلبه فجعلوا يتجاذبون أطراف الحديث وأكثره بين سلمان وسعدى فعلم سلمان ما كان من عدول جبلة عن ثعلبة ورضائه بحماد فسر سرورا لا مزيد عليه حتى رقص قلبه من الفرح وود لو أن له أجنحة ليطير بها إلى حماد يبشره بذلك.
ثم قال لسعدى: «وما هو موعدنا من مخاطبة سيدي الملك بهذا الشأن.»
قالت: «نحن على موعد من مجيئه إلينا بعد أيام فإذا كان يوم مجيئه يتقدم حماد في طلب هند فينال مبتغاه.» وكانت هند في أثناء ذلك مطرقة حياء لا تتكلم وقلبها يرقص طربا. فقال سلمان: «ومن ينبئنا بذلك اليوم ونحن بعيدون عن هذا القصر.»
قالت: «نبعث معك من يعرف مقركم فإذا كان اليوم المعهود أرسلناه في طلبكم.»
قال: «حسنا» وهم بالخروج فوقفتا له فودعهما وخرج وهو لا يصدق انه سمع ما سمعه ولكنه لم يعلم بما سيقوم في سبيل سيده من العقبات ورافقه خادم انتدبوه لهذه المهمة على أن يكتمها.
ولا تسل عن فرح حماد بلقاء سلمان وما كان من سروره لما سمعه حتى تمثلت له السعادة عبدا رقا ونسي والده وضياعه لا عن عقوق ولكن الحب تغلب عليه فوعد نفسه بالبحث عن والده بعد أن يصير صهرا لملك غسان فيكون اقدر على ذلك لما يرجوه من مساعدة عمه.
فلنتركه في فرحه ولنرجع إلى جبلة وما كان من أمره بعد رجوعه إلى صرح الغدير فانه ما لبث أن توارى عن الصرح حتى انجلى له خطأه وما كان من تهوره في مجاراة امرأته بشأن حماد ولم يعلم كيف يجيب الحارث عن طلبه وقد عظم عليه أن يرده خائبا بعد أن وعده لما في ذلك من ضعف الرأي فقضى معظم الطريق في مثل هذه الهواجس فلاح له أخيرا أن يكتم حقيقة الأمر ويجعل جوابه تأجيل الخطبة إلى ما بعد انقضاء الحرب على نية أن يبعث حمادا في مهمة لا يعود منها وإذا عاد إنما يعود خائبا فلا يستطيع طلبا ولا ينال وطرا.
الفصل الرابع والثلاثون
ثعلبة
أما ثعلبة فدبر ما دبره وهو على ثقة من رضاء هند به ولو قسرا ثم علم بضياع عبد الله وترجح لديه مقتل حماد مما نقله إليه جواسيسه الذين أنفذهم في اثر عبد الله عند خروجه من بيت المقدس وذلك ما كان يتمناه فهمدت غيرته على هند لأنه إنما طلب الاقتران بها ليمنعها من حماد فلما علم بمقتله ود الرجوع عن طلبه لتبقى منغصة العيش فتخسر الاثنين معا فاخذ يترقب فرصه يؤجل بها الاقتران ثم يسعى في سبيل ينتقم به من هند وكانت تحدثه نفسه أنها إذا قبلت هي به أجابها بالتأجيل والوعود حتى تموت كمدا إلا إذا علم بعد ذلك أن حمادا لم يقتل فيعود إلى طلبها.
ولم يكن والده يعلم بحقيقة مراده فكان يستعجل جبلة في أمر الاقتران ظنا منه أن ذلك يسر ابنه ويجعل عيشه سعيدا فلما سمع بمجيء الحجازيين إلى عمان سار بنفسه إلى جبلة وألح عليه بأمر الاقتران قبل انتشاب الحرب كما تقدم ثم تواردت عليهم الأخبار بإقلاع أولئك العرب من عمان وشخوصهم إلى البلقاء وبلغ ذلك ثعلبة فجاء إلى والده وتداولا في إعداد المعدات وتحصين الحصون في حدود البلقاء فجرهم الحديث إلى هند والاقتران بها فاخبره والده انه استعجل جبلة في استجواب هند بشأن الاقتران وإنه لا يشك بقبولها وأوعز إليه أن يستعد للاقتران على ابسط الطرق بلا احتفال إلى ما بعد انتصارهم فيكون الفرح مزدوجا.
فصمت ثعلبة برهة كمن يفكر في أمر همه ثم قال: «أن حالنا الحاضرة يا أبتاه لا تؤذن لنا بالاحتفال كما قدمت فلا أرى أن نستعجل بالاقتران ولا بأس من تأجيله حتى تنقضي الحرب.» فعجب والده لجوابه بعد ما آنسه من الحاجة قبلا ولكنه حمل ذلك منه على رغبته في الحرب فاستحسنه وقال له: «أراك تفضل الاشتغال بدفع الأعداء على نيل ما طالما كنت تتمناه وهي شهامة غسانية نذكرها لك.»
وكان الحارث يفضل التأجيل أيضا ولكنه كان يلح على جبلة رغبة في إرضاء ابنه على انه خاف أن يكون في ذلك ما يسئ جبلة أو يكدر العلائق بينهما فقال: «وماذا نجيب عمك لو أجابنا بالقبول.»
قال: «نجيبه إننا في حال حرب لا تؤذن بالاقتران.»
قال: «ولكننا كنا في مثل هذه الحال يوم جئته وألححت عليه بطلب الفتاة وقد اعتذر إلي بحال الحرب فأجبته إننا نود الفراغ من الاقتران قبل انتشابها فكيف نعود إليه بهذا العذر ألا تظن في ذلك ما يحمله على إساءة الظن.»
قال: «لا يهمنا ساءه هذا الأمر أو سره فإننا نريد التأجيل.»
فعجب الحارث لطيش ابنه وتغافله عن حقيقة العلائق بينه وبين عمه فقال له: «ألا تعلم يا ولدي أن مثل هذه الظنون تسوق إلى حرب بيننا وبينه فإذا كنت غافلا عن ذلك فما أنا بغافل وعلى كل فان المسأله دقيقة تحتاج إلى دقة نظر وحسن أسلوب.»
فلبث ثعلبة برهة يفكر وقد انتبه لحرج المقام وكانت الغيرة والانتقام قد غشيا بصره فقال لوالده: «ولكن حال اليوم غير ما كانت عليه يوم استعجلت جبلة في الاقتران فقد كان الأعداء إذ ذاك في عمان وهم قد اقلعوا الآن من هناك وتحركوا نحو البلقاء فاجعل ذلك سببا للتأجيل.»
فرأى الحارث في كلام ثعلبة بعض العذر فعول على الالتجاء إليه في مخاطبة جبلة.
وفيما هما في ذلك جاءهما رسول من جبلة يستقدم الحارث للمداولة بشأن الحرب.
فقال الحارث: «ها إني ذاهب إلى البلقاء لنرى ما تم من رأى جبلة بشأن الحرب وإذا خاطبني في أمر هند عمدنا إلى التأجيل كما قدمنا فاشتغل أنت بتدبير الجند واكتب إلى الأمراء أن يجمع كل منهم رجاله تحت رايته ويتهيأوا للحرب عند الحاجة وإذا رأيت فيهم تقاعدا استحثهم واستنهض هممهم وادفع إليهم ما يحتاجون إليه من المال واستشر في ذلك البطريق رومانوس فانه قد أوعز لي أن اجمع عشائر غسان التابعين للوائنا ولا بد من انه قد كتب إلى جبلة بمثل ذلك أيضا فكن على استعداد وان تكن حالنا مع أولئك الحجازيين لا تستدعي كبير اهتمام.»
فقال ثعلبة: «أني عامل على ما تريد ولكنني أرجو أن تتمم ما تكلمنا فيه من تأجيل الاقتران.» فوعده بذلك وركب وركبت حوله رجال حاشيته وسار قاصدا البلقاء.
الفصل الخامس والثلاثون
جبلة والحارث
تركنا جبلة في حيرة من أمر الاقتران وتأجيله وهو في طريقه من صرح الغدير إلى البلقاء فلما وصل البلقاء سمع بتحرك الحجازيين من عمان فقال في نفسه (هذا عذر يساعدني على ما أريد فان زحف الأعداء إلينا عذر كاف للاشتغال به عن كل شاغل) فكتب إلى الحارث يستقدمه إليه لأن البلقاء اقرب إلى عمان من بصرى وألح عليه في المجيء وذكر في كتابه انه يريد المداولة معه بشأن الحرب توصلا بذلك إلى تأجيل الاقتران فسار الحارث إليه كما تقدم.
فلما التقيا سلما وأسرعا إلى خلوة تداولا فيها سرا.
فقال جبلة: «قد دعوتك يا ابن العم للبحث في الوسائل التي يجب اتخاذها لدفع هؤلاء القادمين فقد علمت أنهم تحركوا من عمان شمالا فهم بلا ريب يقصدون هذه الديار ولا يلبثون أن يأتونا وقد بعثت العيون يراقبون حركاتهم لينبئونا بمعسكرهم فاعدد رجالك وها أني قد أعددت رجالي.»
فقال الحارث: «قد شاهدت العشائر في الطريق يستعدون للمسير إليكم وأوصيت ولدنا ثعلبة أن يكتب إلى العشائر الأخرى لتجتمع بجوار بصرى فإذا اجتمعوا وعلمنا معسكر الأعداء حملنا عليهم معا ولا أظننا نلقى مشقة في دفعهم لقلتهم وفقرهم فقد علمت أنهم حفاة الأقدام لا يلبسون إلا شملات يلتحفون بها كما يفعل سائر أهل الحجاز لا يكاد يتميز أميرهم من صعلوكهم ويلوح لي أننا إذا رأينا منهم ما أتعبنا أرضيناهم بمال ندفعه إليهم ولا نظنهم جاؤنا إلا طمعا بذلك لعلمهم بخيرات الشام وغنى دولة الروم.»
قال ذلك ليوهم جبلة أن مجيئهم ليس مبنيا على سوء معاملته لحامل كتابهم إليه.
فقال جبلة: «لا نرى أن نعرض عليهم ذلك إلا بعد أن نرى منهم مقاومة ولكنني لا أظنهم يقفون أمام جندنا يوما واحدا.»
ثم تذكر جبلة أمر ثعلبة وهند فقال: «قد ذكرت أن ولدنا ثعلبة يهتم بمكاتبة العشائر فهل هو في بصرى الآن.»
قال: «نعم هو هناك وقد أسفت لهذه الحال التي ستحول بيننا وبين الاحتفال بزواجه ببنتنا هند.»
فقال جبله (وقد سر بهذا العذر): «بالحقيقة انه موجب للأسف على أني لا أرى مانعا من تأجيل الاقتران إلى ما بعد الحرب فان فرحنا إذ ذاك يكون مزدوجا والاثنان ولدانا والأمر معقود لهما منذ ولدا.»
فابتسم الحارث فرحا لما ناله من تأجيل الاقتران عفوا فقال لجبلة: «بورك فيك فقد كنت أميل إلى ذلك واستحسنه وأخشى إذا ذكرته لك أن تظن سوءا فنشكر الله على توارد رأيينا ولا بد من أن يكون ذلك هو الصواب.»
فقال جبلة: «نعم انه الرأي الصواب وسأسير إلى صرح الغدير فأرى سعدى وأنبئها بما تم عليه الأمر لئلا تكون مشتغلة في الاستعداد بعد أن خاطبتها في التعجيل على أثر تعجيلك فلا بد من إبلاغها خبر التأجيل ولا أحب أن يكون ذلك على يد احد سواي.» (وهو إنما يريد المسير بنفسه للمداولة بشأن المهمة التي يريد إرسال حماد فيها)
فقال الحارث: «افعل ما بدا لك وفقنا الله بما فيه الخير.» ثم خرجا وسأل جبلة عمن سار لتفقد حركات الأعداء فقالوا: «إنه جاء» فاستقدمه وعاد به والحارث معهما إلى مكان منفرد وكان الرسول ممن خالط الحجازيين وأحسن تقليدهم فاختاره جبلة ليختلط بهم ويستطلع حالهم فأنبأهما بأنهم قاموا من عمان وساروا يريدون مؤته عند الكرك وأنهم سيصلونها قريبا.
فقال الحارث: «أتظنهم يصلون الينا.»
قال جبلة: «ربما فعلوا ذلك.» ثم تحول نحو الرسول فقال له: «وهل عرفت عددهم وقواتهم» قال: «أظنهم لا يتجاوزون ثلاثة آلاف مقاتل وليس معهم من العدة والسلاح إلا شيء قليل لا يقاس بعدة رجالنا وأسلحتهم.»
فضحك الحارث مستهزئا وقال: «أثلاثة آلاف فارس جاؤوا من اقاصي الحجاز ليحاربوا الروم وجنودنا تتجاوز مئة الف ومعها الخيول والسلاح.»
فقال الرسول: «وقد علمت أنهم أدركوا ضعفهم وقلتهم وربما وقفوا هنيهة ريثما يستقدمون مددا لهم من الحجاز.»
فقال الحارث: «أعلمت أنهم بعثوا يستقدمون المدد.»
قال الرسول: «كلا ولكنهم تداولوا في ذلك والأرجح أنهم لا يفعلون فقد سمعت مداولتهم وأنا جالس بين جماعة منهم كأنى احدهم فقال قائل من بينهم: «كيف نهاجم بلادا لا يقل جندها عن مائة مقاتل وقد يبلغ المئتين فلنطلب المدد.» فقام رجل من كبارهم اسمه عبد الله بن رواحة فقال لهم: «يا قوم والله أن الذي تكرهون للذى خرجتم تطلبون الشهادة ونحن ما نقاتل الناس بعدة ولا قوة ولا كثرة ما نقاتلهم إلا بهذا الذي أكرمنا الله تعالى به فإنما هي احدى الحسنيين أما ظهور وأما شهادة.» فسمعت الناس يضجون قائلين: «صدق والله بن رواحة.» فلا أظنهم بعد ذلك يستمدون أهل الحجاز.»
فقال جبلة: «وهل سمعت شيئا من اهل القرى التي مروا بها فلا بد من أنهم تعرضوا لهم وقطعوا أشجارهم وآذوهم.»
قال: «لم أسمع منهم تشكيا ولقد عجبت لحال هؤلاء الحجازيين فأنهم على فقرهم وما يظهر من ضنك أحوالهم لم يوذوا احدا من أهل القرى إلا الذين اعترضوهم ولقد بت في دير بين عمان ومؤتة وسمعت حديث الرهبان بشأنهم فرأيتهم يثنون على حسن تصرفهم فقد مروا بهم ولم يكلفوهم أمرا غير ما احتاجوا إليه من ماء أو علف.»
فقال الحارث: «الظاهر أنهم يلتمسون ثقة الاهالى حتى لا يكونوا عونا عليهم أثناء الحرب.»
فقال الرسول: «لا أظن ذلك غرضهم ولكنني سمعت من رجل جالسته بالأمس فاتخذني صديقا وقص علي قصصا كثيرة هو معجب بها عن النبي الذي قاموا بنصرته وما قاله لي انه لما خرج لوداعهم في ثنية الوداع خارج يثرب وسلم الالوية إليهم أوصاهم قائلا: «أوصيكم بتقوى الله وبمن معكم من المسلمين خيرا اغزوا باسم الله فقاتلوا عدو الله وعدوكم بالشام وستجدون فيها رجالا في الصوامع فلا تتعرضوا لهم ولا تقتلوا إمرأة ولا صغيرا ولا بصيرا فانيا ولا تقطعوا شجرا ولا تهدموا بناء.».»
فأعجب الحارث وجبلة بهذه الأقوال ثم قال الاول: «أما وقد اقترب هؤلاء من البلقاء فلنبعث إلى دمشق نستعجل الجند الرومي وليكن لقاؤنا إياهم دفعة واحدة نصدهم ونعيدهم من حيث أتوا.» فوافقه جبلة على ذلك ولكنه ما فتئ يفكر في هند وحماد وما صدق أن عاد الحارث من عنده حتى ركب قاصدا صرح الغدير لا يصحبه إلا فارسان فوصل القصر على غير انتظار فلما علمت سعدى بقدومه انشغل بالها ولكنها ما لبثت أن علمت بسبب مجيئه فخلا بها وأطلعها على ما تم بينه وبين الحارث ثم قال: «وهل أنت على ما علمت من أمر ذلك الشاب أم تمكنت من تحويل هند عن عزمها فرجعت إلى صوابها.»
قالت: «قلت لك قبل الآن أن من يحاول تحويل هند عن حماد فانه يلتمس أمرا مستحيلا.»
فتنهد آسفا لما فرط منه تلك الليلة من القبول بمشورة سعدى بشأن هند وحماد ثم قال: «فالي بالحيلة التي وعدت بتدبيرها للتخلص من هذه الورطة.»
الفصل السادس والثلاثون
قرطا مارية
قالت: «أرى أن نطلب إليه شيئا صعب المنال يقدمه مهرا لهند فإذا لم يستطعه كان الجاني على نفسه وكنا براء من لوم هند وقد كلمتها بهذا الشأن فرأيت فيها ميلا إلى ذلك فهي تحب أن تعلوا منزلة حماد في عيون أهلها فإذا اقترحنا عليه عملا يعمله في سبيل الحصول عليها فانها تزداد افتخارا به كلما زاد ذلك العمل عظما وخطرا.»
فقال: «وهل خاطبتها في ما هية ذلك الاقتراح.»
قالت: «كلا.»
فقال: «وهل عينت الاقتراح في ذهنك أم أنت تنتظرين البحث في شأنه الآن.»
قالت: «أظنني عينته وسأعرضه عليك لعلك تستحسنه والا فإننا ننظر في سواه.»
قال: «وما هو قولي.»
قالت: «لا يخفى عليك أن جدتنا مارية بنت ظالم أخت هند الهنود إمرأة حجر آكل المرار الكندي هي جدة ملوك غسان كافة.»
قال: «نعم واعلم أنها صاحبة القرطين اللذين يضرب المثل بهما.»
قالت: «لقد نطقت بالصواب نعم اياها أعني فلا يخفى عليك أن قرطيها اللذين ذكرتهما لم يلبس ملوك الارض مثلهما لان فيهما درتين كبيضي حمام لم ير الناس مثلهما ولم يدروا ما قيمتهما.»
قال: «نعم إنهما ثمينتان.»
قالت: «أتدرى أين قرطاها الآن.»
فبهت جبلة مدة ثم قال: «نقل لي والدي عن جدي عمن قبله أن جدتنا مارية أهدت قرطيها إلى الكعبة في مكة على سبيل النذر ويظهر أنها كانت وثنية ولولا ذلك لم تهد مثل هذه التحف إلى الكعبة.»
فقالت: «مهما يكن من أمرها فان قرطيها لا يزالان في الكعبة.»
قال: «نعم.»
قالت: «فأرى أن نقترح على حماد الإتيان بهما مهرا لهند تلبسهما في زفافها فما قولك.»
فأعجب جبلة بذكاء سعدى وحسن اختيارها ودقة نظرها وتبسم وقد أبرقت أسرته كأنه رأى باب الفرج قد فتح فقال: «بورك فيك ونعم الرأي رأيك انه اقتراح لا يتأتى لبشر أن يأتي بمثله لانه بعيد المنال وإذا فرضنا أن حمادا استطاعه فانه يكون اهلا لهند فلا نمنعه منها فهل تظنين هندا توافقنا في ذلك.»
قالت: «لا أظنها إلا موافقة إلا فيكون لنا عذر في رد حماد.»
قال: «ها قد تقرر الأمر فخاطبي هندا بشأنه فإذا قبلت استدعي الشاب ونوبي عني في إبلاغه ذلك فإني في شاغل عن هذه الشؤون بما نحن فيه من أمر الحرب المنتظرة.»
قالت: «حسنا وخرجت.»
وكانت هند في أثناء ذلك تمشي في الحديقة وقد علمت بمجيء والدها وتيقنت انه انما جاء لهذا الشأن وخصوصا بعد أن رأته اختلى بوالدتها فلبثت تخطر في الحديقة وقلبها يخطر في صدرها وأفكارها تجول في ماذا عسى أن يقر عليه القرار فلما رأت والدتها خارجة أسرعت نحوها وهمت بالاستفهام فأومأت إليها أن تصبر ريثما يعود والدها فإنه سيسرع إلى البلقاء حالا.
وسارت سعدى إلى الخدم فأمرتهم بإعداد الطعام ثم خرج جبلة إلى الحديقة متظاهرا بالبحث عن هند فلما لاقاها قبلها وسلم عليها وهو يهش لها وعلامات الانبساط بادية على وجهه فتوسمت بذلك خيرا فمشت معه وهو يسألها عن صحتها وحالها ويحادثها بشؤون مختلفة إلا الاقتران فانه لم يذكره قط. أما هي فقد منعها الحياء عن ذكره.
فبعد أن تناول جبلة الطعام ودع امرأته وابنته وعاد إلى البلقاء ولم يكد يخرج من الحديقة حتى أسرعت هند إلى والدتها تستطلعها الخبر.
فأجابتها وهي تبتسم قائلة: «أبشرك ببقاء والدك على عزمه فقد رد الحارث وابنه وقبل بحماد كما قلت لك ولكنه يرى وأرى أنا أيضا أن نقترح عليه عملا يسد ما يتقوله الناس من غموض أصله وفصله. فانه كما لا يخفى عليك بطل باسل لا يرى الواشي سبيلا إلى الطعن فيه إلا من جهة نسبه فإذا عمل عملا تفرد هو فيه كان ذلك داعيا إلى رفع منزلته وسكوت الناس عن الطعن في أصله.»
وكانت هند قد سمعت مثل ذلك من والدتها قبلا فقالت: «إن ذلك يا أماه مما يوجب لي الفخر أيضا وأعلم أن حمادا لا يتوقف في سبيل هند عن عمل يستطيعه الناس فهل قر رأيكما على أقتراح تقترحا به عليه.»
قالت: «لقد رأيت أن يكون في إقتراحنا ما يزين به رأسك فضلا عن شرفك.»
قالت: «وما هو.»
قالت: «رأينا أن نطلب إليه الإتيان بقرطي مارية من الكعبة.» وأحكت لها حكايتها.
فبهتت هند برهة وقد هالها ذلك الاقتراح ولكن انفتها منعتها من اكباره فقالت: «لا أظن حمادا إلا فاعلا ذلك بإذن الله.»
قالت: «هلم بنا نستقدمه ونعرض عليه الأمر.»
فلما سمعت باستقدامه رقص قلبها فرحا بلقياه وقالت: «استقدميه والإتكال على الله.» قالت ذلك وقد شغلها الفرح بقرب مشاهدته عن تقدير تلك المهمة حق قدرها.
فنادت الخادم الذي رافق سلمان إلى مقر حماد واوعزت إليه أن يستقدمه إلى الصرح.
الفصل السابع والثلاثون
حماد وآماله
تركنا حمادا وسلمان يفكران في عبد الله وهما بين الرجاء والقنوط من أمره فقضى سلمان أياما يتردد إلى البلقاء وبصرى للبحث عنه فلم يقف له على خبر حتى ترجح لديه أخيرا انه سافر إلى الحجاز.
وأما حماد فكان بين شاغلين عظيمين هند من جهة ووالده من جهة أخرى وكلما رأى قادما ظنه رسولا من هند جاء يستقدمه إليها أو شيئا ينبئه بخبر والده.
حتى كان اليوم الذي تقرر فيه استقدامه واتفق انه أفاق في صباح ذلك اليوم منشرح الصدر واسع الآمال وكان قلما يصبح إلا منقبضا كئيبا لما يتوالى على ذهنه من المخاوف تارة على والده وطورا على حبيبته حتى اثر ذلك في صحته فرق جسمه قليلا على انه كثيرا ما كان يخرج للصيد أو نحوه لترويح النفس ولولا ذلك ما نجا من غائلة المرض.
فلما أصبح في ذلك اليوم على ما تقدم عجب واستبشر ولبث يتوقع خبرا مفرحا وكان سلمان قد خرج من الخيمة لبعض المهام وهو على غير ما كان عليه سيده من الانشراح والاستبشار ولكنه ما لبث أن رأى فارسا قادما مسرعا فعلم من جهة مسيره انه يقصد مضربهم فتفرسه عن بعد فعلم انه من رجال صرح الغدير فتوسم بقدومه خيرا فخف لملاقاته فلما دنا منه عرفه ورآه يبتسم فعلم انه إنما جاء لبشرى خير وقبل أن يصل الفارس إلى سلمان ترجل ومشى وزمام الفرس بيده ومشى سلمان حتى التقيا فتصافحا وتعانقا فاستطلعه سلمان الخبر فقال: «جئت استقدم الأمير حمادا إلى سيدتي الأميرة سعدى في صرح الغدير لأنها تريد مخاطبتة في شأن.»
فقال سلمان: «وهل تدرى ما هو ذلك الشأن.» فضحك الخادم وقال: «لا أدري ولا بد من أن تكون اعلم مني به وأما أهل القصر عندنا فقد لاحظوا من بعض ما سمعوه سرا وأدركوه ضمنا أن مولاتنا هند ستخطب وكلنا ننتظر ذلك اليوم فانه سيكون يوما سعيدا لم ير غسان اسعد منه لان مولانا جبلة كريم النفس سيخلع علينا خلعا فاخرة وينثر علينا الذهب نثرا.»
فتبسم سلمان وقال: «وهل علمتم من هو خطيبها.»
قال: «نعم هو ابن عمها ثعلبة إذ ليس من أبناء عمها من هو أقرب منه إليها وقد طلبها ولكنني علمت من بعض الخدم أنها لا تحبه ولا تقبل به.»
قال سلمان: «وهل يمكنها رفضه.»
قال: «لا أدري والظاهر أنها رفضته.» وكان الخادم قد سمع بأمر حماد ورغبة هند فيه ولكنه تجاهل لئلا يقال انه باح بالسر وود أن يكون سلمان البادئ بالخبر.
وأما سلمان فلم يعد يستطيع صبرا على كتمان هذه الأخبار عن سيده ولكنه أراد معرفه ما دعا إلى استقدام حماد فقال: «وهل سمعت أمرا حدث قريبا في القصر.»
قال: «لم اسمع شيئا ولكنني رأيت سيدي الأمير جبلة جاء بالأمس فمكث عندنا بضع ساعات قضاها في المسارة هو والأميرة ثم عاد إلى البلقاء وفي حال خروجه استقدمتني سيدتي وأنفذتني إليكم.»
فأدرك سلمان ان مجئ جبلة لم يكن إلا لأمر الخطبة وترجح عنده انه رضي بحماد ولولا ذلك لم يكن ثمت داع لاستقدام حماد على اثر رجوعه حالا فدخل على سيده وكان متكئا على اثر عودته من صيد قريب وقلبه يطفح سرورا ودلائل الانبساط ظاهرة على وجهه لسبب لا يعرفه احد فدخل عليه سلمان وحياه وهو يبتسم.
فقال له: «ما وراؤك يا سلمان أني أراك مبشرا.»
قال: «عساها أن تكون بشرى خير يا سيدي.»
قال: «وما ذلك.»
قال: «أن أهل صرح الغدير بعثوا يستقدمونك إليهم فهل تذهب أم أنت في شاغل الآن.» قال ذلك وهو يضحك.
فجلس حماد وهو يظنه مازحا وقال: «لا أبالى دعاني أهل الصرح أم لا فإني أراني سعيدا منذ فتحت عيني في هذا الصباح.»
قال: «وما يضرك أن تتم سعادتك فان انشراح صدرك أن هو إلا فاتحة السعادة وهذا خادم القصر قد جاءنا فهل ادخله عليك لينبئك بمهمته.»
فقال: «ليدخل.»
فدخل الفارس وهو لا يزال بلباس السفر فحيا الأمير وأنبأه بمهمته فقال حماد: «هل فارقتهم جميعا في خير.»
قال: «فارقتهم يدعون لسيدي الأمير بالصحة والعافية ويرجون لقاءه قريبا ليتم سرورهم برؤيته.» فاستبشر حماد بما وراء ذلك.
وقال: «أهدهم سلامي وقل إننا سنصبحهم غدا إن شاء الله.»
فقبل الخادم يده وخرج فخرج سلمان لوداعه ودفع إليه عشرة دنانير وقال: «هذا ثمن عليق الفرس وسترى منا ما يشرح صدرك.» فسر الخادم بالهدية وبالوعد وود أن تتم خطبة هند لحماد لما ظهر من سخائه ورقة جانبه خلافا لثعلبة فانه لم يكن احد من أهل الصرح يحبه لعجرفته وبخله.
فلما سار الخادم عاد سلمان إلى حماد فرآه مطرقا يفكر.
فقال: «ما بال سيدي يفكر ألعله بغت لتلك الدعوة على غير انتظار.»
قال: «كلا يا سلمان فقد كنت أتوقع خبرا مفرحا منذ الصباح ولكنني أفكر في والدي ومكانه فانه طالما تمنى أن يزوجني ويفرح بي وقد كان يجب أن يسير هو معنا في هذه المهمة. ولكن من ينبئنا بمكانه.»
فقال سلمان: «دع عنك الهواجس يا مولاي فقد تقرر في ذهني أن سيدي سار إلى الحجاز ومتى فرغنا من مهمتنا هذه اذهب إليه بنفسي ولا أزال ابحث عنه حتى آتي به بإذن الله فلنستعد الآن للذهاب إلى صرح الغدير.»
قال: «أرى أن نبرح هذا المكان قبل الفجر حتى نصبح في الصرح كما قلنا للخادم.»
قال: «حسنا» وأخذا في الاستعداد وحماد كلما تصور ملاقاته هندا خفق قلبه وهاله الموقف وتذكر اجتماعه بها في دير بحيراء. ولكن سروره لم يكن تاما مخافة أن لا تكون دعوته على ما يؤمله من الفوز بما يتمناه ولكن الأمل غلب عليه فتصور انه انما دعي لإتمام عقد الخطبة فقضى بقية ذلك اليوم في مثل هذه الأفكار.
الفصل الثامن والثلاثون
ساعة اللقاء
أما هند فلما عاد الرسول وأنبأها بمجيء حماد في صباح الغد خفق قلبها ولبثت تعد الساعات والدقائق فقضت ذلك اليوم ولم تنم من شدة الفرح فلما أصبحت سارت إلى والدتها وسألتها عن المكان الذي سيجتمعون فيه فقالت: «قد أمرت الخدم أن يعدوا غرفة الضيافة ولا يدخلوا إليها أحدا في هذا اليوم وان يذبحوا الذبائح ويمدوا الأسمطة.» فلبست هند ثوبا سماويا جميلا خاطته لها إحدى خياطات دمشق وكانت قد خبأته لمثل ذلك اليوم ومشطت شعرها وضفرته وجعلت تتشاغل ببعض المهام إخفاء لما ثار في قلبها من الفواعل المتضاربة بين الفرح بلقيا حبيبها وهول موقفها ساعة اللقاء وخوفها عليه مما أعدوه له من أمر الكعبة.
وكانت سعدى قد أنفذت جماعة من أهل القصر لاستقبال القادمين قبل وصولهم فلما كان الضحى ودنا الوقت جعلت هند تطل من النوافذ تنظر إلى ساحة الميدان التي جرى فيها السباق منذ بضعة أشهر ووراءها الآكام والغياص وكلما رأت غبارا أو آنست أشباحا ظنت حمادا قادما فيخفق قلبها وتتورد وجنتاها حتى كانت الظهيرة فإذا بالغبار يتصاعد من بعض جوانب الأفق ثم بان من تحته فرسان يسرعون وفى مقدمتهم فارس عرفت انه من أهل القصر وانه تقدم الجماعة ليبشر بقدومهم فازداد خفقان قلبها ثم شاهدت الفرسان يقتربون ويتقدمهم حبيبها حماد ملثما بالكوفية فانكرته في بادئ الرأي لركوبه فرسا غير فرسه. ثم غلب عليها الضعف النسائى فاصطكت ركبتاها واستعظمت ساعة اللقاء فتحولت عن النافذة ولكنها ما انفكت تنظر إليه خلسة حتى دنا من القصر وكانت والدتها واقفة إلى جانبها وقد لحظت ما هي فيه من الهيام فقالت لها: «امكثي هنا ريثما استقدمك إلى دار الضيافة.»
وخرجت إلى الحديقة وقد ترجل الفرسان وتركوا خيولهم في عهدة الخدم ودخلوا الحديقة وفي جملتهم حماد ملثما بعباءته وقد حول أذيال كوفيته عن وجهه وأرسلها إلى كتفيه فبانت ملامح محياه وتقدم وسلمان إلى جانبه حتى دنوا من سعدى فتقدم سلمان إليها واخبره أنها هي الأميرة سعدى امرأة الملك جبلة فعلم أنها والدة هند فسلم عليها وهو يتوقع أن يرى هندا فلم يرها فعلم أن الحياء منعها من القدوم للقائه وإنها لا تلبث أن تأتي.
فاستقبلتهما سعدى وسارت بهما إلى غرفة الضيافة فجلسوا والخدم وقوف بين أيديهم فقالت سعدى: «هل يأذن الأمير بماء ليغتسل ويبدل ثياب السفر قبل تناول الطعام.» فأجاب وغسل يديه ووجهه وجاءه سلمان برداء حريري وكوفية فلبسهما وجلس وعيناه شائعتان نحو الباب وكلما سمع وقع أقدام أو رأى شبحا ظنه هندا قادمة.
أما سلمان فانه ترك سعدى وحمادا في الغرفة وخرج يبحث عن هند وكان قد عرف غرفتها في مجيئه إليهم قبلا كما علمت فإذا هي واقفة هناك تتلاهى بالأساور تديرها حول معصمها وأفكارها تائهة وقد علت وجهها أمارات البغتة فلما رآها تظاهر بالسعال ليستلفت انتباهها وقد كانت لعظم تأثرها لا تمر نسمة إلا سمعت لها صوتا فكيف بسعال سلمان فانه ذعرها فإلتفتت إليه فرأته يبتسم فابتسمت ولكنها شعرت بقشعريرة خفيفة ثم مشت وهي تحاول إخفاء ما بها فتقدم نحوها وهو يحاذر أن يدخل الغرفة لئلا يكون دخوله مخالفا لمقتضيات العادة فمشت هي نحوه وسلمت عليه.
فقال: «هل رضيت مولاتي عن راهب الدير جامع البذور.»
فتبسمت ولم تجب.
فقال: «ها قد جئتك باللص الذي سرق الدرع فهل تريدين مقاصته ولكنني أرجو أن لا تحكمى عليه بالسجن.»
فتذكرت زيارته إياها بثياب الرهبان فضحكت ولكنها ما زالت تنظر إلى معصمها وتتلاهى بأساورها.
فدنا منها وقال: «ما بالك لا تتكلمين يا مولاتي ألعلي أذنبت لأني تركت صاحب الدرع (أو لصه كما تزعمين) وجئت وحدي. فهل استدعيه إليك.»
فلم تجب ولكنه كان يقرأ آيات السرور على وجهها.
فقال: «أراك تتظاهرين بان مجيئه لا يهمك ولكني اقرأ على وجهك عبارة يكاد ينطق بها لسانك فقد فهمت مرادك بدون أن تتكلمي فها أني ذاهب لأدعو الرجل إليك .» فرفعت نظرها إليه كأنها تلومه على هذه المداعبة أما هو فتحول عنها ضاحكا حتى دخل غرفة الضيافة فرأى سعدى وحمادا جالسين وليس في الغرفة سواهما فدنا من سعدى وقال وهو يتظاهر بالمزاح: «ما بالى أرى هذه الغرفة قليلة النور كأنها بعيدة عن موقع أشعه الشمس.»
فقالت سعدى: «ألا ترى الأشعة داخلة من هذه النافذة.»
قال وهو يضحك: «لا أرى نورا قط ويظهر لي أن شمسكم تشرق من الجنوب.» (وأشار إلى غرفة هند) فأدركت سعدى مراده فتبسمت واطرق حماد خجلا ولكنه ود أن يلح سلمان باستقدام هند.
فقال سلمان: «أراكم تضحكون من كلامي وأراني اعلم منكم بمشرق شمس قصركم. ألا أذنت مولاتي بقدوم شمس هذا القصر بل شمس بني غسان إلينا ... فإني أرى الأسمطة قد مدت وكأني بكم تتهيأون للغداء ولكن الطعام حرام علينا قبل مجيء سيدتي هند فإنها محور انسنا ولا أظنك تنكرين علينا ذلك.»
فقالت سعدى: «أراك لجوجا يا سلمان ولا مأرب لك في الأمر.»
فضحك سلمان وقال: «لا مأرب لي صدقت لا مأرب لي ولكنني أعبر عن عواطف أناس آخرين.» وأشار بطرف عينيه إلى حماد فتبسم حماد وقد توردت وجنتاه ونظر إلى سلمان نظرة التوبيخ.
فإلتفت إليه سلمان وقال: «يظهر أنك لا تريد مقابلة فتاة غسان فإذا كان هذا هو مرادك (أستغفر الله) مما كان أغنانا عن تكبد هذه المشاق وهجرنا الحيرة والعراق.»
فنظرت سعدى إلى سلمان والرزانة والتعقل يتدفقان من وجهها وقالت: «لم ندع ولدنا حمادا إلا ليرى هندا وتراه فإنها ولدانا ولا نجهل أنهما يسران بالمقابلة فلا تكن عجولا أن هندا لا تلبث أن تأتى وتتناول الغداء معنا.»
ثم وقفت وقالت: «وها أني ذاهبة لاستقدامها.» وخرجت.
فلما خرجت إلتفت حماد إلى سلمان واراد معاتبته لما أبداه من الجرأة في خطاب الأميرة سعدى.
فقال: «ولولا ذلك لطال زمن الوحدة ألعلنا جئنا لنأكل ونشرب.»
ثم عاد حماد إلى الأفكار في هند وقرب مجيئها وما سيكون من أمرها ساعة اللقاء فما لبث أن سمع وقع أقدام علم من ازدواجها أن سعدى وهندا قادمتان فتحفز للقيام أما سلمان فوقف بالباب فرآهما قادمتين فتبسم ونظر إلى حماد.
ثم وصلتا إلى باب الغرفة فدخلت سعدى وهند تتبعها مطرقة.
فوقف حماد ومشى لاستقبالها وهو مطرق أيضا ولكنه لم يتجرأ على مصافحتها ولا هي فعلت ولكن قلباهما كانا ولا ريب يختلجان فرحا وكل منهما يتظاهر بالتجلد فتشاغل هو بإصلاح ردائه وإرسال كوفيته إلى كتفه وتلاهت هي بإصلاح قرطها في أذنها ولا تسل عن تورد وجنتيها واصطكاك ركبتيها واختلاج قلبها. وحالما دخلت أشارت إليها والدتها أن تجلس على وسادة بالقرب منها فجلست وجلس الجميع ولبثوا برهة لا يتكلمون وحماد ينظر إلى هند محاذرا فرآها قد تغير حالها عما كانت عليه يوم دير بحيراء فذبل ورد وجنتيها وخف عضلها ولكنه رأى ذلك قد زادها جمالا وهيبة وكانت هي تختلس النظر إليه ولا تكاد تصدق أن والدها رضي لها به ثم يعترضها أمر قرطي ماريا فتوجس خيفة.
ففتحت سعدى الكلام قائلة: «وماذا تم من أمر والدك هل التقيتم به أم عرفتم مقره.»
فقال حماد: «كلا يا مولاتي فقد شغل بالنا تأخره ولم ندع مكانا لم نسأل فيه عنه والفضل في هذا السعي كله لهذا الرفيق (وأشار إلى سلمان) فانه لم يأل جهدا في البحث والاستطلاع فلم نقف على خبر يقين.»
فقال سلمان: «ولكنني أرجح ذهابه إلى الحجاز لما سمعت من حكاية صاحب الخان.» وأخذ يقص عليهم ما سمعه من الخاناتى في بيت المقدس وما كان من أمر أبي سفيان وجواد حماد الخ.
فاستفهمته عن حكاية الأسد فقص عليهم ما لقوه في مسبعة الزرقاء وكانت هند في أثناء الحديث شاخصة حتى سمعت ما لاقياه عند تلك الشجرة من غائلة الأسد وما كانا فيه من الخطر فتلألأت الدموع في عينيها فلما رأى حماد منها ذلك أوشك أن يبكي لفرط ما آنس من رقة عواطفها. ثم أتم سلمان حكايته حتى انتهى إلى آخرها والجميع مصغون لا يفوه أحدهم بكلمة.
فلما فرغ من كلامه قالت سعدى: «يؤخذ من مجمل ما سمعناه أن والدكم سافر إلى الحجاز مع أبي سفيان ولو كان باقيا في البلقاء لجاء للبحث عنكم بعد أن نال العفو الإمبراطوري.» ثم تبسمت وسكتت كأن في نفسها شيئا تكتمه فبقى الجميع صامتين لعلها تقول شيئا وفيما هم في ذلك دخل بعض الخدم وسأل الأميرة سعدى إذا كانت تأذن بمد السماط لأن وقت الغداء قد أزف فقالت: «هاتوا الطعام.» وإلتفتت إلى حماد قائلة: «هلم بنا إلى الغداء وسنتم حديثنا بعده.»
فمدت الأسمطة وحملت الذبائح وجلسوا على المائدة وحماد يفكر في ماذا عسى أن يكون وراء تبسم سعدى.
فلما فرغوا من الطعام عادوا إلى الاستراحة وجلسوا ينتظرون حديث سعدى إلا هندا فإنها لم تكن معهم لأن والدتها أشارت إليها أن تتخلف هنيهة ريثما يتحادثون في شأنها.
فلما استتب بهم الجلوس قالت سعدى: «أظنكم تنتظرون مني كلاما ظهر لكم من تبسمي الآن أني أكتمه.»
فقال حماد: «هو ذلك يا مولاتي فأتحفينا به.»
قالت: «تبسمت لما اتفق من ذهاب والدكم إلى الحجاز وما نحن عازمون أن نعرضه عليكم مما يأول إلى اجتماعكم به هناك.»
فعجب حماد لكلامها ولم يفقه مرادها فقال: «وماذا عسى أن يكون اقتراحكم.»
قالت: «لا يخفى على ولدنا حماد أن ما عرفناه من شهامته وكرم أخلاقه يكفى لاقتناعنا باستحقاقه هندا وأنه جدير بالحصول عليها دون ابن عمها. ولكننا معاشر العرب نحافظ على الأنساب ونحترم القرابة ولا يخلو أن يكون قد بلغكم أن الحارث بن أبي شمر قد طلب هندا لابنه ثعلبة وهو ابن عمها وأولى الناس بها ولكننا أثرنا البقاء على ما أرادته هند ورضينا بحماد لما آنسنا فيه من كرم الأخلاق وعلو الهمة وعدلنا عن ثعلبة على كونه ابن عمها.»
فخجل حماد لهذا الإطناب واختلج قلبه فرحا لما توسمه من رجوع الأمر إليه وتحقق أمانيه فأطرق صامتا.
فقالت سعدى: «ولكن والدها رأى رأيا إذا وافق عليه حماد كان فيه دفع لتقول الناس وعتاب الأقارب وفخر لنا جميعا.»
قال حماد: «مري يا مولاتي أني رهين إشارتك.»
قالت: «رأينا أن تعمل عملا نقترحه عليك لا يعظم على باسل نظيرك فإذا فعلته قطعت ألسنة المعترضين وزدتنا إعجابا وفخرا.»
فثارت الحمية في نفس حماد فقال: «قولي يا سيدتي أني فاعل ما تقولين وهل يثقل علي أمر ترضى به هند.»
قالت: «نقترح عليك أن تلبس هندا يوم زفافها قرطين فيهما لؤلؤتان كل لؤلؤة منهما قدر بيض الحمام.»
فقال: «ألعلك تعنين قرطي مارية.»
قالت: «إياهما أعني وهل تدري مكانهما.»
قال: «سمعت أن ماريا جدتكم أهدتهما إلى الكعبة منذ أجيال فهل هما باقيان هناك حتى الآن.»
قالت: «أظنهما لا يزالان هناك وفي استخراجهما من جوف الكعبة بسالة واقتدار جديران بكم.»
فلما سمع سلمان ذلك اضطرب فؤاده خوفا على سيده لعلمه أن الكعبة أمنع من عقاب الجو قد يستحيل الوصول إليها.
فقال: «هل تأذن سيدتي بكلمة أقولها.»
قالت: «تفضل.»
فقال: «هل تريدين أن تلبس مولاتي هندا قرطي مارية عينهما أم قرطين آخرين مثلهما.»
قالت: «لا نلتمس شيئا يقدر بالمال يا سلمان فإننا من نعم الله في سعة وبسطة عيش ولكننا نريد أن نفاخر أعمامنا بأننا لم نرض لهند إلا رجلا استخرج قرطي مارية من جوف الكعبة وهذا ما أضحكني لما سمعت حكاية الأمير عبد الله وذهابه إلى الحجاز فقلت في نفسي أن الله قد أذن بذهاب حماد ليلتقي بأبيه هناك لأن مقام أبي سفيان في مكة حيث الكعبة أيضا.»
فإلتفت حماد إلى سعدى وملامح البسالة تتجلى في وجهه وقال: «لقد طلبت أمرا يحقر كثيرا في سبيل مرضاة هند ولسوف ترين منا فوق ذلك بإذن الله.» وأما سلمان فانه استعظم الطلب ولكنه لبث صامتا احتراما لمقال سيده.
أما هند فإنها كانت جالسة في غرفتها وهي تعلم بما ستقوله والدتها فلما تصورت الخطر المحدق بهذه المهمة ندمت لمجاراة والديها في ذلك وأدركت أنهما إنما دبرا حيلة للتخلص منه فعظم الأمر عليها حتى بكت.
وفيما هي في ذلك دخلت الخادمة تدعوها إلى والدتها فمسحت دموعها وسارت والكآبة ظاهرة على وجهها فلما دخلت الغرفة ورآها حماد على تلك الحال أثر منظرها في نفسه وهاجت فيه حمية الرجال وقد أدرك أنها انما تبكى جزعا عليه فقال لها: «لا تجزعي يا هند انك ستلبسين قرطي مارية وتفاخرين بهما أهل الخافقين.»
فصمتت هند ولم تجب ولكن كلام حماد أثار فيها ساكن الغرام وهاج عواطفها فازدادت إعجابا بشهامته وحبه على أن خوفها عليه اعترض مجرى عواطفها فهبت الحرارة في جسمها كأنك كشفت الغطاء عن نار متقدة في فؤادها فانبعث لهيبها إلى سائر أطراف البدن وتلألأت الدموع في عينيها فأطرقت وجعلت تتلاهى بتثنية أطراف أكمامها مخافة أن يظهر اضطرابها لحماد.
أما هو فلم يفته حديث قلبها ولا غفل عما تضارب في ذهنها من العوامل ولكنه أراد تشجيعها فإلتفت إلى والدتها وقال: «طالما ساقني المسير إلى الكعبة لمشاهدة ما أسمعه عنها من حج الناس إليها من أقطار العالم وكثيرا ما سمعت حديث والدي عن الأصنام القائمة فيها وما يقدمه لها العرب من الضحايا وقد قرأت في بعض الكتب أنها قديمة البناء جدا وأنها كانت حجا يأمه الناس من أطراف الأرض وقد بنيت في بادئ الرأي لعبادة الله ثم جعلها بعض العرب مجمعا لأوثان حملوها إليها من أنحاء شتى من العالم الوثني وفى جملة ذلك صنم حملوه إليها من هذه البلاد (البلقاء) اسمه هبل وكان قبل أن حملوه إليها من البقاء يسمى (هبعل) وهو لفظ عبراني معناه البعل أي الإله يشبههه في لغة الكلدان جيراننا بالعراق لفظ (بل) وقد حملوا إليها أصناما أخرى من مصر وأشور وغيرهما فاجتمعت فيها مئات منها فأصبح ذلك البيت مجمعا للأصنام.»
فانتبه سلمان وكان تائها في بحار الهواجس خوفا على سيده فلما وصل حماد إلى حكايات أصنام الكعبة قال سلمان: «نعم أن الأصنام كثيرة في الكعبة ولكن كثيرين من عقلاء قريش لا يحترمونها وقد سمعت كثيرا منهم يخاطب سيدي الأمير عبد الله في بعض سفراتنا إلى مكة بشأن تلك الأصنام فأكد له أن جماعة كبيرة من عقلاء مكة وهم من قريش إنما يزورون الكعبة لعبادة الله وإن الاعتقاد بالله قد اتصل إليهم بالتلقين من سيدنا إبراهيم ولكن بعضهم ضل عن سواء السبيل بما زين لهم من عبادة الأوثان.»
فقالت سعدى ووجهت خطابها إلى حماد: «يظهر أن والدكم الأمير قد سافر إلى الحجاز قبل الآن.»
قال: «نعم يا مولاتي انه نزلها مرارا ولذلك ظننا أنه سار إليها هذه المرة أيضا.»
فقالت: «أن ذلك لما يؤكد ذهابه إليها الآن فعسى أن تلتقوا به هناك.»
قال: «أني أرجو ذلك وأتمناه لتتم به سعادتي.» ثم فكر قليلا وقال: «متى تظنين يا مولاتي أننا سنبرح البلقاء.»
قالت: «متى شئتم وخير البر عاجله.»
قال: «أرى أن نودع سيدي الملك جبلة قبل السفر فنلتمس دعاءه بالتوفيق.»
قالت: «ذلك راجع إليك أما هو فقد فوض الينا أن نبلغك رضاءه وما تم عليه الاتفاق فإذا شئت مقابلته فلا شك أنه يسر بلقياك.»
كل ذلك وهند مطرقة وعيناها تكادان تدمعان لو لم يشغلها حديث الكعبة فلما تحول الحديث إلى والدها استحسنت رأى حماد في زيارته على أمل أن يتحول عزم والدها عن اقتراحه. فقالت: « تفعل حسنا بزيارة والدي قبل سفرك.»
فازداد حماد رغبة في ذلك فقال: «غدا نصابح مجلس الملك أن شاء الله فنسلم عليه ونودعه. هل تعرف الطريق إلى البلقاء يا سلمان.»
فقالت سعدى: «سنرسل رجالا يسيرون في ركابكم إليها.»
أما سلمان فما أنفك منقبض النفس من أمر هذه المهمة لعلمه أنها شديدة الخطر جدا ولكنه سلم أمره إلى الله.
وقضوا بقية اليوم في صرح الغدير ولكن هندا لم تهنأ بذلك الاجتماع لخوفها من الفراق العاجل وقرب الخطر الشديد على أنها شغلت بحديث حبيبها ولهت برؤيته عن كل المخاوف فلم يكن يوم أسعد عليها من ذلك اليوم وودت لو أنه يوم يشوع بن نون خوفا من انقضائه ولا تسل عن حماد وسروره وقد سهل عليه المسير إلى الكعبة أمله بلقاء والده هناك.
الفصل التاسع والثلاثون
الوداع
وفي الصباح التالي أصبحت هند كئيبة حزينة وأحست بلهفة وجزع لم تشعر بهما قبلا فكانت كلما نظرت إلى حماد خيل لها أن أحدا يحاول اختطافه من بين ذراعيها فيضطرب قلبها وتسود الدنيا في عينيها فحدثتها نفسها لأول وهلة أن يتواطأ على رفض أمر القرطين ولكن الأنفة وعزة النفس اعترضتاها فصبرت نفسها متعللة بالآمال.
فلما أشرقت الشمس كانت الخيول قد أعدت لركوب حماد وسلمان إلى البلقاء مع بعض الفرسان من أهل القصر فنهض حماد لوداع هند ووالدتها وكانتا تنتظرانه في غرفة الضيافة فدخل وهو في لباس السفر فوقفت له هند وركبتاها ترتجفان فمد يده إليها فمدت يدها فأمسكها فأحس بها باردة كالثلج ونظر إلى وجهها فإذا به قد امتقع لونه فلما خاطبها خطاب الوداع تناثر الدمع من عينيها بغتة وجذبت يدها من بين أنامله بلطف وأطرقت ولم تجب فعلم أنها إنما فعلت ذلك خوفا عليه من هذا السفر الخطر.
فإلتفت إليها مبتسما وقال: «ما بالي أرى هندا خائفة وعهدي بها تنافس أشجع الرجال وتسابق أفرس الفرسان.»
فنظرت إليه بطرف عينيها وتنهدت تنهدا عميقا ولبثت صامتة ولسان حالها يقول: «أن مسابقة الفرسان شيء ومفارقة الأحباب شيء آخر.»
فأدرك حماد مرادها ولكنه خاف إذا طال وقوفه أن يخرجه الغرام عما يليق به في ذلك الموقف فتحول لوداع سعدى ثم عاد إلى هند فودعها وتبسم لها فتبسمت مجاراة له ولكن قلبها لم يفرح فقال لها: «ادعي لنا بسلامة العود فإذا عدنا كما أردنا كان حماد أهل لهند فلا تخشى هي أن تذكره ولا تخجل إذا ذكره سواها وأما إذا لم ....»
فقطعت هند كلامه على عجل وقالت وهي تتلجلج بكلامها: «لا تقل (إذا) فإنك ستعود إلينا سالما بإذن الله.» ثم غلب عليها الضعف فتناثرت الدموع من عينيها وهي تحاول إخفاء عواطفها أمام والدتها.
أما سعدى فرأت من الحكمة أن لا تطيل الوقوف على هذه الصورة فقالت: «سر يا ولدي بحراسة الله وهو ينيلك بغيتك على أهون سبيل فتعود إلينا سالما وقد التقيت بوالدك.»
فأثنى على لطفها وودعها وقبل يدها وخرج إلى الحديقة وكان سلمان في انتظاره هناك وقد هيأ الموكب فلما خرج مولاه وسعدى وهند تتبعانه تقدم إليهما وودعهما وهو على غير ما آنساه منه صباح الأمس من انبساط النفس والمجون ولكنه تظاهر بالامتنان والانبساط وأركب حمادا ثم ركب هو وباقي الموكب وخرجوا قاصدين البقاء وهند وسعدى واقفتان تنظران إليهم أما هند فلم يكد حماد يدير عنان جواده حتى غلب عليها اليأس وشعرت بما دبره والدها فتحولت إلى غرفتها وأخذت في البكاء وجعلت تندب سوء حظها وحظ حماد فتبعتها والدتها وهي تخفف عنها وتصبرها بالوعود.
فقالت: «دعيني يا أماه ها قد نفذ السهم وقضي الأمر أن حمادا قد سار إلى مكان لا نرجو عودة منه وقد كان الأجدر بكم أن ترفضوا طلبه بدلا من ارساله في هذه المهمة.»
قالت ذلك وهي تبكي.
فقالت سعدى: «خلي عنك الأوهام أن حمادا شجاع باسل وخادمه سلمان خبير بكل شيء فلا يعسر عليهما العود بالقرطين وفي ذلك فخر لك ولنا ومنجاة من أثقال ثعلبة وأبيه على الأقل.»
فلما سمعت اسم ثعلبة تذكرت ما قاسته من مساعيه فهان عليها ما يقاسيه حماد في سبيل إنقاذها منه فسكتت والهواجس تتقاذفها.
أما حماد فما زال حتى أتى البلقاء وسلمان صامت لا يفوه بكلمة وكان حماد يبالغ في إظهار ارتياحه إلى تلك السفرة وآماله في عواقبها.
وكانت البشائر قد سبقتهما إلى جبلة تنبئه بمجيء حماد والناس يحسبونه أميرا جاء لغرض يتعلق بالحرب لأن الروم كانوا قد خابروا كل القبائل المجاورة يلتمسون نجدتهم في حرب الحجازيين.
أما جبلة فعلم أنه جاء لأمر يتعلق بخطبته فأذن بدخوله عليه في خلوة فلما التقيا به هم حماد بتقبيل يدي جبلة فانحنى جبلة لتقبيله ثم جلسا وجبلة يرحب به فقال حماد: «قد جئت يا عماه أشكرك على ما تكرمت به علي من الرضا وألتمس دعاءك في ذهابي إلى مكة فإني شاخص إليها على عجل.»
فقال جبلة: «رافقتك السلامة في المسير والإقامة وجعل الله مسيرك سعيدا ولا حرمك مما تريد ولكنني أوصيك يا ولدي أن تبقي ما دار بشأن هند مكتوما حتى تعود لئلا يسبب لنا ذلك مشقة وربما حال دون ما نحن ساعون فيه.»
فأدرك حماد مراده فودعه بالكتمان ثم قال : «معي خادم بل هو رفيق يود تقبيل يديك قبل السفر لأنه سيرافقني ويكون عونا لي فهل يأذن مولاي بمثوله بين يديه.»
قال: «ليدخل.»
فخرج حماد ثم عاد وسلمان معه فتقدم سلمان إلى جبلة وقبل يده ولبثوا هنيهة يتحدثون في ما لم يخرج عن الموضوع من تشجيع وتحبيب الأمر إليه ثم نهض حماد وسلمان وودعا جبلة وخرجا يريدان خيمتهما عند الشيخ النبطي وكل منهما في هاجس.
أما سلمان فلم يكن راضيا بما رآه وسمعه ولكنه رأى حمادا راضيا به مصمما على تنفيذه فلم يشأ تثبيط عزائمه وعول في باطن سره على أن يبذل جهده في مساعدته إلى آخر نسمة من حياته.
الفصل الأربعون
السفر إلى الحجاز
فوصلا الخيمة في المساء وكان النبطي قد استبطأهما لغيابهما يومين كاملين فلما عادا رحب بهما فنزلا وهم يفكران في أمر السفر والاستعداد له والعمدة في ذلك على سلمان فابتاع جملين لحمل الماء والثياب والزاد وسألا الشيخ النبطي عن رجل خبير بالطرق يرافقهما إلى مكة بأجرة ترضيه فسألهما عن سبب السفر فانتحلا سببا أسكته.
فقال: «أما الدليل فإني أدلكما على رجل من أهل يثرب وهي المدينة التي جاء منها الحجازيون الذين قلت لكم أنهم سيخرجون هذه البلاد من أيدي بني غسان وقد جاءني أمس بمهمة من بعض أمراء ذلك الجيش فدللته على بعض الأماكن التي يمكنهم الحصول فيها على زاد لهم وسمعته يقول أنه لا يلبث أن يعود إلى بلده فإذا رافقكما إليها كان لكم به خير رفيق ومتى وصلتم يثرب هان عليكم الوصول منها إلى مكة.»
فقال سلمان: «والظاهر أن صاحبك هذا من أتباع صاحب الدعوة الإسلامية بالمدينة.»
قال: «نعم هو مسلم وقد جاء في جملة المسلمين إلى عمان وسيعود بمهمة خصوصية فهل أستقدمه إليكم.»
قال سلمان: «استقدمه.»
فخرج من الخيمة ونادى: «أبا سعيد» فسمعوا صوتا يقول: «لبيك يا أخا العرب.»
فقال النبطي: «هلم إلي.»
فجاء بدوي طويل القامة عريض الأكتاف خفيف اللحية يظهر من ملامح وجهه أنه في الأربعين من العمر عاري الرأس والقدمين ملتحف شملة من نسيج أبيض تغطي بدنه فيلف بعضها حول عنقه ويترك منها زائدة ينشرها على رأسه إذا اشتد عليه الحر وفي يده رمح ونبلة.
فلما رآه سلمان عرف من شكل ملابسه وملامح وجهه أنه حجازي من أهل المدينة فلما وصل أبو سعيد إلى حماد بهره ما عليه من اللباس الفاخر من الخز والديباج والحرير فعلم أنه أمير ولكنه ظنه من أمراء غسان فلم يهش له فابتدره النبطي قائلا: «أن الأمير ليس من غسان كما قد يخال لك بل هو من العراق فلا تنقبض نفسك لرؤيته.»
فقال أبو سعيد: «لا بأس من أن يكون غسانيا فإننا تجاورنا في منزلك فنحن الآن أخوة.»
فقال حماد: «بورك فيك يا أخا العرب ممن أنت.»
قال: «من أهل يثرب.»
قال سلمان: «أن أهل يثرب أكثرهم من اليهود.»
قال: «نعم فيها كثير منهم فهل قدمتها قبل الآن.»
قال: «نعم جئتها منذ عشر سنوات.»
قال: «لقد تغيرت حالها عما كانت عليه في ذلك الحين بإشراق نور الإسلام.»
فقال سلمان: «ألعل نبي الإسلام منكم أم من قريش في مكة.»
قال: «لا ليس منا ولكننا قمنا بنصرته وفتحنا له صدورنا ومنازلنا فهو يقيم في مدينتنا وقد سمانا الأنصار.»
قال سلمان: «إذن أنت سائر إلى المدينة.»
قال: «نعم وإلى أين أنتم ذاهبون.»
قال: «إلى مكة فهل ترافقنا إليها.»
قال الرجل: «يا حبذا لو كان ذلك في الإمكان.»
فقال سلمان: «وهل يمنعك من ذلك بعد المسافة أم أنت سائر في مهمة على عجل.»
قال: «نعم أني سائر في مهمة على عجل ولكن ذلك لا يمنعني من المسير إلى مكة لو لم يكن أعداؤنا لنا فيها بالمرصاد.»
فقال سلمان: «وأي الأعداء تعني.»
قال: «أعني بني قريش أعمام نبينا فإنهم لا يزالون يتوقعون فرصة للفتك به وهو إنما جاء المدينة مهاجرا فنصرناه كما قدمت وقد تبعه إليها نفر من ذوي قرباه أما الباقون فلا يزالون في مكة وقد تحالفوا على عدوانه وفى مقدمتهم أبو سفيان الأمير التاجر الشهير.»
فقال سلمان في نفسه (أن تلك مشكلة لم تكن من حسباننا وتصور أن في الطريق بين المدينة ومكة خطرا لما بين أهل البلدين من العداوة) فنظر إلى المدني وقال: «هب أننا تركناك في المدينة فهل في طريقنا إلى مكة من خطر.»
قال: «لا خطر عليكم إذا سرتم في طريق معروفة ولو كنتم من دعاة الإسلام مثلنا لكان في مسيركم خطر ولكنكم غرباء سائرون في سبيلكم ولعل الأفضل أن تسيروا في قافلة لأنكم تكونون في كثرة فلا خوف عليكم من طارق بإذن الله.» قال ذلك وصمت وأطرق كأنه يفكر في أمر طرق ذهنه بغتة.
فنظر سلمان إلى حماد كأنه يستطلع رأيه بعد ما سمعاه من ذلك اليثربي فقال حماد: «أرى أن نرافق الرجل إلى المدينة ثم ننظر ما يكون من أمرنا.» ثم إلتفتا إلى الرجل فإذا هو مطرق يتلاهى باصلاح ثنيات ثوبه فابتدره سلمان قائلا: «ما بال أخي قريش مطرقا يفكر ألعل رأيا جديدا فتح عليه به.»
قال: «لم يخطر لي رأى جديد ولكني تذكرت أمرا ذا بال أظنه يهمكم أيضا.»
فتطاول سلمان بعنقه وقال: «وما ذلك.»
قال: «تذكرت حديثا سمعته من معسكرنا في عمان فإذا صح مسيرنا إلى مكة قريبا فتدخلونها آمنين مطمئنين.»
فلم يدرك سلمان كنه كلامه فقال: «وماذا تعنى بمسيركم إلى مكة.»
قال: «أعني أن نبينا (
صلى الله عليه وسلم ) سيحمل على مكة برجاله فيفتحها ويكسر أصنامها فتصير في حيازتنا فإذا دخلتموها كنتم آمنين.»
فقال: «وهل أنت موقن بهذا الخبر وهل المسير إليها قريب.»
قال: «أني واثق بصدق الرواية ولكنني لم أتحقق الزمن الذي ينوي فيه المسير وعلى كل فإننا متى وصلنا المدينة علمنا حقيقة الحال فهلم إلى الاستعداد.»
ثم تركهما وذهب فنظر سلمان إلى حماد وقال له: «لم يسرني الخبر كثيرا لأن وصولنا إلى الكعبة وبحثنا فيها عن القرطين قد يكون أسهل علينا قبل ذلك الفتح منه بعده.»
فقال حماد: «لا أرى رأيك في ذلك إذ ربما كان لنا بعد الفتح سبيل أسهل وطريق أقرب وسنرى ما يأتي به الغد فعليك الآن بإعداد حاجيات السفر من الجمال والمياه والزاد ونحوها.»
فقال سلمان: «أرى أن نركب خيلنا ونأخذ جملين لحمل الماء والزاد على أن يكونا ذخرا لنا في حال الإضطرار إلى الركوب لأن الجمال أصبر على العطش من الخيل.» قال ذلك وأخذ في الاستعداد.
وفى صباح اليوم التالي استحضروا جملين وخادمين وحملوا أحمالهم مما خف وغلا وتركوا ما بقي من الثياب وغيرها عند الشيخ النبطي وساروا يطلبون الحجاز.
ولما تبطنوا الصحراء وبعدوا عن البلقاء أحس حماد بالوحشة وتمثل له خطر المسير وتحقق كلام سلمان ولكنه تجلد وألقى اتكاله على الله.
وبعد مسير بضعة أيام أشرفوا على جبال المدينة فقال اليثربي: «ها نحن على مقربة من يثرب ولا نلبث أن نشرف عليها.»
فقال سلمان: «أني أعرف المدينة وطرقها فقد نزلتها منذ أعوام.»
فقال اليثربي: «لا تلبث أن تشرف عليها فترى فيها تغييرا طرأ عليها بعد نزول النبي فيها فقد بنيت فيها المنازل وكثرت البيوت وتعدد السكان لكثرة من هاجر إليها من أصحاب الرسول وغيرهم.»
وبعد هنيهة أشرفوا على المدينة فإذا هي في منبسط من الأرض تحدق بها البساتين والغياض فقال اليثربي: «هذه يثرب فهل تنزلان فيها ريثما تصطحبان من يرافقكما إلى مكة أو تريان رأيا آخر.»
قال حماد: «أني أفضل النزول هنا مدة لأشاهد المدينة وأهلها وأرى صاحبكم وأصحابه بعد ما ملأت أذني من أحاديث حروبه وأوصافه.»
فانحدروا حتى ساروا على مقربة من السور لا يستغشهم أحد ممن رأوهم لأن بينهم أحد الأنصار وقد ظن كثيرون أنهم إنما جاؤوا يلتمسون الإسلام لكثرة من كان يفد على المدينة من القبائل في تلك الأيام وأكثرهم كانوا يجيئون رغبة في الإسلام.
فلما دنوا من السور قال سلمان: «أرى أن نضرب خيامنا هنا فنستريح هنيهة ثم نترك دوابنا ومضربنا في عهدة الخدم وندخل المدينة خفافا.»
فقال اليثربي: «أما أنا فلا أستطيع صبرا عن المسير إلى المدينة الساعة لأني في مهمة فأرجو أن نلتقي هناك.»
فقالا: «سر بحراسة الله.»
فودعهم ومضى.
فلما خرج إلتفت سلمان إلى حماد وقال له: «أراك راغبا في دخول المدينة.»
قال: «نعم.»
قال: «ولكنني لا أرى ذلك.»
قال: «ولماذا.»
قال: «لأننا لم نترك البلقاء ونتجشم الأسفار لنقيم في هذا المكان فضلا عن الخطر الذي قد ينتابنا لمجرد دخولنا المدينة.»
فقال: «وأي خطر علينا من ذلك.»
قال: «أخاف أن يرانا هناك أحد من عيون أبي سفيان فإذا رآنا في مكة عرفنا فيحسبنا من المسلمين فيعرقل مساعينا.»
قال: «إذا رأينا أبا سفيان قلنا له أن عبد الله والدي أو ربما رأينا والدي معه فنأمن الخطر.»
قال: «لو كان على يقين من وجود سيدي والدك عنده لهان علينا العسير ولكننا إنما قلنا ذلك على سبيل الظن.»
فلبث حماد برهة يفكر فتذكر والده وخطيبته وحاله فرغب في إتمام مهمته بالمسير إلى مكة فقال: «أراك مصيبا في رأيك فالأفضل لنا أن نسير إلى مكة لنبحث عن القرطين فإذا ظفرنا بهما هان علينا كل ما نريده.»
وكانت الشمس قد مالت إلى الأصيل فأرسلا خادما يبتاع زادا وعلفا فعاد عند الغروب فأكلا وأطعما الجملين والجوادين.
وباتوا تلك الليلة وأصبحوا في الغد باكرا فملأوا القرب وركبوا يريدون مكة وكان سلمان لا يعرف الطريق إليها. ولعله كان يعرفها ونسيها ولكنه كان لا يزال يذكر طريقا تؤدي إلى مكة عن طريق آبار بدر غربي المدينة ففضل المسير إلى تلك الآبار ليبيتوا عندها ثم يملأون قربهم ويسيرون نحو مكة. أما حماد فلم يكن يعلم شيئا من تلك الطرق وكان اعتماده على سلمان في كل شيء.
الفصل الحادي والأربعون
البحيرة
فساروا طول ذلك النهار سيرا بطيئا لعلمهم أن الآبار غير بعيدة عنهم وأنهم بائتون هناك لا محالة فلما كانت الظهيرة حطوا رحالهم للاستراحة فحلوا الأحمال وجلسوا للطعام ثم توسدوا العشب تحت شجرة كبيرة يلتمسون القيلولة واشتغل الخادمان برعاية الجملين.
فأفاقا عند العصر وإلتفتا فلم يريا الجملين ولا راعييهما فبغت سلمان ونهض للحال ونظر إلى ما حوله فرأى كل شيء في مكانه كما فارقه فأخذ يتشوف عن التلال لعله يرى أثر الجملين فلم ير لهما أثرا ولكنه رأى أثر خفافهما على الرمال فهم بتتبع الأثر وقال لحماد: «تربص هنا ريثما أرى ما تم لهما.» فمكث حماد وسار سلمان حتى غاب عن النظر ومالت الشمس نحو المغيب ولم يرجع سلمان فقلق حماد كثيرا وخاف أن يدركه الظلام وهو منفرد في تلك الأرض.
وفيما هو في ذلك رأى أشباحا تقترب فتفرسها فإذا هي ثلاثة من الإبل ومعها الخادمان وسلمان فعجب للجمل الزائد فلما وصلوا استطلعهم الخبر.
فقال سلمان: «أرأيت هذه الناقة.»
فنظر حماد إليها فإذا هي مشقوقة الأذنين فعجب لحالها وقال: «وما خبرها وما الذي جرى لها.»
قال: «هذه هي الناقة التي يسميها الحجازيون البحيرة فإن من عوائدهم التي قد أخذت تتلاشى بعد ظهور الإسلام أن الرجل منهم إذا ولدت ناقته خمسة أبطن وكان الأخير ذكرا بحر أذنها أي شقها وامتنع من زكاتها وأطلق سراحها لا يمنعها من ماء ولا مرعى فكأن خادمينا رأيا هذه الناقة سائبة فأرادا القبض عليها فهم لها أحدهما فنفرت منه فظن أنه إذا ركب إحدى ناقتينا أدركها فتعقبها بها فلم يدركها فاستبطأه رفيقه فركب الجمل الآخر ولحق به حتى لحقت أنا بهما فرأيتهما قد قبضا عليها بعد جهد شديد وعادا وقد وبختهما على ما ارتكباه فوعدا أن لا يعودا إلى مثل ذلك مرة أخرى.»
الفصل الثاني والأربعون
آبار بدر
فعجب حماد لحكاية البحيرة ولكنه تأسف لضياع الوقت حتى دنا المغيب ولم يصلا الآبار فقال: «أرى يا سلمان أن نترك هذه الناقة وشأنها لأننا لسنا في حاجة إليها ولا عندنا من علف نطعمها إياه ولنهتم بالمسير لكي ندرك الآبار فهل نحن بعيدون عنها.»
فقال سلمان: «إننا على مسافة قصيرة فهلم بنا إليها.» قال ذلك وأمر فركبوا جميعا وساروا يقطعون السهول والأودية حتى خيم الغسق وقد نفد ماؤهم ولم يصلوا الآبار فقلق سلمان وخاف أن يكون قد أخطأ الطريق فساق جواده إلى أكمة أطل منها على منخفض علم مما يحيط به من الجبال أنه المكان المقصود ولكنه لم يستطع تحقيق ذلك لبعد المكان وظلامه فعاد إلى حماد وأنبأه بما كان فاتفق رأيهما على أن يتركا الخادمين والجملين هناك ويسيرا هما على الفرسين ليتفقدا المكان فإذا كان هو بعينه شربا وسقيا الفرسين لأن الخيل لا تصبر على العطش ثم يناديان الخادمين.
فهمزا الجوادين فسارا في أرض وعرة والجو هادئ لا يسمع فيه غير وقع الحوافر على تلك الصخور وكان الظلام آخذا في الاشتداد ولكن القمر كان قد أرسل أشعة ضعيفة تبشر بقدومه قبل طلوعه فلما وصلا إلى قمة الجبال المحيطة بمكان الآبار أخذا في الانحدار وهما ينتظران طلوع القمر بفارغ الصبر ليساعدهما على تعيين المكان فوصلا إلى منبسط الوادي ونظرا إلى ما حولهما فإذا هما في واد مظلم تحف به الجبال من أكثر جهاته لا يسمع فيه صوت ولا يهب فيه نسيم وكان القمر قد طلع لكن أشعته لم تدرك أسفل المكان بعد فتحقق سلمان أنها آبار بدر ثم استنار الوادي فتأمله سلمان فإذا هو بعينه ورأى الأماكن التي كانت تقام فيها السوق كل عام وكانت تجتمع إليها القبائل للبيع والشراء والأخذ والعطاء ولكنه آنس في المكان وحشة وهجرا كأنه هجر منذ أعوام ثم خطر له أن الليل يريه ذلك فأخذ يبحث عن محل الآبار وحماد في أثناء ذلك صامت لا يبدي حراكا.
وترجلا عن الفرسين وسارا يقودانهما وقد تهيبا وندما لتلك المخاطرة وكان أعظمهما ندما سلمان لأنه ساق سيده إلى الخطر ولكنه تجلد وسار وحماد إلى جانبه لا يتكلمان حتى وصلا إلى حفر متفرقة فاستترا وصاح سلمان: «هذه هي الآبار قد أدركناها.» وكانا قد أعدا ما يستقيان به من دلو أو نحوه فألقى سلمان الدلو فسمع صوته يصادم قعر البئر والبئر فارغة فعجب لذلك ثم ما لبث أن سمع حركة ورأى حيوانا وثب من البئر وفر فتأمله فإذا هو يشبه الثعلب أو الكلب فازداد استغرابه وبغت حماد وقال: «ما هذا يا سلمان أيخرج من الآبار ثعالب.»
قال: «أني في غاية الاستغراب من هذا الاتفاق. أن المكان هو هو بعينه وقد نزلت فيه منذ ست سنوات وشربت من مائه ورأيت الناس يستقون منه فلا أدري ماذا جرى له فيلوح لي أن أنزل في هذه البئر فإني أراها غير عميقة لعلي أستطلع من أمرها شيئا.» فأنزل قدما ثم الثانية حتى أدرك القعر فأحس كأنه واقف على عظام فمد يده وأمسك العظام بيده فإذا هي مدفونة كلها أو بعضها بالتراب واستخرج شيئا منها فتصاعدت عنها روائح كريهة ولمس عظاما طويلة ومستديرة وكروية على أشكال شتى فاقشعر جسمه لأنه علم من أشكالها أنها عظام آدميين فصعد للحال وقد هاله الموقف لم يشأ أن يخبر حمادا بذلك لئلا يخاف وتاقت نفسه لاستجلاء حقيقة الأمر عن تلك الجماجم والعظام ولكنه كتم ذلك وأوعز إلى حماد بالعود فعاد حماد وهو ينتظر أن يسمع شيئا جديدا فلم يفه سلمان بكلمة فظلا سائرين في ذلك المنخفض وحماد ينتظر حديث سلمان وسلمان يفكر في غريب ما رآه والليل هادئ لا يسمع فيه إلا صوت وقع الحوافر فلما أبطأ سلمان في الحديث هم حماد بالسؤال عما رآه وإذا بصوت جمل يهدر عن قرب فوقفا وأنصتا ليعرفا جهة الصوت فإذا هو جمل منحدر من أعلى الجبل من الجهة التي جاءا منها أولا فظنا احد الخادمين قادما لخبر جديد فلبثا واقفين ينتظران ما يكون فإذا بالراكب في لباس غير لباس الخادم فتأملاه فإذا هو رفيقهما اليثربي فلما دنا منهما ناداهما فعرفا صوته فأجابه سلمان فتعارفوا.
فلما وصل اليثربي إليهما قال: «ما الذي جاء بكما إلى هذا المكان.»
قال سلمان: «جئنا نلتمس الماء.»
قال: «أتلتمسون الماء من هذا المكان وقد أصبح مجتمعا للرمم ومعرضا للجيف.»
قال سلمان: «لا أعرفه إلا مستقى فيه ماء عذب وقد عجبت لما تقول وخصوصا بعد أن رأيت الجماجم بنفسي ولمستها بانملي.»
فبغت حماد لذلك وقال: «أتقول الصدق يا سلمان.»
قال: «نعم يا مولاي قد لمست الجماجم والسواعد والأفخاد بيدي وكتمت ذلك عنك لئلا تتهيب.»
قال حماد: «لقد عرفت سر سكوتك كل هذه المدة وأنا أتوقع خطابك بعد نزولك إلى قاع البئر» ثم إلتفت إلى اليثربي وقال: «وما الذي حول هذا الماء إلى رمم وعظام.»
قال: «أن لذلك خبرا طويلا سأقصه عليكما متى جلسنا فقد جئتكما بالماء ووضعته عند خادميكما وراء هذه الأكمة وقد تستغربان مجيئي إليكما في هذا الليل على غير موعد بيننا وأما السبب في ذلك فإني لبثت في انتظاركما اليوم بباب المدينة فلما استبطأتكما جئت أفتقدكما فلم أجدكما فعلمت من قرائن مختلفة أنكما سرتما نحو هذه الآبار ولما كنت عالما بجفافها حملت إليكما قربة ماء وسرت أقتص خبركما حتى جئت إلى خادميكما فقالا لي أنكما تطلبان الماء من هنا فجئت إليكما على عجل كما تريان.»
قال ذلك وأشار إليهما أن يتبعاه فركبوا وساروا جميعا وكل منهم يتأمل هيبة ذلك المكان بعد ما علموا من أمره حتى وصلوا أعلى الوادي وتحولوا نحو الخادمين وكانا في انتظارهم فلما وصلوا ترجلوا جميعا وجلسوا على دكة فتناولوا الطعام وشربوا وسقوا الخيل والجمال وسلمان وحماد ينتظران خبر بدر بفارغ الصبر.
فلما استتب بهم الجلوس قال حماد: «أراني في قلق لا مزيد عليه فهل تتكرم علينا بخبر تلك الآبار.»
قال: «أن خبرها غريب يطول شرحه فإذا كنتم مستعدين لاستماعه الليلة قصصته عليكم وإلا فإني أقصه عليكم في الغد.»
فصاحا معا: «بل تقصه علينا الليلة فإن القمر قد أبدر وتاقت نفوسنا إلى السمر إلا إذا كان في ذلك ثقلة عليك.»
قال: «أني شديد الرغبة في قص هذه الحكاية لأنها تبين كرامة نبينا (
صلى الله عليه وسلم ) وبها يفتخر المسلمون كما ستستمعون.»
ثم جلسوا وأخذ اليثربي يقص حكايته وحماد وسلمان منصتان والجمالان يتطاولان عن بعد لاستماع الخبر.
الفصل الثالث والأربعون
سبب الغزوات
قال اليثربي: «اعلموا أني أقص عليكم خبر أعظم واقعة حدثت في الإسلام وقد شهدها رسول الله (
صلى الله عليه وسلم ) بنفسه منذ نحو خمس سنوات وكنت في جملة المحاربين فرأيت وسمعت ما تشيب لهوله الأطفال.»
فقال سلمان: «ومن هم الذين حاربتموهم هناك.»
قال: «هم بنو قريش من أقرباء الرسول ولكنهم أعداؤه.»
قال: «وكيف يكونون أقرباءه ولا يقومون لنصرته بل يكونون أعداءه.»
قال: «أن لذلك خبرا طويلا لا أستطيع بسطه الليلة ولكنني أذكر ملخصه تمهيدا لذكر واقعة بدر التي نحن في صددها فارعوني سمعكم.»
قالوا: «كلنا آذان فشنف مسامعنا.»
فقال: «لا يخفى عليكم أن نبينا (
صلى الله عليه وسلم ) لما قام يدعو الناس إلى الإسلام لم يجبه إلا نفر من قريش وظل أعمامه وأكثر ذوي قرابته على دين آبائهم وأكثرهم إنما رغبوا عن هذا الدين القويم خوفا على تجارتهم أن تكسد لما في تأييد الإسلام من احتقار الأوثان وإبطال عبادتها فينحط قدر الكعبة فيقل الحجاج إليها ومعائش قريش وسائر أهل مكة من التجارة ولا تجارة إلا بالحجاج فضلا عما يتمتع به القرشيون من السيادة والنفوذ ببقاء الكعبة فإنهم حجابها ولهم بذلك فخر وسؤدد.
فهذه الأسباب وغيرها حملت بني قريش على مقاومة نبينا (
صلى الله عليه وسلم ) ولكنه لم يحرم أنصارا شدوا أزره وصدقوا بدعوته ومنهم جماعة من خيرة قريش وكبار رجالها على أنهم لم يستطيعوا حمايته من الأذى فهاجر وهاجروا معه إلى مدينتنا يثرب التي كنا بالقرب منها البارحة فاستقبلناه بكل إكرام فنزل بيننا على الرحب والسعة وسررنا بهذا الشرف العظيم.
ولا يخفى عليكم أن المدينة واقعة في الطريق بين مكة والشام فمن أراد تجارة أو سفرا بينهما لا بد له من المرور بها فأخذ (
صلى الله عليه وسلم ) من يوم نزوله المدينة يجمع أصحابه الذين هاجروا معه وهم المهاجرون والمدنيون الذين نصروه وهم الأنصار ويخرج بهم للغزو أو يرسلهم ويقيم فكلما سمع بقافلة لقريش قادمة من الشام أو غيرها بتجارة أو أموال خرج برجاله ليغزوهم وما أصابه من مال أو غيره وزعه على رجاله.
الفصل الرابع والأربعون
غزوة بدر الكبرى
ففي السنة الثانية للهجرة كانت وقعة بدر الكبرى وسببها أن أبا سفيان بن حرب رجل قريش وأكبر زعمائهم كان قادما من الشام في أبل لقريش عليها أموال كثيرة ومعها ثلاثون رجلا أو أربعون من قريش وكلهم من أعداء الإسلام وفي جملتهم عمرو بن العاص وكانت آبار بدر هذه محطة تقف عندها القوافل القادمة من الشام للاستقاء في طريقها إلى مكة فلما علم رسول الله (
صلى الله عليه وسلم ) بمروره انتدبنا للخروج عليهم فعلم أبو سفيان بذلك فأنفذ بعضا من رجاله إلى مكة يستنفرون الناس للقدوم إلى الآبار لحماية أموالهم فكان الرجل منهم إذا وصل إلى مكة وقف على بعيره وقد جدعه وحول رحله وشق قميصه وهو يقول: «يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة أن أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد وأصحابه لا أدري أن تدركوها الغوث الغوث.» فتجهز القرشيون سراعا لم يتخلف من أشرافهم إلا من عجز عن المسير فبلغ عدد السائرين ألف رجل ومئة فرس وسبعمائة بعير وأما رجالنا فكان عددهم ثلاثمئة وبضعة عشر رجلا وسبعين بعيرا وفرسين. فسارت رجالنا من المدينة يتقدمهم النبي حتى وصلنا إلى مكان اسمه الصفراء فبعث من يتجسس خبر أبي سفيان فقيل له أنه بالقرب من بدر فجمعنا في جلسة وجمع أصاحبه المهاجرين معنا وشاورنا جميعا وكان قد استطلع قوة العدو وأطلعنا عليها وقال: «ما تقولون هل نحاربهم.» فأجابوا جميعا بصوت واحد وقلب واحد: «موافقين» وسأل الأنصار فقالوا: «فوالذي بعثك بالحق أن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لنخوضنه معك وما نكره أن تكون تلقي العدو بنا غدا لعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله.»
فلما سمع كلامهم أثنى عليهم وسار وسرنا جميعا وكان أبو سفيان قد نزع إلى الخديعة في أثناء تلك الفترة فسار من يمين الآبار حتى تجاوزها والعير معه فلقي رجال قريش في مكان يقال له الجحفة فخاطب أشراف قريش قائلا: «هذه العير والأموال قد نجت فارجعوا إلى مكة» وكان في جملة أولئك رجل اسمه أبو جهل لعنه الله عليه فأبى إلا أن يمر بالآبار فساروا حتى دنوا من الوادي أما نحن فسرنا نطلب الآبار فنزلنا عندها ومنعنا الأعداء منها فتقدم زعيم الأنصار منا وهو سعد بن معاذ وقال: «يا رسول الله نبني لك عريشا من جريد فتكون فيه ونترك عندك ركائبك ثم نلقى عدونا فإن أعزنا الله وأظهرنا الله عليهم كان ذلك مما أحببناه وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا فقد تخلف عنك أقوام ما نحن بأشد حبا لك منهم ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك يمنعك الله بهم يناصحونك ويحاربون معك.» فأثنى الرسول عليه خيرا فبنينا له عريشا.
وبعد قليل رأينا غبار قريش ثم ظهرت رجالهم وفرسانهم وعليهم العدة والسلاح يتقدمهم أمراؤهم في أفخر اللباس وكانوا أهل بذخ وترف وقد أخذت بهم الخيلاء والفخر فلما دنوا منا عسكروا أمامنا ثم أرسلوا رجلا منهم ليحزرهم أي يقدر عددهم فجال بفرسه قليلا وعاد فأنبأهم بقلة عددنا فتشاوروا في الأمر طويلا وفيهم من يشير بالرجوع وكانوا بين أن يرجعوا أو يهاجموا لأن الماء في حوزتنا فإذا لبثوا مكانهم هلكوا عطشا فعظم عليهم الرجوع لكثرتهم وقلتنا فاقروا على الهجوم فخرج منهم أفراد طلبوا البراز فبارزناهم فقتلنا بضعة من كبارهم فهجم آخرون منهم وهجم بعض منا والتحم الفريقان وكان يوما عظيما خاف فيه المسلمون خوفا شديدا لما رأوا من قتلهم وقد سمعت رسول الله (
صلى الله عليه وسلم ) يقول وقد رأى احتدام الحرب: «اللهم أن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض اللهم انجز لي ما وعدتني.» قال ذلك وهو ينظر إلى رجاله ويدعو لهم بالنصر وقد سمعت دعاءه بأذني لأني كنت في جماعة من الأنصار مع سعد بن معاذ واقفين بباب العريش نحرس رسول الله (
صلى الله عليه وسلم ) خوفا عليه من كرة العدو. ولقد رأيت ما كان من فتك المسلمين بالمشركين ما ينشرح له الصدر وخصوصا لما رأيت أبا جهل زعيم القريشيين مجندلا يختبط بدمه وكان أشد الناس عداوة لنبي الله ورأيت غيره من أمرائهم مقتولين منهم حنظلة بن أبي سفيان وشيبة وعتبة وأمية وغيرهم ورأيت أشد المسلمين فتكا في ذلك اليوم حمزة بن عبد المطلب عم الرسول فقد رأيته يخترق الجماهير وفى صدره ريشة نعامة يمتاز بها عن غيره.
ومن غريب ما شاهدته من بسالة المسلمين في ذلك اليوم واستهلاكهم في نصرة الإسلام أن معاذ بن عمر بن الجموح كر على أبي جهل المتقدم ذكره وكان محاطا بزمرة من رجاله فاخترق الناس إليه فضربه ضربة أصابت ساقه فهجم عكرمة بن أبي جهل على معاذ بضربة قطعت يده فطرحها عن عاتقه ولكنها ظلت معلقة بجلدة من جثته فما زال معاذ يقاتل كل ذلك اليوم ويده تجر وراءه فكنت أنظر إلى ذلك وأشعر كأن يدي في مثل ذلك أما هو فلم يكن يبالى فلما آذته يده وعاقته عن الحرب جعل رجله عليها وتمطى حتى انفصلت فتركها وعاد إلى الحرب. وكان في جملة جند المشركين العباس بن عبد المطلب فانه كان لا يزال مترددا بين الإسلام وما كان عليه أجداده فلما حمل القرشيون على بدر حمل معهم مكرها فأسر في جملة من أسر ولكن أسره لم يطل لأن النبي أمر بإطلاقه حالا.
ولم يمض زمن حتى رأينا المشركين هموا بالفرار فقبضنا على جماعة كبيرة منهم ولما انقضت الحرب أمر رسول الله أن يؤتى بجثث القتلى إلى القليب فجييء بها فتكومت كوما وفيها جثث نخبة أمراء قريش وهي التي رأيتم بقاياها في الآبار الليلة ثم جمعت الغنائم ففرقت فينا على السواء وحملت بشائر النصر إلى المدينة وأخبار الويل إلى مكة وقد كانت هذه المعركة قاضية على مشركي قريش إذ قتل فيها جماعة من ألد أعداء الإسلام وأشدهم بطشا وفي جملتهم أبو لهب عم الرسول وكان شيخا كبيرا لم يحضر الحرب فلما بلغته نكبة القرشيين اشتد الأمر عليه فمات بعد تسعة أيام.
فأصبح زعيم القرشيين بعد هذه المعركة أبا سفيان الذي ذكرته لكم وهو مشهور وكثيرا ما يسير إلى الشام فلا يخلو أن تكونوا قد رأيتموه هناك.»
فقال سلمان: «نعم رأيته غير مرة وهو أشهر من أن يذكر.»
فقال: «وسترونه قريبا عند وصولكم مكة فإنه عاد عليها منذ بضعة أسابيع.»
فلما سمعا ذكر أبي سفيان توهما أن يكون عبد الله معه ولكنهما كتما ذلك.
ثم قال اليثربي: «وأصبحت الآبار بعد تلك المعركة مهجورة وقد ألقوا الجثث فيها فانتنت وبطل موسمها السنوي من ذلك الحين.
هذه هي حكاية الآبار فاشكروا الله أنكم لم تلقوا فيها وحشا ضاريا أو نحوه فلنبت الليلة هنا ولنعد في الغد إلى المدينة نمكث فيها يوما ثم تسيرون منها في قافلة إلى مكة وإلا فاختاروا لأنفسكم.»
فأعجب حماد بشهامة ذلك الرجل وغيرته عليهم ورغبته في إنقاذهم وقال: «إننا والله شاكرون لحسن صنيعك جزاك الله خيرا وقد يجدر بنا بعد هذا الصنيع أن نكون طوع بنانك نسير معك حيثما سرت ولكننا نرى سرعة المسير إلى مكة لعلنا نلتقي فيها بأبي سفيان قبل خروجه منها.»
فقال اليثربي: «ألعلكم تعاملونه معاملة التجار فإن له علاقات كثيرة مع تجار الشام.»
قال سلمان: «لا علاقة تجارية بيننا وبينه ولكننا نفتش عن صديق لنا سار برفقته من بيت المقدس.»
فقال اليثربي: «أنصح لكم نصيحة صديق مخلص لا يريد بكم غير الخير فهل تنتصحون بها.»
قالا: «نعم ويكون لك علينا الفضل.»
قال: «أنصح لكم إذا لقيتم أحدا من المسلمين في المدينة أو غيرها وعرض ذكر أبي سفيان فلا تذكروا علاقة بينكم وبينه فإن ذلك يوقع عليكم شبهة وربما يلحق بكم من جراء ذلك ضرر.»
فقال سلمان: «لقد أخلصت النصيحة وأردت بنا خيرا فشكرا لك على ذلك ونحن لو لم نتوسم فيك الإخلاص لما فرط منا ذكر هذا الرجل على أننا لم نقل أننا أصدقاؤه وإنما قلنا أن صديقا سار برفقته.»
فقال اليثربي: «ومهما يكن من الأمر فقد نبهتكم إلى ما لا يخلو من فائدته.»
قال حماد: «لا ريب من ذلك عندنا فنشكرك عليه شكرا جزيلا.»
وكان قد مضى معظم الليل وغلب النعاس على الجميع فنهضوا للرقاد فلما أصبحوا خيرهم اليثربي في الذهاب معه إلى المدينة أو الذهاب إلى مكة توا فأثنوا عليه واعتذروا بأنهم يؤثرون المسير توا إلى مكة على نية أن يمروا بالمدينة في عودتهم فأطاعهم وأوصاهم وصايا تتعلق بسفرتهم وودعهم وعاد إلى المدينة وتركهم يستعدون للسفر إلى مكة.
الفصل الخامس والأربعون
بكر وخزاعة
فلما خلا حماد بنفسه تذكر حاله مع هند وما هو ذاهب من أجله وكان في أثناء حديث اليثربي عن أبي سفيان يهم بالاستفهام عن والده ثم يخاف العاقبة فيمتنع وأخيرا صبر نفسه ريثما يصل مكة ويلتقي بأبي سفيان.
وفي صباح اليوم الثاني ركبوا وساروا لا يلوون على شيء فأمسى المساء وقد أدركوا بقعة من الأرض يكسوها المرعى وفى أحد جوانبها شجرة تحتها عين ماء عذب اعتاد المارة الجلوس إليها إلتماسا للراحة من وعثاء السفر أثناء مرورهم بين مكة والمدينة.
فجلسوا إلى الشجرة وأوقدوا نارا يستضيئون بها أو يستخدمونها في معالجة طعامهم تلك الليلة. حتى إذا اكلوا جلسوا يتسامرون ريثما يتغلب عليهم النعاس فلما انقضى الهزيع الأول من الليل هموا بالرقاد وقد أمروا الخادمين أن يتناوبا السهر خوفا من طارئ يفاجئهم ولم يكد يغمض لهم جفن حتى أفاق سلمان فسمع ضوضاء عن بعد فألصق أذنه بالأرض فتبين له أن بضع عشرات قادمون من مكة مسرعين ومعهم الخيول وعلم أنهم نازلون عند تلك العين لا محالة فخاف أن يكون عليهم من نزولهم بأس فإلتفت إلى حماد فإذا هو لا يزال نائما فتردد بين أن يوقظه أو أن يتركه نائما وفيما هو يتردد أفاق حماد من تلقاء نفسه فرأى سلمان جالسا على فراشه فبعث وناداه واستطلعه الخبر.
فقال: «كنت عازما على إيقاظك لو لم تستيقظ من تلقاء نفسك.»
قال حماد: «وما سبب ذلك.»
قال: «أني أسمع أصوات خيول وأناس قادمين من جهة مكة فأخشى أن يكونوا سائرين في حرب وربما أوقعوا بنا سوءا.»
فقال حماد: «وما الرأي إذن.»
قال: «الرأي أن نتواطئ على كلام نقوله لهم يضمن لنا النجاة.» فقال: «وما هو»
قال: «يغلب على الظن أن القادمين من أهل مكة الذين لم يؤمنوا بالنبي الجديد وإنهم يريدون المدينة لحرب أو لاستطلاع فهم من أعداء المسلمين وعلينا نحن أن نتجاهل أمر الإسلام ونتظاهر بأننا إنما جئنا نريد الاعتمار في مكة.»
فقال حماد: «وما معنى الاعتمار أن ذلك لا أثر له في ديننا.»
قال: «هو الحج إلى الكعبة والكعبة حج يؤمها الناس من أقاصي الأرض على اختلاف الملل والنحل فإذا قلنا أننا غرباء قاصدون زيارة الكعبة لا يستفشوننا.»
فقال حماد: «افعل ما بدالك وكن أنت المتكلم عني.»
ولم يكادا يتمان الحديث حتى جاء خادمه سلمان ينبئهم أن الجمع قد اقترب وأنهم يقصدون ذلك الماء.
فلبثوا تحت جنح الظلام ينتظرون وصولهم وقد زادوا نارهم وقودا استئناسا بالنور.
فلم يمض قليل حتى وصل الماء فارس ملثم فلما اقترب من النار نادى: «من القوم النزول ههنا.»
فقال سلمان: «عرب من لخم ومن أنت.»
قال: «عرب من خزاعة وما الذي جاء بكم إلى هذا المكان.»
قال سلمان: «جئنا لزيارة البيت الحرام.»
قال: «هل مررتم بالمدينة.»
قال: «مررنا بها عن بعد ولم ندخلها.»
وما أتم كلامه حتى وصل رفاقه وفيهم الفارس والراجل فترجلوا جميعا ودنوا من الماء فتفرس فيهم سلمان يسبر عددهم فإذا هم نحو الأربعين يتقدمهم رجل بلباس فاخر لم يستطع معرفته لشدة الظلام وكان هذا الرجل هو وجيه القوم يأمرهم وينهاهم فعلم سلمان أنه رئيسهم وكان قد أمرهم أن ينصبوا خيمته بالقرب من تلك الشجرة فأخذوا في ذلك وسلمان ينظر إليهم ثم لاح له أن يستطلع حقيقة حالهم من زعيمهم فدنا منه وحياه فرد الفارس التحية والارتباك ظاهر على وجهه ولكنه إلتفت إلى سلمان وقال: «قد أنبأني دليلنا أنكم من لخم فهل أنتم قادمون من العراق.»
قال: «نعم يا مولاي.»
قال: «ونحن نعلم أن اللخميين في العراق من أهل النصرانية.»
قال: «نعم ونحن كذلك.»
قال: «وكيف تقول أنكم جئتم لزيارة البيت الحرام والنصارى يحجون إلى بيت المقدس.»
فبغت سلمان ولبث برهة صامتا لا يدري بماذا يجيب وظهر الارتباك على وجهه ولكنه تجلد وقال: «وهل تقفل أبواب الكعبة دون النصارى إذا جاؤها معتمرين.»
قال: «كلا فإن الناس يقدمون إليها من أقاصي العالم على اختلاف الملل والنحل ولكن النصارى قلما يجيئونها وزد على ذلك أن الوقت ليس وقت الحج فأصدقني الخبر .»
قال سلمان: «ليس في حقيقة خبرنا ما نخشى بيانه ولكنني رأيتكم جمعا كبيرا فارتبنا من أمركم فإذا علمنا من أنتم أفدناكم عن حقيقة أمرنا.»
وفيما هو يقول ذلك جاءه رجل يقول أن الخيمة قد نصبت والمائدة أعدت فإلتفت إلى سلمان قائلا: «إذا شئت أن تضيفنا على الطعام أتممنا الحديث فإننا نحتاج بعد طول السفر إلى الراحة.»
فقال: «فلنترك إتمام الحديث إلى صباح الغد.»
قال: «حسنا» وافترقا فسار سلمان إلى سيده فإذا هو لا يزال جالسا على فراشه ينتظر عودته بخبر القوم فلما رآه عائدا استطلعه الخبر فأنبأه بما كان واستمهله إلى الغد يستطلع الحقيقة.
فبات تلك الليلة على حذر ولما أصبح الصباح خرج سلمان إلى مضرب القوم فإذا هم أكثرهم من الفرسان وتأمل لباسهم وحالهم فإذا هم من أهل الحجاز ففكر في أمرهم فرأى أن يصطحب سيده وأن يسيرا معا إلى رجل الأمس فاصطحبه وسارا.
فلما وصل الخيمة استأذنا في الدخول فأذن لهما فدخلا فوجدا الرجل جالسا على وسادة مقطب الوجه كأنه يفكر في أمر همه فلما وقع نظره على سلمان وقف له ورحب به فبالغ سلمان في الاعتذار لما سببه له من المشقة بتلك الزيارة ولكنه قدم سيده في الجلوس فأدرك صاحب الخيمة أنه سيد له فرحب به بنوع خاص وأجلسه إلى جانبه ثم إلتفت إلى سلمان وقال: «أرى ضيفنا في هذا الصباح عراقيا أيضا.»
قال سلمان: «نعم يا سيدي أنه أمير من أمراء العراق وأنا خادم له فهل يتفضل سيدي بالإفادة عن اسمه.»
قال: «أني عمر بن سالم الخزاعي من بني كعب سائر في جماعة من خزاعة نريد المدينة.»
فقال سلمان: «ألعلكم من أهل مكة.»
قال: «نعم نحن نقيم في مكة ولكننا سائرون إلى المدينة في مهمة فهل أنتم قادمون منها.»
قال: «كلا يا مولاي لم نكن في المدينة ولكننا مررنا بها عن بعد.»
قال: «يا حبذا لو أنكم دخلتموها.»
فتعجب سلمان لتمنيه هذا وعهده بأهل مكة إذ ذاك أعداء لأهل المدينة على أثر ما كان من مهاجرة النبي وأصحابه منها.
فقال: «هل تأذن لي بسؤال يزيل عني الالتباس.»
قال: «تفضل.»
قال: «قلتم أنكم من أهل مكة تقصدون المدينة وقد بلغنا أن بينكم وبين أهل المدينة عداوة.»
قال: «صدقتم ولكن بين أهل مكة جماعة كبيرة هم على دعوة أهل المدينة أي أنهم مسلمون ولكنهم مستضعفون لا يستطيعون التصريح خوفا من كبار قريش أن يصيبوهم بسوء على أنني سألتكم عن حقيقة أمركم فلم تجبني فهل أنتم سائرون إلى مكة للحج حقيقة.»
قال سلمان: «أما وقد آنسنا فيك ما آنسناه من كرم الخلق وحسن الوفادة فإني أطلعك على جلية أمرنا لعلك تكون لنا عونا في ما نحن فيه.»
قال: «وما ذلك.»
قال: «نحن يا سيدي كما قلت لك من أهل العراق وهذا الأمير حماد سيدي وقد جئنا قاصدين مكة للتفتيش على الأمير عبد الله والد مولاي هذا فقد قيل لنا أنه جاء الحجاز برفقة أبي سفيان منذ أشهر فهل تعلم عنه شيئا.»
قال: «أذكر أني شاهدت أبا سفيان بعد عودته من الشام هذا العام ولكنني لم أعلم شيئا عن الأمير عبد الله فربما كان معه ولم أره.»
فقال سلمان: «هل يخبرني سيدي عن سبب قدومه إلى المدينة وهو من أهل مكة فإني أخاف أن يكون وراء مجيئكم ما يدعو إلى حرب تقفل بها أبواب مكة دوننا.»
قال: «أما سبب مجيئنا إلى المدينة فهو أننا من خزاعة كما أخبرتكم وقد كانت قبيلتنا في خصام مع قبيلة أخرى يقال لها بنو بكر فكان النزاع بيننا لا يفتر حتى ظهر الإسلام وكانت الغزوات فجاء المسلمون منذ عامين إلى الحديبية بالقرب من مكة ومعهم نبيهم يريدون الاعتمار فخاف أهل مكة أن يكونوا عازمين على حرب فمنعوهم من دخولها ثم كانت خصومة انتهت بعقد أبرم بين المسلمين وقريش يقضي بهدية وسلام فدخل بنو بكر في عقد قريش ودخلنا نحن في عقد المسلمين ثم رجع المسلمون واطمأنت قلوبنا فلما دخل هذا العام رأينا من بني بكر خروجا عن العقد فتعرضوا لنا وقتلوا منا بعضا ورأينا بني قريش يضافرونهم على ذلك فاعتبرنا هذا العمل نقضا للعهد الذي كان معقودا بينهم وبين المسلمين وكأني بالقرشيين ساعون إلى حتفهم بظلفهم فقد كانت مكة آمنة مطمئنة فعرضوها لهجمات المسلمين لأننا لما استفحل الأمر علينا ورأينا القرشيين يعاونون البكريين علينا جئنا بهذا الجمع نريد المدينة لنبلغ ذلك إلى صاحب الرسالة الإسلامية.»
فقال سلمان: «وما ظنك به بعد ذلك.»
قال: «أظنه يحمل على مكة برجاله فيفتحها عنوة وفى فتحها عزة للمسلمين.»
فقال سلمان: «يظهر أنكم على دعوة صاحب الرسالة فهل أنتم مصدقون لما جاء به.»
قال: «لقد جرنا الحديث إلى أمور طالما وددنا كتمانها ولكننا أصبحنا في حال لا نرى معها بدا من التصريح فإننا نرى صاحب هذه الدعوة صادقا في دعوته ولا نظنه إلا غالبا ومما يدلنا على ذلك نصرته في حروبه حيثما توجه.»
فعاد سلمان إلى ما هم فيه من أمر القرطين والأمير عبد الله فأخذ يفكر في وسيلة يستخدم بها تلك الفرصة فقال: «أما وقد آنسنا منك هذه الشهامة فهل ترى أن تهدينا إلى سبيل نتصل به إلى أبى سفيان للبحث عن مولاي الأمير عبد الله.»
قال: «وما الذي عساي أن أفعله في هذا القبيل.»
قال: «توصي بنا رجلا من خاصتك نثق بإخلاصه وتعقله ليدر بنا في مكة لأننا غرباء والغريب أعمى ولو كان بصيرا.»
ففكر عمر ساعة ثم قال: «لي في مكة عم شيخ يقيم في الكعبة نهاره كله وهو واسع الإطلاع نافذ الكلمة لدى أبي سفيان فإذا لقيتموه واستعنتموه في شأن هداكم إلى سواء السبيل واسمه حرب فإذا دخلتم مكة وجئتم الكعبة اسألوا عن حرب الخزاعي فإذا لقيتموه رأيتم فيه شيخا طاعنا في السن فقولوا له أن ابن أخيك عمر بن سالم يقرئك السلام فإذا وصفتم له حالنا وما شرحته لكم من أمر خزاعة وبكر علم أنكم صادقون في قولكم فاسألوه ما شئتم فانه خير مرشد لكم في ما تريدون.»
فنهض حماد عن ذلك وأثنى على عمر وودعاه وانصرفا إلى خيتمهما.
وبعد قليل نهض الركب الخزاعي ويمموا المدينة وقد سر سلمان لتلك الصدفة وأمل أن ينال بها خيرا.
الفصل السادس والأربعون
مكة المكرمة
وفي ظهيرة ذلك اليوم ركبوا يريدون مكة فوصلوها بعد مسيرة يوم فدخلوها فرأوا أهلها في هرج ومرج لا حديث لهم إلا أم خزاعة وبكر فساروا في طرقها لا يستغشهم أحد لكثرة الواردين على الكعبة من الغرباء وأرادوا المسير إلى الكعبة في ذلك اليوم فقال سلمان: «هلم بنا إلى خان ننزل فيه بجمالنا وأثقالنا ثم ننزل الكعبة أو أنزل أنا وحدي أتجسس الأخبار وأعود إليك» فقصدوا خانا بالقرب من الكعبة نزلوا فيه فبدلوا ثيابهم وتناولوا طعاما واستراحوا بقية يومهم وسلمان يفكر في وسيلة تكفل لهم نجح مسعاهم.
فلما أصبحوا في اليوم التالي قال سلمان: «امكث هنا يا مولاي ريثما أتدبر الأمر بنفسي وآتيك بالأخبار وإذا أبطأت عليك فلا ينشغل بالك.»
قال حماد: «سر بحراسة الله.»
فخرج سلمان وقد تزيا بزي أهل الحجاز لا يريد بذلك تنكرا ولكنه خاف أن يكون غريب لباسه موجبا لاستلفات الأنظار إليه فوصل المسجد الحرام فدخل من بعض أبوابه فرأى في ساحته جماعة كبيرة عراة يطوفون وفيهم الواقف والجالس والراكع ورأى في بعض الجوانب جماعات جالسين يتحادثون ويتحاورون فسار هنيهة فرأى في وسط الساحة بناء مربعا تجلله أستار من القباطي علم من طواف الناس حولها أنها الكعبة تجللها الأستار فلم يجسر على الطواف حولها والدنو منها ولكنه نظر إلى داخلها عن بعد فرأى فيها أحجارا قائمة علم أنها الأنصاب ورأى حول الكعبة وفوقها أصنام هائلة رأى بعض الناس يحلقون ويغتسلون حولها فأذهله كل ذلك وقال في نفسه (إذا لم يكن في قيام الإسلام غير هدم هذه الأنصاب وإبطال عبادتها فلكفى به فضلا).
ثم تأمل في بناء الكعبة وأخذ يفكر في أمر القرطين وكيف يمكن أن يكونا هناك وإذا وجدا فأين يمكن أن يكون موضعهما فلم يزدد إلا إبهاما ولا زادته تلك الزيارة إلا يأسا.
ثم تحول نحو الجماهير لعله يرى ذلك الشيخ فطاف المكان يسأل عنه باسمه فقال له بعضهم: «أنه خرج إلى منزله بالأمس لتوعك أصابه .» فسأل عن منزله فقيل له: «أنه في مر الظهران بضواحي مكة.»
فخرج إلى مر الظهران وفيما هو في طريقه إليها يسأل عن الطريق ويستفهم عن الرجل رأى أهل مكة في هرج يجتمعون جماعات ثم يتفرقون كأنهم في خوف من أمر ذي بال فعلم أنهم يتحدثون بأمر أهل المدينة ومر بجماعة منهم كبيرة قد تألبوا أمام منزل فخيم قد ربطت حوله الخيول فعلم أنه بيت أمير كبير فسأل عن صاحبه فقيل له: «أنه منزل أبى سفيان.» فلما سمع اسمه شكر الله بوصوله إليه تلك الساعة على غير انتظار وأخذ يتفرس في وجوه الناس لعله يرى سيده بينهم فلم يجده فسأل بعض الوقوف عنه فأخبره بعضهم أنه فارقهم بقرب عمان وأنه لم يروه من ذلك الحين فأسف لذلك أسفا شديدا وأظلمت الدنيا في عينيه وتشأم من تلك الصدفة ولكنه تجلد وسار في طريقه إلى مر الظهران وهو غارق في بحار الهواجس فوصل المكان بعض العصر فسأل عن منزل حرب فدلوه عليه فجاءه وهو لا يرجو أن يصيب منه خيرا.
فسأل عن الرجل فقيل له أنه مصاب بمرض شديد فلا يستطيع أن يخاطب أحدا فعاد على عقبيه كاسف البال وقد أخذ منه اليأس مأخذا عظيما لا يدرى كيف يلاقي حمادا.
فوصل الخان والليل قد سدل نقابه فرأى حمادا في انتظاره على مثل الجمر فتظاهر بالتجلد ولم يخبره بخبر والده ولكنه أنبأه بمرض حرب ووعده بأن يواصل السؤال عنه حتى يشفى من مرضه على أنه لم يكن يرجو شفاءه لشيخوخته وعجزه ولكنه ألقى اتكاله على الله وصبر نفسه.
وقضى سلمان شهرا يتردد على بيت حرب يسأل عنه ويدعو له بالشفاء وعلم سلمان بعد ذلك أن الشيخ آخذ في التقدم نحو الشفاء فعادت إليه آماله.
فسار إليه ذات يوم وهو يرجو أن يقابله ويشكو إليه أمره وفيما هو في الطريق رأى أهل مكة في قلق شديد فمر بمنزل أبي سفيان لعله يتنسم خبرا عن سيده فرأى المنزل قفرا فسأل عن السبب فقال له مخبر: «أن أبا سفيان لما سمع بقدوم المسلمين على مكة خرج إليهم وربما اعتنق دينهم لأنه خرج خائفا.» فسأل سلمان عن جند المسلمين فقيل له: «أنه قادم وقد صار على مقربة من مكة.»
فتفرس سلمان في أهل مكة فرأى علامات الفشل ظاهرة على وجوههم فسمع بعضهم يمتدح الإسلام وينقم على أبى سفيان وبعضهم يلوم القريشيين على عنادهم ونكثهم عهد بني خزاعة فعلم أن الأمر عائد للمسلمين لا محالة فخرج من مكة حتى جاء مر الظهران وأراد السؤال عن حرب فرأى الناس يهرعون والنساء يولولون وينادين بالويل والثبور فإلتفت فرأى الغبار يتصاعد عن بعد فصعد على أكمة في ضواحي مكة يرى ما يكون فرأى الغبار قد شف عن جند متكاثر تتقدمهم الفرسان بالرايات ووراء كل راية قبيلة من المسلمين وكان ذلك في شهر رمضان فعسكر الجند على مسافة من مكة وعاد سلمان إلى الخان خوفا على سيده من غائلة ذلك الفتح وفيما هو سائر في الطريق رأى كوكبة من الفرسان يتقدمهم أبو سفيان عائدا من سفرته وهو يدعو الناس إلى الإسلام بالتخدير والتهديد مع النصيحة فلم يسمع إلا ازدراء واحتقارا وسمع رجاله ينادون: «من يدخل منزل أبي سفيان أو منزل العباس بن عبد المطلب فهو آمن من سيوف المسلمين ومن يدخل المسجد أو يدخل منزله ويغلق بابه فهو آمن.» فاطمأن بال سلمان.
فسار وهو يزاحم الجماهير في الأسواق فرأى أسرابا من القرشيين يتأهبون للقاء المسلمين وفيهم الفارس والراجل فلم يكد يصل الخان حتى فرغ صبره فدخل فرأى حمادا قد لبس ثيابه استعدادا للخروج فقال له: «ما بالك يا سيدي.»
قال: «استبطأتك ورأيت الناس في هرج فخرجت لأرى ما يكون.»
قال: «لا تعجل فقد علمت ما لم تعلم اجلس لأقص عليك.» قال: «قل وما ذلك.»
قال: «قد بلغك خبر الخزاعيين وما كان من نكث عهد قريش وقد كنا نتوقع قدوم المسلمين بسبب ذلك لفتح مكة فتحقق ظننا لأن المسلمين جاؤوا وهم الآن في ضواحي مكة وأظنهم يهاجمون غدا وقد علمت أن أبا سفيان سار إلى المسلمين وسلم لهم وعاد يدعو الناس إلى الإسلام بعد أن كان من ألد أعدائه كما تعلم وسمعت رجاله ينادون بالأمان على كل من يدخل منزله أو منزل العباس عم صاحب هذه الرسالة أو يدخل المسجد أو يغلق بابه فنحن إذا أغلقنا بابنا كنا في مأمن وإلا فلنذهبن إلى المسجد فانه خير ملجأ فما الرأي.»
قال حماد: «أرى أن نغلق بابنا ولكننا نكون مع ذلك في خطر إذ ربما يعتدي علينا أحد سهوا فالمسير إلى المسجد أولى فهل أنت متحقق هجومهم على المدينة غدا.»
قال: «لا أدري ولكنني سأخرج صباحا وآتيك بالخبر اليقين.»
الفصل السابع والأربعون
فتح مكة
وباتوا تلك الليلة وأصبحوا في الغد فبكر سلمان إلى أكمة الأمس فأشرف على جيش المسلمين فسار إليه يستطلع الخبر فلم يكد يبلغه حتى رآه قد اصطف ومشى يتقدمه الفرسان وأصحاب الرايات وفيهم قبائل أسلم وغفار وأشجع وسليم وغيرهم فتأمل عددهم فإذا هو يزيد على عشرة آلاف وشاهد في الوسط موكبا هائلا في وسطه راحلة عليها رجل معتجر بشقة حمراء وعلى رأسه عمامة سوداء حرقانية واضعا رأسه على رحله وشاهد على الرحل ورأوه رجلا رديقا فعجب لذلك واشتاق لمعرفته فرآه قادما من جهة الجيش فسأله عن هذا الموكب فقال: «أنه موكب رسول الله وإن الراكب هو الرسول نفسه قد جعل رأسه الشريف على رحله وأردف أسامة بن زايد خادمه تواضعا» فعجب سلمان لذلك المشهد البهيج وقال في نفسه (لا عجب إذا نصر من كانت هذه خلاله) ثم سأل الرجل عن عزمهم على الفتح فقال له: «أنهم سائرون إلى مكة من أعلاها في تلك الساعة وإن فرقة منهم سائرة بإمارة خالد بن الوليد من أسفلها.» فهرول سلمان بأسرع من لمح البصر فاعترضه جموع القرشيين يتألبون للدفاع وفيهم الفرسان ولكن الفشل كان يتجلى على وجوههم وشاهد النساء ماشيات محلولات الشعور يستحثين الرجال بالأناشيد وفي أيديهن الخمر يضربن بها وجوه الخيل تحريضا وتوبيخا فلم يزدد من تلك المناظر إلا رهبة وخوفا وتحقق إذ ذاك أن المسلمين فاتحوها لا محالة فما زال سائرا حتى أتى الخان فقال: «هيا بنا سيدي إلى المسجد فانه خير ملجأ لنا.»
فاقفلا الغرفة وهرولا حتى دخلا المسجد وجلسا في بعض جوانبه فرأوا الناس هناك زرافات ووحدانا وقد استولى عليهم الخوف.
وبعد ساعات قليلة ضج الناس في المسجد وهم يقولون: «لقد أقبل رسول الله
صلى الله عليه وسلم » فتحقق سلمان أن الفتح قد تم للمسلمين فوقف ومعه حماد في موقف يرى النبي وهو داخل المسجد فما لبث أن سمع الناس يكبرون ورأى النبي داخلا على قدميه ووراءه رجل من أصحابه آخذ بزمام ناقته فطاف حول الكعبة سعيا وفي كل مرة كان يأخذ الحجر الأسود بمجحفه والمسلمون يصيحون بالتكبير حتى زاد صياحهم فأشار إليهم أن اسكتوا.
وكان في المسجد ثلاثمئة وستون صنما لكل حي من أحياء العرب صنم قد شدوا أقدامها بالرصاص فجاء النبي وفى يده قضيب فجعل يهوى على كل صنم منها فيهوى على وجهه أو قفاه وهو يقول: «جاء الحق وزهق الباطل أن الباطل كان زهوقا.»
وكان سلمان وحماد ينظران إلى ذلك ويعجبان ثم رأياه جاء إلى صنم كبير إلى جانب الكعبة كان قد عرفا أنه هبل الأكبر فكسره وكان في الكعبة صور شتى للأنبياء وفيها صورة إبراهيم وإسماعيل وعيسى عليهم السلام فأمر بماء فمسحت كلها.
ولما تكسرت الأصنام وأمحيت الصور جلس النبي في ناحية المسجد وعلى رأسه شيخ وقور علم بعد ذلك أنه أبو بكر الصديق ثم أمر ففتحت الكعبة فدخلها والناس ينظرون فصلى فيها ركعتين.
ثم وقف على باب الكعبة والناس وقوف صامتون كأن على رؤوسهم الطير فقال: «لا اله إلا الله وحده لا شريك له صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده.» ثم خطب خطبة طويلة ذكر فيها كثيرا من الأحكام منها (لا يقتل مسلم بكافر ولا يتوارث أهل ملتين مختلفتين ولا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها والبينة على المدعي واليمين على من أنكر ولا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي حرم ولا صلاة بعد العصر وبعد الصبح ولا يصام يوم الأضحى ويوم الفطر) ثم قال: «يا معشر قريش أن الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء والناس من آدم من تراب.» ثم قال: «ماذا تقولون وماذا تظنون أني فاعل فيكم.» قالوا: «خير أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت.» فقال: «أقول قال كما أخي يوسف لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين اذهبوا فأنتم الطلقاء.» وقال أقوالا أخرى أدهشت حمادا وسلمان لما حوته من الحكمة والموعظة فنظر سلمان إلى حماد وقال: «والله أني لأعجب لأناس قاوموا هذا النبي وهذه تعاليمه وأقواله ولا ريب عندي أن سلطانه سيتسع حتى يعطي الأرض ويمحو دولتي الروم والفرس.»
ثم إلتفت حماد فرأى القرشيين يعتنقون الإسلام وهم يصلون ويهنئ بعضهم بعضا وقد هدأت الأحوال وآب الناس إلى السكينة وانطلقوا إلى منازلهم وإشغالهم فخرج سلمان وحماد إلى الخان.
فلما استتب بهما الجلوس هناك إلتفت حماد إلى سلمان فقال له: «لقد شغلنا بهذه الأحوال عما جئنا من أجله ولقد نظرت إلى الكعبة فعظم علي أمر القرطين ولم أفهم أين موضعهما ولا كيف أستطيع الوصول إليهما وخصوصا بعد هذه الحروب ودخول مكة في حوزة المسلمين.»
فقال سلمان: «ألم أقل لك يا سيدي أن عمك سامحه الله قد اقترح عليك أمرا مستحيلا ولكننا سنقابل الشيخ الخزاعي ونرى رأيه في الأمر وليس بعد الجهد حيلة.»
فقال حماد: «وقد فاتنا استطلاع أمر والدي من أبي سفيان.»
فتنهد سلمان ولم يجب.
فعجب حماد لسكوته فقال له: «ما بالك لا تجيب.»
فقال: «بماذا أجيبك وليس في الجواب فائدة.»
فقال: «ألعلك سألت عنه ولم تظفر به.»
قال: «نعم يا مولاي أن سيدي ليس مع أبي سفيان فقد علمت أنهم فارقوه عند عمان ولم يروه من ذلك الحين.»
فانقبضت نفس حماد لذلك الخبر وبهت مدة لا يتكلم ثم قال والدموع تكاد تترقرق في عينيه: « أرى يا سلمان أن الله قد أعد لنا أيام تعاسة ولا تنقضي والظاهر أن نجم سعدي قد أفل يوم خروجنا من البلقاء .» قال ذلك وتساقطت الدموع من عينيه على الرغم منه.
فتجلد سلمان وقال له: «تشجع يا سيدي ولا تيأس فإن الله لا يتركك ولا يهملك وأنت اينما تسعى في ما يأول إلى رفع منزلتك رغبة في إرضاء فتاة أنت تحبها وهي تحبك.»
فلما سمع كلمات سلمان تذكر هندا وحبها وما آنسه من صنف الأمل في الحصول عليها فلم يتمالك عن البكاء وسلمان ساكت لا يرى ما يعزيه به فقال له: «أن البكاء شأن النساء يا سيدي وعهدي بك - حازم باسل لا تجزعك حوادث الأيام فاصبر أن الله مع الصابرين.»
قال: «أنا أعلم يا سلمان أن البكاء عار على الرجال ولكن الحب ... آه من الحب آه من ثعلبة آه من جبلة..» وسكت
فأخذ سلمان يخفف عنه ويؤمله بما سيسمعونه من الشيخ الخزاعي فسكت.
الفصل الثامن والأربعون
اليأس
وفي صباح اليوم التالي خرج سلمان إلى مر الظهران يطلب ذلك الخزاعي فعلم أنه نقه من مرضه والتمس مقابلته فأدخلوه عليه فإذا هو شيخ هرم قد أحناه الكبر حتى أبيض شعر لحيته واسترسل على صدره وتجعد وجهه وغارت عيناه وغطاهما شعر الحاجبين فحياه سلمان فرد التحية وأشار إليه أن يجلس إلى جانبه ففعل.
فبدأ سلمان بالسؤال عن صحته ثم استطرد إلى آخر الفتح ثم عرفه بنفسه وما جاء من أجله فرحب به.
فقال سلمان: «قد جئناك يا سيدي نستطلع أمرا يهمنا كثيرا ولا نرى أحدا سواك يستطع مساعدتنا فيه.»
فقال: «مرحبا بك قل ما بدا لك.»
قال: «نرجو أن يكون كلامنا سرا لا يعرف به أحد سوانا.»
قال: «قل لقد وقعت على خزانة أسرار.»
قال: «نحن نعلم أن إحدى ملكات غسان واسمها مارية أهدت الكعبة قرطين ثمينين منذ نحو قرنين فهل تعرف شيئا من ذلك.»
ففكر الشيخ قليلا ثم قال: «نعم يا ولدي أني أعلم ذلك.»
قال سلمان: «فهل تعلم مكان هذين القرطين الآن.» قال: «أن حكاية هذين القرطين أصبحت في خبر كان لأن الكعبة قد هدمت وبنيت مرارا بعد إهداء زينك القرطين وآخر مرة هدمت فيها كانت منذ نحو أربعين سنة وبناها عبد المطلب جد نبينا
صلى الله عليه وسلم
الذي شاهدتم فتحه مكة أمس وهو الذي تولى رفع الحجر الأسود حينئذ ووضعه في مكانه قبل ظهور دعوته ببضع سنين فقد كانت القبائل مختلفة على من يحمل ذلك الحجر الشريف ويضعه في مكانه وحاولت كل قبيلة اكتساب ذلك الشرف لها فحكموا هذا النبي في ما بينهم وهم لا يعلمون شيئا من كرامته فأشار بوضع الحجر في ملاءة واسعة وأوعز إلى كل قبيلة أن تحمل بطرف من أطرافها وبذلك انحسم الخلاف والخلاصة أن القرطين لا يعلم أحد بمكانهما الآن والأرجح أنهما بيعا إلى أحد المتجولين والبحث عنهما يعد من قبيل العبث.»
فتكدر سلمان لذلك الأمر وإلتفت إلى الشيخ قائلا: «فهل تظن البحث عن القرطين عبثا.»
قال: «هذا ما أراه على أن دخول الكعبة لمثل هذا الغرض أمر مستحيل اليوم بعد دخولها في حوزة الإسلام.»
فانقبضت نفس سلمان ولم يعد يستطيع البقاء هناك فنهض فودع الشيخ وخرج إلى حماد وكان ينتظر عودته بفارغ الصبر فلما رآه استطلعه الخبر فأطلعه على حديث الشيخ وهو يكاد يبكي لشدة الأسف ولكنه اقترح حديثه بعبارات التعزية وأمله بوسيلة يتخذها للتعويض عن هذين القرطين أمام هند على أن ذلك لم يكن ليخفف شيئا من قلق حماد.
الجزء الثاني
مقدمة الجزء الثاني من فتاة غسان
هذه هي الرواية السادسة من رواياتنا التاريخية ولكنها تمتاز عنها كلها بأنها الحلقة الأولى من سلسلة روايات متتابعة تتضمن تاريخ الإسلام من أول ظهوره إلى الآن سننشرها تباعا في مجلتنا «الهلال» فهذه الرواية الأولى منها وتتضمن الحوادث التي وقعت من ظهور الإسلام إلى فتح الشام والعراق وتليها رواية في فتح مصر وهذه سبق أننا نشرناها في السنة الرابعة من الهلال وهي «أرمانوسة المصرية» ولم يكن في عزمنا تأليف هذه السلسلة أما وقد عزمنا على ذلك فصارت «أرمانوسة المصرية» الحلقة الثانية من تلك السلسلة.
وأما الحلقة الأولى التي نحن في صددها «فتاة غسان» فقد نشرنا الجزء الأول منها في السنة الخامسة من الهلال وهذا الجزء الثاني نشر في السنة السادسة وبناء على إلحاح حضرات القراء طبعناهما على حدة رغبة في نشرهما وسنعقبهما برواية أخرى ننشرها في السنة السابعة تتضمن مقتل عثمان وخروج الخلافة من أهل البيت إلى بني أمية ثم روايات أخرى في أهم حوادث الدولة الأموية في الشام وفي الأندلس وحوادث الدولة العباسية والفاطمية والأيوبية وهكذا إلى آخر تاريخ الإسلام.
فعسى أن يلاقي هذا المشروع إقبالا من حضرات القراء الأدباء فنثابر على العمل والاتكال على الله.
الفصل التاسع والأربعون
المناجاة
تركنا حمادا وسلمان في مكة وقد غلب عليهما اليأس بعد أن تكبدا مشاق الأسفار ولم يظفرا بشيء مما أملاه وخصوصا حماد فأنه أصبح يئسا تتقاذفه عوامل الحب من جهة وعوامل الشهامة من جهة أخرى وهو بين ذلك لا يرجو لقاء والده ولا يأمل الظفر بحبيبته فكان كلما تصور ذلك ثارت الحمية في رأسه وعظم عليه العود إلى البلقاء فحدثته نفسه أن يبتعد عن الناس ويأوي إلى مكان لا يعرفه فيه أحدا وأن يقيم في دير أو نحوه لأن الحياة أصبحت لديه شرا من الموت.
أما سلمان فأنه أدرك حال سيده وعلم ما هو فيه من اليأس فثارت في نفسه عاطفة الشهامة وعول على أن يبذل نفسه في سبيل تعزيته فخرج من الغرفة ذات صباح متظاهرا بحاجة يفتش عنها وترك حمادا وحده فلما خلا حماد بنفسه خرج من الغرفة وصعد إلى سطح الخان وقد ضاق صدره وصغرت نفسه والسطح تظلله خيمة من ورق الشجر فجلس على وسادة وأخذ ينظر إلى مكة وما يحيط بها فإذا هي عبارة عن أرض منبسطة في واد تحف به الجبال فلم تشغله تلك المناظر إلا هنيهة ثم عاد إلى هواجسه فتذكر حبيبته ووالده وتصور مقدار ما تراكم عليه من الهموم مما ألم به من الفشل وقد قطع البراري والقفار حتى جاء الكعبة للبحث عن قرطي مارية مهرا لخطيبته هند ومرضاة لوالديها فعلم من حرب الخزاعي أن القرطين لا يمكن العثور عليهما هناك وبعد أن كان على أمل من لقاء والده مع أبي سفيان في مكة تحقق ضياعه ويئس من حياته فتصور نفسه مغلول اليدين مقصوص الجناحين فعظم الأمر عليه كثيرا واشتد به اليأس حتى تناثرت الدموع من عينيه ثم تذكر أنه في غربة لا يجدر به الاستسلام للعواطف فأمسك نفسه ولكن اليأس غلب عليه فانقبضت نفسه واشتد به الهيام فأخذ يناجي هند قائلا: «آه منك يا هند بل آه من هذا القلب الذي عصاني وأطاعك ونعم ما فعل فإنك والله جديرة بحبه ولكن والدك آه من والدك فأنه إنما أراد مستحيلا فطلب مني مهرا العنقاء أقرب منالا منه وكأني به لا يرضاني له صهرا وعذره مقبول طالما كان نسبي مجهولا ... فالقرطان لم يوجدا فهند بعيدة المنال مني آه يا هند أأعود إليك بصفقة المغبون وإذا عدت كذلك ما يكون رأيك ... لا ريب عندي أن ذينك القرطين لا يهمك أمرهما ولا رضيت أن أشقى في سبيل التفتيش عنهما إلا مجاراة لوالديك ... ولكن ما هذا يا حماد كيف تعود إلى هند صفر اليدين وكيف تقابل جبله وماذا تقول له لا لا لا لن أعود إلى البلقاء على هذه الحال وقد فقدت والدي في بلاد لا أعرف فيها أليفا ومن يدريني أين هو وأين النذر ووفاء النذر يا ليته قص شعري قبل ضياعه فقد كنت على موعد منه أنه متى وفى النذر وقص الشعر يطلعني على أمور تهمني وقد يكون لها علاقة بأمر زواجي فأين والدي الآن آه يا أبتاه أين أنت ألعلك لا تزال في قيد الحياة من يعلمني أين مقرك فأطير إليك مسرعا أما إذا يئست منك ومن هند فلا يعود لي في الحياة مأرب فإما أن الجأ إلى دير أو صومعة أقضي بقية الحياة منفردا لا أرى أنيسا أو أن ألقي نفسي في تهلكة ... ولكن لا لا أن قتل النفس ضعف ومذلة وكيف أفعل ذلك ونفسي رهينة أمر هند وهند لا تريد قتلها إذن لأصبرن صبر الرجال وأعيد الكرة في البحث عن القرطين فإذا تيقنت فقدانهما عمدت إلى هند وبسطت لها أمري وأطلعتها على كنه ضميري فإذا رأيتها تؤثر مرضاة والديها وحفظ تقاليد عائلتها على رضاي قلت على الدنيا ومن فيها السلام وإلا فإني أرضى من الدنيا برضاها فنتعاقد ونتراضى على أمر يكون لنا فيه منجاة من والديها ... وأما والدي آه أين أنت يا أبتاه إن ضياعك عرقل مساعي وغل يدي ولا ريب أنك لو شاركتني في هذا الأمر لسهلت كل صعب وهديتني صراطا مستقيما ... ولكن الأقدار أبت إلا معاندتي فصبرا جميلا ...»
مرت كل هذه الخيالات في ذهن حماد وهو متكئ على الوسادة تارة يبكي وطورا يحرق أسنانه وآونة يصبر نفسه وكان لم ينم في الليل الماضى إلا قليلا فغلب عليه التعب والملل والضجر فجاءه النعاس فغمضت جفناه.
الفصل الخمسون
حسان بن ثابت الأنصاري
مضى بعض ذلك النهار وحماد بين نائم وهاجس فوق سطح لم يذق طعاما حتى إذا كان العصر أفاق من صوت سلمان خادمه ففتح عينيه فرآه واقفا فوق رأسه يناديه وعلى وجهه أمارات البشر كأنه أتى أمرا جديدا فانبسطت نفس حماد فهب من رقاده وجلس وصاح ما وراءك يا سلمان.
قال: «ما ورائي إلا الخير بإذن الله».
قال: «أرى على وجهك أمارات البشر فهل اهتديت إلى طريق جديد يوصلنا إلى ساحة الفرج».
قال: «نعم يا سيدي أظنني توفقت إلى شيء من هذا القبيل».
قال: «ما هو؟»
قال: «خرجت في هذا الصباح على بركة الله وقد عولت في باطن سري أن لا أعود إليك إلا ببشرى خير فسرت في أسواق مكة وأنا أتوسل إلى الله أن يلهمني رشدا وسدادا أو يهديني سبيلا أخفف به اليأس عن مولاي فمررت ببعض البيوت فرأيت عند بابه بغلة عليها بردعة ثمينة والى جانبها غلام فحدثتني نفسي أن أسأله عن صاحب البغلة فقال: «هو حسان بن ثابت شاعر الأنصار» فتذكرت إني أعرف هذا الاسم فأخذت في التفكر لعلي أذكر الرجل فعلمت إني كنت أسمع اسمه منذ كنت في العراق وأنه كثيرا ما كان يأم الحيرة فينظم القصائد في مدح الملك النعمان رحمه الله وكثيرا ما كان يفد على ملوك بني غسان فيمتدح جبلة والحارث بن أبي شمر وغيرهم فقلت في نفسي أظنني أصبت ضالتي أن الرجل يجالس أعظم ملوك العرب فربما كان له إلمام بأمر القرطين فسألت الغلام عن حسان فقال: «أنه في البيت» فاستأذنت في الدخول عليه فأذن فدخلت عليه حتى أقبلت على الرجل فإذا هو جالس على وسادة في بعض زوايا الغرفة فتأملته فإذا به قد تبدلت حاله عما كنت أعرفه فأحناه الكبر وضعف بصره وشاب شعره واسترسلت لحيته فبادرت إلى يده فقبلتها وحييته فرد التحية ورحب بي وأجلسني إلى جانبه وسألني عن أمري فما زلت أدخل معه في حديث وأخرج من آخر حتى توصلت إلى القرطين فسألته عما يعرفه من أمرهما ففكر قليلا ثم قال: «أظنني سمعت ذكرهما في بعض مجالس النعمان بن المنذر في الحيرة». فقلت: «وكيف كان ذلك».
فقال: «يغلب على ظني أن بعض تجار الفرس الذين يحملون الأقمشة الفارسية إلى مكة عاد منها ذات عام ومعه قرطا مارية فعرضهما على النعمان وأظنه اشتراهما منه فإذا صدق ظني كان القرطان الآن في خزينة الملك النعمان في الحيرة».
فلما سمعت ذلك هرولت إليك مسرعا لنسير إليه فهل تسير معي».
قال: «نعم ولا بد من المسير إني أرى في كلام الشاعر بابا للفرج هلم بنا».
فنهض حماد وقد انبسطت نفسه وعادت إليه بعض الآمال وإن لم يكن في الخبر ما يدعو إلى الأمل ولكن المرء إذا كان في ضيق كان سريع التعلق بالأمل ولو كان أوهى من خيط العنكبوت. وأحس حماد بفراغ معدته فتناول شيئا من التمر يسد بها جوعه وخرج مع سلمان ماشيين حتى أتيا ببيت حسان فاستأذنا ودخلا فتقدم أولا سلمان فسلم وذكر اسم حماد أمام حسان وقال أنه سيده وأنه من أمراء العراق ولما سمع بوجود حسان هناك أراد المثول بين يديه فتقدم حماد وهم بتقبيل يدي الشيخ فمنعه ولكنه رفع نظره إليه وتفرس فيه كأنه يراجع في ذاكرته صور أمراء الحيرة لعله يعرف حمادا فتشابه عليه أمره فسأله عن اسمه واسم عائلته.
فقال حماد: «إني حماد بن الأمير عبد الله».
فقال حسان: «لا أذكر رجلا بهذا الاسم في بلاط النعمان أو لعلي نسيته فقد قتل النعمان رحمه الله قتلوه غدرا منذ نيف وعشرين عاما وتفرقت أصدقاؤه على انني انقطعت عن الحيرة قبل ذلك العهد فلم أعد أقدمها ولا رأيت أحدا من أمرائها ولكن سقى الله تلك الربوع وأعاد سلطة المناذرة فقد كانوا زينة الدولة الفارسية وبيت قصيد وخصوصا النعمان بن المنذر رحمه الله وجازى الباغين عليه شرا».
فقال حماد: «وهل كنت تفد عليه كثيرا».
قال: «لم يمض العام قبل أن أزوره مرارا فأركب ناقتي من المدينة حتى آتي البلقاء فادخل على جبلة بن الايهم أو الحارث بن أبي شمر الغساني ثم أقصد العراق فأدخل مجلس النعمان بن المنذر فيخلع علي الخلع ويأمر لي بالعطايا وهكذا كان يفعل الغسانيون أيضا ثم كان ما كان من أمر قتله فانقطعت عن العراق إلى البلقاء حتى ظهر الإسلام وأسلم أهل المدينة فكنت في جملة من تشرف بالإسلام ولازمت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أسير معه أو الحق به حيثما أقام. وقد عاد الآن بجيشه إلى المدينة ولا ألبث أن أتبعه عاجلا».
فقال سلمان: «ذكرت يا مولاي أن القرطين بيعا للملك النعمان فماذا تم لهما بعد موته».
قال: «لا أدري وربما كانا في جملة ما استولى عليه قاتلوه من التحف فإذا صح هذا الظن كان القرطان في خزينة ملوك الحيرة الآن».
وكان حسان يخاطب سلمان وعيناه لم تتحولا عن وجه حماد وهو يتفرسه ويلاحظ حركاته كأنه يعرف له شبها وحماد غافل عن ذلك بما كان غارقا فيه من الهواجس بعد أن سمع ما سمعه من أمر القرطين وصعوبة الحصول عليهما بعد وصولهما إلى خزينة ملوك الحيرة ولكنه عول على البحث عنهما ما استطاع إلى البحث سبيلا.
وبعد قليل هم حماد بالخروج فسأله حسان: «أين تقصدون؟»
قال سلمان : «إننا نقصد منزلنا لنتهيأ للخروج في الغد».
قال: «هل تريدون الذهاب إلى المدينة؟»
قال: «ربما مررنا بها في طريقنا إلى البلقاء».
قال: «أرى إنكما غريبان فربما عسر عليكما المسير منفردين وقد آنست فيكما عنصرا جيدا فهل تقبلان مرافقتي إلى المدينة تقيمان فيها ريثما تعزمان على البلقاء وربما أرفقتكما بمن يوصلكما إليها».
فنهض سلمان نهوض الاحترام واثنى على حسان ثناء طيبا وقال: «إننا نشكر لفضل الشاعر شكرا جزيلا ولا نعد ذلك منه إلا كرما ومنة عرف بها عرب الحجاز منذ القدم».
قال: «عفوا يا أخا لخم إني لا أجود إلا بمال المناذرة ولا أرتع إلا في بحبوحة خيرهم فأني لا أنكر فضل العراق علي وعلى كل من نزل ديارهم من الغرباء وذلك أمر مشهور لا يجهله أحد فيكف بأهله فإذا شئتما المسير إلى منزلكم الليلة فاعدوا حوائجكم وها إني مرسل معكم من يحملها إلينا فنبيت الليلة هنا ونصبح سائرين إن شاء الله».
الفصل الحادي والخمسون
اللقاء
فباتوا تلك الليلة في منزل حسان وأصبحوا جميعا قاصدين المدينة وحسان يطرفهم في أثناء الطريق بلطائف منظوماته في مدح ملوك الحرية وملوك غسان وحماد يستزيده مما نظمه في جبلة بن الايهم ويطرب كل بيت يسمعه ولم يكن ذلك إلا ليزيد أشجانه ويذكره بخطيبته هند ثم تذكر ثعلبة وأباه الحارث بن أبي شمر فقال: «وكيف رأيت الحارث بن أبي شمر؟»
قال: «رأيته كريما محبا للشعراء ولكنه كان حاسدا لجبلة فكنت إذا مدحت جبلة في حضرته كان الحسد يظهر على وجهه مع ما كان يحاول إخفاءه من عواطفه».
فتحقق حماد أن ثعلبة إنما ورث ذلك الخلف عن والده وزاد عليه اللؤم والخساسة ولما تذكر ذلك غلب عليه الانقباض وأوجس خيفة على هند من غدره أثناء غيابه وخصوصا إذا عاد خالي الوطاب فاستولى عليه السكوت فأدرك سلمان منه ذلك فأراد إخفاء الأمر عن حسان فقال: «وكيف رأيت جبلة».
قال: «رأيته شهما عزيز النفس كريم الخلق كثيرا ما عرضت بحسد الحارث أمامه وهو لا يبالي بل كان يلتمس له عذرا ويغالطني متجاهلا فكنت لا أزداد إلا إعجابا به».
فقال سلمان: «وأي الملكين أشد بطشا الآن؟»
قال: «إن جبلة أرفع مقاما وأعز جانبا ولكن بعض القادمين علينا من البلقاء أنبأنا بوفاة الحارث».
فبغت سلمان وانتبه حماد من هواجسه فقال سلمان: «وهل تحققتم وفاته».
قال: «نعم وقد نقله إلينا بعض الذين أرسلناهم لتجسس أحوال الروم بعد واقعة مؤتة».
فالتفت سلمان إلى حماد فرآه يبتسم ولكن البغتة ما زالت ظاهرة على وجهه يتخللها بعض الانقباض فأشار إليه بملامح وجهه إشارة فهم حماد منها أنه يهنئه بانكسار شوكة ثعلبة لكنه تحول حالا إلى حسان وقال له: «وما ظنك بمن يرث الإمارة بعده».
قال: «لا أظن أحدا من أهله أهلا لهذه الإمارة والغالب أن تجتمع كلمة قبائل غسان تحت لواء جبلة بن الايهم».
فانشرح صدر حماد ولكن أمر القرطين ما زال حاجزا بينه وبين كل سرور.
وساروا حتى أتوا المدينة فوصلوها صباحا فوجدوا أهلها في فرح وعز لما أوتوه من النصر بفتح مكة المشرفة ورأوا الناس عكوفا على الصلاة وما زالوا سائرين حتى أناخوا جمالهم أمام منزل حسان فهم الخدم بحمل الأمتعة إلى المنزل وأخذوا الجمال إلى العلف ونزل سلمان وحماد وقد أعجبوا بما آنسوه من عكوف المسلمين على الصلاة وما رأوا من خشوعهم وتدينهم فضلا عما شاهدوه من بسالتهم في فتحهم مكة.
أما حسان فلم يكد يصل منزله حتى طلب الراحة من وعثاء السفر لشيخوخته وعجزه ودعا ضيفيه إليه فجلسا متأدبين فقال لهما: «تذكرت أمرا أظنه يهمكما كثيرا وقد فاتني ذكره لكما قبل الآن».
قال سلمان: «وماذا عسى أن يكون ذلك».
قال: «ذكرت لكم واقعة مؤتة وأظنكم لم تفهموا ما هي».
قال سلمان: «كلا يا سيدى لم نفهم المراد جيدا».
قال: «كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أرسل جندا من المسلمين لحرب الغسانيين في العام الماضي فسار الجند وحاربهم في مكان يقال له مؤتة بالقرب من بصرى وستسمعون خبر هذه الواقعة الآن ولكنني أردت أن أوجه التفاتكم إلى رجل أسره جندنا في أثناء تلك الحملة وقد حملوه إلينا فلما رأيته معهم عرفت أنه أسر ظلما ولما سالته عن خبره علمت أنه ليس من أهل البلقاء بل هو عراقي ومن أهل الحيرة ذكر أنه كان يراني أثناء وفودي على الملك النعمان منذ نيف وعشرين عاما وبما أنكم من أهل العراق فربما استأنستم بالرجل والوطن أحسن جامعة بين الناس» قال ذلك ونادى رجلا واقفا بالباب فحضر فقال له: «أدع ضيفنا العراقي».
قال: «لبيك» وخرج ثم عاد يتبعه رجل كهل ملتف بعباءة مقطب الوجه وكان حماد وسلمان لا يزالان مخمرين خمار السفر فحالما وقع نظر سلمان على ذلك الرجل أحس بخفقان قلبه كأنه آنس فيه مشابهة لسيده عبد الله ولكنه رأى في سحنته ملامح تخالف ما لعبد الله أهمها أن عبد الله كان طويل الشاربين مستدقهما ومسترسل شعر اللحية مع خفية أما هذا فهو قصير الشاربين واللحية على أن سلمان ما زال ينظر إليه ويتأمله حتى دنا منه فوقف له وهم بمصافحته فلم يكد يفوه بأول كلمة حتى تحقق سلمان أنه هو سيده بعينه فهم به وقبله وناداه باسمه.
وكان حماد في شاغل من هواجسه في هند والقرطين ووالده فلم ينتبه إلا وسلمان ينادي بأعلى صوته سيدي الأمير أهلا سيدي الأمير فالتفت حماد فإذا هو والده عبد الله فنهض ونهض سلمان فهم عبد الله بحماد وضمه وجعل يقبله ودموع الفرح تتساقط على وجهه وسلمان يقبل يد عبد الله ويهنيهما بعضهما ببعض فانبسطت وجوه الجميع وزالت منهما العبوسة وجلسوا وعبد الله بجانب حماد قابضا على يده بين يديه وحسان جالس إلى جانب وقد عجب لما رآه وسمعه فسألهم عن أمرهم فأحكى له عبد الله عما تم من الاتفاق الغريب وإن حمادا ووالده وسلمان جاؤوا معه ففرح حسان لما تم على يده من الخير. ثم جلسوا يتحادثون.
فقال سلمان: «لقد رأيت في وجه سيدي تغييرا كاد يحول بيني وبين معرفته فأني أعهد شعر وجهه طويلا مسترسلا فما لي أراه قصيرا».
فضحك عبد الله وقال: «إن لهذا التغيير حديثا غريبا سأقصه عليك بعد أن أسمع حديثكم وما كان من أمر الأسد وضياع الفرس».
الفصل الثاني والخمسون
واقعة مؤتة
فحكى سلمان حكايته مع حماد والأسد وكيف نجوا منه بتسلق تلك الشجرة وما تم لهم بعد ذلك من حديث هند ووالدتها ووالدها وحب حماد لها ثم ما كان من خطبة حماد وما اقترحه عليه جبلة بن الأيهم مهرا لابنته وما لاقاه حماد في سبيل ذلك من الأسفار والأخطار حتى جاؤوا مكة وشهدوا فتحها وكيف يئسوا من وجود القرطين هناك حتى تجدد أملهم بوجودهما في خزينة النعمان بن المنذر في الحيرة.
وكان عبد الله في أثناء الحديث مصغيا صامتا وأمارات الاستغراب ظاهرة على وجهه كأنه سمع أمورا لم يكن يتوقع حدوثها ولا يرضاها ولكنه سكن عن ذلك وأخذ يقص عليهم حديثه فبدأ بوقوعه بالأسر في غسام ثم مسيرة إلى بيت المقدس. ومقابلته هرقل إمبراطور الروم وما سمعه من حديث أبي سفيان ثم سفره معه وما كان من مشاهدته الفرس واستدلاله منها على ضياع حماد وكيف رافقه أبو سفيان في مسبعة الزرقاء للتفتيش عن حماد وما شاهدوه من عظام الفرس الآخر وبعض الآثار حتى انتهى إلى مسيرة منفردا إلى عمان ووقوعه أسيرا بين يدي الحجازيين الذين ساروا لمحاربة أهل الشام وما دار بينه وبين بعضهم عن السبب الذي جاءت تلك الحملة من أجله إلى أن قال: «فلبثت أسيرا عندهم وأنا على مثل الجمر لأن أملي لم ينقطع من لقاء ولدي حماد على إني كنت في بعض الأحايين لا أرتاب من فقده وأحيانا أراجع ما شاهدته من الأدلة على ذلك فلا أرى ما يقطع بوقوع القضاء فكان سجني في معسكر جيش الحجاز قيدا ثقيلا علي وخصوصا أنهم متبعوا القرى عني فقد كنت أستأنس به فبعد إن قضيت مدة بجوار عمان علمت ذات يوم أن الروم قد جندوا جندا كبيرا يبلغ عدده نحو مئتي ألف وفيهم الروم والعرب من بني غسان ونجم وجذام وبهرام فلما بلغ المسلمين ذلك خافوا الفشل لأن عددهم لا يزيد على ثلاثة آلاف فضلا عما في جند الروم من العدة والسلاح وبلغني أن أمراء جند المسلمين اجتمعوا في خيمة ابن رواحة أحد أمرائهم وتشاوروا في الأمر فقال أكثرهم: «نكتب إلى رسول الله في المدينة نخبره الخبر فإما أن يمدنا بالرجال وإما أن يأمرنا بأمر فنمضي له» فقام فيهم ابن رواحة وخطب خطابا أنهض هممهم فقال: «يا قوم والله أن التي تكرهون لهي التي خرجتم إياها تطلبون الشهادة وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به فانطلقوا إنما هي إحدى الحسنيين أما ظهور وإما شهادة.» فقال الناس: «والله صدق ابن رواحة» واشتدت عزائمهم وصمموا على الحرب وكنت أعجب لبسالتهم وإقدامهم واتحاد كلمتهم واستهلاكهم في سبيل نصرة دينهم.
فبعد أيام نودي بالجند فقاموا وسرت أنا فيهم مخفورا أرى كل حركاتهم وسكناتهم فما زلنا سائرين حتى دنونا من بلدة على رحلتين من بيت المقدس يقال لها مؤتة وكان جند الروم قد عسكر هناك فالتفت إلى ذلك الجند فإذا هو مالئ السهول هناك وفيهم الفرسان والمشاة ورأيت في وسط المشاة مشاة عليهم ملابس كثيرة الألوان تبهر النظر تتلألأ في ضوء الشمس فلم أكن أظن الحجازيين ينظرون إلى ذلك الجند حتى يعودوا القهقرى وجلا ومهابة ولكن رأيت فيهم ثباتا لم أر مثله في أسفاري كلها وما ذلك إلا لوثوقهم بربهم وعدم مبالاتهم بأنفسهم في سبيل نصرة دينهم.
وخلاصة القول أن المسلمين تقدموا تحت قيادة ثلاثة من الأمراء ساروا أمامهم مشاة على أقدامهم وما ذلك إلا لاستهلاكهم في الجهاد والطاعة حتى التقى الجيشان وانتشبت الحرب وكان اللواء أولا بيد أخدهم زيد بن حارثة فقاتل وهو يعلم ضعف الجند ولكنه ظل مكافحا حتى قتل طعنا بالرماح فتقدم الأمير الثانى وهو جعفر بن أبي طالب فقاتل به وهو على فرس شقراء فألجمه القتال وأحاط به فنزل عن فرسه وبقرها وقاتل حتى قتل فأخذ اللواء عبد الله بن رواحة وهو على فرسه ثم نزل عن فرسه وحارب حتى قتل فوقع الرعب في قلوب المسلمين وكادوا يفشلون لو لم يقم فيهم رجل لم أر مثله باسلا اسمه خالد بن الوليد وسمعت بعضهم يسميه سيف الله فجمع كلمة الجند وهجم هجمة واحدة فظن الروم أن نجدة قد جاءتهم فاستولى الخوف على جند الروم وفشلوا وغنم المسلمون منهم شيئا كثيرا ولكنهم لم يبقوا على الحرب فعاد المسلمون يريدون المدينة وكنت أنا في أثناء هذه الموقعة في حيرة شديدة ولو كانت الحياة عزيزة علي لفررت من المعسكر ساعة اشتغال المسلمين بالحرب ولكنني وددت أن أصاب بنبلة أقتل بها فلم يقض الله بذلك فلما عاد المسلمون إلى هنا عدت أنا معهم أسيرا فأصابني في أثناء الطريق انحراف صحي فأصبحت وشعر لحيتي يتساقط وكذلك شعر شاربي حتى لم يبق منه إلا القليل فلما وصلت المدينة التقيت بشاعرنا (وأشار إلى حسان) فتعارفنا ودعاني للإقامة في داره فأقمت عنده كما ترون وفي أثناء ذهاب الجند إلى مكة للفتح الذي شهدتموه زارني الحرث بن كلدة طبيب العرب فوصف لي دهنا من عشب فأخذ الشعر ينمو وأرجو أن يعود إلى ما كان عليه».
الفصل الثالث والخمسون
يوم الشعانين
فلما أتم عبد الله حديثه هنأوا بعضهم بعضا بالسلامة ثم قال حماد: «وأين فرسي الآن».
قال: «هو معي هنا فهل تريد أن تراه».
قال: «نعم» وخرجوا إلى بستان بالقرب من المنزل وكان الجواد مشدودا إلى نخلة فلما وقع نظره على صاحبه أخذ في الصهيل كأنه يرحب بقدومه وتقدم حماد إليه فلمس جبهته وقبله بين عينيه ثم عادوا جميعا والفرح ملء قلوبهم إلا حماد فأنه عاد إلى هواجسه في هند وأبيها والقرطين فلما وصلوا المنزل وجلسوا نظر عبد الله إلى حماد وقال له: «العلك لا تزال مصمما على الاقتران بهند».
قال: «نعم يا أبتاه ولا أظنني قادرا على العدول عنه بعد أن كان ما كان».
قال: «وهل نسيت نذرنا لدير بحيراء؟»
قال: «وأي نذر؟»
قال: «نذر يوم الشعانين الذي سنقص فيه شعرك».
قال: «وما دخله بمسألة الاقتران؟»
قال: «إن له دخلا كبيرا لأني سأتلو عليك في ذلك اليوم حكاية وأطلعك على أمور ذات بال لها علاقة كبرى بأمر الزواج».
فخاف حماد أن يكون هناك ما يحول بينه وبين هند.
فقال: «وهل في ذلك السر ما يمنعني من هند؟»
قال: «لا أقدر على التصريح بشيء من ذلك الآن ولكن أحد الشعانين يكشف لك كل شيء».
فقال: «إن يوم الشعانين بعيد فهل يسوغ لنا استبداله بسواه».
قال: «كلا يا ولدي بل يجب علينا إتمام النذر حرفا حرفا» فوقع حماد في حيرة وأوجس خيفة لئلا يكون في قصة يوم الشعانين ما يحول بينه وبين هند فود أن يطلع على حقيقة ذلك ليعلم كيف يتصرف وقد كان عازما على البحيرة للبحث عن القرطين وكان يظن أن والده سيكون أكبر مساعد له على ذلك لكثرة أصدقائه هناك فأصبح بعد ما سمعه منه لا يستطيع مكاشفته بالأمر لأنه قال له صريحا أن لا يخطوا خطوة في مسألة الاقتران قبل يوم الشعانين فصمت برهة يفكر في الأمر فخطر له أن يستطلع سلمان على حدة لعله يكون عالما بشيء من ذلك السر.
فانفرد به في مسألة ذلك اليوم وسأله عما يعلمه من أمر يوم الشعانين.
فقال له: «إن سر ذلك اليوم مكتوم عن كل بشر أعرفه وقد قضيت مع سيدي والدك أعواما منذ كنت طفلا حتى صرت شابا وأنا أسمع أنه نذر قص شعرك في دير بحيراء عندما تبلغ هذا السن وأنه سيطلعك في ذلك اليوم على أمور تهمك كثيرا ويكون لها علاقة كبرى بمستقبل حياتك وأعترف لك إني بذلت قصارى جهدي في استطلاع شيء من ذلك السر فلم أتوفق وتراني أكثر رغبة منك في معرفته فما لنا إلا الانتظار إلى يوم الشعانين».
فقال: «وكيف أقضي هذه الأيام وماذا أفعل بهند. فقد أفصحت لك عن أمور أنت تعلم إني أكتمها عن سائر العالمين فهل يخفى عليك ما بيني وبين هند من المحبة والرابطة وقد تركتها على موعد من اللقاء فمضت سنة منذ تركتها ولم أفعل شيئا مما تعهدت لها به بعد فإن القرطين لم نقف لهما على أثر ولا أرى أن أعود إليها إلا والقرطان في يدي وعلمت أن الأمل معقود بالتفتيش عنهما في العراق ولا نستطيع ذلك إلا بمساعدة والدي وقد سمعت قوله الدال على رغبته في إيقاف كل حركة قبل يوم الشعانين فكيف أقضي هذه المدة وأنا بعيد عن هند، أتظنها لا تزال على عهدي؟»
قال سلمان: «أما ما عرفته من حبها لك وثباتها في حبك فلا يترك محلا للشك في بقائها على عهدك وأنها لا يمكن أن تتحول عنك يمنة ولا يسرة ولكنني أرى أن تكتب إليها كتابا أو تنفذ إليها رسولا تبثها ما عندك وتستمهلها في إنفاذ المهمة التي أنت سائر بشأنها وتطلب منها جوابا ومن جوابها تفهم ما يكنه ضميرها».
فقال حماد: «وهل تظن والدي عازما على البقاء هنا إلى يوم الشعانين؟»
قال: «لا أظنه يطيل البقاء هنا لأن أهل المدينة لا يفترون عن الاستعداد للحروب أما لغزو أو لدفع مهاجم ولا وطر لنا في ذلك فالغالب أنه يفضل الذهاب إلى بصرى يقيم فيها بقية هذا العام».
قال: «فإذا كنا ذاهبين إلى بصرى فليس ثم حاجة إلى المخابرة لأني ألاقيها هناك وأجتمع بوالديها أو بأحدهما وأتلو عليهما ما وقع فما عليك إلا إقناع والدي بالذهاب بنا إلى البلقاء».
قال: «حسنا ولكنك إذا أردت مقابلتها هناك فليكن ذلك على غير علم من والدك».
قال: «ننظر في ذلك» ثم افترقا وأخذ سلمان في تحريض مولاه عبد الله على الخروج من المدينة والإقامة بقية ذلك العام في البلقاء وخصوصا لأن الحارث قد مات وخرج النفوذ من يدي ابنه ثعلبة.
فوافقه عبد الله على ذلك فقضوا بضعة أيام في المدينة يشاهدون ما أحدثه المسلمون فيها من الأبنية وأحسنها المسجد الجامع على أنهم كانوا يشاهدون في كل يوم شيئا جديدا من الإعدادات الحربية للغزو أو غيره مما زادهم تهيبا لجند المسلمين وحسبوا لمستقبل دولتهم حسابا كبيرا.
ثم أخذوا في الاستعداد للمسير فودعوا حسانا فأرفقهم بدليل يعرفه وساروا يقطعون البراري والقفار حتى أتوا بصرى فتشاورا في مكان يقيمون فيه فاتفق رأيهم على الإقامة في دير بحيراء فاتخذوا فيه غرفة أقاموا فيها.
أما حماد فان عودته إلى ذلك الدير أذكرته أمورا هاجت أشجانه فتذكر اجتماعه بهند هناك لأول مرة وما كان من مجيء ثعلبة بغتة إلى آخر ما حدث في حينه ثم عزم على المسير إلى جبلة للسلام عليه ثم إلى صرح الغدير لملاقاة هند وبثها ما في ضميره وما بلغت إليه مهمته وما يرجوه من العثور على القرطين في العراق ولكنه كان كلما تصور وقوفه أمامها موقف المعتذر أو المستمهل اشمأزت نفسه وعسر عليه ذلك الموقف.
الفصل الرابع والخمسون
هند في صرح الغدير
فلنترك حمادا ووالده وسلمان ولنعد إلى صرح الغدير لنرى ماذا تم لهند بعد سفر حماد لئلا يظن القارئ أننا نسينا عواطفها وأشجانها ولم نبال بما قاسته أثناء غيابه من الوحشة والخوف عليه ولا سيما بعد أن سمعت بفتح مكة ودخول المسلمين إليها عنوة وهي تعلم أن حمادا إنما سار إلى هناك التماسا للقرطين.
ودعت هند حمادا يوم سفره وقلبها واجف عليه لعلمها أنه سار في تلك المهمة والخطر ظاهر فيها ولكن ثقتها بشجاعته وتعقله هونت عليها الأمر لأول وهلة ثم اشتغلت عنه بالاضطرابات والمخاوف أثناء حرب مؤتة وحمدت الله لغيابه خوفا عليه أن يصاب بسوء إذا تعرض لسهام الحجازيين.
فلما انقضت الحرب وعادت البلقاء إلى السكينة عادت هي إلى الاضطراب واستبطأت حمادا لأنها كانت تتوقع رسالة منه أو خبرا عنه فلما طال الأمد ولم تسمع عنه شيئا انقبضت نفسها واستولت عليها المخاوف.
وكانت والدتها تراقب حركاتها وسكناتها وقد أدركت ما بها فأخذت تشاغلها بالآمال وتواسيها بالوعود وهي لا يهدأ لها بال ولا ترتاح إلى حديث على أنها كانت تعلل نفسها بالذهاب إلى دير بحيراء أيام مرور قوافل الحجاز به لعلها تسمع من أحد حديثا يطمئنها وصارت تستأنس بالحجازيين وترتاح إلى كل قادم من الحجاز وخصوصا الذين يقدمون من مكة ولكنها كانت كلما سمعت اسم الكعبة اختلج قلبها واضطربت جوارحها وهي مع ذلك لا يهدأ لها بال إلا بالسؤال عنها والبحث عن أخبارها حتى التقت يوما بقافلة قادمة من مكة فسمعت الناس يتحدثون عن فتحها وما كان من دخول المسلمين إليها عنوة وقتل بعض أهلها فارتعدت فرائصها وتصورت حمادا في تلك المدينة عرضة لسيوف المسلمين فازداد بلبالها وودت لو أنها تطير إلى الحجاز فترى ما تم لحبيبها.
ثم رأت ترددها إلى الدير واستماع تلك الأحاديث لا يزيدها إلا قلقا فانقطعت عنه وانزوت في صرح الغدير لا ترى أحدا ولا تسمع خبرا مخافة أن يكون في ما تسمعه نبأ يسوءها. ثم سمعت بموت الحارث بن أبي شمر والد ثعلبة فأحست بارتياح لعلمها أن مؤتة يقلل من نفوذ ابنه لدى والدها. على أن ذلك لم يزد شيئا من أسباب سعادتها فالهموم ما زالت تتراكم عليها وليس لديها من تشكو همها إليه غير والدتها لكنها كانت تخاف مخاطبتها بهذا الشأن لئلا تسمع منها ما يزيدها يأسا ففضلت الكتمان وهي مع ذلك لا تزداد إلا تحولا وانقباضا وميلا إلى الخلوة.
وكانت كلما خلت بنفسها نظرت إلى الأساور في يدها وجعلت تقبلها وتتنسم منها رائحة حماد فإذا اشتد بها الهيام بكت وتحرقت ونقمت على والديها لأنهما أبعدا حمادا عنها وخيل لها أنهما إنما أرسلاه إلى تلك الأصقاع للتخلص منه وما زال هذا الفكر يتمكن منها حتى أصبح بمنزلة الاعتقاد وصارت تنفر من مجالسة والدتها وتسئ الظن بها فلم يزدها ذلك إلا رغبة في الخلوة والانقطاع عن الناس.
وأما والدتها فقد كانت لنباهتها وحدة ذهنها لا تغفل عن خاطر يمر في ذهن ابنتها وكانت تعذرها على ذلك لأنها شعرت هي أيضا بارتكابها أمرا قبيحا بإرسال حماد في مهمة خطرة إلى هذا الحد. وقد زاد ندمها خبر وفاة الحارث بن أبي شمر وضعف نفوذ ثعلبة مع كره هند له فتحققت عند ذلك أن هندا يستحيل عليها الاقتران به وقد أصبح بعد موت والده وضيع المنزلة ولم يعد جبلة يخشى بطشه لو رد طلبه.
فأصبحت سعدى بسبب ذلك شاعرة بخطأ فظيع ارتكبته أمام ابنتها فأحرمتها شهما يحبها وتحبه وصارت هي أكثر رغبة من هند في عود حماد وصممت في باطن سرها على أنه إذا عاد ولو خائبا لتساعدنه في الحصول عليها ولو أبى والدها. على أنها لم تكن تستحسن مخاطبة هند بهذا الشأن لئلا توطد آمالها ثم ربما لا يعود حماد من الحجاز فيكون ذلك سببا في زيادة أحزانها فصبرت نفسها لترى ما يأتى به القدر ولكنها ما برحت تتنسم الأخبار لعلها تسمع شيئا جديدا.
أما جبلة فقد كان في البلقاء مشتغلا عن مثل هذه الأمور بما كان من الحرب في مؤتة فما عتم أن رجع المسلمون حتى توفي الحارث فزاد اشتغاله وعظم اهتمامه بضم قبائل العرب في الشام والبلقاء إليه لأن العرب المتنصرة هناك قبائل وبطون لكل منها راية وأمير وكانت في زمن الحارث منقسمة إلى فئتين إحداهما تابعة للحارث والأخرى لجبلة فلما توفي الحارث اشتغل جبلة بضم بعض قبائل الحارث إليه إن لم يكن كلها ولم يطمع بذلك إلا لعلمه بضعف ثعلبة عن القيام بما قام به والده قبله ولاعتقاده أن أمراء القبائل أنفسهم يكرهون ثعلبة لدناءته وشراسة أخلاقه. فوقع بسبب ذلك تنافر بين جبلة وثعلبة وأحس هذا بضعفه وخاف العاقبة لكن سوء خلقه لم يهده إلى سبيل يسترضي به عمه فأخذ يطعن فيه أمام الأمراء يريد تحقيره في أعينهم فلم يحتقروا إلا ثعلبة وبلغ ذلك جبلة فحقدها عليه وزاد سعيه حتى أخرج كل العرب الغساسنة من حوزته ولم يترك له منهم إلا شرذمة قليلة.
فازداد ثعلبة لوما وسفاهة وأخذ يطعن في جبلة وابنته وسائر أهل بيته فندم جبلة لما وقع منه في حق حماد وأسف لإنفاذه في تلك الرسالة الخطرة ولم يزدد مع الزمان إلا ندما ولكنه كتم ندمه ينتظر ما يجئ به القدر ولكنه صمم في باطن سره إن يكفر عما ارتكبه في حق حماد بأن يزوجه بابنته سواء عاد بالقرطين أو بدونهما فضلا عما في ذلك من الكناية في ثعلبة.
الفصل الخامس والخمسون
هند والقمر
وما زالت هذه حال هند حتى كاد ينقضي العام ولم تسمع عن حماد خبرا فترجح لديها أنه إما قتل أو فشل وشق عليه الرجوع خائبا فهاجر إلى مكان بعيد أو لعله فتك بنفسه فرارا من أثقال الفشل وتخلصا من عذاب الحب فتراكمت عليها الهموم. وفي ذات يوم قضت هند نهارها في مثل هذه الهواجس ووالدتها تسارقها اللحظ وتغتنم فرصة لتخاطبها وهي تتجاهل وتبتعد فلما سدل الليل نقابه دخلت إلى غرفتها وأوصدت الباب وراءها وجلست إلى النافذة المطلة على الحديقة وألقت جنبها على وسادة وجعلت رأسها على كفها وكانت الليلة مقمرة والجو صافيا والبدر عند أول بزوغه من وراء التلال وقد أرسل أشعته على الأودية والجبال. فأخذت تتأمل بما أحدثه من الأظلال الطويلة على السهول والبساتين ونظرت إلى حديقة القصر فرأت أشجارها متشامخة تناطح السحاب لكن أظلالها أطول منها كثيرا وقد وقعت تلك الأظلال على ما هنالك من أغراس الريحان وغيره من أنواع العطريات فحجبتها عن البصر ولكنها لم تحجب رائحتها فتضوع القصر منها. وقد هدأت الطبيعة وأوت الطيور إلى أوكارها وسكنت الرياح فلم تسمع إلا خرير ماء الغدير في وسط البستان ونظرت إلى ضفاف ذلك الغدير فرأت أشجار الحور مرتبة صفوفا كأنها عذارى جئن للاستقاء فهالهن سكون الطبيعة فبهتن ووقفن على ضفاف الغدير صامتات.
فما برح القمر أن اعتلى وظهر وجهه واضحا فاستقبلته هي وجعلت تتأمله فأحست بارتياح إلى منظره فتذكرت ارتياحها إلى رؤية حبيبها فاختلج قلبها فعادت إلى الانقباض فأرسلت نظرها إلى القمر لعلها تسترجع ذلك الارتياح فامتنع عليها.
ولكنها ما لبثت أن تأملت وجه القمر حتى ترقرقت الدموع في عينيها وأخذت تخاطبه قائلة: «ألعلك مشرق الآن على منازل مكة وجبالها ألعل حبيبي هناك ينظر إليك ويستقبلك بوجهه ليته يفعل ذلك فيلتقي طرفانا عندك فنجتمع على بعد الدار.
إلى الطائر النسري انظري كل ليلة
فاني إليه في العشية ناظر
عسى يلتقي طرفي وطرفك عنده
فنشكو إليه ما تكن الضمائر
نعم إني أرى على وجهك صورة كأنها ظل وجهه فهل يرى هو مثل ذلك أيضا.»
ثم عادت إلى البكاء فأطلقت لنفسها العنان حتى لم يتمالك عن الشهيق وهي تظن نفسها منفردة لا يسمعها أحد ولكنها ما لبثت أن سمعت قارعا يقرع الباب فعلمت أنها والدتها سمعت صوت بكائها فجاءت لتعزيتها فودت البقاء في خلوتها فتظاهرت بالنوم ولم تنهض لفتح الباب فقرعت والدتها الباب ثانية وألحت عليها أن تفتحه فمسحت عيونها ونهضت ففتحت الباب ولم يكن في الغرفة نور غير ضوء القمر الداخل من النافذة فدخلت سعدى وهمت بهند وضمتها وجعلت تقبلها وتنظر إلى وجهها لتحقق بكاها وهند صامتة مطرقة لا تبدي حراكا فقالت سعدى ما بالك يا ولداه ما الذي يبكيك لماذا لا تشكين إلي همك ألست والدتك أما أنت ولدي وفلذة من كبدي إلا تعلمين أنني أحبك.
فلبثت هند صامتة ولكنها نظرت إلى والدتها بطرف عينيها نظرة التأنيب ولم تفه بكلمة ففهمت سعدى أنها توبخها لما ارتكبته بشأن حماد ولكنها أرادت مغالطتها فأخذتها بيدها إلى السرير وأجلستها إلى جانبها وقالت ما بالك لا تجيبينني يا هند أتكتمين عني شيئا ألم أكن خزانة أسرارك قولي يا ولداه ما يبكيك.
فنظرت هند إليها وكان ضوء القمر واقعا على وجهها فرأت سعدى الدموع تتلألأ وهي ساقطة من عينيها فانفطر لها قلبها وهمت بها ثانية وضمتها وتناولت منديلها وجعلت تمسح لها الدموع فحولت هند وجهها نحو النافذة وتنهدت وهي تنظر إلى القمر وضوءه على السهول والجبال.
فنهضت سعدى ووقفت معترضة بينها وبين النافذة وقالت لها: «قولي يا ولداه ما الذي يبكيك لقد قطعت قلبي ولم يعد لي صبر على بكاك إلا تعرفين قلب الوالدة».
فوقفت هند ثم مشت نحو النافذة ووالدتها تعترضها وتمسك يدها ثم وقفت وقفة من ينتظر جوابا. فنظرت هند إليها شذرا وقالت: «نعم يا أماه إني أعرف قلب الوالدة ولكن الوالدة لا تعرف قلب ابنتها».
فأدركت سعدى مرادها فقالت: «ومن قال لك يا هند إني لا أعرف قلبك».
فقالت: «لو عرفت قلبي ما سببت لي هذا الشقاء لأني أعرف حنوك».
قالت: «كيف لا أعرف قلبك يا ولداه وقد كشفت لي غوامض أسراره».
قالت: «إذا عرفت حاله ولم تشفقي عليه فلا بأس سامحك الله وسامح والدي و ...» وشرقت بدموعها.
فابتدرتها سعدى وأظهرت الاستغراب قائلة كيف تقولين ذلك يا هند كيف لم نشفق على قلبك وكل ما حصل إنما حصل بمصادقتك ورضاك لما فيه من الفخر لك.
فهزت هند رأسها وهمت بالجواب ثم سكتت فاتمت والدتها الكلام قائلة ومع ذلك فإن الأحوال قد تغيرت بموت الحارث وإذلال ثعلبة فسواء جاء حماد بالقرطين أم جاء بدونهما فليس ثم من يقف في سبيله.
فلما سمعت اسم ثعلبة ارتعشت جوارحها فقالت: «آه يا أماه لقد قضي الأمر.. أين حماد الآن ... آه أين هو. هل تعلمين أين هو وقد انقضى العام منذ سار من هذا المكان ولم نسمع عنه شيئا». ثم حولت وجهها نحو النافذة وقالت وهي تبكي: «آه يا حماد آه يا حماد سامح الله من كان سببا في بعادك ... إبكي يا أماه على هند ابكيها وارثيها ولا يتعب ضميرك أو تندمي على ما حدث لي وله على يدك ويد والدي إنما هي الأقدار قد كتبت علينا هذا الشقاء». ثم قالت وقد غلب عليها الشهيق وعلا صوتها: «آه يا حماد حبيبي أين أنت الآن ألعلك على الأرض أم في السماء أم أين أنت من يخبرني بمكانك لكي أطير إليك فإما أن أعيش بقربك أو أن أدفن تحت قدميك فقد كفاني ما سببته لك من الشقاء وما جزاء عملي هذا غير الموت. الموت الموت!..».
قالت ذلك ورمت بنفسها على السرير ووالدتها لا تزال ممسكة بيدها تحاول تلطيف ما بها فلما ألقت نفسها خافت سعدى أن يغمى عليها فبادرت إلى الماء لترشها به وأمسكتها بيدها وجعلت تخاطبها وقلبها يتقطع ولولا اشتغالها بتعزيتها لكانت هي المغمى عليها لا محالة ولكن اشتغال الإنسان بمن يحبه ينسيه نفسه. فهمت بها وخاطبتها فتحققت أنها لم يغم عليها فحاولت إجلاسها وجعلت تقبلها وهند مشتغلة بالبكاء والشهيق ويداها على وجهها.
فرأت سعدى أن تتركها هنيهة ريثما يهدأ روعها فلبثت صامتة مطرقة تفكر في أمرها حتى إذا آنست منها سكينة وهدوءا جاءت بكأس من الماء وقدمته إليها لتشرب فشربت وهي مطرقة خجلا لما ظهر من عواطفها رغما عنها.
فابتدرتها والدتها قائلة: «خففي عنك يا ولداه فإنك مثال التعقل والرزانة عندنا فكيف أطلقت لنفسك العنان».
فظنت هند أنها توبخها فقالت: «كفاني توبيخا فقد علمت إني أتيت أمرا يعاب عليه أمثالي ولكن الكأس قد طفح والأمر نفد».
قالت سعدى: «لم ينفد شيء بعد يا هند إن حمادا نصيبك وقد قلت لك سواء جاء بالقرطين أم لا فأنه لك وأنت له».
فتنهدت هند وقالت: «هذا إذا قدر لنا أن نراه ولا أظنه إذا فشل في مهمته إلا ضاربا في بطن الأرض ولا يعود إلينا صفر اليدين».
قالت: «تدبري الأمر بالصبر والحكمة واتكلي على الله انه قادر على كل شيء وهلم بنا نصلي ونطلب إليه تعالى أن يعيده سالما».
فتأملت هند في حديث والدتها فترجح عندها أنها تقول الصدق بشأن حماد واقترانه بها سواء جاء بالقرطين أما لا فسرها ذلك ولكنها أرادت أن تستطلع ما يكنه والدها من هذا القبيل فقالت لوالدتها: «هبي أنك رضيت بذلك شفقة على صباي فهل يرضى والدي به».
قالت: «إن والدك أكثر رغبة مني في الأمر وخصوصا بعد أن وقع ما وقع بينه وبين ذلك الخائن من النفور على أثروفاة والده الحارث فطيبي نفسا وقري عينا واتكلي على الله ولنطلب إليه تعالى أن يحفظ لك خطيبك ويعيده إليك سالما معافى وننسى أتعابنا».
فسكن روع هند وسارت إلى فراشها وسلمت أمرها إلى الله.
الفصل السادس والخمسون
البشارة
وأصبحت في اليوم التالي فعاد إليها الاكتئاب فودت أنها لم تستيقظ أو أنها تظل نائمة فلا تفيق إلا على صوت حماد فلبثت في الفراش تلتمس النوم وأخذت تتقلب عبثا فلما كان الضحى جاءت والدتها تتفقدها فلما رأتها في الفراش انشغل بالها واستطلعت السبب فشكت لها تكاسلها عن القيام فجلست إلى جانبها تحادثها بما يذهب عنها الهواجس وهند تسمع وأفكارها تائهة حتى كانت الظهيرة فسمعتا صوتا خارج الصرح ينادي «من نذر نذرا لنجران المبارك» فخفق قلب هند لذلك الصوت وهبت من فراشها بغتة وبغتت أيضا والدتها لأنهما تنسمتا منه صوت سلمان وتذكرتا قدومه إليهما قبلا بشأن حماد فهرولتا إلى النافذة فرأتا راهبا على فرس مثلما رأتا سلمان قبلا فتحققتا أنه هو بعينه فخالت هند نفسها في منام لقدومه عليهما بغتة على غير انتظار فنادتاه فتحول ودخل فخرجت سعدى لاستقباله وظلت هند في الغرفة جالسة وركبتاها ترتجفان من التأثر ولم تستطع الوقوف إلا بعد هنيهة وقد سمعت وقع أقدام الرجل مع والدتها داخلين إلى القصر فوقفت لاستقبالهما فوصل الرجل إلى باب غرفتها وحالما وقع نظرها عليه عرفته فعلتها البغتة ولم تعد تعلم كيف تكلمه فابتدرها هو بالسلام وتبسم وهم بتقبيل يديها فمنعته وصاحت: «ما وراءك يا سلمان» وكانت والدتها قد أغلقت الباب.
قال: «ما ورائي إلا الخير يا سيدتي كيف أنت؟»
قالت: «نحن في خير وكيف حماد وأين هو أخبرنا؟»
قال: «هو في خير وقد تركته في دير بحيراء ينتظر أمرك ويدعو لك».
قالت: «هو في خير وعافية».
قال: «نعم يا مولاتى أنه في خير وقد التقى بوالده في المدينة».
فخرت هند إلى الأرض فقبلتها وقالت: «نحمد الله على سلامته» قالت ذلك وقد انبسط وجهها وأبرقت أسرتها.
فقالت سعدى: «أين هو حماد ولماذا لم يأت معك؟»
قال: «أنه بقي في الدير خجلا من مقابلتكم».
قالت: «وما الذي يخجله إننا لا نريد منه شيئا غير سلامته».
قال: «والقرطان».
قالت: «لا حاجة بنا إليهما فقد زال السبب الذي دعا إلى طلبهما».
قال: «إن أمر القرطين قد عاد علينا بالفشل فقطعنا الفيافي والقفار حتى أتينا الكعبة فلم نقف لهما على خبر» وقص عليهما حكاية سفرهما من يوم خروجهما من صرح الغدير إلى أن عادا وكيف التقيا بعبد الله وما عزما عليه من البحث عنهما في العراق.
فقالت هند: «دعنا من الأقراط قد أغنانا الله عنهما».
فعجب لذلك التغير وأراد أن يعلم إذا كان جبلة أيضا في مثل رأيهما.
فقال: «وهل سيدى الملك جبلة في خير».
قالت سعدى: «نعم هو في خير ينتظر قدوم صهره حماد بفارغ الصبر».
فلما سمع قولها (صهره) زاد اطمئنانا برضاها عن حماد فقال: «وهل هو أيضا مغفل أمر القرطين».
قالت: «أنه لا يريد شيئا غير سلامة ولدنا حماد فادعه إلينا لنراه».
قال: «أنه يود ذلك من صميم قلبه فأذنوا له بفرصة آتي به إليكم».
قالت: «فليأت بأقرب وقت ولكننا نود حضوره ووالد هند حاضر ليفرح بعودته وليكن أيضا والده معه ليتم الفرح».
ففرح سلمان بهذه الأخبار ولكن خاطرا مر بذهنه فأسكته بغتة فلمحت هند شيئا غيره فقالت: «ما بالك يا سلمان ما الذي أسكتك فهل هناك ما يمنع حضوره أخبرنى؟»
قال: «كلا يا مولاتى أنه ينتظر هذا الاجتماع انتظار الظمئآن للماء الزلال وهو إنما تحمل الأخطار ومشاق الأسفار طمعا بذلك ولكنه ...».
فبغتت هند وسعدى معا وقالتا ما الذي يدعو إلى ترددك قل يا سلمان لقد شغلت بالنا.
قال: «لا يخفى عليكما أن سيدي حمادا تشرف بخطبة سيدتي هند ووالده لا يعلم ولما علم بذلك يوم اجتماعنا في المدينة سر كثيرا ولكنه استمهل حمادا في إتمام هذا الأمر ريثما يأتى يوم الشعانين».
قالت سعدى: «وما علاقة يوم الشعانين بذلك».
قال: «لا علاقة له به إلا من حيث النذر فقد علمتم أن سيدي حمادا منذور أن يقص شعره في دير بحيراء من يوم ولادته وأن يكون قصه في يوم الشعانين في السنة الحادية والعشرين من عمره فلما كان اليوم المعين منذ عامين حدث ما حدث لما تعلمانه وفر ولم يتمكن من وفاء النذر فلما عاد من هذا السفر قال سيدى عبد الله لولده أنه سيقص شعره في يوم الشعانين القادم بعد بضعة أشهر وتقدم إليه أن لا يباشر عملا مهما قبل ذلك اليوم لأنه سيطلعه فيه على أمور تهمه ولكنني لا أظن لها علاقة بهذا الأمر».
فلما سمعت هند ذلك الكلام تعوذت بالله مما هو مخبأ لها في عالم الغيب وقالت في نفسها (ألعل أمامنا عراقيل أخرى غير التي انقضت).
فقالت سعدى: «لا بأس ولكن ذلك لا يمنع سيدك من الحضور ليلتقي بوالد هند وخصوصا لأنه غريب فقد يستأنس به وبمن يعرفهم على يده في البلقاء أما ذلك الأمر فما نحن في عجل إليه وإنما المراد أن تطمئن قلوبنا ويهدأ بالنا ونرى بعضنا بعضا وقد تمهدت العقبات بموت الحارث وسقوط نفوذ ثعلبة بين القبائل».
فقال سلمان: «نحمد الله على نعمه ولا أقدر أن أصف لكم مقدار سرور مولاي حماد بهذه الأخبار فعينوا المكان والزمان الذين تريدان الاجتماع بهما لأخبر سيدي».
قالت هند: «فليأت حمادا أولا لنراه ثم نعين يوما يجتمع به الوالدان لأننا نخشى إذا انتظرنا اجتماعهما أن يطول الأجل فإن والدي في البلقاء وربما لا يستطيع المجيء إلا بعد بضعة أيام». وأرادت هند بذلك أن تجتمع بحماد قبلا على انفراد لتستوضح أمر النذر وعلاقته بالاقتران.
فقال سلمان: «ها إني ذاهب لأدعوه وأظنه يكون هنا في صباح الغد إن شاء الله».
فخرج وقد ندم على ما فرط منه في حديثه عن عبد الله وعلم أنه أخطأ فيما ذكره بشأن النذر وخاف أن يشق ذلك على حماد فعول على التخلص من هذه التبعة بالحيلة فأسرع حتى أتى الدير في مساء ذلك اليوم وكان قد سار في هذه المهمة ولم يخبر عبد الله لعلمه أنه لا يريد ذلك.
فلما وصل الدير كان حماد في انتظاره فاستقبله وهو ينظر إلى وجهه لعله يقرأ على ملامحه ما يبشره فرآه يبتسم ووجهه منبسط فرحب به وسأله عن الخبر.
فقال: «أبشر يا مولاي إن الله قد محا كل شقاء كتب علينا وزالت كل الموانع التي كنت تخاف وقوعها بينك وبين هند».
قال: «وكيف هند هل هي مسرورة برجوعي وهل علمت أننا لم نعثر على القرطين وماذا قالت».
فضحك سلمان وقال: «إن القرطين لم يعد لهما دخل في أمر اقترانكما فقد تغير وجه المسألة بموت الحارث بن أبي شمر». وقص عليه الخبر إلى أن قال : «وإذا شئت الاقتران في صباح الغد فهو لك لأن والدة الفتاة ووالدها راضيان بك لا يريدان منك شيئا وأما هند فأنت تعلم قلبها».
قال: «وهل طلبت مواجهتي؟»
قال: «كيف لا وقد طلبت أيضا أن يشرف سيدي والدك على أن يكون الملك جبلة موجودا لتتم المعرفة بينهما واني واثق بإقبال نجم سعدنا لأن اقترانك بهند فضلا عن أنه من أهم أسباب سعادتنا فهو سبيل إلى اكتسابكما نفوذا لدى ملك غسان».
فقال: «ولكنك تعلم أن والدي لا يرضى الذهاب معي بهذا الشأن».
قال: «أعلم ذلك وقد ذكرته أمام سيدتي هند».
فبغت حماد وقال: «كيف ذكرته وماذا قلت».
قال: «ذكرته على أسلوب لطيف فقلت أن سيدي عبد الله سر كثيرا بخطبتكما ولكنه يود وفاء النذر قبل عقد القران».
قال حماد: «أخشى أن تكون هند قد فهمت شيئا يحملها على إساءة الظن».
قال: «لا أظنها فهمت شيئا من ذلك وعلى كل فإنك ذاهب إليها في صباح الغد وقد أجلنا اجتماع والديكما إلى فرصة أخرى فإذا اجتمعتما افهمهما الحكاية كما تريد».
قال: «إذا نذهب إلى صرح الغدير في صباح الغد وماذا نفعل بوالدي هل نخبره».
قال: «أرى أن نخبره بأننا ذاهبون لطمأنة أهل الصرح بعودتنا وإننا لا نتحدث بشأن الخطبة أو الاقتران مطلقا».
قال: «هذا هو الصواب».
الفصل السابع والخمسون
حماد وهند
وفي مساء ذلك اليوم خاطب حماد والده في أمر هند وقال له: «إن وفاة الحارث ربما سهلت أمر اقترانه وربما عدلوا عن طلب القرطين» وأظهر حماد سروره بذلك فلم يجب عبد الله بكلمة.
فقال حماد: «ألم تسر يا سيدي بذلك؟»
قال: «إني أسر لسرورك ولكنني لا أزال ألح عليك بالاقتصار في هذا الموضوع ريثما يأتى يوم الشعانين ونفي نذرنا».
قال: «أعاهدك بأني لا أباشر أمرا قبل مجيء ذلك اليوم ولكننى عازم في صباح الغد على الذهاب إلى الصرح لأشاهد هندا ووالدتها لأجل الاطمئنان وأظنهم يودون مشاهدتك».
قال: «دع ذلك لبعد يوم الشعانين أما أنت فاذهب لمشاهدة أهل صرح الغدير واحذر أن تمضي أمرا ».
قال: «حسنا يا مولاي».
وفي صباح اليوم الثاني ركب حماد باكرا وركب سلمان معه وسارا قاصدين الصرح.
أما هند فأنها لم تنم ليلتها تلك لعظم تأثرها فرحا بقدوم حماد إلا عند الفجر فأغمض جفناها فنامت هنيهة فأفاقت والشمس قد طلعت فظنت نفسها قد أبطأت في الفراش وخافت أن يأتي حماد وهي نائمة فنهضت ولم يؤثر فيها السهر شيئا لتنبه عواطفها فاغتسلت ولبست ثيابها وعادت إلى غرفتها وفيها نافذة تشرف على طريق بصرى فجلست إليها وعيناها شائعتان نحو الأفق لعلها ترى حمادا قادما وكانت كلما رأت شبحا أو ظلا أو سمعت صوت صهيل أو وقع أقدام خفق قلبها ولا يكاد يحدث في الصرح صوت إلا سمعته كأنها كلها آذان لعظم تأثرها.
أما سعدى فقد كانت توصي الخدم في إعداد ما يلزم للضيافة من الذبائح ونحوها فلما فرغت من ذلك فكرت في هند وما يكون من حالها عند ملاقاتها حمادا بعد طول غيبته فخافت من شدة تأثرها لئلا يظهر منها ما تعاب عليه أو يؤثر في صحتها فرأت أن تسير إليها وتشاغلها لتذهب ما بها من قلق الانتظار فجاءتها فإذا هي في مثل ما خافته عليها.
فلما سمعت هند وقع أقدام والدتها كادت تبغت لولا تعودها سماع ذلك فاستقبلت والدتها باشة فابتدرتها سعدى قائلة: «ما بالك منفردة يا هند أظنك تتمنين عدول حماد عن المجيء».
فضحكت ولم تجب.
فقالت: «هيا بنا إلى الحديقة نتنسم رائحة الأزهار لأن بقاءك هنا ممل» قالت ذلك وأمسكت بيدها ومشتا حتى نزلتا إلى البستان وأوغلتا بين الأشجار وهند تسارق النظر من بين الشجر لعلها ترى حبيبها قادما ولكن والدتها سارت بها في الحديقة حتى غابت عن الطريق وكانت هند إنما تمشي مجاراة لها وقلبها يحدثها بالرجوع إلى القصر لئلا يصل حماد أثناء غيابها.
وفيما هما في ذلك سمعتا صوت صهيل عرفت هند حالا أنه صهيل جواد حماد فخفق قلبها فنظرت إليها سعدى متجاهلة فإذا هي قد بغتت وهمت بالرجوع.
فقالت لها: «دعينا هنا فأنه لا يلبث أن يأتى فنراه» وقد أرادت سعدى أن يكون الملتقى على انفراد مخافة أن يحدث في أثناء ذلك الاجتماع ما لا يستحسن اطلاع أهل القصر عليه.
فسكتت هند ولكنها ما فتئت تنظر من خلال الأشجار نحو باب الحديقة تنتظر مجيء حماد بفارغ الصبر ولم تمض هنيهة حتى رأته قادما وعلى رأسه الكوفية والعقال وقد تقلد الحسام تحت عباءة حريرية مزركشة بالقصب فلما وقع نظرها عليه زاد خفقان قلبها واصفر وجهها ثم ما لبثت أن علته الحمرة وظلت واقفة. أما والدتها فتقدمت حتى التقت بحماد فسلمت عليه فهم بتقبيل يدها احتراما فمنعته وهند لا تزال واقفة وقلبها يحدثها بالمسير نحوه ولكن الحشمة والحياء منعاها.
أما هو فأسرع نحوها ومد يده مسلما ووجهه يطفح سرورا وعيناه شاخصتان إليها تتقدان ذكاء وهياما.
فمدت يدها وهي تنظر إلى الأرض خجلا ولكن الابتسام غلب عليها ولما أمسكت يده شعرت بقوة انبثت في كل أعضائها ثم توردت وجنتاها وأبرقت أسرتها كأن تلك القوة مجرى كهربائى انتشر في أعضائها ثم انحصر في وجهها فأضاء. فقال حماد: «كيف أنت يا هند لقد أطلت الغيبة عليكم ولكنني عدت مع ذلك بخفي حنين».
فغلب عليها الحياء ولكنها نظرت إليه بعينين براقتين تنبعث أشعة الهيام منها وقالت لا حاجة بنا إلى الخفين ولا القرطين وإنما حاجتنا إلى عودتك سالما فالحمد لله على ذلك. قالت ذلك ودموع الفرح تتناثر من عينيها وهي تبتسم فأرادت إخفاء دموعها فتحولت نحو شجرة بالقرب منها تحتها مقعد من حجر للجلوس وتحول حماد وسعدى والكل سكوت ولكن قلبي العاشقين يتكلمان أو لعلهما يضحكان فقط ولو تركا على انفراد لانطلق لساناهما وتعاتبا وتغازلا ولكن وجود سعدى حملهما على الاكتفاء بحديث القلبين.
ولما استقر بهم الجلوس قالت سعدى: «لقد أطلت الغيبة علينا فانشغل بالنا كثيرا ولما سمعنا حكاية سفركم من سلمان حمدنا الله على عودتك سالما بعدما قاسيته من الخطر».
قال: «لا يهمني من أمر سفرتي هذه شيء ولا أحسبني أتيت أمرا ولا تحملت شقاء طالما كان سفري عقيما وإن يكن ذلك لغير قصور مني لأن السبب فقدان القرطين من الكعبة أثناء هدمها وبنائها أما أنا فاني عازم على مواصلة البحث عنهما في العراق أو غيرها حتى أتي بهما».
فابتدرته هند قائلة: «لا لا لا حاجة بنا إلى الأقراط فإن عندنا من فضل المولى ما يكفينا مؤونة هذه الأسفار».
قال: «وماذا يقول الناس عني وقد عدت صفر اليدين أليس عارا على حماد أن يرجع خائبا عن أمر طلبته هند!!» قال ذلك وعيناه تنظران إلى هند ويكاد النور ينبثق منهما.
فالتفتت هي إليه وقالت وهي تبتسم: «لا لم يعد حماد خائبا لأنه جاهد في سبيل القرطين جهادا حسنا ولا يزال ساعيا في التفتيش عنهما في خزائن الحيرة ولكننا نحن حولناه عن عزمه فما ذلك من قبيل الخيبة لا سمح الله».
ثم قالت سعدى: «إن أمر القرطين يا ولدي لا يهمنا مطلقا فمثل هذه الأقراط كثير عندنا من نعم الله. من ذلك لؤلؤتان معلقتان بتاج الملك جبلة هما مثل لؤلؤتي قرطي مارية تماما حتى لقد يحسبهما الناس نفس القرطين».
قال حماد: «إني لا أجهل نعم الله على ملوك غسان زادكم الله نعما ولكنني وددت أن أجعل لي سبيلا أستحق به هندا فان نسبي وحده ولا حسبي يخولانني هذا الشرف ولكن ذلك أحسبه من جملة كرم الغسانيين على الغرباء». قال ذلك وتبسم والتفت إلى هند فإذا هي تبتسم أيضا وتنظر إلى الأرض.
فالتفتت سعدى إليه وقالت: «إن النسب يا ولدي لا يجعل الإنسان إنسانا وإن الرجل بأصغريه لا ببردية فان ما شاهدناه من شهامتك وكرم أخلاقك لجدير بأن يرفع منزلتك إلى أوج الملوك وكم من ملك تحطه دناءته إلى مصاف الصعاليك وشاهدنا على ذلك قريب». قالت ذلك ونظرت إلى هند كأنها تذكرها بدناءة ثعلبة والمقابلة بينه وبين حماد فأدرك حماد ذلك فأطرق خجلا لما سمعه من الأطناب ولكن قلبه رقص طربا لتخلصه من أمر القرطين وتمثل له ملاك السعادة طوع إرادته فأبرقت أسرته ثم تذكر يوم الشعانين وتأخير الاقتران بسببه فانقبضت نفسه على إن اجتماعه بهند في تلك الساعة أنساه كل انقباض. ثم أتمت سعدى كلامها قائلة: «أرى على ثيابك أثر الغبار الا تحتاج إلى تبديل وغسيل فإذا شئت هلم بنا إلى القصر».
قال: «لا أشعر بتعب وان الغسيل والتبديل أمران مستدركان ولكن الجلوس في هذه الحديقة بين الأشجار ومجاري المياه والاستظلال تحت هذه الشجرة مما ترتاح إليه نفسي. ولا أخفي على سيدتي إني لم أكن أرجو مثل هذا الاجتماع بعد ما قاسيته من المشاق ولا أنسى يوما قضيته في مكة على سطح غرفتي لا أذكر يوما كنت فيه كما كنت في ذلك اليوم لا أعاده الله».
قالت هند: «وكيف كنت؟»
قال: «لا فائدة من ذكر ذلك غير الكدر ولكنني أمثل لك الأمر تمثيلا. تصوري إني ركبت متن الأسفار وقطعت البراري والقفار للبحث عن قرطي مارية مهرا لحبيبتي هند والتفتيش عن والدي فنزلت بلدا شهدت فيه حربا وخطرا ثم تحققت فقدان القرطين وضياع والدي فلما تراكمت كل هذه المصائب علي صعدت إلى سطح غرفتي وقد ضاق صدرى وتذكرت هندا ووالدي وما أنا فيه من اليأس فماذا تكون حالي».
فقالت سعدى: «لقد سرنا العثور على والدك هل هو في خير وهل ينوي زيارتنا فاني أحب تعريفه بالملك جبلة ليتم سرورنا فقد زالت كل الحواجز وتمهدت كل العقبات والحمد لله».
فتذكر حماد مسألة النذر وحكاية يوم الشعانين فقال في نفسه (لم تزل أمامنا عقبة لا ندري ما وراءها) ولكنه أجاب سعدى قائلا: «أن سيدي الوالد يسر كثيرا بمقابلة الملك جبلة وهو شرف يتمناه أمثالنا ولكنه الآن في شاغل وسيغتنم أول فرصة لمقابلة سيدي الملك وأنا كذلك».
الفصل الثامن والخمسون
جبلة
وفيما هم في مثل هذه الأحاديث آنسوا في أهل القصر حركة واهتماما ثم جاءهم مخبر ينبئهم بمن جاء يبشر بقدوم الملك جبلة إلى الصرح فبغت الجميع لقدومه على غير انتظار ونهضوا يطلبون القصر ينتظرون قدوم الملك.
فمشوا صامتين كل منهم يفكر في أمر وكان حماد أكثرهم بغتة واهتماما لأنها أول مرة سيقابل بها جبلة بعد عودته فخاف أن يكون فشله في البحث عن القرطين سببا في فتور محبته له وأما هند فكانت تتوقع من والدها حنوا إلى حماد بناء على ما سمعته من والدتها وأما سعدى فلم تستغرب قدومه لأنها هي التي أنفذت إليه رسولا بالأمس يخبره بمجيء حماد وأنه سيزورهم في ذلك النهار فإذا استطاع المجيء فعل.
فوصلوا القصر ودخلوا قاعة الجلوس وما استقر بهم المقام حتى نودي في القصر بمجيء الملك فخرج أهله لاستقباله وخرج حماد وهند ووالدتها إلى الحديقة.
وكانت الفرسان قد وصلت فتحول جبلة عن جواده وعليه لباس السفر من العباءة والكوفية وقد تقلد الحسام ومشي يلتفت ذات اليمين وذات الشمال يبحث عن حماد حتى إذا وقع نظره عليه دنا منه فتقدم حماد وهو يقدم قدما ويؤخر أخرى ليرى ما يبدو منه. أما جبلة فأسرع إليه وسلم عليه مصافحة وقبله قبلة الوالد لولده والناس ينظرون. وكانت هند تراقب حركات والدها فلما رأت منه ذلك رقص قلبها طربا وتناثرت دموع الفرح من عينيها وكذلك والدتها أما حماد فأنه قبل يدي عمه وقد تحقق رضاءه عنه. فقال له جبلة: «أهلا بولدي وعزيزي نحمد الله على عودتك سالما».
فأجابه حماد (وملامح الامتنان ظاهرة على وجهه): «له الحمد على كل حال ولكنني أحمده لنعمه علي برضا ملك غسان فأنها نعم لا أقدر على تقديرها يا عماه».
ثم تحول جبلة نحو هند فقبلت يده وقبلها وحماد ينظر فتحركت فيه عاطفة الغيرة عليها حتى من والدها ثم حيا سعدى ومشى الجميع نحو القاعة وعينا حماد على هند كأنه يريد أن يلتقفها بنظرة وقد شق عليه مفارقتها بعد أن تقرر له الحصول عليها.
وكان سلمان في جملة أهل القصر الوقوف في انتظار جبلة ولم يشأ دخول الحديقة على حماد عند أول مجيئه مراعاة لما قد يدور بين الحبيبين من عبارات العتاب مما لا يهون التفوه به أمام أحد.
ودخل جبلة وسعدى وهند وحماد القاعة فسأل حماد عن سلمان فجاء فدعاه للجلوس هناك فتوقف توقيرا للجلسة فنهض حماد وأمسكه بيده وقدمه إلى الملك قائلا: «أقدم لكم يا عماه رفيقي وصديقي سلمان فأنه كان معتمدي في أسفاري وهو محب غيور للملك جبلة وسائر آل منزله».
فرحب به جبلة وأمره بالجلوس فجلس والجميع جلوس ثم التفت جبلة إلى حماد وسأله عن والده فقال: «إني تركته في دير بحيراء على أن يحظى بمقابلة مولاي في فرصة أخرى».
قال: «لقد سررت كثيرا باجتماعكما بعد طول التشتت بسبب ذلك الغلام الغر (يريد ثعلبة) وقد كنت في غفلة عن أمره إلى ما بعد وفاة والده فتبعثر أصدقاؤه فأخبرني بعضهم بما ارتكبه هذا الخائن في سبيل الفتك بك على أثر ما أظهرته من الشهامة وكرم الأخلاق ويكفي أنك عفوت عن قتله في حلبة السباق بعد ما عاينت من غدره وسوء قصده ولكن ذلك الخائن قد نال جزاء ما جنته يداه وكان الناس إنما يرمقونه ببعض الاحترام مراعاة لمنصب والده فما كاد يتوفى الحارث حتى نبذ نبذ النواة وصار مضغة في الأفواه ومن أثقل المصائب عليه أن يعلم بمجيئك ونيل مرامك ولا أظنه يسمع باقترانك حتى يقع ميتا لشدة لؤمه وحسده قبحه الله». وكان جبلة يتكلم ولحيته تهتز وعيناه تتقدان غضبا مع محاولته إخفاء ما في نفسه وتخفيف ما به فلما أتم كلامه أخذ يتلاهى بتمشيط لحيته بأصابعه ويشاغل نظره بالالتفات إلى خيل مربوطة خارج القصر كانت تتزاحم وتتضارب.
أما الحضور فأنهم لبثوا بعد إتمام حديثه سكوتا تهيبا من غضبه ولكن قلوبهم كادت تطفح سرورا بما قاله عن ثعلبة. ثم وجه جبلة خطابه إلى سعدى قائلا: «اسقينا شيئا نرطب به أجوافنا ونشربه نخب اجتماعنا فرحا بقدوم صهرنا سالما». فقالت: «إلا ترى أن نجلس إلى المائدة فتناول الطعام والمدام معا».
قال: «حسنا تفعلين».
فصفقت فجاء غلام. فقالت: «هل تمت معدات الطعام؟»
قال: «نعم يا مولاتي».
فنهض جبلة ومشي فتبعه الجميع حتى دخلوا غرفة مدت فيها الأسمطة وعليها الأطباق والمواعين وكلها من الذهب أو الفضة فجلسوا يأكلون ويشربون والفرح شامل لهم.
فلما فرغوا من الطعام وقاموا عن المائدة تقدم جبلة إلى حماد وأشار إليه أن اتبعني فتبعه حتى خرجا من القصر وجعلا يتمشيان في بعض طرق الحديقة فلما خلوا قال جبلة: «اعلم يا حماد انك الآن بمنزلة ولدي وقد قسم الله أن تكون صهرا لي وهذا أمرا حسبه من حظ هند لأنك شهم يفتخر بشهامته وشجاعته ما يربو على الافتخار بالحسب والنسب. وقد تركت إليك تعيين زمن الاقتران ولكنني أوجه التفاتك إلى أمر واحد وهو أن هندا كما تعلم وحيدة ليس لنا ولد سواها فيشق علينا فراقها فاشترط عليك إذا تم الاقتران أن تقيم عندنا أنت ووالدك ومن تريده من ذويك فتنزلون على الرحب والسعة فان البلاد تحتاج إلى من يتولاها وليس لي ولد ذكر فإذا أحسنت السياسة مع القبائل اجتمعوا بعدي تحت لوائك وكنت ملكا عليهم».
فلم يعد يعرف حماد كيف يشكر نعمه ولكنه وقف وكانا ماشيين فوقف جبلة فقال حماد: «إن هذه النعم وهذه الشيم مما يقصر لسان الناس عن أداء الشكر عليها. إن شرطا اشترطموه يا عماه إن هو إلا نعم أنعمت بها على جزاك الله عني خيرا. أما وقت الاقتران فلا يمكننا تحديده الآن لدواع لا أخفيها عنك».
قال: «وما هي؟»
قال: «لعل مولاي رأى طول شعري لما لبست الدرع يوم السباق».
قال: «نعم أذكر ذلك وما سبب طوله؟»
قال: «إن والدي نذر أني إذا عشت لا يقصر شعري إلا في السنة الحادية والعشرين من عمري في دير بحيراء وضرب لذلك أجلا يوم الشعانين فآن ذلك اليوم منذ عام وبضعة أشهر فجئنا البلقاء فحدث ما حدث من سعي ثعلبة ضدي والقبض على والدي ثم لم نجتمع إلا من أمد قريب في المدينة فيرى والدي أن ننتظر يوم الشعانين القادم ونقص شعرى في الدير وقد أخبرني أن عنده حكاية سيقصها علي في ذلك اليوم وأوعز إلي أن لا أقطع بأمر من الأمور المهمة إلا بعد ذلك اليوم فما رأي مولاي».
فعجب جبلة لذلك السر وقال: «لا أرى مانعا من تأجيل الاقتران إلى ما بعد الشعانين فنجعله في يوم القيامة ولكنني استغربت هذا السر ألا تعلم ما موضوعه؟»
قال: «كلا يا عماه لا أعرف عنه شيئا ولا يعلم به أحد سوى والدي وقد أخبرني أنه لما وقع في الخطر مرة وخاف الموت لم يأسف على شيء أكثر من أسفه على ضياع ذلك السر».
قال جبلة: «فلننتظر يوم الشعانين وكل آت قريب».
ثم تحولا نحو القصر وكانت هند ووالدتها وسلمان جالسين في القاعة فدخل جبلة وحماد وقضوا بقية ذلك اليوم في الأحاديث المتنوعة.
فلما كان العصر التمس حماد العود إلى الدير لئلا يستبطئه والده فيشغل باله عليه.
فقال له جبلة: «افعل ما بدا لك ولكن اعلم يا ولدي أن صرح الغدير وسائر قصور البلقاء مفتوحة لاستقبالك متى أردت القدوم». فهم حماد بيد عمه فقبلها وكذلك فعل سلمان وودع هندا وسعدى وكان قد أمر فاسرجت الخيل وأراد الإسراع في الشخوص إلى دير بحيراء ليخبر والده بما لاقاه من الاحتفاء وما عرضه عليه جبلة من الأنعام لعله يرغب في القدوم على جبلة.
فركبا وسارا وهند تشيعهما بنظرها خلسة حتى تواريا فعاد أهل الصرح فأحكى جبلة لسعدى ما دار بينه وبين حماد ولما عاد هو إلى البلقاء أحكت ذلك إلى هند فكادت تطير من الفرح.
أما حماد فأنه وصل الدير في مساء ذلك اليوم وكان والده في انتظاره فاستقبله ودخلا الغرفة فأحكى له حماد ما لاقاه من الإكرام والاحتفاء وما دار بينه وبين جبلة مما لم يكن يرجوه. وكان حماد يتوقع أن يرى من والده بعد هذا الحديث إعجابا أو انبساطا فلم ير وجهه يزداد إلا انقباضا ولم يجب بكلمة فلبث حماد ينتظر يوم الشعانين بفارغ الصبر.
الفصل التاسع والخمسون
قص الشعر
وكان عبد الله كلما دنا ذلك اليوم زاد انقباضا حتى قيل غدا يوم الشعانين فعلم أن الدير سيكون مزدحما في ذلك اليوم وهو إنما يلتمس الانفراد بحماد ليتلو عليه الحكاية فسار إلى رئيس الدير وأطلعه على قصده.
فقال: «وأي الغرف تريدون؟»
قال: «نريد صومعة بحيراء نفسها فإنها منفردة وفيها كرامة وبركة».
قال: «ولكن الناس يقدمون إليها في مثل هذا اليوم زائرين».
قال: «يزورونها بعد خروجنا منها فربما مكثنا فيها ساعات قليلة من الصباح إلى الظهر». وكان عبد الله جليل الطلعة محترما فأذعن له الرئيس.
ثم قال عبد الله: «اعرف راهبا شيخا من تلامذة بحيرا الراهب صاحب هذا الدير كان يقيم في الصومعة فهل هو باق هنا».
قال: «أنه باق ولكنه يشكو شدة الضعف لشيخوخته فلا يخرج من غرفته إلا نادرا».
قال: «إلا تظنه يخرج في صباح الغد إذا توسلنا إليه أن يرافقنا إلى الصومعة ويقص شعر غلامنا».
قال: «لا أعلم ولكن عندنا من الرهبان والقسس كثيرين يفعلون ذلك».
قال: «صدقت ولكنني أفضل ذلك الراهب الشيخ لأني أعرفه».
قال: «هلم بنا إليه نسأله فعساه أن يرضى».
وسارا إلى غرفة من غرف الدير مغلقة الباب فقرعاه وانتظرا ريثما ينهض الشيخ لفتحه وبعد هنيهة فتح الباب وبان من ورائه شيخ هرم قد ابيض شعره بياضا ناصعا واسترسل من رأسه ولحيته وحاجبيه وشاربيه حتى لا تكاد ترى من جلد وجهه إلا بعض وجنتيه وقد تجعدتا وتثنت جبهته وبرز أنفه أعقف وأحدودب ظهره حتى لا يستطيع النظر إلى واقف أمامه إلا بجهد وعناية فتقدم الشيخ ويده الواحدة على الباب ويده الأخرى يتوكأ بها على عصا قديمة العهد ربما رافقته في صباه وقد قبض عليها بأنامل لم تترك الشيخوخة عليها لحما فلصق الجلد بالعظم حتى كان اعرض ما في الكف عقد الأمشاط عند اتصالها بالأصابع.
فلما فتح الباب رفع الشيخ نظره وحدق بزائريه وكان قد عرف الرئيس من مجمل قيافته ولكنه لم يعرف رفيقه فنظر إليه نظر المتأمل وشعر حاجبيه المسترسل يحجب معظم النظر عنه فأرسل يده يرفع بها شعر الحاجبين وهي ترتعش لضعف الشيخوخة فابتدره عبد الله بالسلام وهم بتقبيل يديه فعرفه الراهب فقال: «أهلا بولدنا الأميرعبد الله ابن الوطن العزيز تفضل يا ولدي ادخل». فدخل ودخل الرئيس معه وجلس كل منهما على وسادة وهما لا يحسران على فتح الحديث احتراما لشيخوخة الراهب.
ثم تكلم الرئيس فقال: «إن ولدكم الأمير عبد الله يلتمس حضوركم الاحتفال بقص شعر ابنه وفاء لنذر نذره منذ بضع وعشرين سنة».
فتأمل الشيخ برهة ثم رفع نظره إلى عبد الله بغتة والنور ينبعث من حدقتيه في خلال شعر الحاجبين كأن الزمن لم يؤثر على حدتهما وقال: «ما اسم غلامكم؟»
قال: «حماد».
قال: «نعم حماد أذكر أني رأيته في الصومعة منذ عامين وأخبرني أنه جاء لقص شعره وكان يوم الشعانين قريبا ألم تفوا النذر بعد».
قال: «لا يا مولاي لم نستطع ذلك لأسباب فرقت بيننا أعواما فلما اجتمعنا جئنا لنفي النذر فهل تريد أن يكون وفاؤه على يدك».
قال: «إنني شيخ ضعيف لا أستطيع الوقوف لتأدية الفروض اللازمة أثناء الصلاة».
قال: «يؤديها القسيس وتكون أنت معنا بعد الصلاة فننفرد أنا وأنت وحماد لكلام أقصه عليكما».
قال: «حسنا يا ولدي ومتى يكون ذلك؟»
قال: «غدا صباحا إن شاء الله».
قال: «سنلتقي إذا صباح الغد في الصومعة» قال ذلك وهو يتلاهى بمسبحته ويداه ترتجفان.
ثم نهض عبد الله فودع الراهب وخرج توا إلى غرفته وجلس ينتظر عودة حماد.
وكان حماد يختلف إلى صرح الغدير مرارا في الأسبوع يتمتع برؤية هند فيقضى النهار عندها مع والدتها وأحيانا سلمان وقد شعر إن ملاك السعادة يحرسه وخصوصا بعد ما قصه عليه جبلة مما ينويه له في مستقبل حياته وأصبح لا هم له إلا مجيء يوم الشعانين ليفي النذر ويقترن بهند على أنه كان إذا جلس إليها ودار الحديث بينهما نسي النذور وغفل عن مستقبل الأيام. أما والده فلم يجتمع بجبلة وكان حماد يلتمس ذلك منه أحيانا فينتحل أعذارا يتخلص بها من المسير.
فلما كان آخر يوم كما قدمنا عاد عبد الله إلى غرفته وجلس ينتظر حمادا وكان قد سار إلى صرح الغدير في صباح ذلك اليوم وسلمان معه فعاد في الأصيل على فرسه وسلمان وراءه على فرس آخر فلما وصلا الدير ترجلا ودخلا وهما يتوقعان أن يكون عبد الله في انتظارهما فرحب بحماد وقال له: «إلا تعلم يا ولدي إن غدا يوم الشعانين ».
قال: «نعم يا أبتاه وإني في استعداد لوفاء النذر».
قال: «جعله الله نذرا مقبولا. وقد خاطبت الراهب الشيخ الذي كان يجلس في صومعة بحيرا هل تذكره؟»
قال: «نعم أذكر إني جلست إليه مرة وقص علي خبر الراهب بحيرا أستاذه».
قال: «قد خاطبته في أن يقص شعرك ويسمع ما أتلوه عليك بعد ذلك».
وكان سلمان لا يزال واقفا بالقرب من الباب يصلح كوفيته وعقاله وكانا قد انحلا وهو يتحول عن جواده فلما سمع ما قاله عبد الله تقدم نحوه ونظر إليه قائلا: «إلا تظن خادمك سلمان يستحق الاطلاع على هذا السر أيضا».
قال: «بلى انك أولى الناس بذلك وستكون أنت أيضا معنا».
وقضوا بقية ذلك اليوم يعدون أنفسهم وخصوصا عبد الله فأنه مال إلى الانفراد يعد بعض الثياب.
وفي صباح اليوم التالي ساروا إلى الصومعة باكرا فرأوها مضيئة بالشموع وهي كما تعلم عبارة عن غرفة كل من جدرانها الأربعة حجر واحد والسقف حجر والأرض حجر وبابها حجر واحد يفتح ويغلق وهذا هو شأن أبنية حوران حتى الآن نظرا لكثرة صخورها وقلة خشبها فيبنون البيوت من الحجر ويجعلون درف نوافذها وأبوابها وسقوفها من الحجر أيضا.
فدخلوا الصومعة فرأوا الراهب الشيخ ومعه قسيس آخر وشماس فلما اجتمعوا جميعا أخذوا في الصلاة فاحرقوا البخور وحلوا شعر حماد حتى استرسل على ظهره وكتفيه وطافوا به بالترانيم والتسابيح على جاري العادة والقسس يحملون الصلبان والمباخر يترنمون حتى تمت الصلاة وقرءوا فصلا من الكتاب المقدس وكان الراهب قد تعب فجلس على معقده الحجري ليرتاح فلما انقضت الصلاة تقدموا نحوه وأعطوه مقراضا ودنا حماد منه وشعره يحلله فمد الراهب يده وامسك خصلة من شعره وبارك وقصها إشارة إلى وفاء النذر وبقي الشعر مسترسلا على نية أن يقصه عند عودته إلى المنزل.
فلما انقضى الاحتفال أشار عبد الله إلى الراهب أنه يريد الخلوة فأوعز إلى الحضور فخرجوا وبقي هو وعبد الله وحماد وسلمان وأطفئت الشموع ولم يبق من الأنوار إلا مصابيح الزيت المعلقة أمام الأيقونات فأشار عبد الله إلى سلمان أن أغلق الباب فهم بإغلاقه وهو لا يحسب نفسه قادرا على ذلك لضخامته فإذا هو طوع يده لان لأهل حوران صناعة دقيقة في تركيب تلك الأبواب حتى تغلق بسهوله.
فلما أغلق الباب وضعف النور أحسوا بانقطاعهم عن عالم الأحياء وخيل لهم أنهم في عالم آخر وخفق قلب حماد تطلعا لما سيسمعه من غريب الأحاديث. فنزع عبد الله جبته وهم بصره كانت معه فحلها واستخرج منها رداء مزركشا يشبه الطيلسان كان قد أدخره واحتفظ به منذ أعوام فقبله ثم بسطه وجعله على كتفيه ونشر على الأرض أمام مجلس الراهب جلدا جثا عليه وجلس حماد وسلمان أمامه والجميع سكوت يراعون حركات عبد الله وسكناته وينتظرون ما يبدو منه.
الفصل الستون
كشف السر
فلما استتب بهم الجلوس التفت عبد الله إلى الراهب وقال: «اعلم يا مولاي إننا الآن في بيت الله وقد اجتمعنا فيه لعمل مقدس فلا يعلم بما سيدور بيننا إلا الله وحده وسأقص عليكم حكاية أوتمنت عليها منذ بضع وعشرين سنة فأرجو أن تصغوا إلي حتى آتي على آخرها ومتى فرغت منها ألتمس منكم كتمانها عن أهل الأرض كافة فهل تعاهدونني على ذلك».
قال الراهب: «نعم يا ولدي إن سرك لن يتجاوز جدران هذه الصومعة».
قال: «ألتمس من قدسكم أن تتلو علينا الصلاة الربانية قبل الشروع في الكلام وليقسم كل منا بكتمان هذا السر عن البشر كافة».
فتلا الراهب «أبانا الذي في السموات.. إلخ» وأقسم كل منهم بالصليب والمعمودية بكتمان ما سيتلى عليهم.
ولما تم القسم نظروا إلى عبد الله فإذا به يتأدب في قعوده كأنه في مجلس رهيب وقد امتقع لونه فهابوا منظره. ومما زادهم هيبة ضئالة الأنوار واختلاؤهم في ذلك المكان فنظر عبد الله إلى حماد ووجه الخطاب إليه قائلا:
تعلم يا ولدي إن العرب يرجعون في أنسابهم إلى أصلين كبيرين هما قحطان وإسماعيل ومن نسل قحطان عمرت اليمن وما جاورها ومن نسل إسماعيل عمرت الحجاز وما جورها ويسمى نسل إسماعيل الإسماعيلية أو العدنانية نسبة إلى جد من أجدادهم بعد إسماعيل اسمه عدنان ويسمى بنو قحطان القحطانية.
وقد قامت من القحطانية دول ملكت الخافقين منهم التبابعة المشهورين وغيرهم من دول حمير وسبأ. ومن مملكة سبا خرجت ملكة سبأ التي ذكرت التوراة إنها زارت الملك سليمان وما زالت اليمن عامرة آهلة حتى حدث سيل العرم فتفرق أهلها ايدى سبا. أتعرفون ما هو سيل العرم.
قال حماد: «لا يا أبتاه لا أعرفه».
قال عبد الله: «اعلم يا ولدي أن اليمن وسائر جزيرة العرب أرض ثقل فيها الأنهر والينابيع واعتماد الناس في ري مغارسهم إنما هو على مياه المطر فإنها تجتمع في مجاري الأودية وتسيل كالأنهر فإذا انقضى الشتاء جف معظمها فملافاة لذلك كانوا يجعلون في عرض الأودية سدودا من حجر تعترض مسير الماء فيجتمع ويرتفع حتى يسقي أعالي الأرض.
وكان من تلك السدود في اليمن سد كبير يقال له العرم بناه ملوك اليمن قديما بحجارة ضخمة متمسكة بالقار وفيه خروق يصرفون منها الماء على مقدار ما يحتاجون إليه في سقيهم وكانت له حفظه يقومون بتعهده وتوزيع مياهه فتقادم عهده حتى تصدع وخيف سقوطه. وعرب اليمن إذا ذاك بنو كهلان بن سبا من القحطانية.
وكانت دولتهم قد ضعفت واختل نظامها وآلت إلى السقوط فأهمل أمر السد وقلت المحافظة عليه فظهر به الخطر أولا فأولا فخاف الناس تهدمه بغتة لئلا يسيل الماء عليهم فيغرقهم ويخرب منازلهم فأخذوا ينزحون أحياء وبطونا وبقيت منهم بقية أصبحوا ذات اليوم وقد انفجر السد وطافت المياة فأغرقت بعضهم ونجا البعض وتفرقوا في البلاد وسمي ذلك السهل سيل العرم وكان ذلك منذ ستمئة سنة وأكثر».
وكان السامعون مصغين لاستماع حديث عبد الله وهم لا يرون فيه ما يوجب المسارة فعجبوا لذلك ولكنهم صبروا أنفسهم ليروا ما يكون بعده فأدرك عبد الله ضمائرهم فقال لهم: «لا ترون في حديثي ما كنتم تتوقعونه من الأنباء المهمة فإني إنما أقص عليكم أخبارا متناقلة على السنة الناس ولكنني أردت أن ابسط لكم أصل نسب ملوك الحيرة المقيمين في العراق ثم أتطرق من ذلك إلى كشف السر فامهلوني ولا تملوا».
الفصل الحادي والستون
ملوك الحيرة
قلت لكم إن بنى كهلان تفرقوا قبيل سبل العرم وبعده وكانوا أحياء عديدة نذكر منها ثلاثة هي لخم والازد وطي أما لخم فهم أجدادنا الذين أقاموا في العراق ومنهم المناذرة ملوك الحيرة (قال ذلك وتنهد) وأما الازد فمنهم بنو غسان عرب هذه البلاد إما طي فأقاموا بنجد والحجاز في جبلي أجا وسلمى.
فسر حمادا أن يكون بين اللخميين والغسانيين قرابة ولكنه ما زال قلقا للوصول إلى آخر الحديث وكذلك سلمان أما الراهب فكان اقلهما قلقا واشتياقا كأن الشيخوخة وكثرة الاختبار علماه الاستخفاف بحوادث الزمان فضلا عن إن ما قصه عبد الله عليهم إلى ذلك الحين لم يكن بالشيء المجهول عنده.
أما عبد الله فأنه أتم الحديث قائلا: «علمتم إن ملوك الحيرة لخميون يتصل نسبهم بكهلان بن سبا من عرب اليمن القحطانية فنزل بنو لخم العراق وأقاموا فيه مدة على حالهم من البداوة وأول من حكم العراق من العرب قوم من حي يقال له دوس وهو بطن من الازد وهم أقرب نسبا إلى الغسانيين منهم إلينا. ولم تمض مدة حتى تغلب أجدادنا عليهم وملكوا العراق تحت رعاية ملوك الفرس على مثال ما هم عليه الآن واتخذوا مدينة الحيرة كرسيا لملكهم وسموا المناذرة جمع (المنذر) وهو لقب ملوك العراق كما تعلمون.
ولا أطيل الكلام عليكم خوف الملل فأقول بالاختصار أنه توالى على كرسي الحيرة بضعة عشر ملكا أشهرهم أمرؤ القيس بن عمرو ومما يؤثر في فضله إن اللخميين لما قدموا من اليمن كانوا على عبادة الأوثان فلما ملكوا وخالطوا الرهبان وأهل النصرانية تنصروا وأول من تنصر من ملوكهم أمرؤ القيس هذا ثم ملك النعمان بن امرئ القيس ويقال له الأعور وهذا الذي بنى القصرين المشهورين (الخورنق والسدير) ومن غريب أمره أنه لما عظم ملكه وامتلأت عيناه من خيرات الأرض مال إلى الزهد فترك الملك وتنسك وملك بعده المنذر ثم الأسود وهذا حارب أصحابنا الغسانيين منذ مئة وخمسين عاما وأسر عدة من ملوكهم وكان ذلك سبب عداوة مستمرة فيما بيننا وبينهم وتوالى بعد الأسود ملوك كثيرون منهم المنذر بن ماء السماء وكان معاصرا لكسرى أنو شروان ملك الفرس المشهور وله معه وقائع وحوادث يطول شرحها فلنتركها وننتقل إلى آخر ملوك الحيرة النعمان بن المنذر».
فلما ذكر اسمه ابتدره الراهب قائلا: «أظنك تعني أبا قابوس».
قال: «نعم إنه كان يلقب أبا قابوس».
قال الراهب: «هذا الذي قتله كسرى برويز وبسبب قتله صارت واقعة ذي قار وقد كنت شابا وشهدت هذه الحوادث وكنت أعرف الملك النعمان هذا رحمه الله ولي معه حديث طويل».
الفصل الثاني والستون
مقتل النعمان بن المنذر
فتنهد عبد الله وهو يعتدل في مجلسه ويصلح الرداء على كتفيه وقال: «قد وصلنا إلى المراد من حديثي فارعوني السمع لأقص عليكم غرائب ما أعلمه عن هذا الملك». قال ذلك وشرق بدموعه خلسة ولولا ضعف النور لظهر الدمع متلألئا في عينيه ولكنه تجلد وأعاد الحديث فقال.
إن الملك النعمان هذا لا احتاج في وصفه إلى تطويل وكلكم يعرفه إلا حمادا ويكفي في وصفه أنه شهم شجاع صادق وقد أعاد النصرانية إلى الملك بعد أن فسدت وأبدلها أسلافه بالوثنية. ولا تتضح لكم دخيلة حديثي إلا إذا ذكرت لكم كيفية تولي النعمان الملك. فقد كان أبوه المنذر ملكا قبله وكان في بلاط كسرى على عهده رجل عدناني اسمه عدي بن زيد كان يحسن العربية والفارسية وكانت له منزلة كبرى ونفوذ لدى كسرى وكان مقام كسرى في المدائن والمنذر في الحيرة كما تعلمون وكان للمنذر 12 ولدا احدهم النعمان الذي نحن في صدده وكان قد ربي في حجر عدي بن زيد ورضع في أهله وكان من أبناء المنذر أيضا فتى اسمه الأسود رباه قوم من أهل الحيرة يقال لهم بنو مرينا ينتسبون إلى لخم.
فلما مات المنذر خاطب كسرى عديا في من يلى الحيرة بعده وقال له: «إني أرى أن اخرج الملك من أيدى هؤلاء واجعله في يدي واحد من خاصتي فهل بين أولاد المنذر من يصلح للملك» قال عدي: «أنهم بضعة عشر رجلا كلهم أشداء فإذا أمر مولاي جئته بهم». قال: «إلي بهم». فبعث يستقدمهم وفي نفسه أن يسهل سبيل الملك إلى النعمان سرا لأنه ربي عنده فخلا به قبل اجتماعهم واسر إليه أشياء يقولها في حضرة كسرى ففعل وتولى الملك فشق ذلك على ابن مرينا لأنه كان يرجو أن يكون الملك للأسود التماسا للنفوذ على يده. فاخذ يحرض الأسود على الانتقام من عدي بدعوى أنه عدناني (أي من نسل عدنان وبين القحطانية والعدنانية مناظرة) فوافقه وسلم التصرف في ذلك إليه فجعل ابن مرينا يتقرب من النعمان بالهدايا والتحف ويشي بعدي فيذكره بالخبر ويتواطأ وبعض الحضور على الطعن فيه فيروون عن لسانه أنه يقول بان النعمان تحت أمره وأنه هو الذي ولاه الملك وما زالوا كذلك حتى أضغنوه عليه. فبعث النعمان إلى عدي يدعوه إلى زيارته فجاء وفي حال وصوله أمر بسجنه في مكان خارج الحيرة لا يدخل عليه فيه أحد فعلم عدي أنها وشاية فجعل يكتب إلى النعمان يستعطفه نظما ونثرا فلم يجد ذلك نفعا فكتب إلى أخ له اسمه أبي يحرضه على إنقاذه فقام أبي إلى كسرى وأنبأه بخبره فكتب إلى النعمان في إطلاقه فجاء أعداء عدي وأكثرهم من بني بقيلة وأصلهم من عرب غسان أهل هذه الديار وحرضوا النعمان رحمه الله على الفتك بعدي قبل وصول كتاب كسرى إليه وحسنوا له ذلك بحيلة يطول شرحها وكان الرسول قد مر قبل وصوله إلى الحيرة بسجن عدي وأخبره بكتاب كسرى ثم خرج من عنده إلى النعمان وفي أثناء ذلك أرسل النعمان إلى عدي أناسا قتلوه فلما فض كتاب كسرى كتب إليه أن عديا مات. ولكن النعمان ما لبث أن عرف أنه أساء عديا فندم وما صدق إن لقي ولدا من أولاده اسمه زيد بن عدي حتى هم بإكرامه ورفع شأنه تكفيرا عما فرط منه بشأن والده وأوصى به كسرى فجعله في منزلة والده عدي.
فلم يغفل أهل الوشاية عن اطلاع زيد على كيفية قتل أبيه فحقدها على النعمان وسعى ضده لدى كسرى بحيلة غريبة. وذلك إن الأكاسرة كانوا يبعثون إلى أيالاتهم يطلبون نساء لهم على أوصاف مخصوصة ولكنهم لم يكونوا يلتمسون ذلك من أحياء العرب لعلمهم ببخلهم بكرائمهم. فقال زيد لكسرى مرة: «إن في الحيرة نساء جمعن كل أوصاف الجمال فإذا بعثت إلى النعمان أرسل إليك منهن» وكان زيد يعلم أن النعمان لن يرضى بذلك فيقع التنافر بينه وبين كسرى فأنفذ كسرى رسولا ومعه زيد إلى النعمان فاخبره بطلب كسرى فعظم ذلك عليه فالتفت إلى زيد وقال له: «أما في مها السواد وعين فارس ما يبلغ كسرى به حاجته إن الذي طلب كسرى ليس عندي». قال الرسول لزيد بالفارسية: «ما معنى المها والعين؟» قال: «البقر».
فلما رجعا إلى كسرى أخبراه بما قال النعمان وأقنعاه أنه إنما أراد الحط من منزلة كسرى بقوله (أليس في بقر الفرس ما يكفيه). فغضب كسرى غضبا شديدا ولكنه كتم ذلك والنعمان قد شعر بغضبه فاخذ يستعد ويتوقع حتى أتاه كتاب كسرى يستقدمه إليه فعلم أنه إنما يدعوه لمقتله فحمل سلاحه وأهله والتمس الفرار. وكنت أنا ممن لازم النعمان زمانا وكان يستأنس بي ويرتاح إلى رفقتي فقال لي: «كيف أنت يا عبد الله قلت إني يا مولاي لاحقك بك أينما توجهت» فقال: «إن في ذلك خطرا عليك» قلت: «ما أنا احرص على نفسي مني على نفس مولاي النعمان» فقال: «بورك فيك». فصحبته من ذلك اليوم وسرنا حتى أتينا قبيلة طي في أعالي نجد وكان النعمان قد تزوج منهم فطلب أن يحموه بين الجبلين (أجا وسلمى) فقالوا: «لا يمكننا ذلك ولولا صهرك لقتلناك فأنه لا حاجة بنا إلى معاداة كسرى».
فتركناهم وسرنا إلى قبائل أخرى فلم يقبلنا أحد منهم خوفا من كسرى حتى لقينا رجلا من قبيلة بكر بن وائل اسمه هاني بن مسعود وكان سيدا منيعا وكان للنعمان فضل عليه فقال له: «إني مانعك مما أمنع نفسي وأهلي وولدي منه ما بقى من عشيرتي الأدنين رجل ولكنني لا أرى ذلك نافعا لك لأنه مهلكي ومهلكك فإذا أذنت لي فاني مشير عليك بالذهاب إلى كسرى مستعطفا واحمل إليه الهدايا فإذا صفح عنك عدت ملكا وإلا فالموت خير لك من أن يتلاعب بك صعاليك العرب» فاستحسن مولاي النعمان الرأي ولكنه قال: «ما أفعل بحرمي؟» قال هاني: «هن في ذمتي لا يخلص إليهن حتى يخلص إلى بناتي». فقبل النعمان بذلك وأنا خائف من عاقبة الأمر وقد حدثتني نفسي في صده عن الذهاب فلم أجسر لأني شاهدت وجهه وكان أبرش أحمر كما تعلمون قد امتقع حتى صار كمن أصابه اليرقان ونهض وقد همه الأمر كثيرا وجعل يخطر ذهابا وإيابا وقصر قامته ظاهر وهو يفتل شاربيه الأشقرين كأنه خائف من الذهاب وكان ضميره دليله.
ثم فكر قليلا وقال لهاني: «أرى يا أخا بكر أن أرسل إلى كسرى هدايا فان قبلها سرت إليه» فقال هاني: «نعم الرأي رأيت» فأرسلها إليه فقبلها كسرى خداعا منه قبحه الله. فهم مولاي النعمان بالمسير فقلت: «إني سائر معك ووالله لا أبرحك لحظة» فقال: «أرى أن تبقى عند نسائي خير من أن تذهب معي قلت إني فاعل ما تريده ولكنني أرى النساء آمنات في حمى هاني بن مسعود فأذن بذهابي معك» فأذن وكأن نفسي حدثتني بخطر قريب فسرنا حتى أتينا المدائن فلقينا زيد بن عدي فتشاءمت برؤيته وتحققت سوء قصده وكنت مصيبا في ذلك لأنه لم يكد يلقانا حتى قال للنعمان: «انج نعيم إن استطعت النجاة» فقال النعمان: «فعلتها يا زيد فوالله إن عشت لأقتلنك قتلة لم يقتلها عربي قط ولألحقنك بأبيك». فضحك زيد لعنه الله وتوعده فعلمنا أنها حيلة أعدها له وتحقق النعمان أن الساعة قد دنت وإن القضاء واقع لا مفر منه. فلما وصل إلى كسرى أمر فقيدوه وبعثوا به إلى سجن في خانقين وكنت أتردد إليه في السجن خلسة وأنا أرجو الإفراج عنه أما هو فلم يكن يرجو نجاة.
الفصل الثالث والستون
السر
وسرت إليه ذات يوم صباحا فرأيته قد تغير حاله وامتقع لونه كأنه خائف من أمر قريب ولا أنسى منظره الرهيب في ذلك اليوم فوقفت أنتظر أمره فقال لي: «يا عبد الله».
قلت: «لبيك يا مولاي».
قال: «أرى أن أسر إليك أمرا فهل تعاهدني على حفظه؟»
قلت: «كيف لا؟»
فمد يده وأعطاني هذا الرداء المزركش (قال عبد الله ذلك ونزع الرداء عن كتفيه ووضعه أمامه) فأخذته منه ثم استخرج من يده خاتما عليه اسمه ولقبه وهو هذا (ومد عبد الله يده واستخرج الخاتم من جيبه ووضعه على الرداء)» وكان الحضور شاخصين يحبسون أنفاسهم إصغاء لما سيقوله عبد الله وتوقعا للخطر القريب. وكان عبد الله قد تغيرت سحنته واختنق صوته وتخلله ارتعاش زاد الحضور تهيبا.
ثم قال: «فلما تناولت الخاتم قال لي النعمان: «اعلم يا عبد الله إني في هذا السجن حتى ينقضي أجلي فيخرج ملك الحيرة من أيدي اللخميين لأن عديا هذا سيبذل جهده في إذلالهم خوفا ممن ينتقم لي ولا أعرف من أولادي من يصلح لرفع هذا العار عنا ولكن بين أهلي عند هاني بن مسعود زوجتى سمية وهي حامل وستلد قريبا فاذهب إليها بهذا الخاتم وهذا الرداء وقل لها إن هي وضعت غلاما أن تعهد إليك بتربيته فتربيه تربية رجال القتال حتى يشب شهما حرا واحذر أن تقص شعره أو تخبره عن نسبه قبل الحادية والعشرين من عمره فإذا بلغها قص شعره في دير بحيراء واخبره عن نسبه والبسه هذا الرداء وهذا الخاتم ...».
ولم يكد يتم عبد الله كلامه حتى استولت البغتة على الحضور وخصوصا حماد إذ خيل له أنه في حلم وساعده على ذلك الوهم ضعف النور وهدوء المكان وكانوا لا يرددون أنفاسهم إلا وهم يحذرون أن تعترض حديث عبد الله فلما وصل إلى هذا الحد تحققوا أن حمادا هو ابن الملك النعمان فجعلوا ينظرون إليه نظرة الاحترام. أما عبد الله فحالما بلغ إلى قوله «وألبسه هذا الرداء والخاتم» وقف على قدميه وجعل الرداء على كتفي حماد والخاتم في إصبعه وامسكه بيده وأنهضه وأجلسه على المقعد الحجرى وهم بتقبيل يده فخجل حماد وجذب يده منه فقال له عبد الله لا تخجل يا مولاي انك الآن سيدي ابن الملك النعمان وقد انقضى زمن والدية عبد الله. فجلس حماد على المقعد وجلس عبد الله بين يديه وهم سلمان بيد حماد فقبلها وتأدب في مجلسه وهو يقول: «والله كنت أرى هيبة الملوك على وجهه من يوم عرفته».
أما الراهب فأنه على عجزه وقف ورفع يده فوق رأس حماد وباركه ودعا له بطول البقاء وقبل رأسه. كل ذلك وحماد يحسب نفسه في حلم ولكنه فرح كثيرا بما علمه من نسبه وود لو أن هندا حاضرة فتسمع ذلك فتفرح معه وخيل له أن سعده قد تم لأنه ملك وسيقترن بملكة ويرث ملك غسان. وفيما هو يفكر في ذلك نهض عبد الله فقال: «لم يتم حديثي بعد فهل تسمعونه إلى آخره؟»
قالوا: «نعم».
فمد يده إلى جيبه واستخرج اسطوانة من الفضة تخن الإصبع وخاطب حمادا قائلا وقد أعطاني مولاي النعمان هذه الاسطوانة واستحلفني أن أسلمها إليك مختومة بعد إتمام الخبر فتفتحها في هذا الدير وتقرأ ما فيها وتعمل به.
فمد حماد يده فتناول الاسطوانة وهم بفتحها فامسكه عبد الله وقال: «لا تفعل قبل إتمام الحديث».
قال: «تفضل».
فقال عبد الله: «فلما أتم النعمان وصيته بكى وبكيت ولكنني كنت أحبس الدمع تشجيعا له. فقال: «اعلم يا عبد الله أن القضاء واقع قريبا فاحتفظ بهذا السر حتى يأت وقته أما إذا أنا خرجت من هذا السجن وعشت وللمسالة وجه آخر». وللأسف يا سيدي أنه لم يخرج من ذلك السجن فوافاه القدر فتوفي بداء الطاعون» قال ذلك وتنهد والدموع ملئ عينيه فتنهد الجميع ثم قال.
أما أنا فسرت إلى هاني ولقيت والدتك سمية وكانت حاملا فأسررت إليها ما كان فأطاعت فانتظرت ريثما وضعت ولكنها واأسفاه عليها لم تعش بعد الولادة إلا قليلا فحملتك إلى أهلي وأرضعتك منهم حتى شببت على ما ترى.
الفصل الرابع والستون
وقعة ذي فار
ولعلك تسألني عما تم من أمر وديعة والدك فأخبرك يا مولاي أن كسرى علم بعد وفاة سيدي النعمان أن أهله وماله وسلاحه عند هاني وفيه أربعة آلاف شكة والشكة سلاح الفارس كله فكتب كسرى إلى هاني بأن يبعث الوديعة إليه فأبى ذلك محافظة على العهد ورعاية للذمام وكان لكسرى عامل على عين التمر وما والاها إلى الحيرة اسمه إياس بن قبيصة الطائي فدعا به إليه فجاءه برجاله فاستشاره في الغارة على بكر بن وائل فأشار عليه أن يفعل فعقد كسرى لإياس بن قبيصة على كتيبتي والدك وهما الشهباء والدوسر وأرسل معه جندا آخر بقيادة رجال من الفرس فكانت حملة تزعزع الجبال وفيها من الخيل والجمال والمؤنة والعدة ما لا يحصى فلما سمع هاني بن مسعود بها سار برجاله لملاقاتها فالتقوا في محل يقال ذو قار وكانت فيه وقعة عرفت بوقعة ذي قار بين الفرس والعرب اشتهر أمرها في الأقطار وكانت الغلبة فيها لهاني ورجاله فأنهم هزموا الفرس شر هزيمة وهي أعظم وقعة انتصف فيها العرب من العجم قبل الإسلام وفر إياس إلى كسرى فسأله عن الخبر فقال: «غلبت بكر بن وائل وجئنا إليك بنسائهم» ففرح كسرى به وأمر له بكسوة ولكن إياسا خاف افتضاح أمره قريبا فاستأذن بالذهاب إلى أهله فأذن له فانصرف إلى عين التمر ثم جاء رجل من أهل الحيرة إلى كسرى وحدثه بهزيمة القوم فغضب منه كسرى فأمر فنزعت كتفاه ولم يصدق إلا اياسا فولى اياسا الحيرة كما تعلمون وقد ولى بعده رجل فارسي آخر ثم وليها احد إخوتك المنذر الغرور وهي الآن في ولاية إياس بن قبيصة ولا تزال الوديعة عند هاني بعضها أو كلها.
وكان حماد قد مل الانتظار تشوقا إلى ما في تلك الاسطوانة فلما فرغ عبد الله من حديثه نهض وقد أعياه التعب لشدة تأثره وذكرى مصائبه وقال لحماد: «إلي يا مولاي بالاسطوانة» فدفعها إليه فالتمس من الراهب أن يباركها قبل الفتح فباركها فوقفوا جميعا وتناول عبد الله الاسطوانة وعالجها بمدية حتى انفتحت فدنا من مصباح منير بجانب أيقونة ونظر إلى ما في الاسطوانة وكلهم يتطاولون من جنبيه وورائه ينظرون معه فإذا فيها لفافة من جلد فاستخرجها ونشرها بين يديه فرأى عليها كتابة بالأحرف الاسطرنجيلية وهي كتابة أهل العراق إلى ذلك الحين فشخصت أبصارهم إلى ما فيها فأخذ عبد الله يتلوها عليهم وهم يسمعون وهاك نصها:
من النعمان نزيل دار البقاء إلى ابنه المنذر المقيم بين الأحياء. أما بعد فهذا كتاب كتبته وأنا في عالم الوجود وأنت في دار الخفاء وستقرأه بعد رجوعي إلى عالم الغيب وبروزك في عالم الأحياء. فإذا قرأته وقد وفيت نذرك وعرفت حقيقة نسبك فاعلم أن عظامي تناديك من ظلمة القبر وتستحلفك بشرف أجدادك المناذرة من آل لخم أن لا تقرب امرأة ولا تشرب خمرا حتى تنتقم لأبيك من أكاسرة الفرس فإذا فعلت ذلك فانك مبارك أنت ونسلك. وإن لم تفعل فان رفاتي ترتعش حنقا ونفسي تتألم وهي تنظر إليك من منافذ الآخرة تراقب حركاتك وسيجمعني وإياك موقف نتحاسب فيه والسلام.
فلم يكاد حماد يأتي على خاتمة الكتاب حتى ارتعدت فرائصه وأي ارتعاد وقد رأى مساعيه كلها ذاهبة أدراج الرياح على أن الحمية من الجهة الثانية. ثارت فيه والنخوة هاجت في رأسه وشعره بدافع يدفعه إلى الأخذ بثأر والده من أكاسرة الفرس وقد استعظم المشروع وهالة الأقدام عليه فوقف مبهوتا لا ينبس ببنت شفة.
فنظر عبد الله إليه ينتظر ما يبدو منه فلما رآه صامتا قال له: «هذا هو السر يا سيدى قد أطلعك عليه فألقيت عن عاتقي حملا حملته نيفا وعشرين عاما وأنا أخاف أن أقضي نحبي قبل إفشائه فانظر في ماذا تفعل».
فقال حماد: «لقد ألقيت عنك حملا اثقلتني به وأرجو أن أتوفق للقيام بما عهد إلي والله منجدي ونصيري». قال ذلك وتحفز للخروج من الصومعة فأوقفه عبد الله والتمس من الراهب أن يختتم حديثهم بالصلاة فصلى وتضرع إلى الله أن يساعدهم على كتمان الأمر ثم خرجوا وكأن على رؤوسهم الطير لهول ما سمعوه ورأوه. وأكثرهم بغتة وإنذهالا حماد لأنه أصبح لا يدري ماذا يعمل أيسير إلى هند يطلعها على سره وليس في ذلك السر إلا ما يوجب كدرها لأنه حائل بينها وبين الاقتران إلى أجل غير معين وإن يكن في اطلاعها على حقيقة نسب حماد أمر يسرها. أم يخاطب جبلة بالأمر لعله يشير عليه أو ينجده. أم يأم العراق فينزل المدائن ساعيا في الانتقام من كسرى فلما فكر في مسيره إلى هناك تهيب لعلمه بما يحول بينه وبين ذلك المرمى من العقبات فإن الأكاسرة ذوو بطش ومنعة. فسار إلى الدير وقضى ليله ساهرا لعظم تأثره وهو يفكر في طريقة تهون عليه المشاكل.
الفصل الخامس والستون
دولة الفرس
ما برحت الفرس من قديم الزمان تحت سلطة مملكة أشور حتى تولى هذه المملكة الملك سردنفول في القرن الثامن قبل الميلاد وساء حكومتها وانشغل عن سياسة مملكته بمجالسة النساء واللهو على أنواعه فأبغضته الرعية وودت لتخلص منه فاتفق كبيران من قواده على إخراج الملك من يده وهما أرباسيس قائد عسكر مادي وبيليزيس قائد جند بابل فاتحدا على العصيان وحاربا ملكهم فحصراه في نينوى فلما أيقن بالهلاك أحرق قصره بما فيه من المال والناس وهو في جملتهم سنة 760ق.م وهكذا انقضت مملكة أشور الأولى وقامت مملكة مادي وفارس وملكها ارباسيس وتوالى الملوك من بعده وفيهم العادلون والمدمرون أو الجهلاء والظالمون ومن أشهرهم كورش العظيم صاحب الغزوات المشهورة فافتتح بابل وما بين النهرين وأرمينيا وسوريا واسيا الصغرى وجانبا من بلاد العرب وتولى بعده ابنه كمبيز ففتح مصر على زمن الملك اماسيس من فراعنة مصر ثم تولى داريوس ومن جاء بعده ولم يحسنوا السياسة فتقهقرت المملكة واختلت أحوالها. فلما ظهر اسكندر الأكبر في القرن الرابع قبل الميلاد طمع ببلاد فارس ففتحها وقهرها واستولى عليها ولكن عمر اسكندر لم يطل فمات واقتسم قواده مملكته فكانت بلاد فارس من نصيب سلوقس ولم يطل حكمه فغزا الفرثيون بقيادة ارساسيس الأول وما زالت في حوزتهم خمسماية سنة.
فانف الفرس من رضوخهم للنير الاجنبى فثاروا سنة 226م بقيادة رجل منهم اسمه أردشير فطرد الفرثيين وأسس دولة اشتهرت في التاريخ الفارسي هي الدولة الغسانية ومنهم كسرى أنوشروان الملقب بالملك العادل وهو أعظمهم وصار لفظ كسرى لقبا لكل من ملك بعده منهم فعرفت دولتهم بالملوك الأكاسرة.
وكان مقام الأكاسرة في المدائن وهي مدينة عظيمة على ضفاف الفرات فيها قصر عظيم طار ذكره في الآفاق يسمى الإيوان ويعرف بإيوان كسرى.
وحكم (انوشروان) 48 سنة وخلفه ابنه هرمز وكانت أمه ابنة ملك التتر وأستاذه الحكيم بزر جمهر وكان وزيره فسارت الأحكام في أيام هذا الحكيم على مثال ما كانت في زمن أنوشروان فلما توفي بزر جمهر انغمس هرمز في الشهوات وأهمل شؤون المملكة فعصاه الولاة وغزاة ملك التتر فنصره قائد من قواده اسمه بهرام كان آية في الدهاء والذكاء وطرد التتر من البلاد ثم تحول إلى محاربة الرومانيين فوشى به بعض المقربين من البلاط الملوكي فاظهر له هرمز بعض الاحتقار فاستشاط بهرام غيظا وجاهر بعصيان الملك وخلعه وولى بعده ابنه كسرى برويز وكان صبيا صغيرا تساعد على قتل أبيه ببعض أقربائه فلما خلص الحكم له طمع بهرام بالملك ففر برويز من وجهه واستجار بملك الرومانيين في ذلك العهد واسمه الإمبراطور موريس فانجده ورد الملك إليه ففر بهرام إلى بلاد التتر فأحسنوا وفادته ولكن الخيانة لحقته إلى هناك فمات مسموما.
واستبد كسرى برويز بالحكم وقد عقد النية على صداقة الإمبراطور موريس لأنه هو الذي رد الملك إليه فبالغ في إكرام الرومانيين في بلاده فلما مات صديقه المذكور عاد إلى مناوأة الروم فأثار عليهم حربا عوانا فغزا بلاد الشام ودخل بيت المقدس فعثر هناك على الصليب الذي يقال أن السيد المسيح صلب عليه وكان في حفرة بصندوق من الذهب فحمله إلى المدائن وكان برويز مع ذلك ملكا خاملا مترفا منغمسا بالملاهي إلى ما يفوق طور التصديق حتى قيل أنه تزوج 12 ألف امرأة واقتنى خمسين ألف جواد وهو الذي جاءه كتاب صاحب الشريعة الإسلامية الغراء يدعوه فيه إلى الإسلام كالكتاب الذي جاء الإمبراطور هرقل في بيت المقدس فاحتقر برويز ذلك الكتاب وأساء حامله .
ثم ما لبث برويز أن علم بعزم الإمبراطور هرقل على اكتساح بلاده ولم يقو على دفعه فما زال هرقل هاجما وأهل القرى يفرون من أمامه حتى وصل المدائن وبرويز لاه بقصره ونسائه فلما أحس بقرب الخطر فر فنقم عليه ابنه شيرويه فقتله وحكم مكانه سنة 629م ولكنه لم يحكم طويلا فخلفه سواه وسواه وفي سنة 630م تولى تخت مملكة الفرس فتاة من آل ساسان اسمها بودان دخت ابنة كسرى برويز وفي أيامها هجم هرقل على المدائن واسترجع الصليب منها وحمله إلى القسطنطينية وحكمت بعدها أختها آزرميدخت سنة 633م (10ه) واشتهرت بالجمال والتعقل وماتت مسمومة ولها قصة يطول شرحها وملك بعدها ملكان لم يطل حكمها وأخيرا أفضى الملك إلى يزدجرد بن شهريار بن كسرى وفي أيامه فتح العرب بلاد فارس.
الفصل السادس والستون
المدائن
هي عاصمة أكاسرة الفرس ويسميها اليونان كتيسيفون ويسميها الطبري طيسبون والغالب أن كتيسيفون قسم من المدائن وكانت على مسافة عشرين ميلا من بغداد جنوبا على الضفة الشرقية لدجلة يقابلها في الغرب بلدة اسمها كوش يعتبرها بعضهم من ضواحي كتيسيفون بينهما جسر عظيم مبني من السفن وكان بجوار ذلك المكان أيضا آثار مدينة يونانية اسمها سلوقية نسبة إلى سلوقون خليفة الإسكندر هناك وقد سميت هذه الأماكن بجملتها المدائن (جمع مدينة). وأصل بناء المدائن أنه كان في مكانها حصن كبير يسمى حصن كتيسيفون كان البرطيون (الفرثيون) أبان سلطانهم على العراق يقيمون فيه أثناء الشتاء لصفاء الجو هناك وكان بجوار الحصن مدينة سلوقية الشهيرة ثم أخذوا يبنون حول الحصن المنازل والحدائق فلم يأت تاريخ الميلاد المسيحي حتى بنيت هناك مدينة سميت باسم الحصن كما جرت العادة في مثل هذه الحال وظلت المدائن مقام الأكاسرة في زمن الشتاء. وكانت محاطة بسور منيع عليه الأبراج والقلاع يزيد مناعته مياه دجلة من جهة والآجام والمستنقعات من الجهات الأخرى فأصبحت المدائن جزيرة في وسط المياه يستحيل وصول الأعداء إليها قبل أن تمزقهم نبال الفرس من الأسوار وقد كان بين دجلة والفرات جنوبي المدائن قناة موصلة بينهما اسمها نهر ملكا ومعناها بالكلدانية نهر الملك تسهل نقل السفن بين النهرين.
وكان على ساحل المدائن عند دجلة سلم ممتد بطول الضفة يصعد عليه الناس من النهر إلى المدينة بدرجات متينة مبنية من الحجر ويسمى هذا السلم باصطلاح أهل تلك البلاد «مسناة».
وترسو عند المسناة سفن الفرس مئات وألوفا حتى تخال سواريها غابة من الأعمدة تناطح السحاب والناس فيها جماعات يتزاحمون بين صاعد ونازل وشكل السفن يشبه شكلها في العراق الآن فأنها مبتورة المؤخر كأنها قطعت بسكين قطعا عاموديا فصارت عريضة ملساء وأما مقدمها فأنه يصعد مستدقا رويدا رويدا حتى إذا انتهى إلى أعلاه انحنى على نفسه نحو السفينة على شكل المنجل فتخال تلك السفن إذا تحاذت متلاصقة عند المسناة وقد أديرت مقاديمها نحو المدينة أنها سيوف عقفاء يحملها جند من الحرس يحمون المدائن.
ولو اطللت على المدائن من مرتفع في ذلك العهد لخيل لك أنها غوطة فيها البساتين والمغارس بينها القصور والمنازل مبنية من الآجر وقد قام في وسطها الإيوان كأنه ملك عظيم الشأن تحف به الخدم والأعوان.
الفصل السابع والستون
إيوان كسرى
هو قصر باذخ يسمونه أيضا الطاق جرى اسمه على السنة العرب وأقلامهم مجرى الأمثال بالعظمة والفخامة حتى عدوه من المبانى العجيبة بناه سابور ذو الأكتاف وهو سابور بن هرمز في القرن الرابع للميلاد لكنه يعرف باسم إيوان كسرى انوشروان. قضى سابور في بنائه نيفا وعشرين سنة أقامه في وسط المدائن على مقربة من دجلة بحيث لا يحول بين الإيوان والنهر إلا الحدائق والبساتين تنتهى عند الضفة بالمسناة المتقدم ذكرها ويحيط بالإيوان جملة حديقة واسعة فيها الأغراس والإزهار والرياحين والشجر من الازدرخت والليمون وغيرهما. ويحيط بالحديقة سور مبنى من الآجر له أبواب عليها الحرس بقلانسهم وأتراسهم ورماحهم وفوق الأبواب رسوم فارسية منقوشة طبعا على الطين وهو نيء كما كان يفعل الآشوريون في آثارهم. وعلى جانبي الباب الأكبر المطل على المدينة تمثالان كبيران يمثلان الثور الاشوري المجنح برأس إنسان طويل اللحية متوج الرأس وفي زاوية من زوايا الحديقة بناء الأفيال وفيه بعض الفيلة المرباة لركوب الأكاسرة وبين أبواب الحديقة والإيوان طرقات مرصفة بالحصى ألوانا على شكل الفسيفساء يتألف من ترتيبها بعضها بإزاء بعض رسوم تمثل أسودا وآدميين وفرسانا ومركبات عليها الملوك والقواد يحدون في صيد الأسود تشبه رسوم ملوك أشور أسلاف الفرس ما بين النهرين وأكبر تلك الطرقات وأوسعها طريق ممتد من الباب الكبير إلى باب الإيوان يصطف إلى جانبيه الحرس عند دخول كسرى إلى الإيوان.
وأما بناء الإيوان فعبارة عن قاعة كبيرة طولها مئة ذراع وعرضها خمسون مبنية بالآجر والجص سقفها عقد واحد قائمة على عمد من الرخام المنقوش ويصعد إلى أرض الإيوان بدرجات عند بابه. وفي صدره عرش مرصع بالذهب والحجارة الكريمة يجلس عليه كسرى تعلوه قبة مرصعة وفي داخلها مروحة من ريش النعام والى جانبي العرش مجالس أعوانه ومرازبته. وجدران الإيوان وسقفه مزينة برسوم بديعة في جملتها صورة كسرى انوشروان وغيره من الأكاسرة العظام وأبيات من شعر مكتوب بالحرف الكلداني الذي كان يكتب به الفرس قبل الإسلام وفي سقف الطاق رسوم الأفلاك والأبراج والنجوم من ذهب منزلة في قبة زرقاء.
وكان للإيوان شرفات مزخرفة بالنقوش تشرف على الجهات الأربع قائمة على أعمدة يتألف من صفوفها رواق يحيط بالطاق من جهاته الأربع طول الشرفة الواحدة خمسة عشر ذراعا وقد أدخل في بناء الإيوان من الذهب ما ربما زادت قيمته على مليون دينار.
وباب الطاق كبير نقش على عتبته العليا رسم الشمس مذهبة والى كل من جانبي الباب تمثال أسد كأنه يمشي وعيناه تتلألآن والأسدان مصنوعان من الرخام محليان بالذهب وفي موضع العينين منهما زمردات زرقاء بديعة الشكل. وأما عتبته السفلى فمصنوعة من الرخام المرمر. ولا يخلو باب الأيوان من عشرات من الحرس ولا يخلو ملمس الأكاسرة من مئات من العلماء بين كاهن وساحر ومنجم ويسميهم الطبري الحزاة. فضلا عن الحجاب والحراس والبوابين.
هذه كانت حال الإيوان عند ظهور الإسلام في القرن السابع للميلاد.
الفصل الثامن والستون
انس أم جان
فلندع كسرى وإيوانه ولنعد إلى حماد وهواجسه فقد تركناه في دير بحيراء غارقا في لجج الأفكار تتقاذفه العوامل بين المسير إلى العراق أو البقاء في البلقاء وكلا الأمرين شاق وكلما تصور مسيره إلى مدائن كسرى هاله موقفه موقف الخصم أمام ملك الفرس وعظم عليه الانتقام منه وهو فرد وذاك سلطان ينصره الجند والأعوان ولم يكن ذلك ليهوله أو يكبر عليه لولا أمر هند وتأجيل الاقتران ولقد كان ميالا كل الميل لاطلاع هند على ما كشف له من نسبه مع ما جد من أمر التأجيل ليرى ما يبدو منها ومن والدها ولكنه تربص ريثما يتخذ إلى ذلك سبيلا لائقا. فلما تلبدت عليه المشاغل وضاق صدره خرج من غرفته ولم يعلم عبد الله ولا سلمان بخروجه وسار يلتمس منفردا يخلو فيه بنفسه لعله يتوفق إلى رأي يخفف قلقه. وكانت الشمس قد مالت إلى الأصيل فلاحت له أكمة على بضعة أميال منه فركب وسار نحوها وفيما هو في الطريق غاب وجدانه بما اجتذب انتباهه من الشواغل فسار الجواد حثيثا وحماد لا يعلم فلم ينتبه إلا وهو في سفح جبل فالتفت إلى الوراء فإذا ببصرى والدير قد غابا عن بصره ونظر إلى الشمس فرآها مائلة نحو المغيب فوقف يفكر في ماذا يفعل أيعود إلى بصرى حالا أم يجلس هناك هنيهة فنظر إلى ما حوله فإذا هو في واد بين جبلين أجردين كسائر جبال حوران فترجل وقاد جواده صعدا يلتمس قمة أحد الجبلين لعله يشرف منها على بصرى فيعرف جهتها منه ومتى عاد إليها أمن الضياع وفيما هو صاعد حانت منه التفاته إلى الجبل المقابل فرأى كهفا نحتته يد الطبيعة في سفح ذلك الجبل ولاح له شبح يتلصص بين الصخور هيئته بين الآدمية والوحشية لطول شعره وعريه فوقف حماد ينظر إلى ما يبدو منه فما لبث أن رآه يهرول نحو الكهف حتى دخله وتوارى.
فمال حماد إلى استطلاع حقيقة ذلك الشبح وتحول نحو الكهف يقود الفرس وهو لا يسمع في ذلك المكان صوتا غير صوت وقع أقدامه وقرقعة حوافر جواده تدوي في أنحاء ذلك الوادي ويتخلل الدوي طقطقة حجارة تتدحرج من مواقع حوافر الفرس ممتزجة بصوت صهيله. فنزل الوادي ثم هم بالصعود حتى إذا صار على مقربة من الكهف رأى صخرا يتدحرج نازلا نحوه فتحول من طريقه وعلم أنه إنما دحرج من الكهف عليه فلم يبال ولكنه ازداد ميلا إلى معرفة ذلك الشبح فما زال صاعدا حتى دنا من الكهف فإذا بصخر آخر يتدحرج فنادى بأعلى صوته: «لا ترمنا الحجارة فلسنا براجعين من هذا المكان قبل الوصول إليه». فردد الوادي صدى كلامه أضعافا فتهيب من موقفه وزاده تهيبا قرب غروب الشمس واختلاط الأظلال حتى كادت تتحول إلى ظلام فشعر إذ ذاك أنه أساء عملا بمجيئه إلى ذلك المكان الموعر ما آنسه من الوحشة والمقاومة ولكنه تجلد وتعهد سلاحه فإذا هو مقلد الحسام والخنجر ثم ما لبث أن وصل إلى باب الكهف فظهرت له مغارة لا يرى آخرها لعمقها ولا يستطيع الدخول إليها والفرس معه فوقف وحدق ببصره إلى الداخل لعله يرى أحدا فلم يقع نظره على شيء حي فصاح قائلا: «من يقيم في هذا الكهف فليخرج إلينا لأننا غير متحولين عنه قبل أن نراه ولا خوف عليه». قال ذلك وهو يكاد يرتعش رهبة لسكون الطبيعة سكونا لا يتخلله تغريد طائر ولا نقنقة ضفدع ولا خرير ماء ولا هبوب هواء ولا صوت آخر حي أو جامد غير صهيل الفرس ووقع حوافره. فهم حماد بشد الجواد إلى صخر والدخول إلى المغارة بنفسه وفيما هو يهم بذلك ظهر له شبح خارج من ظلمة ذلك الكهف لا يسمع لإقدامه وقع فثبت حماد قدمه وتحفز للدفاع إذا اقتضت الحال. فلم يكد يفعل حتى وصل ذلك الشبح إليه فإذا هو رجل عار يكسوه شعر رأسه المسترسل إلى قدميه وقد تمكن به الشيب فابيض على أن الكبر لم يغير شيئا من اعتدال قامته ورشاقة حركته وحدة بصره وان يكن جلد وجهه قد تجعد وشعر حاجبيه وشاربيه قد طال وشعر صدره أصبح لغضه وبياضه كأنه زبد الصابون. وطالت أظافر يديه ورجليه حتى التفت على نفسها.
فلم يكد يقع نظر حماد عليه حتى هاب منظره ولو لم ير في يده صليبا كبيرا لخيل له أنه من مردة الجان ولكنه أدرك لأول وهلة أن الرجل ناسك من نساك تلك الأيام انقطع عن العالم وأوى إلى الكهوف التماسا للعبادة وكان قد سمع بكرامة هؤلاء وصدق نظرهم في عواقب الأمور فلاح له أن يخاطبه في ما هو فيه ويستشيره في أمره لعله يخفف شيئا من قلقه فتقدم نحوه باحترام وهم بتقبيل الصليب في يده فأدناه من فمه فقبله ثم خاطب الناسك قائلا: «ألعلك ناسك مقيم في هذا المكان» فأجابه الناسك يحني الرأس أن نعم فقال: «هل تأذن لي بمحادثة أبثك فيها بعض ما في ضميري على سبيل الاعتراف فتشير علي بما يوحي به إليك الروح القدس».
فأجاب الناسك بالإشارة أنه لا يستطيع التكلم الآن لأن من شروط نسكه أن يصمت أسبوعا وينطق أسبوعا وان آخر أسبوع الصمت ينتهي الليلة فإذا جاء في الغد خاطبه. وكان التنسك شائعا في تلك الأيام والنساك أنواع منهم من ينذر الصمت طول الحياة أو بضعها ومنهم من ينذر العري أو الجوع أو السهر أياما ومنهم من ينذر المعيشة على عشب الأرض وهؤلاء فئة كبيرة كانت بين النهرين سموا «النساك الرعاة» فيقيمون في المغر والكهوف المظلمة.
وكان ناسك حوران هذا ممن نذر الصمت أسبوعا فسر حماد بتأجيل المقابلة خوفا من البقاء هناك تلك الليلة ثم لا يعرف طريقه في عودته لشدة الظلام. فقال له: «إلا آتي إليك معي بطعام أو نحوه من بصرى» فأجاب (لا) لأنه من النساك الرعاة الذين يعيشون على عشب الأرض.
فقال له: «ولكني أرى الأرض هنا مجدبة لا عشب فيها».
فأشار الناسك بيده إلى مكان وراء ذلك الجبل فيه مرعى.
فسأله عن سبب رميه بالحجارة وهو صاعد. فأجابه لعلمه أنه لا يستطيع مخاطبته قبل انقضاء أسبوع الصمت.
فقال حماد: «وأين الطريق إلى دير بحيراء» فدله على طريق سهل غير الذي جاء منه فودعه وقبل الصليب وعاد وجواده وراءه حتى وصل إلى الطريق فركب وسار قاصدا الدير فرأى عبد الله وسلمان ينتظرانه في الغرفة وقد قلقوا لغيابه على غير موعد فقال له عبد الله: «لقد شغلت بالنا بغيابك على غير انتظار».
فلم يشأ حماد اطلاعهم على ما اتفق له في ذلك اليوم رغبة منه في كتمانه ريثما يسمع كلام الناسك فيطلعهم على الحكاية كلها.
فقال لهم: «خرجت على فرسي فسرت ببقاع لم أكن أعرفها فأخطأت الطريق في رجوعي فطال بي المسير».
فقال عبد الله: «وما الذي حملك على الركوب منفردا». فكبر عليه الإقرار بقلقه وتهيبه من الأمر فقال: «خرجت لترويح النفس».
فأدرك عبد الله حاله تماما ولم يشأ أن يشط عزيمته ولا أن يزيد قلقه خوفا عليه من اليأس فقال له: «أرى سيدي في اهتمام وقلق وما في الأمر ما يدعو إلى ذلك ولا نحن في سرعة أو ضجر».
فظل حماد صامتا مفكرا فأدرك سلمان أن في نفس حماد كلاما ربما لا يريد التصريح به على مسمع منه فتظاهر بأمر يهمه خارجا وترك الغرفة فلما خلا عبد الله وحماد قال عبد الله: «ما بال سيدي لا يبيح بسره ألست شريكك في أمرك».
قال: «بلى بل أنت بمنزلة والدي ولا أخفي عنك شيئا فاني في قلق وارتباك واراني في حاجة إلى من يفرج كربتي برأي أو مشورة ومسألتنا في ما تعلم من الدقة والخطر».
فقال عبد الله: «هلم بنا إلى الراهب الشيخ الذي شاركناه في سرنا لعله يشير علينا بما يفرج كربتنا».
قال: «هلم بنا إليه».
وخرجا حتى أتيا غرفته فدخلا عليه وكان متكئا فجلس ورحب بهما فجلسا ثم قال عبد الله: انك يا مولاي شريكنا في سرنا وعالم بما في ضميرنا فهل تشير علينا بما يخفف عنا.
فقال الراهب: «إن المسألة في غاية الدقة والمشقة وقد أدركت عظمها منذ سمعتها ولا أدري بماذا أشير». قال ذلك وسكت برهة يفكر ثم هب من مجلسه بغتة وقال أرى أن تذهبا إلى ناسك حوران فأنه يقيم في كهف على مقربة من هذا المكان فعساه أن يشير عليكما مشورة خير.
فبغت حماد عند سماعه اسم الناسك وقال: «هل تظنه قادرا على ذلك».
قال: «نعم يا سيدي أنه ممن أوتي علما وكرامة فلا تخلو مشورته من فائدة».
فقال عبد الله لحماد: «وهل عرفته قبل الآن».
فقال: «أعترف لك إني وصلت إليه اليوم بطريق الاتفاق وخاطبته فأجابني بإشارة يديه أنه لا يستطيع التكلم إلا في صباح الغد لأنه ممن نذروا السكوت أسبوعا والكلام أسبوعا».
فقال عبد الله: «فلنذهب إليه غدا إن شاء الله فهل ترافقنا يا حضرة الأب المحترم إلى مغارته».
قال الراهب: «يا حبذا لو استطعت المسير إليه معكما ولكنني شيخ لا أقوى على المشي ولا الركوب والطريق وعر فسيرا إليه بحراسة الله ودعوني أقيم هنا أصلي وأتضرع إليه تعالى أن يسهل سبيلكما».
فودعاه وخرجا.
الفصل التاسع والستون
ناسك حوران
وأصبح حماد وعبد الله في الغد فقال حماد: «إلا نصطحب سلمان في مسيرنا إلى الناسك».
قال عبد الله: «لا أرى ما يمنع ذلك وسلمان كما تعلم أكثر غيرة علينا من غيرة أحدنا على الآخر ولا أخالنا نستغني عنه في ما نحن فيه ولا يليق بنا وقد صحبناه أعواما خدمنا بها خدمات جمة أن نخفي عنه أمرا نجريه».
قال حماد: «ذلك ما أراه». وبعثا إليه فصحبهما وخرجوا في الصباح على أفراسهم وحماد دليلهم حتى اقتربوا من الجبل وأطلوا على الكهف فقال حماد: «هذا هو الكهف وكأني أرى الناسك في انتظارنا عند بابه».
فنظر عبد الله حتى إذا وقع نظره على الناسك تهيب من منظره عن بعد وصعدوا فلما دنوا من الكهف تحفز الناسك لملاقاتهم وكانوا قد ترجلوا ومشوا نحوه فقال: «أهلا بكم ومرحبا» وأخذ يتفرس فيهم واحدا واحدا بعينين براقتين تحت حاجبين بارزين بروز الطيف حتى يخال لك أن العينين في حفرتين عميقتين.
فقال حماد: «مرحبا بك أيها المتعبد التقي لقد جئناك عملا بوعدك وهذا والدي (وأشار إلى عبد الله) وهذا صديقي (وأشار إلى سلمان)».
وتقدموا جميعا وعبد الله ينظر إلى وجه الناسك كأنه يعرف وجها مثله.
وكان الناسك مشتغلا في إعداد أحجار يجلسون عليها وهو يخطر أمامهم عاريا وشعره مسترسل عليه يجلل بعضه فغلب عليهم الحياء فلم يستطيعوا النظر إليه إلا خلسة.
فلما أعد الحجارة تقدموا إليه وقبلوا يده فباركهم وجلسوا. أما هو فجثا على التراب جثو المستريح وجمع شعر رأسه ولحيته في صدره إلى حجره وأخذ يرحب بهم ويعتذر لعدم إمكانه القيام بحق ضيافتهم.
فقال عبد الله: «لقد جئناك نلتمس بركة لا ترحابا فقد بلغنا أنك من رجال الله المختارين فنظرة منك تغنينا عن أثاث القصور». قال ذلك وهو ينعم النظر فيه لعله يذكر الوجه الذي يشبهه.
فقال الناسك: «إني أحقر عباد الله فاشكر لحسن ظنكم بي وما تكبدتموه من المشقة في زيارتي فابسطوا ما في أنفسكم لعلي استطيع بمشيئة الله أن أخدمكم خدمة لمجده تعالى».
فقال عبد الله: «إننا من طائفة النصرانية الذين يعتقدون بكرامة النساك عباد الله ونعتقد أنهم ينطقون بوحي منه تعالى وقد جئنا لنطلعك على سر لم يطلع عليه أحد سوانا وراهب مقيم في دير بحيراء. والسر ذو خطر يستلزم أصغاء وكتمانا ونحن معاشر النصارى نعلم خطارة سر الاعتراف وما فيه مما يدعو إلى الثقة التامة بأمثالكم».
فقال الناسك: «قل يا ولدي ولا تخف».
فالتفت عبد الله يمينا وشمالا كأنه يحاذر أن يسمعه أحد وقال: «يظهر لي أنك من أهل العراق».
قال الناسك: «لقد أصبت المرمى نعم إني من أولئك. وما الذي دلك على ذلك».
قال: «دلني عليه ملامح وجهك ونوع تعبدك فقد قيل لي انك من النساك الرعاة وهم كثيرون في العراق».
قال: «نعم يا ولدي إني كما قلت».
قال: «في الحالة هذه قل لي هل تعرف الملك النعمان بن المنذر».
فلم يكد عبد الله ينطق باسم النعمان حتى ظهرت البغتة على وجه الناسك وأبرقت عيناه وأقطب حاجباه واجاب وهو يشرأب بعنقه ويحدق بعينيه: «نعم أعرفه».
فعجب عبد الله لتلك المظاهر ولكنه تجاهل وقال: «هل تعرفه معرفة جيدة أم تسمع باسمه وأخباره فقط».
فقال الناسك (ويده في لحيته يمشطها بأصابعه): «لا بل أعرفه كما تعرف ولدك هذا».
قال ذلك بصوت مختنق حتى خيل لهم أنه يبكي.
فقال عبد الله: «أراك يا سيدي قد اهتممت لحكايتنا من أول كلمة قلناها».
فتنهد الناسك ويده إلى عينيه يمسح بها دموعه وقال: «إن ذكرى الملك النعمان تهيج أشجاني وتفتت كبدي فهل يهمكم من أمره ما همني أم جاء ذكره على لسانكم عرضا».
قال: «بل هو محور حكايتنا ومرجع سرنا رحمه الله».
وكان حماد وسلمان شاخصين يعجبان لما يبدو من الناسك وعبد الله يزداد استئناسا بطلعته ولكنه لم يدرك ما الذي يدعوه إلى ذلك.
فقال الناسك: «قل ما تقوله عن النعمان إني أرتاح إلى ذكره ولكنني أتأسف لتذكري عاقبة أمره».
فقال عبد الله: «إذا كان النعمان يهمك إلى هذا الحد فانظر إلى هذا الشاب وقل لنا هل تعرفه» (وأشار إلى حماد).
فمسح الناسك عينيه ونظر إلى حماد وجعل يتفرس فيه ولم يكد يتأمله حتى صاح بأعلى صوته: «أنه ابن النعمان لا شك فيه». وهم به وضمه وأخذ يقبله.
فخفقت قلوبهم وبكوا جميعا والناسك ضام حماد إلى صدره يقبله ويبكي.
فازداد عبد الله استغرابا للأمر وقال للناسك: «لقد أذهلتنا بما بدا منك فكيف تقول أنه ابن النعمان وقد كان النعمان أبرش أحمر وهذا أسمر أدعج».
قال: «لا عبرة في ذلك فإن ملامح النعمان قد تمثلت فيه وهو الرجل الذي رغبت عن العالم وانقطعت إلى هذه الجبال من أجله».
فبهتوا لهذا القول ولم يفهموا مغزاه فأراد عبد الله أن يستطلع حقيقة الخبر فقال: «وهل تعرف الذي يكلمك».
فنظر إلى عبد الله نظر المتأمل وقال: «العلك صديق الملك النعمان وشريكه في مصابه (شمعون الحيرى)». وكان هذا اسم عبد الله المعروف به إذ ذاك.
فانذهلوا جميعا وخصوصا عبد الله فأنه أعاد نظره إلى الناسك وازداد استئناسا به ولكنه لم يذكر كيف عرفه فقال: «أما وقد علمنا أنك شريكنا في الأمر فاخبرنا من أنت وفرج كربتنا».
فصعد الناسك الزفرات وقال: «أما أنا فاني القس الذي ارتد النعمان إلى النصرانية على يده بعد أن كان أسلافه قد نبذوها وعادوا إلى الوثنية أو المجوسية ديانة الفرس».
فانتبه عبد الله من غفلته كأنه أفاق من رقاد وقال: «العلك القس يعقوب».
قال: «نعم وقد كنت مقيما في دير هند الكبرى المنسوب إلى هند بنت الحارث بن عمر بن حجر آكل المرار وهو في ظاهر الحيرة وكانت هند هذه كما تعلمون قد ترهبت فيه فسمي باسمها ولكنني كنت أختلف إلى النعمان كثيرا ويطلعني على أسراره حتى كان ما كان من أمر سجنه في خانقين فبرحت الحيرة وسرت إلى هناك وجعلت أتردد إليه في السجن. ألا تذكر أنك كنت تراني هناك».
قال: «أذكر ذلك جيدا وما زلت منذ رأيتك الآن وأنا في أفكر فيه». ثم هم عبد الله به وتعانقا وهما يبكيان أما الناسك فتحول نحو حماد وضمه وجعل يقبله ويبكي وهو يقول أحمد الله إني رأيتك قبل موتي.
ولبثوا برهة صامتين وكل يبكي ويمسح دموعه بكمه إلا الناسك فقد كان يمسحه ببطن كفه.
ثم قال عبد الله: «أقصص علينا بقية الخبر يا حضرة القس المحترم».
قال: «كنت أتردد إليه في السجن أصلي له وأباركه وأدعو له وكان كلما اجتمعت به يقول والاهتمام ظاهر على وجهه: «لدي سر سأطلعك عليه في فرصة أخرى» فاهتممت لمعرفة ذلك السر وكنت أتوقع سماعه في كل زيارة وهو يسوفه وكنت كلما سرت إليه رأيتك وعجبت لشهامتك وغيرتك عليه. فسألته عنك يوما فقال: «انك مستودع أسراره وأنه يثق فيك وثوقا تاما». ومازلت أختلف إليه حتى أصيب بمرض ظنوه الطاعون ولا أظنه إياه. فزرته ولم تكن أنت ساعتئذ هناك فقال لي: «أراني لن أنقه من مرضي هذا ولعل القضاء سيعاجلني وأخاف أن لا أملك فرصة أخاطبك بها». فقلت: «قل يا سيدي ولعل الله شافيك بإذنه وبركة ابنه». ثم بكى وبكيت» (قال الناسك ذلك وخنقته العبرات والجميع سكوت يصغون إلى خبره يتطاولون بأعناقهم ويحدقون بأبصارهم في شفتيه وهما ترتجفان من شدة التأثير) فسكت الناسك برهة ريثما استرجع قواه. ثم قال: «فأمسكني النعمان رحمه الله بيديه وأدناني منه واسر إلي أمرا خطيرا» قال: «أنه أسره إليك ولا أدري هل يجوز لي التلفظ به وهو سر الاعتراف».
فقال عبد الله: «لقد قلت إني عارف به فلم يعد من قبيل سر الاعتراف وقد اطلعت ابنه ورفيقنا هذا عليه».
فقال الناسك: «أما والحال على ما تقول فأخبركم أنه أدناني منه وهو جالس على فراشه في ذلك السجن وقال: «إني سأقضي نحبي هنا ظلما من قوم لا يعرفون الله ولا يشفقون على إنسان وسأترك أهلي وأولادي بدون أن أراهم وأودعهم واني عالم أن سلطان الحيرة سيخرج من بني لخم بعد موتي فأسررت إلى شمعون أن يربي ولدا لي لم يولد بعد وأن يكتم نسبه عنه حتى يبلغ العشرين من عمره فيقص شعره في دير بحيرا ثم يطلعه على حقيقة نسبه» قال: «واعترف لك إني حرضته على أن ينتقم لي من دولة الفرس». قال الناسك: «فلما سمعت كلامه اقشعر بدني واستعذت بالله من ذلك كله وقلت: «يا سيدي الملك أراك تستعجل الأجل وليس ما يدعو إلى قربه وأما الانتقام فاتركه إلى الله سبحانه وتعالى وهو الديان العظيم». فأجابني والدموع تخنقه: «لقد قضي الأمر يا أبتاه وعهدت بذلك ولا أرى الرجوع عنه والله يقضي بما يشاء» قال النعمان ذلك واختلج صوته وارتعدت فرائصه ثم غاب صوابه وفيما نحن في ذلك جاء السجان يشدد النكير على من يدخل إلى النعمان فخرجت ولم أعد أراه ثم ما لبثت أن سمعت بانتقاله إلى دار البقاء» (قال الناسك ذلك وتنهد) وعلمت وا حسرتاه عليه أنه لم يمت بخانقين بل نقلوه إلى ساباط فمات فيها.
فلما سمعت ذلك كرهت الدنيا وتحققت فناءها وزدت زهدا فيها فالتجأت إلى النسك واخترت منه أكثره زهدا وهو هذا الذي أنا فيه أعيش على نبات الأرض وأمكث عاريا كما ترون وكنت مقيما في العراق مع رفاق كثيرين من الرهبان وذكر النعمان لم يبرح من ذهني يوما واحدا وصورته نصب عيني وهو على ذلك الفراش في خانقين وما زلت أردد كلماته الأخيرة. فأحببت الاطلاع على ما فعلته أنت من هذا القبيل فلم أعرف مقامك ولما مضت بضع عشرة سنة من وفاته ولم أرك ولا عرفت مقرك قلت لعلك تقيم في البلقاء بالقرب من دير بحيراء لأجل وفاء النذر عند حلول الميعاد. فجئت وأقمت في هذا الكهف وفي نفسي شيء أريد أن أطلعك عليه فلم أسمع عنكم خبرا ولا أنا أستطيع البحث لانقطاعي عن الناس فضلا عن إني لم أكن أعرف اسمك الجديد فكنت أتوقع أن أسمع خبرا عن شمعون الحيرى فلم أسمع هذا الاسم قط.
الفصل السبعون
انذر القاتل بالقتل
قال عبد الله: «وما الذي في نفسك وتريد أن تطلعني عليه؟ قله».
قال: «هو خبر يتعلق بوصية النعمان لك ولابنه فاحك لي ما تم معك من قبيل النذر هل وفيته واطلعت هذا الملك على حقيقة نسبه».
قال عبد الله: «نعم يا مولاي لقد وفينا النذر بعد ميعاده». وأحكى له القصة من أولها إلى أخرها حتى آتى على سبب مجيئهم إليه فقال: «وقد جئنا إليك لعظم ما قام في نفس مولانا الملك من الاهتمام في أمر الانتقام فقلنا نطلع ناسك حوران على هذا السر لعله يشير علينا مشورة تخفف ما بنا. أو تهدينا سبيلا مستقيما».
فقال الناسك: «لقد وقعتم على خبير وإن في بقية قصتي ما يفرج عنكم كل كرب إن شاء الله».
فاستبشر عبد الله وحماد وسلمان بانفراج الأزمة وسروا لقدومهم على هذا الناسك فقال عبد الله: «اخبرنا ببقية قصتك بورك فيك».
قال: «كنت لفرط اهتمامي في أمر الملك النعمان وأمر وصيته وما تتضمنه من الحث على الانتقام لا أبرح أفكر في هذا الأمر نهارا وأحلم به ليلا حتى استيقظت ذات صباح والناس يتحدثون بأمر كسرى برويز قاتل النعمان وان ابنه شيرويه تآمر عليه وسجنه فقلت في نفسي هذه عاقبة القوم الظالمين. ثم ما لبثت أن سمعت بأنه قتله فاعتبرت بحكمة الله سبحانه وتعالى وشعرت براحة فبت ليلة ذلك الخبر وأنا هادس في عاقبة الظالمين وقول القائل «وانذر القاتل بالقتل». فرأيت في منامي كأن الملك النعمان قادم إلي بلباس ناصع البياض ووجه منير باسم فخشعت لرؤيته على هذه الصورة ثم سمعته يقول: «لا تعجب يا يعقوب لمقتل برويز المجوسي فقد أعد له الله ما هو أعظم من ذلك ليعتبر القوم الظالمون».
فقلت وقد بهرني نور وجهه فأطرقت: «وماذا عسى أن يكون أعظم من الموت قتلا بسيف البنين».
فقال لي: «سوف ترى وكل آت قريب». فرفعت نظري لأراه فغاب عن بصري واستيقظت من منامي مذعورا ولم تمض بضع سنوات حتى وقع في سلالة برويز ما لم نسمع بمثله في غابر الأزمان. أتدرون ما هو؟»
قال عبد الله: «وماذا تعني؟»
قال: «كان لبرويز هذا ثمانية عشر ولدا كلهم ذوو أدب وشجاعة ومروءة منهم شيرويه الذي تولى الملك بعده فوشى رجل اسمه فيروز لشيرويه على إخوته السبعة عشر فأمر بقتلهم جميعا فقتلوا صبرا في ساحة الإيوان وهو ينظر إليهم ولكن شيرويه لم يهدأ له بال بعد عمله هذا فإن أختيه بوران وآزر ميدخت وبختاه توبيخا شديدا فبكى بكاء مرا ورمى بالتاج عن رأسه ولم يزل بقية أيامه مهموما دنفا ولاقى المصائب الكبرى وفي جملتها طاعون فشا في بلاده فأباد من قدر عليه من أهل بيته وأخيرا مات هو كئيبا حزينا. فهل أشد وطأة من هذا الانتقام. وزارني ملاك النعمان بعد هذه الحوادث وهو يضحك وأمارات البشر ظاهرة على وجهه فهممت بالوقوف للقائه فشعرت بنفسي ثقيلا لا أستطيع النهوض فابتدرني هو قائلا: «لقد انتقم لي الله من برويز المجوسي فطابت نفسي وأرى وصيتي لولدي حملا ثقيلا على عاتقي فقد شعرت بضعف بني الإنسان وعلمت الإصابة في قولك وأنا في سجن خانقين». قال ذلك وتوارى عن بصري وأنا راقد لا أستطيع حراكا ثم استيقظت وصورة النعمان أمام عينى ويكاد النور ينبثق من وجهه».
فلما بلغ الناسك إلى هذا الحد من حكايته شعر كل من السامعين بانفراج الأزمة وخصوصا حماد فإنه أحس بحمل ثقيل نزل عن ظهره.
أما سلمان فكان إلى ذلك الحين صامتا لم يفه بكلمة فلما فرغ الناسك من كلامه وقف سلمان وهم بيد الناسك فقبلها وقال: «لقد أتيتنا فرجا من عند الله ولكن قلوبنا لا تشتفي إلا بعمل نعمله على قهر أولئك الكفرة الغاشمين».
فنظر الناسك إليه وتبسم تبسما قلما تعوده وقال: «تلك أعمال الله يا ولدي وسنسمع بذهاب دولة الفرس قريبا فلا يبقى ثم من تنتقمون منه».
فلم يفهموا مغزى كلامه فقال عبد الله: «هل تعني شيئا محدودا أوحى إليك مما في سابق علم الله فأنكم معشر النساك ذوو كرامة يفتح عليكم ما لا يفتح على سواكم».
قال الناسك: «أشير إلى أمر لا يحتاج إلى وحي أو كرامة بل هو ظاهر يفهمه كل عاقل. إلا ترى حال الفرس واختلال شؤونهم واضطراب أحوالهم حتى توالى على كرسي ملكم خمسة ملوك في خمس سنين وكل يعمل على الاستئثار بالسلطة وإبادة الآخرين وأضعفهم رأيا يزدجرد الذي يتولى الملك الآن وستزول دولة الفرس على يده ناهيك عن ظلمهم وجورهم. إلا يدلكم ذلك على شيخوخة دولتهم وهرمها وقرب انقضاء أجلها وللدول آجال كآجال الناس تمر في أدوار تنتهي بالموت ودولة الفرس قد بلغت شيخوختها ولا تلبث أن تنقضي وكذلك دولة الروم الحاكمة على هذه البلاد».
قال عبد الله: «ولكن لا تنقضي إلا على يد دولة أخرى تقوم مقامها فمن سيخلف هاتين الدولتين». قال: «أما سمعتم برؤيا الراهب بحيراء الذي كان يقيم في ديره هنا».
قالوا: «كلا» إلا حماد فأنه تذكر ما سمعه من الراهب الشيخ في تلك الصومعة يوم جاءها لملاقاة هند هناك. فقال: «بلى سمعت ذلك من الراهب الشيخ فقد أحكى لي مرة أن بحيراء رأى في منامه فتى جميل المنظر مولده برج الثور والزهرة مع قران المشترى وزحل وعلم منه أنه هو الذي سيهدى أبناء جلدته بني إسماعيل (وهم العرب) إلى معرفة الله وإن به يقوى أمرهم ويشتد أزرهم وتجتمع كلمتهم فيذللون أبناء عمهم بني إسحاق ويتسلطون عليهم مدة توافق ما أشار إليه دانيال في نبوءته وأنه يخرج من أولئك العرب اثنا عشرة دولة أليس ذلك ما تعنيه».
قال الناسك: «هذا ما عنيته وأزيد عليه أن الرجل المنتظر قد ظهر في جزيرة العرب ودعا الناس فيها إلى عبادة الله ونبذ الأوثان وقد فتح مكة وكسر أصنام الكعبة وانتشر سلطانه في الحجاز واليمن وسيفتح الشام والعراق وهو الذي سيخلف الفرس والروم في سلطانهما».
فقال حماد: «لقد شاهدنا قوته وسلطانه بأعيننا يوم فتح مكة وكان يوما مشهودا ويظهر من رغبته في سبيل الله واستهلاك أنصاره وأصحابه في نصرته أن دولته ستغلب الدول كلها إن عاجلا وإن آجلا».
قال: «فلستم إذن في ما يدعو إلى تكبد الخطر في الانتقام من أكاسرة الفرس وقد رأيتم أن قاتل حبيبنا النعمان قتل هو وأولاده شر قتلة وسيتم العرب على دولتهم إن شاء الله».
فوقع كلام الناسك على قلب حماد بردا وسلاما فارتاح باله من أمر الانتقام المعجل وانصرف فكره إلى هند وشعر بميل شديد إلى رؤيتها وخاف أن تسيء الظن به إذا طال غيابه بعد يوم الشعانين وهم في اليوم الثانى منه فتظاهر بميله إلى الانصراف فأدرك عبد الله ذلك فقال للناسك: «أتأذن لنا بالذهاب على أن نغتنم الفرص في زيارتك حينا بعد حين وهل تطلب منا أمرا نقضيه لك».
قال: «لا أريد من هذا العالم شيئا فقد رأيتم زهدي به ولم يكن في نفسي شيء غير رؤية ابن حبيبي النعمان لأقص عليه ما اؤتمنت عليه مما خاطبني به والده في الحلم فأحمد الله على نيل بغيتي فإذا مت الآن فإني أتوسد قرير العين ناعم البال».
فقال عبد الله: «أطال الله بقاءك ونرجو أن نراك كثيرا». قال ذلك ونهض فنهضوا جميعا وودعوا الناسك وانصرفوا على أفراسهم وكأن على رؤوسهم الطير.
أما حماد فإن ذهنه تفرغ للافتكار بهند وأحس برغبته في اطلاعها على حقيقة نسبه فلما وصلوا إلى الدير مروا بغرفة الراهب الشيخ فدخلوها ليطلعوه على ما دار بينهم وبين الناسك فلما أنبأوه بما علموه من أمره أطرق يفكر بغرائب الحدثان ثم قال: «لقد خيل لي منذ رأيت هذا الناسك أنه لم يغادر خضب العراق ويقيم في هذه الجبال المجدبة إلا لدافع دفعه إلى ذلك وقد صدق ظني ويسرني أنه أطلعكم على ما خفف قلقكم وهون عليكم فما أنتم في عجل للقيام بالوصية وقد كفاكم الله مئوونة ذلك أما ما قاله عن قوة المسلمين وعظم دولتهم حتى يخشى على الروم والفرس منها فقد أيدته الحوادث الجارية فإن تلك الشرذمة من الحجازيين لم يكادوا يقومون بدعوتهم حتى ملأوا جزيرة العرب فتحا وقتالا فدانت لهم قبائل اليمن وعمان واليمامة ونجد وقد شهد حماد وسلمان فتح مكة ورأيا بطش هؤلاء العرب وقوة جامعتهم ولقد شهد من رأى حربهم في مؤتة هنا أنهم كافحوا كفاح الأسود وصبروا على الحرب صبر الرجال ولكنها أول مرة لاقوا بها جند الروم ولم يكونوا في عدة كافية فلم يفوزوا والظاهر أن وقعة مؤتة كانت أمثولة لهم علمتهم كيف تؤكل الكتف حتى إذا رأوا في جندهم الكفاءة أعادوا الكرة ليس على الشام فقط بل على العراق أيضا».
فقال عبد الله: «وهل علمت أنهم حملوا على العراق؟»
قال: «نعم أنهم حملوا عليه حملة إذا لم يكن فوزهم بها تاما فلا أقل من أن يؤذوا الفرس ويضيقوا عليهم».
فقال حماد: «وكيف عرفت ذلك يا مولاي؟»
قال: «أخبرنى بذلك تاجر من أهل مكة تعودنا لقاءه هنا كل عام أو عامين ولي معه صداقة ودالة فقد مر بي من بضعة أيام وأطلعني على حوادث تلك الدولة بعد فتح مكة حتى الساعة فإذا هي ما يخيفنا على دولتي الروم والفرس وكنت أظنكم عالمين بها».
قال عبد الله: «كلا يا مولاي أننا غير عالمين بشيء من ذلك».
قال الراهب: «أخبرني التاجر أن أولئك الحجازيين بعد أن فتحوا مكة عادوا إلى المدينة وأنفذوا جندا منهم إلى من بقي في جزيرة العرب لم يرضخ للإسلام فغزوا غزوات عدة فازوا بها كلها ومن أكبر قوادهم رجل منهم يقال له «خالد بن الوليد» أتى بالمعجزات في حروبه حتى سماه النبي «سيف الله» ومنهم علي بن أبي طالب ابن عم النبي وهو بطل مجرب. وكذلك رجل شيخ من كبار مشيريهم اسمه عبد الله ابن أبي قحافة لقبه بالصديق ويسمى أبا بكر وهو حمو النبي والد امرأته عائشة. ومنهم رجل آخر يندر مثاله في العالم بشدة البطش وصدق الغيرة على الحق اسمه عمر بن الخطاب وآخر اسمه عمرو بن العاص وغير هؤلاء جماعة كبيرة فتمكن بذلك من إذلال قبائل العرب حتى أنه لم يعد يحتاج في إذلالهم إلى إرسال الرجال بل كانوا يفدون عليه وفودا يلتمسون الدخول في دينه عن رضى وطيبة خاطر فرأى الوقت اللازم لفتح الشام قد آن فجند جيشا بقيادة رجل اسمه أسامة بن زيد وأمره أن يسير إلى فتح الشام وفيما هو في ذلك وافاه القدر فتوفي قبل مسير الجند ولكنه خلف أبطالا قاموا بنصرة دينه فتولى الخلافة بعده حموه أبو بكر المتقدم ذكره وهو شيخ جليل القدر وأخبرني التاجر أن المسلمين لما مات النبي اختلفوا في من يولونه الخلافة بعده لأنهم قسمان قسم يقال لهم الأنصار وقسم يقال لهم المهاجرون».
فقال حماد: «وما معنى هذه الأحزاب هل هي مذاهب دينيه كالتي عندنا».
قال: «لا يا ولدي إن المهاجرين هم الذين هاجرو مع النبي من مكة إلى المدينة يوم شدد أهله النكير عليه هناك فتبعه من قريش أكثرهم غيرة عليه فسموا المهاجرين وأما الأنصار فهم أهل المدينة الذين قاموا بنصرته لما جاءهم مهاجرا فحاربوا معه فسموا الأنصار. فكل من الأنصار والمهاجرين يظن نفسه أولى بالخلافة فاختلفوا في من يتولاها حتى كادت تقوم بينهم فتنة. ويظن صاحبنا التاجر المكي أن الفضل في فض هذا المشكل لأحد المهاجرين عمر بن الخطاب وقد ذكرته لكم الآن فهو الذي توسط في الأمر وبايع أبا بكر فبايعه الناس احتراما له أو خوفا منه فصارت الخلافة في المهاجرين وهم من قبيلة النبي (قريش) فخليفة المسلمين الآن أبو بكر الصديق هذا.
فلما توفي النبي تغيرت قلوب بعض أهل جزيرة العرب ممن اعتنقوا الإسلام في حياته فارتد كثيرون منهم إلى ما كانوا عليه من النصرانية أو اليهودية أو غيرهما فتهيب المسلمون لذلك فاجتمعوا وأوعزوا إلى أبي بكر أن يعدل عن إرسال الجند إلى الشام لاحتياجهم إليهم في اقماع المرتدين فأبى إلا إنفاذ ما أمر به النبي فأرسل أسامة وجنده إلى الشام ومما أحكاه لي التاجر المكي حكاية وقعت لأبي بكر هذا يستغربها كل من عاشر حكامنا من الروم أو الفرس».
فقال عبد الله: «وما هي؟» قال الراهب: «أخبرني التاجر أن أبا بكر رافق ذلك الجند في خروجهم من المدينة وكان أسامة راكبا وأبو بكر ماشيا فخجل أسامة من ذلك لأنه شاب وذاك شيخ فضلا عن كونه رئيسه فتقدم إليه أن يمشي هو ويركب أبو بكر فأبى إلا أن يشيعهم ماشيا ويدل ذلك على رغبة حكامهم في الخدمة لا الرئاسة وما أوصاهم به قبل عودته قوله: «لا تخونوا ولا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة ولا تقعروا نخلا أو تحرقوه ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا». هل سمعتم مثل ذلك من رؤسائنا لا أنكر عليكم أن النصرانية تأمرنا بمثل ذلك ولكن حكامنا نبذوا الدين نبذ النواة وسيعود ذلك عليهم وبالا». قال الراهب: «ذلك وقد أخذت الحدة منه مأخذا عظيما حتى ارتجف صوته وارتعشت لحيته ثم سكت».
وكان عبد الله وحماد وسلمان متطاولين بأعناقهم يسمعون حديث الراهب وقد زادهم تأثرا ما آنسوه من اهتمامه فقال عبد الله: «إن مثل هؤلاء لا بد من أن يغلبوا العالم ويفتحوا الأمصار فعساهم أن يبدأوا بالعراق وينقذونا من دولة الفرس الظالمة».
فقال الراهب وقد تنفس الصعداء: «انك تتمنى أمرا قد وقع فعلا فإن جيش أسامة هذا لم تطل غيبته لعلمه أن الخليفة أحوج إلى نصرته في قتال أهل الردة مما بفتح الشام فعاد بجنده وانضم إلى المسلمين في حروب أهل الردة. ومما زاد الأمر أشكالا أناس أدعوا النبوة منهم رجل اسمه أسود العنسي في اليمن فالتف حوله حزب كبير ورجل آخر اسمه طليحة الأسدي من بني أسد في نجد وآخر اسمه مسيلمة في اليمامة وآخر اسمه ذو التاج لقيط بن مالك وغيرهم من المتنبئين ودعاة الأحكام حتى لم تبق قبيلة من قبائل اليمن وحضرموت وعمان والبحرين واليمامة ومهرة إلا نبذت طاعة المسلمين وارتدوا عن الإسلام فخاف المسلمون الفشل ولكن أبا بكر تصرف بحكمة ودراية وساعده في ذلك قواده المحنكون وخصوصا خالد ابن الوليد فأنه عمل أعمالا غريبة وكذلك عمرو بن العاص وغيرهما فقضوا في سنة كاملة حتى دانت الكفاح قبائل العرب واجتمعت كلمتهم واستقام أمرهم».
فقال حماد: «يا حبذا لو يسير خالد الذي ذكرته إلى العراق».
فضحك الراهب ضحكة يتخللها عبوس وقال: «لقد أصبت يا ولدي فأنه عمل ما أردته فسار خالد هذا إلى العراق لفتح الحيرة وقتال الفرس».
فهب سلمان للحال وقال لحماد: «إلا يأذن لي مولاي بالمسير إلى الحيرة إني لا يهدأ لي بال إن لم أبل يدي بدم الفرس فلعلي أن أشهد بعض المواقع أو أخدم المسلمين خدمة تساعدهم في إنقاذنا من أولئك القوم المجوس».
فقال حماد: «إني أولى منك بذلك ولقد كنت عازما على التماسه لو لم تلتمسه أنت».
قال سلمان: «أما أنت فقد طال غيابك عن أمير غسان وأميرته فسر إليهما وعساي أن أعود إليكم قريبا بخبر النصر».
فانتبه حماد لأمره مع هند فاغتنم وجوده عند الراهب فرصة لاستفتائه بأمر الاقتران بعد حكاية الوصية ولكنه استحى فخاطب عبد الله على انفراد قائلا: «أتظن أنه يجوز لنا المخاطبة بأمر الزيجة أم نحن لا نزال مقيدين بالوصية».
قال عبد الله: «دعني أسأل الراهب ويأخذ رأيه فما يشير به نفعله». وتحول نحو الراهب فسأله، فقال الراهب: «يظهر من خطاب الناسك لكم أنه يحلكم من ذلك القيد وفي العدول عن الانتقام فضيلة مسيحية كما تعلمون لأن ديانتنا توصينا بمحبة عدونا ومباركة لاعنينا وتحظر علينا الانتقام».
فسر حماد لهذه الفتوى وسكت حتى إذا خرجوا من عند الراهب انفرد بعبد الله وقال له: «إلا ترى أن نذهب غدا إلى البلقاء نقابل جبلة وأنت معي فقد فرغنا من حكاية النذر وآن لكما الاجتماع وخصوصا بعد أن ظهر ما ظهر من رفيع نسبنا».
فقال عبد الله: «أرى يا مولاي أن تبقي أمر نسبك مكتوما كما كان لنرى ماذا يجد من حوادث الزمان».
فأجفل حماد وقال: «ولماذا نكتمه وهو شرف يتسابق إليه الناس وخصوصا أنهم اعترضوا على زواجي بهند لغموض نسبي فهل أبقيه غامضا».
ففكر عبد الله هنيهة ثم قال: «وأرى مع ذلك أن لا تذكره وعلى كل حال فالأمر راجع إليك».
فسكت حماد وكانا قد وصلا باب الغرفة وسلمان يتبعهما وقد أدرك أنهما يتكلمان بشأن هند فتقهقر قليلا فلما وصلا الغرفة التفت حماد ونادى سلمان فأسرع وهو يقول أتقدم إليك يا مولاي أن تأذن لي بالذهاب إلى الحيرة غدا صباحا وإن يكن يعز علي أن لا أشهد الاحتفال باقترانك ولكنني لا ألبث أن أعود إليكم بما يسركم إن شاء الله وأرجو أن تذكروني في حفلة الزواج وأنا أذكركم في ساحة الحرب.
فقال عبد الله لحماد: «دعه يذهب يا سيدي لعله يأتينا بخبر فقد انتهينا من المشاكل والأسرار ولا نظننا نحتاج إليه في شيء وقد تقرر لك الاقتران بهند ورضي والدها ووفينا النذر فليذهب».
فقال حماد: «اذهب يا سلمان بحراسة الله ولا تقطع عنا أخبارك».
فقضى سلمان ليلته تلك يستعد للمسير إلى العراق وفي الصباح ودع حمادا وعبد الله وبكى لوداعهما وسار إلى الناسك يلتمس بركته ودعاءه قبل المسير.
فلما خلا حماد بعبد الله قال له: «دعنا نسير إلى جبلة أو هيا بنا إلى صرح الغدير أم هناك سر يمنع ذهابنا واقتراننا ألم يأن لنا أن نخلص من العراقيل».
قال: «لقد آن الوقت وعلم سيدي إني لم أؤخر اقترانه عبثا ألم يكن في السر ما يدعو إلى ذلك».
قال: «بلى واني لا أنسى جميلا صنعته معي يا عبد الله ولكنني أعترف لك اعترافا صريحا بأن اطلاعي على نسبي قد قلل أسباب سعادتي واحسبني كنت أسعد حالا يوم كنت حماد بن الأمير عبد الله أما وأنا المنذر بن النعمان فأراني تعيسا يتيما مظلوما».
قال عبد الله: «كنت أتوقع ذلك منك ولكنني لم أر بدا من أن أقص عليك خبرا عهد به إلي أمانة مقدسة».
قال: «لم أقل أنك أخطأت باطلاعي على حقيقة نسبي فقد فعلت الواجب على أنني لم أتصور هندا ومعيشتي معها أسلو الدنيا ومتاعبها».
قال عبد الله: «وزد على ذلك أنك ستكون عما قليل ملك غسان والغساسنة لا يقلون سطوة وبطشا على ملوك الحيرة فضلا عن علاقتهم بالروم وهي دولة مسيحية وذلك خير من علاقة أجدادك المناذرة بالفرس والفرس مجوس يعبدون النار كما تعلم».
فانبسط وجه حماد لذلك فقال: «أنذهب معا إلى صرح الغدير». قال: «لو علمت أن جبلة هناك لذهبت معك لأن من اللياقة أن ألاقيه فمتى تعارفنا جاز لي الذهاب إلى الصرح». فقال: «إذن أذهب أنا فالتمس لك موعدا نجتمع فيه بجبلة ونتم الاقتران».
قال: «حسنا تفعل». فأخذ حماد يعد جواده للركوب.
الفصل الحادي والسبعون
البرد والخاتم
أما هند فلم يأت يوم الشعانين حتى ملت الانتظار وكانت تتوقع أن ترى حمادا في مساء ذلك اليوم أو في صباح الغد فمضى اليوم والغد وهي تعد الساعات والدقائق وتحسب لتأخره غير حساب فلما كان اليوم الثالث أفاقت من رقادها قلقة البال فنهضت وسارت إلى غرفة والدتها والتمست منها أن ترافقها إلى دير بحيراء أو تأذن لها بالذهاب إليه وحدها.
فقالت سعدى: «لا أرى أن نفعل ولا أن تفعلي فلو رأى حماد المجيء إلينا لجاء فربما كان في سر والده ما يمنعه عن المجيء».
قالت: «ما تعنين يا أماه».
قالت: «لا أعني شيئا ولكنني لم يعجبني أمر والده هذا فكم تدلل وتعزز فقد صاهرنا ولده على غموض نسبه وأكرمناه والتمسنا لقياه فلم يأت وها قد انقضى موعده من يوم الشعانين فلا أظن إلا في الأمر دخيلة».
فانقبضت نفس هند عند ذلك وقالت: «لا تلومي الغائب قبل حضوره فربما منعه عن زيارتنا مرض أو شاغل ذو بال وأما ما أشرت إليه من تدلل والده أو كبريائه فلا أظنه في محله وليس ثم ما يسوغ له ذلك».
وسكتتا هنيهة مطرقتين ثم قالت سعدى: «نعم يجب علينا أن نبحث عنه وعن سبب غيابه فلننتظر هذا اليوم أيضا فإذا لم يأت أنفذنا إليه رسولا».
فخرجت هند وهي هاجسه في أمر حماد فلبست ثوبها وخرجت إلى الحديقة تشغل نفسها بأزهار الربيع وعيناها شائعتان من بين الأشجار وقد هب عليها النسيم فتعاظم حفيف الأوراق وعلت أصوات الطيور مغردة وهند تود انقطاع النسيم وخرس الأطيار مخافة أن تحول تلك الضوضاء بينها وبين وقع أقدام حماد إذا جاءها ماشيا بين الأشجار أو تخفي صوت جواده إذا صهل عند استقبال الصرح. وفيما هي جالسة على حجر هناك تفكر في ذلك وتحدق بعينها وتصيخ بسمعها وقد صارت الشمس في الهاجرة رأت فارسا قادما عن بعد عرفته من جواده وظاهر لباسه أنه حماد فهرولت إلى والدتها وأنبأتها بقدومه فدخلتا إلى قاعة الجلوس حتى جاءها مخبر بقدومه فخرجت سعدى للقائه ورحبت به فقبل يدها ودخلا الصرح وكانت هند عند الباب فسلم عليها ودخلوا جميعا إلى قاعة الجلوس وقد آنست هند في وجه حماد تغييرا بعد قص الشعر ولكنها عجبت لمجيئه وحده وأرادت الاستفهام عن السبب فمنعها الحياء على أن والدتها ابتدرته بالسؤال عن والده.
فقال: «أنه كان عازما على المجيء معي ولكنه رأى من اللياقة أن يقابل ملك غسان قبلا ولو كان سيدي العم هنا لانفذنا إلى والدي فيحضر حالا».
فقالت: «جعل الله نذركم مقبولا هل قصصت شعرك يا ولدي؟»
قال: «نعم». قالت: «وهل سمعت الحكاية». قال: «نعم سمعتها». وحدثته نفسه أن يبيح بها فتذكر تحذير عبد الله فأمسك ولكنه رأى سكوته عنها بالمرة تحقيرا للسائل.
أما سعدى فلم تزد على هذا السؤال تأدبا فلما لم يجبها غيرت الحديث وسألته إذا كان يسره الخروج إلى الحديقة وهو يود ذلك لعلمه أنه قد يخلو هناك بهند فيتعاتبان أو يتغازلان.
فخرجوا من باب خصوصي صغير وتخلفت سعدى في القصر توصي قيمة القصر بإعداد الغداء.
فمشى حماد وهند في طرقات الحديقة حتى انحدرا إلى ضفة الغدير وماؤه يجري على حصباء تتلألأ تحته كأنها الدر وقد فاحت روائح الأزهار وغلبت عليها رائحة زهر اللوز وزهر البرتقال وعلت ضوضاء الأطيار وحفيف الأشجار ولو كان لنا فوتوغراف أديسن أو أشعة رونتجن لرأينا قلبي هذين المحبين يتناجيان ويتفاهمان.
أما هند فما صدقت أنها خلت بحماد حتى نظرت إليه شذرا وهي تبتسم وعيناها مشرقتان تتلألآن وقالت: «ما الذي دعاك إلى التعجيل في زيارتنا أما كان الأدل على شوقك أن تبقي زيارتك إلى عيد الفصح»!
فأدرك مرادها فأحب أن يعبث بها فقال: «تركنا يوم الفصح لمقابلة والدك بشأن الإكليل أم ترين تأجيل ذلك إلى الأحد الجديد».
فخجلت وأطرقت وقد توردت وجنتاها فازداد إشراق وجهها وقالت: «لو عرفت أنك تجيبني بمثل ذلك ما أقدمت على سؤالك».
قال وقد أعجبه خجلها وازداد هيامه بها: «لم أكن أظن ذكر الاقتران يسوءك ونحن إنما نسعى جهدنا في الحصول عليه». قال ذلك ونظر إليها كأنه ينتظر جوابها. أما هي فحولت وجهها عنه وخطوت نحو شجرة من البرتقال تقطف زهرة تتلاهى بشمها عن سماع كلامه.
فتبعها حماد وهو يقول ما بالك تهربين مني يا هند فإذا كنت تريدين التخلص من قرابتي قولي لي كما قال غيرك أن نسبي غامض فلا أستحق بنت ملك غسان.
فلم تجبه ولا على هذا وقد كان يتوقع أن يجرهما الحديث إلى حكاية السر ليخبرها بحقيقة نسبه ويرى ما يبدو منها وخاف أن تأتي والدتها فينقطع الحديث فدار نحوها حتى قابلها وجها لوجه وأمسك يدها فأحس كلاهما بقشعريرة الحب فقال حماد: «لم تسأليني عن حكاية السر ما هي».
فقالت له (وهي ممسكة يده تنظر إليها): «يظهر أن حكاية السر عزيزة لديك لا نستحق سماعها».
فأدرك أنها توبخه لسكوته عن سؤال والدتها فقال: «لا يعز عنكم شيء يا حبيبتى». قال ذلك ومد يده إلى جيبه فاستخرج خاتما دفعه إليها وقال: «هذا هو سرنا فانظري إليه».
فتناولت الخاتم وتأملته فإذا هو مكتوب بحرف لا نعرفه فقالت: «أنه لا يزال سرا إذ لا أستطيع قراءته». فقال : «أنا أقرأه لك ثم قرأ «النعمان ابن المنذر».».
فلم تفهم المراد فقالت : «وما معنى ذلك».
قال: «معناه أن نسبي الذي كان غامضا عنك وعني كان مختبئا في هذا الخاتم».
فانعمت فكرها في مغزى كلامه فأدركت أنه ينتسب إلى النعمان ولكنها استبعدت ذلك فقالت: «العلك تنتسب إلى الملك النعمان».
قال: «بل هو أبي». وجعل ينظر إلى ما يبدو منها فرآها قد استغربت قوله ولا تزال في حال البغتة ولكن الإعجاب والسرور ظهرا على وجهها معا على أن الأنفة والرزانة منعتها من إظهار البغتة فقالت: «ومن أنبأك بهذا النسب وكيف خفي عنك إلى الآن».
قال: «لذلك حديث طويل سأقصه عليك في غير هذا المكان وإذا كان الخاتم لا يكفيك فانظرى إلى هذا الرداء» وكشف عباءته عن برد النعمان وكان تحت أثوابه فنظرت إليه فلما تحققت نسبه عظم في عينيها ولكن الاستغراب غلب عليها وهي تحسب نفسها في حلم.
ثم سمعا وقع أقدام من ناحية القصر فنظرا وإذا بوالدتها قادمة فأسرع حماد إلى الخاتم فخبأه وطلب إلى هند كتمان الحديث الآن. أما هي فرغما عن رزانتها وتعقلها ودت أن تطلع والدتها على ذلك الخبر.
أما سعدى فأنها جاءت مسرعة وفي وجهها خبر.
فنظرا إليها وهما يتوقعان خبرا فقالت: «لقد أطلت الغياب عليكما لانشغالي برسول قدم من عند الملك جبلة ومعه هذا الكتاب» ودفعت الكتاب إلى هند ففضته فإذا هو من والدها يقول فيه: «هل عرفتم شيئا عن ولدنا حماد وهل وفى نذره فاني أحب أن أراه قبل سفري إلى الإمبراطور فقد أنفذ إلي رسالة بالذهاب إليه لمهمة سأقصها عليكم عند الاجتماع».
فقالت سعدى: «اكتبي إليه أنه جاء وقد وفى النذر».
فقال حماد: «أرى أن أسير إلى والدي وأجيء به ليتشرف بمعرفة الملك جبلة أيضا».
قالت: «حسنا تفعل» فعادوا إلى القصر وكتبوا إلى جبلة بذلك على أن يكون مجيئه في الغد.
وكانت المائدة قد أعدت فتناولوا الطعام وركب حماد إلى دير بحيراء.
الفصل الثاني والسبعون
كل سر جاوز الاثنين شاع
وأما هند فما زالت تفكر بما سمعته من حماد عن نسبه وأدركت والدتها فيها تغيرا ظاهرا على وجهها يدل على شيء في نفسها تكتمه فلما كان المساء ذهبت هند إلى فراشها فجاءتها سعدى وأخذت تجاذبها أطراف الحديث حتى باحت لها بالسر فلم تكن سعدى أقل استغرابا من هند وحسنت لها أن تطلعا والدها على ذلك.
فلما جاء جبلة في ضحى الغد أنبأته بالخبر وكانت تتوقع منه ارتياحا واستحسانا ولكنها رأت انقباضا فندمت على تصريحها بالسر وخافت أن يترتب على ذلك ما يسوؤها وكان خوفها في محله. لأن جبلة ما لبث منذ سمع ذلك الخبر منقبض النفس غارقا في بحار التأمل لعلمه أن حمادا إذا تزوج هند سيكون وريثه في الملك إذ ليس له ذكور يرثونه فإذا كان حماد من عامة الناس بقي الملك باسم الغساسنة ولكنه رأى بعد علمه من انتسابه إلى المناذرة أن الملك سيخرج به من الغساسنة إلى المناذرة فيكون قد سعى إلى زوال ملكه فارتبك في أمره فلم يعد يعلم ماذا يعمل وود لو أنه زوج هندا لثعلبة إبقاء للحكم في عائلته ولكنه كتم ذلك كله وتظاهر باستغراب ما سمعه.
أما هند فكانت تراعي والدها وتراقب حركاته وتنتظر ما يبد منه وقد انقبضت نفسها وأسفت أسفا شديدا لما فرط منها.
وفيما هم في ذلك سمعوا قرقعة اللجام وصهيل الخيل عند باب الحديقة فأطلوا وإذا بحماد وفارس آخر عرفوا أنه والده فخرجوا لاستقبالهما فلما وقع نظر حماد على جبلة هم بتقبيل يده فمنعه وتعانقا وتقدم عبد الله إلى جبلة فصافحه وتعارفا ودخلوا جميعا إلى قاعة الجلوس وأخذوا في الأحاديث المتنوعة إلا حديث النذر فأنه لم يدر بينهم أبدا.
فقالت سعدى لجبلة قلت لنا في كتابك أن الإمبراطور هرقل أنفذ يدعوك إليه فما الذي دعاه إلى ذلك.
قال: «دعاه إليه اضطراب في جو السياسة أوجب اهتمامه في التأهب للحرب عاجلا».
فبغت الجميع واستعاذ حماد بالله وخاف أن يحول ذلك بينه وبين هند إلى أجل بعيد فقال: «وما هو ذلك الاضطراب يا عماه».
قال : «لقد أنبأنا الجواسيس أن الحجازيين الذين جاؤنا منذ بضع سنين على ما تعلم وعادوا عن مؤتة خاسرين قد استفحل أمرهم واتسع سلطانهم وتوفي نبيهم وخلفه بعض أصحابه فجند جندا كبيرا أنفذه لقتالنا ولا يلبث أن يصل إلينا قريبا فبعث إلي هرقل بذلك فأرسل يستقدمني إليه في حمص للمخابرة بشأن التجنيد وقد قيل لنا أن حملتهم هذه المرة ستكون أصعب مراسا من الماضية وقد جاؤا فرقا يقودهم أعاظم القواد».
فقال عبد الله: «سمعنا إنفاذ ذلك الجند إلى العراق لحرب الفرس وليس للشام».
قال: «ذلك جند آخر بعثوه إلى العراق في العام الغابر أما الآن فأنهم عاملون على التجنيد إلينا».
فقال حماد: «هل يرى سيدي العم أن غيبته ستطول هناك».
قال: «لا أدري مقدار طولها ولكنني أظنها طويلة».
قال: «نسير إذا في خدمتك».
قال: «لا أرى حاجة إلى ذلك والأولى أن تبقيا في بصرى ريثما أعود أو أبعث إليكما. أما سعدى وهند وسائر أهل القصر فيسيرون معي خوفا عليهم من غائلة العدو وهم في هذا الخلاء».
فلما سمعت هند ذلك خفق قلبها وكادت الدموع تتناثر من عينيها وقد أدركت بأن والدها يضمر السوء لحماد.
أما حماد فلم يكن أقل وجلا وهو لا يعلم ما في نفس عمه وظنه لم يعلم بحقيقة نسبه ولا حدث ما يوجب نفوره ولكنه استعظم فراق هند بعد أن كاد يظفر بها على أثر ما قاساه من المشقة والبلاء في سبيلها.
أما عبد الله فأدرك أن في الأمر شيئا جديدا أوجب هذا التباعد ولولا ذلك لم يكن ثمة ما يمنع مسيرهم معه حيثما سار فخامره شك في كتمان حماد فنظر إليه بطرف خفي ففهم حماد مراده فانتبه أنه أخطأ باطلاع هند على ذلك السر.
وشاركتهم في ذلك الإحساس سعدى لأنها أعلم الناس بأخلاق زوجها فقالت له: «إلا ترى أن نسير جميعا معا وما الفائدة من بقاء حماد هنا».
قال: «بل أرى بقاءه هنا وسأخبرك عما يمنع ذهابه معنا». قال ذلك وفي كلامه غنة الجفاء فسكتت وسكت الجميع.
ثم آن الغداء فتغدوا والسكوت سائد عليهم جميعا فلما نهضوا أمر جبلة أن تعد الركائب لمسير زوجته وابنته معه في ذلك اليوم فشق ذلك على عبد الله ونفر من جبلة لما اتفق له معه في المقابلة الأولى. وعول على تحويل عزم حماد عن هند كأنه لم يدر بما في قلبه من لواعج الغرام وقد فاته أن الحب يتعاظم بنسبة ما يعترضه من العقبات.
فاستشار عبد الله حمادا في الانصراف فأجابه إليه رغما عنه ووقفا فتقدم حماد إلى عمه وودعه وهو يكاد يشرق بدموعه وودعه عبد الله. وسار حماد إلى سعدى وهند يودعهما وكانتا قد خلتا وهند تبكي وتنتحب ووالدتها تخفف عنها وتلتمس الأعذار لما ظهر من جفاء والدها فلما سمعت وقع أقدام حماد خرجت هي فودعته واعتذرت عن هند أنها تشكو من صداع ألم بها حتى أبكاها.
فأدرك حماد أنها شعرت مثل شعوره وترجح لديه أنها باحت بالسر ولم يلم إلا نفسه لأنه لم يوصها بكتمانه. فقال والدمع يتلألأ في عينيه دعيني أرى هندا قبل ذهابي وإن تكن باكية. وكانت هند قد استعدت للقائه فمسحت دموعها وحاولت إخفاء ما بها وخرجت إلى حماد وهي تتجلد ومدت يدها وتجلد هو أيضا فودعها مبتسما وتحت ابتسامه غيظ يكاد يميزه ثم ودع سعدى وخرج فلقي عبد الله في الحديقة ينتظر قدومه فركبا وحماد يلتفت وراءه يودع القصر وأهله وهو غارق في لجج الهواجس فسارا مدة صامتين لا يفوه أحدهما بكلمة وكل منهما يفكر في أمر وحماد يراجع في ذهنه حوادث ذينك اليومين ويتحرق ندما لما باح به من أمر نسبه وشعر بخطائه نحو عبد الله لأنه لم يطعه في كتمانه فظل صامتا يتردد بين الخجل والفشل.
أما عبد الله فلم يبق عنده شك بتغير جبلة وفساد ما بنوه وضياع ما أملوه ولكنه لم يذكر ذلك لحماد رفقا بعواطفه وعول على أن تثنيه عن عزمه فيما بعد.
الفصل الثالث والسبعون
إن الله مع الصابرين
فلما دنوا من الدير قال عبد الله: «أترى يا سيدي أن نقيم في الدير أو نذهب إلى بصرى».
قال: «لك الأمر ولكنني أرى بصرى أفضل لنا بعد ما سمعناه من حملة العرب الحجازيين».
قال: «الأمر إليك» وعرجوا نحو الدير باتوا فيه تلك الليلة على أهبة الانتقال إلى بصرى ولم ينم حماد إلا قليلا لكثرة ما تراكم عليه من الهواجس.
فلما أصبحوا أخذوا يستعدون للركوب فذهب عبد الله لوداع الراهب وظل حماد وحده يشتغل في بعض المهام وكان الوقت ضحى وفيما هو ينظر إلى خارج الغرفة رأى امرأة تنظر إليه فعرفها أنها الجارية التي رافقت هندا إلى الصومعة يوم التقى بها المرة الأولى هناك فبغت لرؤيتها وهرول إليها.
فقالت له: «أتعرف بائع الحلي؟»
فقال: «نعم وصلت».
فدفعت إليه منديلا كان في يدها وتحولت راجعة.
فقلب المنديل بين يديه فإذا هو رسالة قد كتبت فيها: «لا يضعفك عزمك ما رأيته البارحة من والدي واصبر إن الله مع الصابرين». فعلم أنها رسالة من هند فأبرقت أسرته وانفرجت كربته وطوى المنديل وخبأه ولكنه ود لو يعلم أين هي فيسير إليها يقيم بقربها يتنسم أخبارها فتذكر أن والدها سائر إلى حمص لمقابلة هرقل فقال في نفسه (لا أظنه يحمل أهله معه إلى هناك فربما خلفهم في البلقاء). وكان يفكر في ذلك وهو يتظاهر بالاستعداد للمسير فجاء عبد الله فركبا وسارا إلى بصرى وأقاما في منزل بقرب السور عال مشرف فتذكر عبد الله يوم ثعلبة وموقفه أمام رومانوس (روماس) حاكم بصرى وما كان من أمر الخاتم ولكن ثعلبة ضعف أمره وخرج من بصرى فأقام في بعض القبائل الغسانية. ورومانوس ما زال حاكما هناك. وكان حماد قلقا على هند لا يهدأ له بال ومما زاد الحالة ثقلا عليه لومه نفسه لإباحته بنسبه وقد عرف قيمة نصائح عبد الله وتحقق أن الاختبار والمعاشرة تكسب المرء علما وحكما لا يدركهما بمجرد الذكاء الطبيعي ومال بكليته إلى استشارة عبد الله في ذهابه إلى البلقاء وشعر بحاجته إلى سلمان لأنه كان له به غنى عن تجشم تلك المشاق بنفسه ثم أجفل بغتة وخاف إذا استشار عبد الله أن يشير عليه بترك هند وهو لا يستطيع ذلك ولا تسهل عليه مقاومته بعد أن اختبر صدق نصائحه فكست وسلم الأمر لله.
أما عبد الله فكان يتجاهل عن كل ما يظهر على حماد من القلق ويدعوه حينا بعد آخر إلى الخروج للصيد كما كانا يفعلان أول مجيئهما تلك الديار وكان حماد يسير معه لعله يوغل في البرية فيقف على قادم أو غاد فيطلع منه على خبر هند أو والدها ولم يكن عبد الله يفاتحه في خبرها إلا عرضا في أثناء كلامه عن قوات الروم ونحو ذلك فإذا آنس من الحديث اقترابا من الموضوع تباعد عنه وهو يتوقع أن يفتر ميل حماد من تلقاء نفسه وكان حماد أكثر رغبة عن الخوض في ذلك الموضوع لئلا يسمع نهيا أو نصحا يبعده عن هند.
فقضيا أشهرا على تلك الحال وهم لا يسمعون إلا باستعداد الروم لدفع المسلمين وإن جند المسلمين وصلوا ضواحي الشام وأقام بعضهم في اليرموك وكان حماد كلما سمع خبرا من هذا القبيل ازداد قلقا حتى لم يعد يصبر على البقاء في بصرى ومال إلى الخروج منها إلى البلقاء لعله يعرف شيئا عن هند وعبد الله يشاغله تارة بالصيد وطورا بزيارة رومانوس صاحب بصرى وكان رومانوس قد عرف منزلة عبد الله على أثر ما كان بينهما من أمر تسيير عبد الله إلى هرقل وما لاقاه من العفو هناك. فكان يجتمع برومانوس وحماد معه ويخرج أحيانا إلى الراهب فيزوره ويدعوه إلى زيارته. أما الناسك فسارا إليه مرة فلم يجداه.
الفصل الرابع والسبعون
حصون بصرى
ففيما هما ذات يوم في ضواحي بصرى يطلبون الصيد قال حماد: «أرى الصيد قليلا في هذه النواحي لوعرتها وقلة المرعى فيها إلا ترى أن نسير إلى البلقاء لعلنا نعثر على صيد كثير».
قال عبد الله: «إن الصيد يكثر أحيانا ويقل أحيانا أما إذا شئت الذهاب إلى البلقاء فالأمر إليك».
قال: «أرى في الانتقال خيرا».
وفيما هما يتحادثان رأيا سربا من الغزلان قادما من عرض البر لم يريا مثله قبلا فبغتا فقال حماد: «ما هذه الغزلان إني أراها تطلبنا وذلك لم يتفق لي منذ طلبت الصيد».
فقال عبد الله: «إن مثل هذه الكثرة تدل على أمر خطير».
قال: «وماذا عسى أن يكون ذلك».
قال: «لا يجتمع هذا العدد منها ويسير في وجهة واحدة إلا فرارا من جند قادم فلعل جندا من العرب قادم إلى بصرى». قال ذلك وصعدا إلى ربوة أشرفا منها على سهول بعيدة فرأيا غبار يتصاعد عن بعد فقال عبد الله: «لقد صدق ظني».
فقال حماد: «أظنها جنود المسلمين قادمة لحصار بصرى فياليتنا خرجنا منها قبل الآن».
قال عبد الله: «إذا لم يكن لنا بد من ملجأ في هذه الديار خوفا من المسلمين فإن بصرى أحسن المدن وأمنع الحصون واسمها يدل عليها فإن لفظها في الكلدانية معناه الحصن المنيع ألم تر سورها من الحجر الصلد الذي لا تقطعه المعاول ولا تهدمه المجانيق وقد رأيت أبوابها فإن منها يخرج اثنا عشر ألف فارس دفعة واحدة عند الاقتضاء فالمسلمون إذا فتحوا بصرى هان عليهم فتح سواها فتربصنا داخل أسوارها خير لنا من الخروج إلى البلقاء أو غيرها. وزد على ذلك أن أهل بصرى أشداء وهم أكثر الناس حرصا على دينهم وأشدهم دفاعا عن مدينتهم فإنها أعظم مراكز التجارة بين الشرق والغرب لتوسطها بين الحجاز والعراق والشام ومصر».
فبغت حماد وعظم عليه الأمر وعلم أن أمر هند لابد من تأجيله إن طوعا وإن كرها وهب أنه عزم إلى البلقاء أو دمشق فإن جبلة وقبائل غسان وجنود الروم أصبحوا في شاغل يشغلهم عن كل شيء ولكنه أراد أن يتحقق قوة جند الروم ليرى قدرتهم على الدفاع. فقال وهو يدير رأس جواده نحو بصرى وعبد الله يتبعه: «وما هي قوات الروم في الشام وكم مدينة مثل بصرى عندهم».
قال عبد الله: «اعلم يا سيدي أن ولاية سوريا أو هي ولاية الشام تقسم إلى 15 قسما أحدهما بصرى وقوات الروم كبيرة وعدتهم كثيرة ولكنهم شغلوا عن دينهم بدنياهم واستولى عليهم الانقسام. وما زالوا في هذا الحديث حتى وصلوا المدينة فرأوا أهلها في هرج والجند في حركة يستعدون للدفاع فدخلوا الأسواق فرأوا الناس مجتمعين مثنى وثلاث ورباع يتساءلون عن الجند القادم وأمارات الاستخفاف ظاهرة على وجوههم».
فقال عبد الله: «هلم بنا إلى منزلنا فأنه عال يشرف على الأسوار وما وراءها».
فسارا وقال حماد: «ما قولك برومانوس حاكم بصرى هل هو خائف أم مستخف».
فقال عبد الله: «لا أظنه خائفا وعنده مثل هذه الحصون وهذه القلاع فضلا عن العدة والرجال ولكنني أظن الولاية ستخرج من يده إلى وال آخر جاء منذ أيام اسمه تراجان (ديرجان) وهو بطل محنك وقد سمعت الناس يتحدثون بنفور بينهما وليس هذا وقت التنافر».
الفصل الخامس والسبعون
رومانوس وتراجان
ومازالا بالحديث حتى وصلا المنزل فأطلا من بعض نوافذه فإذا بالغبار قد بان عن جند كثيف تتقدمه الأعلام والفرسان.
ولم يكد يظهر جند العرب حتى تسابق الناس إلى الأسوار ينظرون إليهم وهم يهزأون بهم وبألبستهم وسذاجة معداتهم وبعد قليل جاء رومانوس فوقف في بعض الأبراج ونظر إلى جند العرب وقال لمن حوله من الضباط: «لا نرى أن نقفل أبواب بصرى أمام هذا الجند الضعيف ولكننا نخرج إليهم فنحاربهم في هذا السهل ونردهم على أعقابهم». وأمر الجند أن يعسكروا خارج الأسوار مقابل معسكر العرب.
فلما رأى عبد الله هذا التهور خاف العاقبة لما يعلمه من بطش العرب وصبرهم على القتال وكانت له على رومانوس دالة كما تقدم فلما علم بعزمه على الخروج بالجند حدثته نفسه أن ينصح له أن لا يفعل فسار إليه وحماد معه وقد علم أنه توجه إلى دار حكومته فلما وصل الدار رآها غاصة بالجماهير من رجال الحكومة وكلهم راضون عن رأي رومانوس ولكنه لم ير تراجان بينهم فلما رأى إجماعهم على ذلك علم أنهم لن يصغوا إلى كلامه فرأى أن يخاطب تراجان بالأمر فسأل عنه فقيل له أنه في منزله فسار إليه وكان قد عرفه واجتمع به مرارا فاستأذن بالدخول عليه فأذن لهما فدخلا فإذا بتراجان مقطب الوجه فلما دخل عبد الله رحب به تراجان وكان يعرف العربية فجلس وجلس حماد إلى جانبه.
فقال تراجان: «هل تعرفون هؤلاء الحجازيين؟»
قال عبد الله: «لقد عرفناهم وحضرنا حروبهم غير مرة».
فقال: «وكيف رأيتموهم؟»
قال: «رأيناهم أشداء صبورين لا يعبئون بالعدة ولا بالكثرة».
قال: «إلا ترون الخروج إليهم خطأ».
قال عبد الله: «بلى يا مولاي وهذا ما جئنا به إليك فكيف تخرجون إليهم فتعرضون جندكم لنبالهم وسيوفهم وقد كان لكم غنى عن ذلك بهذه الحصون المنيعة».
فتنهد تراجان وقال: «هكذا أراد رومانوس ولقد نصحت له فلم ينتصح وكأني به يلقي بجند الروم إلى التهلكة».
فقال عبد الله: «أليس من سبيل إلى إقناعه؟»
قال: «كلا لأنه عنيد معتد بنفسه وسيكون فشله عظيما وإذا فشل فإنما يكون دمه على رأسه» قال ذلك وهو يلاعب صليبا من الذهب معلقا بسلسلة في عنقه.
فآنس عبد الله في كلام تراجان لهجة الشماتة فسكت وودعه وخرج وحماد معه فلما خرجا قال حماد: «ما ترى من أمر هؤلاء إني أخاف أن تعود العائدة على هذه المدينة فيصيبنا مما يصيب أهلها».
قال: «وما العمل يا سيدي أنخرج إلى المسلمين».
قال حماد: «كلا إن خروجنا خيانة».
قال: «أرى أن نتربص لنرى ما يكون من حربهم».
وسارا حتى أتيا المنزل وكان الليل قد سدل نقابه فأطلا على معسكر العرب فإذا بهم قد نصبوا الخيام وأوقدوا الوقود ونصبوا الأعلام.
فقال حماد: «ومن هو يا ترى أمير هذه الحملة ألعله خالد بن الوليد».
قال: «إن خالدا في العراق على ما علمت ولكن الأمراء غيره كثيرون».
الفصل السادس والسبعون
فتح بصرى
وباتوا تلك الليلة والجند يستعد للخروج وفي الصباح أفاقوا على دق الأجراس وإذا بالجند خارج وفيهم اثنا عشر ألف فارس والقسس أمامهم بالصلبان والمباخر فسار عبد الله وحماد إلى الأسواق فرأوا الناس يسرعون إلى الكنائس يقيمون الصلاة باليونانية ويدعون لجندهم بالنصر وصعد الكهنة على الأسوار بالصلبان والشموع ورشوا الجند بمياه المعمودية وأخذوا يرنمون وينشدون الأناشيد المسيحية وفيهم الرجال والنساء والأولاد يدعون بصوت واحد بالنصر لجند الروم.
أما جند العرب فكان قائده شرحبيل بن حسنة كاتب وحي النبي وجهه عبيدة بن الجراح في أربعة آلاف فارس لفتح بصرى وكان عبيده قائدا عاما لجنود المسلمين في الشام ولاه القيادة العامة الخليفة أبو بكر الصديق.
فوقعت بين الجيشين عدة وقائع ظهر فيها الرومانيون في بادئ الرأي ولم يعجب عبد الله لنصرة الروم لما يعلمه من كثرة عددهم.
ففي ذات يوم التحم الجيشان فظهر الرومانيون واختل أمر المسلمين حتى كادوا يعمدون إلى الفرار وعبد الله يراقب حركاتهم وحماد إلى جانبه وإذا بغبار يتصاعد من جهة الأفق وبان من تحته جند عرفوا من نوع نظامه وشكل أعلامه أنه جند المسلمين فعلموا أنها نجدة جاءتهم ولم يلبثوا أن رأوا في مقدمة ذلك الجند رجل ضخم عريض اللحية طويل القامة تخفق فوق رأسه راية سوداء وهو خالد بن الوليد فاشتد أزر المسلمين وأعادوا الكرة فتقهقر الروم حتى دخلوا الأسوار وأقفلوا أبواب المدينة فلقي تراجان رومانوس راجعا فذكره بنصيحته فغضب رومانوس لشماتته به.
فلما علم عبد الله بما تمكن من النفور بين القائدين خاف سوء العاقبة.
وفي صباح اليوم التالي برز خالد يطلب النزال فنزل إليه رومانوس والناس ينظرون إليهما وما يؤول إليه نزالهما وبعد براز طويل عاد كل منهما إلى معسكره فدخل رومانوس بصرى وعلى وجهه ما يدل على تغير في مقاصده وقد فترت همته عن الدفاع فلحظ ذلك فيه الذين يعرفون أخلاقه وأما عبد الله فاجتمع بحماد وقال: «إني خائف من هذا الرومي فوالله لا يلبث أن يسلم المدينة لأني رأيت من مطاولته في النزال ما يوقع الشبهة فيه».
فقال حماد: «ولقد سمعت من بعض أصدقاء تراجان اليوم أنه جادل رومانوس ووبخه وشمت به لما آل إليه خروجه فشق ذلك على رومانوس وتوعده بشر ينويه له» وقال له: «إذا كنت أفرس مني نازلهم» فأجابه تراجان وشتمه وعلا الخصام بينهما وتحزب رجال الروم بعضهم لرومانوس وبعضهم لتراجان وتوعدوا رومانوس بالقتل واتهموه بالخيانة وقالوا له لا نرضاك حاكما علينا وقد ولينا تراجان فسكت ولم يجبهم وعلامات الغدر ظاهرة على وجهه ولكنه قال: «فلينزل هو ونرى بطشه».
فلما أصبحوا نزل تراجان على جواده بعدته وسلاحه وطلب المبارزة فخرج إليه فارس علما من لباسه وكبير جثته أنه خالد بن الوليد فطال النزال بينهما والجيشان ينظران وكأن على رؤوسهم الطير فمضى معظم النهار ولم ينل أحدهما الآخر بشر فرجع كل منهما إلى معسكره.
فلما رجع تراجان إلى المدينة أسرع الناس للقائه وسؤاله عما لقي من عدوه وكان أول من لاقاه رومانوس وقد نظر إليه مستهزئا ضاحكا كأنه ينتقم منه لشماتته به قبلا فانتهره وعيره بأنه مخلوع فقال رومانوس: «سترى من هو المخلوع منا وتركه ومضى».
وكان عبد الله وحماد ينظران إلى ما دار بينهما فلما رأيا من رومانوس ما رأياه وسمعا تهديده خافا فقال عبد الله: «لقد زاد خوفي الآن من مقاصد هذا الرومي فلا أظنه إلا فاعلا شرا».
فقال حماد: «وما شأننا في ذلك».
قال عبد الله: «إنما يعنينا من الأمر المحافظة على حياتنا مخافة أن يدخل العرب المدينة فيصيبنا منهم سوء ولا ناقة لنا في الدفاع ولا جمل إلا تظننا كنا آمن على حياتنا لو أقمنا في دير بحيرا».
قال حماد: «وكيف نكون آمن هناك والدير لا حصن فيه ولا جند ونحن الآن في أمنع مدن الشام».
قال: «لم أقل أن الدير أحصن من بصرى ولكنني علمت أن خليفة هؤلاء المسلمين لما خرج لوداعهم يوم تسييرهم إلى الشام أوصاهم بالرهبان والديور خيرا فهم لا يسيئون راهبا ولا يخربون ديرا».
فقال حماد: «لو ذكرت ذلك لفضلت البقاء في الدير ولكن السهم قد نفد ونحن الآن في بصرى وهي في ما تراه من الحصار فما الرأي».
ففكر عبد الله قليلا ثم قال: «إن سر المسألة يا سيدي عند رومانوس هذا فلو استطعنا استطلاع شيء منه لعلمنا طريق النجاة فأرى أن أسير إليه الليلة لعلي أتنسم خبرا».
قال: «حسنا تفعل».
وقضيا بقية يومهما في المنزل وبعد العشاء سار عبد الله إلى دار رومانوس وبقي حماد وحده ولم يمض إلا القليل حتى عاد عبد الله وعلى وجهه ملامح البغتة.
فقال حماد: «ما وراؤك؟»
قال: «لا أظن الأمر إلا عظيما فإني سألت عن رومانوس في منزله فقيل لي أنه نائم فلم أصدق أنه ينام الآن فخرجت استطلع خبره من بعض الحرس فعلمت أنه خرج إلى حيث لا يعلم أحد ويخال لي أنه سار ليدبر مكيدة ويسلم بها المدينة و ...».
فقطع حماد عليه الكلام قائلا: «أجل أظنه سيفعل ذلك لأن هذا القصد كان ظاهرا على وجهه فما الحيلة».
قال: «لا حيلة لنا يا سيدي إلا التربص إلى الصباح فإذا تحققنا عزمه على ذلك دبرنا حيلة ننجو بها بأنفسنا».
وباتا تلك الليلة على مثل الجمر.
وفيما هما نائمان بعد نصف الليل سمعا طارقا يطرق الباب فهبا من رقادهما مذعورين فسألا من الطارق فسمعا صوتا يقول: «افتحا إني أنا خادمكما سلمان».
فهرول عبد الله للحال ففتح الباب والبيت مظلم فإذا برجل عليه لباس أهل الحجاز وفي يده مصباح فبغتا لمنظره ولكنه ناداهما إني عبدكما سلمان لا تخافا ورفع العمامة عن رأسه فبان وعرفاه فصاح به حماد: «أين كنت يا سلمان وما الخبر».
قال: «جئت من معسكر خالد ولا يلبث هو ورجاله أن يستولوا على الأسوار فجئت لأعلمكم بالأمر لتكونوا على بصيرة وهذا علم من أعلام المسلمين أنصبوه على باب منزلكم لتأمنوا من سيوفهم إذا دخلوا المدينة».
فقال عبد الله: «بورك فيك أيها الصديق الأمين» فدخلوا جميعا وأوصدوا الباب وسأله حماد أن يقص عليهم الخبر فجلس وهو يلهث من التعب والبغتة وقال: «أخبركما بالاختصار إن رومانوس صاحب بصرى خرج إلى معسكرنا في هذا المساء من مكان في السور خرقه غلمانه فاعتنق الإسلام وقال لخالد بن الوليد: «أرسل معي من تعتمد بتسليم المدينة» فأرسل معه عبد الرحمن بن أبى بكر ومئة من المسلمين فجئت أنا معهم فأدخلنا من خرق في السور وأخذ الأمير عبد الرحمن ورجاله إلى قصره ليسلحهم ويسير بهم لقتل تراجان وقال: «أنه مناظر له في الحكم » وكنت لما جئت مع جيش خالد كما سأخبركم سألت الراهب الشيخ عنكما فأخبرني إنكما مقيمان في بصرى ودلني على هذا المنزل فهرولت إليه لأعلمكما بجلية الخبر وأتيت بهذا العلم أنصبه فوق الباب حماية لكما وبعد قليل تسمعان تكبير المسلمين على أسوار المدينة من كل جهاتها وهي علامة بينهم وبين الجند خارجا فيهجم الجميع وتكون مذبحة هائلة».
فأثنيا على همته فترامى هو على يد حماد فقبلها وقال: «لقد وددت لو تكونون معي في معسكر هؤلاء الحجازيين لتروا ما رأينا من شجاعتهم وصبرهم واتحاد كلمتهم واعلموا أن خالدا وجنده لو لم يصلوا بصرى الآن لذهب جند شرحبيل أيدى سبا وارتدوا عن المدينة خاسرين فقد كانوا في شدة وضنك لقتلهم وكثرة الروم».
فقال عبد الله: «وهل خالد وحده من القواد العظام».
قال سلمان: «وفيهم أيضا عبد الرحمن بن خليفتهم أبى بكر وهو الذي جاء معنا لاستلام المدينة وغيره جماعة كبيرة من الأمراء والقواد».
ولقد رأيت من حربهم وبطشهم في العراق ما سأقصه عليكما إن شاء الله.
فهم حماد أن يسأله عما فعله خالد في العراق فسمعوا الضوضاء والضجيج وبين الأصوات صوت التكبير.
فقال سلمان: «إن المسلمين الآن على الأسوار وعما قليل يفتح أولاد رومانوس أبواب المدينة فيدخلها المسلمون فالبثا هنا لنرى ماذا يكون فما لبثوا أن سمعوا ضجيج الناس وبكاء النساء والأطفال فتحركت الشفقة في قلوبهم وثارت الحمية في رؤوسهم ولكنهم لا يستطيعون الخروج خوفا على حياتهم فما طلع النهار إلا وقد فتح المسلمون بصرى واعملوا بها السيف ثم سكنت الغوغاء بعد قتل تراجان وتسليم أهل بصرى».
ففتح سلمان الباب وخرجوا إلى شرفة من شرفات المنزل تطل على الشارع فرأوا جثث بعض القتلى هناك بين ميت ومنازع وقد تلطخت الأثواب بالدماء والمسلمون قد توغلوا في المدينة وامتلكوها ولكنهم لم يقربوا منزل عبد الله لوجود العلم على بابه.
وفيما هم في الغرفة ينتظرون ما تنتهي إليه حال بصرى وقد اطمأن بالهم سأل سلمان حمادا عما تم من أمر هند فأخبره بجلية الخبر وكيف شغلتهم الحرب عن الاقتران وعبد الله يسمع ويتجاهل حتى انتهى إلى عودهم من صرح الغدير بخفي حنين وحاول حماد إذ ذاك أن يبين لسلمان أن عمه جبلة أصاب بذلك وأنه لا يزال على حبه واعتباره وعبد الله لا يجيب ولا يعترض.
أما سلمان فتكدر لهذا التغيير وقال: «وما هو موعد الاقتران يا مولاي».
قال حماد: «لما تنتهي الحرب ويرجع جبلة وأهله إلى البلقاء».
قال: «ومن يعلم متى يكون ذلك».
قال: «الله يعلم».
قال: «أتعلم أين هم الآن؟»
قال: «أظنهم في البلقاء».
قال سلمان: «لا أظنهم هناك فقد أنبأنا جواسيس العرب أن جبلة سار برجاله إلى اليرموك لنصرة جند الروم في حرب المسلمين ولا يلبث جند خالد بعد قليل أن يذهب إلى هناك لنصرة المسلمين فإذا كان جبلة في اليرموك لا أظنه يترك أهل منزله في البلقاء وهي عرضة لغزوات العرب».
فقال سلمان: «وما ظنك به إذا».
قال: «أظنه يرسلهم إلى دمشق ومع ذلك فإني أرى أن أسير مع خالد حتى آتي اليرموك وأبحث عن جبلة وأهله وأعود إليكم بالخبر أو لعلي أعود إليك برسالة من هند» قال ذلك وتبسم كأنه يريد أن يعبث بحماد فأجابه حماد بمثل ابتسامه وهو ينظر إلى ما يبدو من عبد الله فإذا به في شاغل عنهم ينظر من نافذة الغرفة إلى الشارع والاهتمام ظاهر على وجهه وسمعا قرقعة اللجم وضوضاء الناس فالتفتا إلى ما هو ناظر إليه فأول ما وقع نظرهما على راية سوداء تحتها جند من العرب في وسطهم بعض الفرسان وفي مقدمتهم فارس كبير الجثة عريض اللحية طويل القامة بعيد ما بين المنكبين واسع الهيكل كبير العمامة واسع العينين كثيف الحاجبين على وجهه أثر الجدري وقد ركب على جواد أشهب خفيف العضل يتنقل بمشيته كالعروس ويكاد الشرر يتطاير من حدقتيه ووراءه فرسان حولهم الأعلام وهم فرحون بما اوتوه من النصر فالتفت سلمان إلى عبد الله قائلا: «أعرفت من هو هذا الفارس يا سيدي».
قال عبد الله: «قد عرفته من يوم كان في وقعة مؤتة وكنت أنا أسيرا عندهم أليس هو خالد بن الوليد».
قال: «بلى هو هو بعينه انظر إلى هذه القامة وتلك الطلعة إن خالدا يا مولاي من معجزات خلق الله لم أر ولم أسمع بمثل شجاعته وشدة بطشه فلا غرو إذا سموه سيف الله لقد رأيت منه أعمالا تعجز عن فعلها الأبطال في حروبه بالعراق وسمعت من أخباره ما تشيب لهوله الأطفال فقد كان قبل إسلامه هو المقدم على خيل قريش في الجاهلية فأسلم في السنة الثامنة للهجرة مع عمرو بن العاص ولم يزل منذ أسلم يوليه الرسول أعنة الخيل في مقدمتها وقد علمت أن في عمامته خصلة من شعر النبي يتبرك بها. وقد شهد وقعة مؤتة بالبلقاء وعلى أثر ما أظهره من البسالة هناك سماه الرسول سيف الله ثم كان عونا عظيما للمسلمين في كل حروبهم حتى تولى أبو بكر فأنفذه إلى فتح العراق كما علمتم».
قال عبد الله: «وما هذه الراية السوداء».
قال سلمان: «هذه راية ذات شأن عظيم عندهم ويقال لها راية العقاب».
قال حماد: «لم تخبرنا بما فعله المسلمون في العراق هل فتحوا المدائن ودوخوا الفرس».
قال سلمان: «لو بقوا هناك لفعلوا ذلك ولكن خليفتهم استقدمهم لنجدة جند الشام ولولا قدوم خالد على بصرى لما استطاع شرحبيل فتحها فقد وصلنا إليهم وهم في شدة وجهد وضيق».
الفصل السابع والسبعون
فتح الحيرة
فقال حماد: «أخبرنا يا سلمان عما فتحه خالد من العراق وكيف رأيت حال الفرس».
قال: «أما خالد فأنه من أعظم القواد وخيرتهم وقد لقيته في الحيرة يوم فتحها وكان قبل ذلك قد استولى على بلاد كثيرة بلا حرب لأن العراقيين قد ملوا من حكومة الفرس وظلمهم وعتوهم واحتقروهم لاختلال أمورهم. فأول مكان وصل إليه خالد بلاد بانقيا وباروسما والليس فصالحه أهلها على عشرة آلاف دينار سوى خرزة كسرى وهي فريضة كان يقتضيها الفرس عن كل رأس أربعة دراهم. ثم ساروا إلى الحيرة وعليها إياس ابن قبيصة كما تعلمون (قال ذلك وتنهد) فأنه تولاها بعد ما قضى الله من أمر مولانا رحمه الله» (فتنهد حماد وعبد الله وهما صامتان يسمعان حديث الحيرة) فقال سلمان: «لم يكد يصل خالد الحيرة حتى خرج إليه إياس وسائر أشراف حكومته كأنهم كانوا منه على موعد فاستقبلهم كما يستقبل الغالب المغلوب ودعاهم إلى الإسلام أو الجزية أو الحرب فاختاروا البقاء على النصرانية ودفع الجزية فبلغت جزيتهم تسعين ألف درهم وقد أخبرني بعض رجال خالد ممن يقرأون له القرآن أنها أول جزية أخذها المسلمون من الفرس. ثم تحولوا عن الحيرة وحاربوا الفرس في عدة مواضع وفازوا في أكثرها وما فازوا فيه وقعة الثني ووقعة الولجة ووقعة الليس كل ذلك قبل وصولي.
أما أنا فلما ودعتكم سافرت إلى الحيرة فوصلتها والناس يتحدثون بما تم من صلحها وأهلها بين راض بالصلح وناقم على إياس وخصوصا الفرس منهم فقد سمعتهم يتذمرون وكاتبوا بذلك كسرى برويز وكان يتولى عرش الأكاسرة إذ ذاك وشكوا ما كان من ضعف ابن قبيصة فأنفذ جندا بقيادة رجل من مرازبته اسمه الازادبة لمحاربة العرب فوصل الجند وأنا في الحيرة وكان خالد قد برحها إلى بلاد أخرى يلتمس الفتح ثم سمع الازاذبة بقدومه فخرج إليه وعسكر عند الغربيين وخرجت أنا معهم وعلم أن خالدا ورجاله قادمون بالسفن بالفرات وأرسل ابنه ليقطع الماء عنهم فوقفت السفن على اليبس فتركها خالد وخرج برجاله على الخيل حتى قتل ابن الازاذبة وتقدم خالد نحو الحيرة.
ومن غريب الأتفاق أننا بينما نحن في الغربيين وصل ساعي البريد من المدائن يحمل كتابا إلى المرزبان فلم يكد يفتحه ويقرأ ما به إلا وقد تغير لونه واستولى عليه الجزع فخاف كل من رآه ولم نعلم ما دعاه إلى ذلك إلا في اليوم التالي إذ شاع في المعسكر إن كسرى برويز قد مات فوقع الاضطراب في الجند وانشغل الازاذبة واضطرب ثم جاءه الخبر بمقتل ابنه وتقدم العرب نحوه فتقهقر نحو الحيرة وعسكر العرب عند الغربيين.
أما أنا فلما رأيت اختلال أحوال الفرس قلت في نفسي لقد آن الوقت الذي فيه أستطيع القيام بالمهمة التي جئت لأجلها فخرجت من الحيرة في ليلة ليلاء حتى أتيت معسكر العرب فالتمست الأمان وإن أرى الأمير خالدا فأخذوني إليه فطلبت الخلوة به فخلونا فقلت اعلم أيها الأمير أن حال الفرس في اختلال لموت ملكهم وانقسامهم فيما بينهم فقد صالحك ابن قبيصة وهو على صلحك مع سائر العرب وأما الفرس فهم في شاغل عن الحرب بارتباك داخليتهم وأطلعته على خفايا كنت عالما بها فسر بي كثيرا وأثنى علي فقلت في نفسي هذه فرصة أغتنمها لحفظ ما لمولاي هناك من الأموال والعقار وكنت قد تفقدت المزارع فرأيت الجميع في انتظار عود الأمير عبد الله فطيبت خاطرهم وقلت لهم إني إنما أتيت الحيرة لتفقد حالهم وأوصيتهم بالعناية في استغلال الأرض فلما آنست من خالد ارتياحا إلى خدمتي التمست منه حماية تلك المزارع فوعدني. وقبل هجومهم على الحيرة أخذت علما مثل الذي نصبته على هذا البيت ونصبته هناك وبعد قليل هجم المسلمون على المدينة ففتحوها فظللت في معية خالد حيثما ذهب.
ويسرني أن أخبركم بأن سقوط الحيرة كاد يقضي على دولة الفرس كلها لأن الدهاقين وهم ولاة الفرس كانوا ينتظرون ما يكون من حرب الحيرة فلما علموا بسقوطها وهنت عزائمهم فجاءوا وصالحوه وسلموا إليه فأخذ الجزية منهم وكتب إلى أهل فارس يدعوهم إلى الإسلام ويهددهم بالقتال فلم يكن يمر يوم لا نرى الناس قادمين زرافات ووحدانا وخصوصا عرب العراق وهم النصارى وبعد قليل سار خالد وأنا معه ففتح الانبار ثم عين التمر وغيرهما وقد لحظت منه أنه لم يتجرأ على المسير إلى المدائن قبل الاستعداد الكافي.
وفيما هو في ذلك ورد عليه كتاب من الخليفة أبي بكر يأمره بالذهاب إلى الشام لنصرة جند العرب على فتحها فجئت أنا معه حتى أتينا بصرى وهي محاصرة وأنا لا أعلم مقركما فخطر لي أن أسأل راهبنا الشيخ فأخبرني بمقامكما هنا فتربصت حتى تم الفتح كما قدمت».
وكان عبد الله وحماد صامتين يصغيان لما يقصه عليهما سلمان فلما انتهى إلى هناك قال حماد: «وما ظنك بتتمة فتح العراق فان خالدا لم يفتح منها شيئا كثيرا والمدائن لا تزال على ما هي والفرس لا يزالون حاكمين».
قال: «رويدك يا سيدي إن العرب لا يلبثون أن يعيدوا الكرة وأظنها تكون القاضية وخالد لم يأت بصرى إلا مددا لجند الشام فطب نفسا إن الله سيتم انتقامه من أولئك الطغاة».
فقال عبد الله: «وما العمل الآن».
قال سلمان: «أرى يا سيدي أن أبقى أنا مع خالد كما كنت فأسير معه إلى اليرموك فقد سمعت أن العرب معسكرون هناك يتوقعون قتالا شديدا وسيسير خالد لنجدتهم».
فقال حماد: «وأين اليرموك؟»
قال: «هي على مقربة منا غربا على نهر يقال له نهر اليرموك يصب في نهر الأردن وقد عسكر العرب عند مائه».
فتنهد حماد وفي نفسه شيء يكتمه.
فأدرك سلمان أنه يفكر بهند وجبلة فقال: «ولا بد من أن يكون جبلة مع جند الروم إذا جاء اليرموك فلا أعدم وسيلة استطلع بها مقر هند فأبعث إليكم بخبرها».
فقال حماد: «إلا ترى أن نسير جميعا مع خالد».
قال سلمان: «لا أرى حاجة إلى ذلك بعد أن أوعز إليك جبلة بالإقامة هنا ريثما يبعث إليكم فلعله أن يفعل ذلك وأنتم بعيدون عنها فتفوت الفرصة وأما إذا سرت أنا وبقيتما أنتما هنا فنكون قد أمسكنا الحبل من الطرفين».
أما عبد الله فظل صامتا وحماد ينظر إليه فأدرك أنه غير راض عن كلام حماد.
فقال: «ما رأيك يا والداه».
فقال عبد الله: «الرأي رأيك يا سيدي ولكنني أرى جبلة وأهل منزله لا يهمهم شيء من أمرنا أقمنا في بصرى أم رحلنا عنها يدلك على ذلك سكوتهم عنا وقد أصاب بصرى ما أصابها من الحرب ولولا ذلك لبعثوا يفتقدوننا».
فقال حماد: «ولا نظنهم علموا بما آلت إليه حالتنا وهب أنهم علموا فكيف يستطيعون الوصول إلينا والمدينة محاطة بالعدو». فلما رأى حمادا يدافع عن جبلة قال: «لعل لهم عذرا» وسكت.
ثم خرج سلمان إلى معسكر خالد ليرى ما تم عليه الأمر فرأى العرب قد ولوا رومانوس بصرى وأخذوا يستعدون للمسير فعاد فأخبر عبد الله وحمادا بذلك وهم بوداعهما فقال له حماد : «لا أرى أن أوصيك بإنفاذ خبر جبلة إلينا على عجل واطلاعنا على ما تم لأهل بيته وأين هم».
قال: «سمعا وطاعة وسيأتيك الخبر سريعا» ثم ودعهما وخرج.
ولم يكن سلمان أقل من حماد قلقا على هند وقد شارك عبد الله في ارتيابه من جبلة فعول على استطلاع كنه الأمر وإنفاذ ذلك إلى سيده وفي اليوم التالي أقلع خالد وشرحبيل وجنداهما إلى اليرموك.
الفصل الثامن والسبعون
وقعة اليرموك
ولما تكامل جمع المسلمين في اليرموك بلغ عددهم 26 ألفا منهم تسعة آلاف بقيادة خالد فيهم ألف من الصحابة من جملتهم مئة ممن شهدوا وقعة بدر الكبرى ومن قوادهم أبو عبيدة بن الجراح وعمرو بن العاص وشرحبيل وأبو سفيان بن حرب وكانت الحرب بينهم وبين الروم قبل قدوم خالد تساندا أي كل أمير على أصحابه لا يجمعهم أحد.
وكان أبو بكر قد ولى خالدا القيادة العامة على جند الشام كافة والناس يحسبون أبا عبيدة الجراح أولى منه بتلك القيادة فوقع بين المسلمين اختلاف من هذا القبيل فلما جاءهم خالد حاول جمع كلمتهم وقد أدرك ما في نفوس بعضهم فوقف في الجماهير وقد اجتمع الأمراء حوله وقال: «إن هذا يوم من أيام الله لا ينبغى فيه الفخر ولا البغي أخلصوا جهادكم وارضوا الله بعملكم فإن هذا يوم له ما بعده ولا تقاتلوا قوما على نظام وتعبئة وانتم متساندون فإن ذلك لا يحل ولا ينبغى وإن من ورائكم لو يعلم علمكم حال بينكم وبين هذا فاعلموا فيما تؤمروا به بالذى ترون أنه رأى من واليكم ومحبته». قالوا: «هات فما الرأي». قال: «إن أبا بكر لم يبعثنا إلا وهو يرى أنا سنتياسر ولو علم بالذى كان ويكون لما جمعكم إن الذي أنتم فيه أشد على المسلمين مما قد غشيهم وانفع للمشركين من إمدادهم ولقد علمت أن الدنيا فرقت بينكم فالله الله فقد أفرد كل رجل منكم ببلد لا ينتقصه منه إن دان من الأمراء ولا يزيده عليه أن دانوا له. إن تأمير بعضكم لا ينقصكم عند الله ولا عند خليفة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
هلموا فان هؤلاء قد تهيئوا وإن هذا يوم له ما بعده إن رددناهم إلى خندقهم اليوم لم نزل نردهم وان هزمونا لم نفلح بعدها فهلموا فلنتعاور الإمارة فليكن بعضنا اليوم والآخر غدا والآخر بعد غد حتى تتآمروا كلكم ودعوني أتآمر اليوم». فأمروه وهم يرون أنها كخرجاتهم وان الأمر لا يطول.
فعجب سلمان لجسارة خالد وحزمه ولكنه أخذ منذ وصوله يحاول الخروج إلى معسكر الروم ليرى جبلة أو يسمع خبرا عن هند فصعد إلى ربوة على ضفة ذلك النهر ونظر إلى معسكر الروم فرآه قد ملا الفضاء وفيه الرايات والصلبان فأمعن نظره فيه فرأى معسكر الغسانيين منفصلا إلى جانب وشاهد راية جبلة وفسطاطه في وسطه فحدثته نفسه أن يسير إليه ولكنه خاف أن يستغشه المسلمون إذا رأوه فيوقعوا به شرا فرأى أن يذهب إليهم بحيلة الجاسوسية فعول على أن يخاطب خالد في ذلك فسار إلى فسطاطه فرأى الأمراء تتزاحم فيه وقد اجتمعوا للمفاوضة في أمر الحرب فهاب الدخول مخافة أن يسمع انتهارا فصبر حتى أرفض الجمع وبقي خالد وحده فالتمس الدخول عليه فأذن له فدخل وقبل يده فقال خالد: «ما خبرك». قال: «هل يأذن لي مولاي بكلمة لعل فيها نفعا».
قال: «قل».
قال: «هل بعثتم من يستطلع أخبار العدو يسير قواتهم ومواقعهم وعدد جندهم».
قال: «لقد فعلنا ولكنني أرى أنك أجدرهم بذلك».
قال: «إني عبد مطيع فإذا رأيت أن أسير في الأمر فعلت».
قال: «سر وافعل».
فقبل يده وخرج فتزيا بزي الغسانيين وسار حتى اختلط بالغسانية فالتقى بأناس عرفهم في البلقاء فظنوه كان معهم من ذي قبل فأستطلعهم خبر هند فعلم أنها مع والدتها في دمشق ثم استخبر عن قوات الروم فعلم أنهم في كثرة وفيهم عشرون راية بعضها لأهل الدولة وبعضها للنجدات من الأرمن والسريان والمصريين وإن جملة الجند 240 ألفا ما عدا العرب المتنصرة من الغساسنة وغيرهم فوقعت في نفسه من ذلك رهبة وخاف انتصار الروم وتردد في الرجوع إلى خالد ولكنه قال في نفسه اذهب الآن إلى المسلمين فإذا رأيت فيهم تضعضعا فررت إلى الغساسنة.
فلما سدل الليل نقابه عاد إلى معسكر المسلمين وأطلع خالد على حال الروم.
فقال خالد: «لا يهمنا أمر كثرتهم فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله».
فقال سلمان: «ليست القوة في الكثرة يا مولاي ولكنها في الاتحاد فقد علمت أن هؤلاء الجند منقسمون فيما بينهم لاختلاف أغراضهم ومشاربهم». ثم ودعه وخرج وهو يفكر في طريقة يوصل بها خبر هند إلى حماد.
فلما أصبح الصباح سمع التكبير والأذان في معسكر المسلمين وقد قام الناس وقعدوا وأخذوا يتأهبون للقتال فوقف ينظر إلى كيفية نظامهم فرأى خالدا قد وقف في وسط الأمراء وأمر أن تنظم الجيوش كراديس فقسم الجند 26 كردوسا وجعل قلب الجند كراديس وأقام فيه أبا عبيدة وجعل الميمنة كراديس وعليها عمرو بن العاص وشرحبيل ابن حسنة وجعل الميسرة كراديس وعليها يزيد بن أبي سفيان وجعل على كل كردوس رجلا من الشجعان. وفيما خالد يعبئ الجند على هذه الصورة سمع بعضهم يقول ما أكثر الروم وأقل المسلمين فقال خالد: «بل قل ما أقل الروم وأكثر المسلمين إنما تكثر الجنود بالنصر وتقل بالخذلان فو الله لوددت أن الأشقر (يعنى فرسه) براء من توجيه وأنهم أضعفوا في العدد» وكان الأشقر قد حفي في مسيره. ثم أمر أن يبدأوا القتال فحاذر سلمان أن تصيبه نبلة فتنحى وهو خائف أن تعود العائدة على المسلمين لقتلهم وكثرة الروم فوقف في منعطف يؤدي إلى جند الغساسنة فرأى على مقربة منه رجالا من جند المسلمين وقوفا فتأملهم فرأى بينهم أبا سفيان وكان قد عرفه في بعض أسفاره مع سيده عبد الله إلى الحجاز فتذكر ما كان من حديثه في بيت المقدس وكان قد رآه يوم اعتناقه الإسلام عند فتح مكة فاستغرب وقوفه هناك والحرب منتشبة فدنا منه وأبو سفيان لا يراه فسمعه يخاطب رفقاءه فيقول: «يا مشيخة قريش ومهاجري الفتح (وهم الذين هاجروا يوم فتح مكة وأسلموا) لا يهمنا من هذه الحرب إلا الانحياز إلى الغالب فإذا غلبت الروم كنا معهم وإذا انتصر المسلمون فإننا معهم». فعجب سلمان لكلامه وعلم أنه إنما أسلم خوفا على حياته لا رغبة في الإسلام ولكنه ظل في ريب من هذا الأمر فأصاخ بسمعه لما يقوله بعد ذلك فرآه إذا تقهقر العرب وتقدم الروم قال: «إيه يا بني الأصفر». (يعنى الروم) وإذا مالت الروم وتقدمت العرب قال: «ويح بني الأصفر» ولم يكد أبو سفيان يتم كلامه حتى صاح بأعلى صوته آه فنظروا وإذا بنبلة أصابت إحدى عينيه ففقأتها فقال سلمان في نفسه (لقد نال هذا الرجل جزاءه) وخاف سلمان البقاء هناك لئلا يصاب بنبلة فسار إلى ناحية أخرى والحرب قد حمي وطيسها فرأى بريدا قادما من جهة البلقاء فعرف صاحبه وكان قد عرفه في الحجاز فعلم أنه بريد قادم من المدينة بخبر جديد فتفرس سلمان في صاحب البريد فرآه مسرعا وعلى وجهه أمارات البغتة فناداه فوقف فقال سلمان: «هل تريد الأمير خالد؟» قال: «نعم أين هو؟» قال: «في المعمعة ولكني أوصلك إلى فسطاطه» فسارا معا وعينا صاحب البريد على الجند وحركاته فلما رأى جند العرب ظافرا لم يتمالك أن قال: «ألم يكن مقدورا لأبي بكر أن يسمع بخبر هذا النصر قبل موته» فقال سلمان: «وهل مات أبو بكر؟»
قال: «نعم لقد مات وأنا إنما جئت بخبره».
فقال سلمان: «ومن تولى بعده؟»
قال: «تولى الإمام عمر بن الخطاب وهو رجل ذو بطش وقوة وحزم».
فبغت سلمان لذلك الخبر وقال: «ألا تظن وفاته تؤثر شيئا في مجرى الأحوال».
قال: «كلا ولكن عمر يفضل أبا عبيدة على خالد وقد أنفذني بعزل خالد عن قيادة هذا الجند وتولية أبي عبيدة على أنني لا أرى أن أبلغهم الخبر قبل انقضاء الواقعة لئلا يفشلوا أو يختلفوا فيما بينهم». فقال سلمان: «حسنا تفعل فقل لي ما الذي حمل الخليفة عمر على نقل القيادة إلى أبي عبيدة ألعله أشجع من خالد».
قال: «كلا ولكن أبا عبيدة رجل كريم الأخلاق لين سهل حليم رءوف وهو أقدم في الإسلام من خالد والقيادة تحتاج إلى حكمة وتأن أكثر من حاجتها إلى الشجاعة».
قال سلمان: «نعم ولكنني علمت أن النبي سمى خالد «سيف الله» أفليس هو أحق بالقيادة». قال: ولكنه
صلى الله عليه وسلم «سمى أبا عبيدة «أمين الأمة» وكان يحب صحبته والالتصاق به والحق يقال أن كليهما فرد ولكن للخليفة رأيا في ذلك فأنه ساخط على خالد بسبب حكاية وقعت منه في أيام أبي بكر».
فقال سلمان: «هلم بنا نجلس في مأمن ريثما تنقضي الحرب لأنهم إذا رأوك لا ينفكون عن سؤالك حتى تخبرهم بموت أبي بكر وعزل خالد».
فاستحسن صاحب البريد الرأي وعرج مع سلمان إلى شجرة تواريا وراء جذعها فأخذ سلمان يستفهمه عن كيفية موت أبي بكر وولاية عمر.
فقال صاحب البريد: «لما أحس مولانا الخليفة أبو بكر بدنو الأجل واأسفاه عليه دعا كاتبه عثمان بن عفان وقال له أكتب..
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما عهد أبو بكر بن أبى قحافة إلى المسلمين أما بعد ...
ثم أغمى عليه وكان عثمان وسائر الصحابة لا يرون أحق في هذه الخلافة من عمر بن الخطاب لاشتهاره بالعدل والحزم فأتم الوصاية عثمان من عند نفسه فكتب ... أما بعد فقد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ولم آلكم خيرا.
ثم أفاق أبو بكر من غشيته فقال لعثمان: «اقرأ». فقرأ ما كتبه فكبر أبو بكر وقال: «أراك خفت أن يختلف الناس إن مت في غشيتي هذه». قال: «نعم» قال: «جزاك الله خيرا عن الإسلام وأهله» ثم قرأوا هذا العهد على الناس ولما قبض أبو بكر بايعوا عمر وهو الآن خليفة رسول الله وقد سموه أمير المؤمنين تخلصا من تكرار لفظ خليفة لمن يتولى الخلافة بعده».
وفيما هما في الحديث وأعينهما شائعة نحو المعركة رأيا جند الروم قد تقهقروا وعبر العرب خندقهم واستولوا على أسلابهم وفر الروم ومن نصرهم من العرب المتنصرة وغيرهم وتم النصر للمسلمين ولم يمض إلا القليل حتى عاد المسلمون بالغنائم من الأثاث والحلي والأسلحة وغيرها. فمشى سلمان وصاحبه نحو فسطاط خالد فرأياه عائدا وحوله الأمراء على غير نظام لما دار بينهم من أحاديث النصر.
فحالما وقع نظر خالد على صاحب البريد عرفه فبعث إليه فتبعه إلى الفسطاط فأذن بدخوله فدخل وأنبأ خالدا بموت أبي بكر وخلافة عمر وعزله وولاية أبي عبيدة فأوصاه خالد بكتمان الخبر عن كل إنسان.
أما سلمان فإنه عاد إلى مشاغله بأمر هند وشق عليه انهزام جبلة وخاف أن يكون قد قتل ثم علم ببقائه حيا فمال بكليته للذهاب إلى حماد يطلعه على ما علمه عن هند ولكنه أراد استطلاع نية المسلمين ووجهة مسيرهم قبل ذهابه فقضى أياما يبحث عن ذلك فعلم أنهم عازمون على دمشق فخاف على هند لعلمه أنها فيها وود لو يعلم أين والدها وما هو عازم عليه بعد شخوص العرب إلى الشام فعول على استطلاع ذلك من جبلة وقد علم بانهزامه فخرج من معسكر العرب يبحث عن جهة مسيرة فقيل له أنه سار في جملة منهزمي الروم إلى حمص والإمبراطور هرقل فيها فقصد حمص.
الفصل التاسع والسبعون
خبر مفاجئ
تركنا حمادا وعبد الله في بصرى ينتظران عود سلمان بخبر اليرموك ومقام هند. وحماد كثير القلق لا يرتاح له بال على هند وقد حدثته نفسه بشر أصابها أو بفشل يتهدده على أثر ما قاساه في سبيل الحصول عليها من الأسفار والأخطار وتهيأ له أنها خرجت من يده وذهبت مساعيه كلها أدراج الرياح فعظم عليه الأمر فآنس في نفسه ميلا إلى المسير إليها واستطلاع ما في نفسها من قبله ولكنه لم يكن يعرف مقرها فلبث ينتظر رجوع سلمان بالخبر اليقين.
وكان يتلاهى بالخروج للصيد ونحوه وهو لا يهدأ له بال وأدرك عبد الله فيه ذلك وهو يتجاهل وينتظر أن ينفر حماد من هند ويلتمس العدول عنها من تلقاء نفسه وقد فاته قول القائل:
وإذا تألفت القلوب على الهوى
فالناس تضرب في حديد بارد
فكان يصاحبه إلى الصيد ويكثر من محادثته في شؤون مختلفة إلا مسألة هند فأنه لم يكن يفتحها قط. ولم تمض أيام حتى سمعا بانهزام الروم في اليرموك فصارا يتوقعان سرعة رجوع سلمان.
ففي ذات يوم نهض حماد صباحا وأخذ يتأهب للخروج إلى الصيد وفيما هو يفتش بين أثوابه وسلاحه عثر على الدرع التي ألبسته إياها هند يوم السباق ولم يكد ينظر إليها حتى اختلج قلبه لما مر في ذاكرته من حوادث الحب فعظم عليه احتباسه في بصرى لا يعلم مقر حبيبته مع ما ظهر له من جفاء والدها وفتور والده (عبد الله) وما قام من الحروب مما زاد الأمر أشكالا. فوقف برهة ينظر إلى الدرع ويقلبها بين يديه وهو غارق في بحار الهواجس حتى غلب عليه اليأس وكادت الدموع تتناثر من عينيه وكان عبد الله غافلا أو متغافلا عن ذلك وقد خرج لقضاء حاجة له وترك حمادا في الغرفة وحده.
فلم يكد حماد يخلو بنفسه حتى سمع صهيل جواد غير جواده وغير جواد عبد الله فانتبه بغتة وأطل من النافذة فإذا براكب ترجل ودنا من الباب وهو في ريب من أمر أهله فأمعن حماد نظره فيه فلم يعرفه فلاقاه الرجل بالباب وقال: «هل هنا منزل الأمير عبد الله العراقى؟»
قال حماد: «نعم هو هنا».
قال: «وأين ابنه الأمير حماد؟»
قال: «هو أنا ماذا تريد؟»
قال: «إن بعض الناس في حاجة إليك ينتظرونك في دير بحيراء».
فلما سمع حماد ذكر الدير خفق قلبه واستبشر بقدوم القادم فقال للرسول: «إني سائر إلى هناك على عجل فودعه وركب وعاد حالا».
فأسرع حماد في لباسه قبل أن يأتي عبد الله ولكنه لم يكد يخرج حتى لقيه عبد الله فاستغرب ركوبه قبله فاعتذر بأنه يود الخروج لزيارة الدير وحده فأذعن له وهو في ريب من الأمر.
فهمز حماد جواده ولم يقف إلا أمام باب الدير فرأى هناك فرسا عرف أنه من أفراس أهل صرح الغدير فاستبشر ودخل الدير يطاول بعنقه ويحدق بعينيه فرأى امرأة عرفها لأول وهلة أنها من خادمات هند وهي التي حملت إليه الرسالة الأولى قبل ذهابه إلى بصرى.
فحيته وهمت بتقبيل يده فرد السلام ولسان حاله يقول قولي ما خبرك. فمشت أمامه إلى غرفة هناك فتبعها فلما وصلا الغرفة مدت يدها إلى أثوابها واستخرجت منديلا دفعته إليه وهي تقول إن سيدتى هندا تسلم عليك وقد أرسلت إليك هذا المنديل. فقلب المنديل بين يديه فإذا فيه كتابة كتبت بالدم بالأحرف النبطية وهي قولها: «لم نكد نفرح بنجاتنا من ذلك الثعلب حتى عاد إلى مصاحبة والدي وعاد إلى مطلبه الأول وأنت تعلم أن الموت أهون مراسا علي من ذلك فأدركني قبل فوات الفرصة فإني مقيمة في دمشق ولعل حامل كتابي أن يفيدك إيضاحا». فلم يفرغ من قراءة هذه الكلمات حتى ارتعدت فرائصه والتفت إلى المرأة يستطلعها الخبر فقالت: «إن مولاتي هندا مقيمة في دمشق في منزل قرب كنيسة مريم وقد بعثتني بهذا الكتاب وأوصتني بأن أسلمه إليك يدا بيد في هذا الدير فبعثت الرجل حتى أتى بك من بصرى وهذا هو الكتاب».
قال: «نعم قد قرأته ولكنني لم أفهم حقيقة المراد فهل ثعلبة الآن في دمشق».
قالت: «كلا بل هو مع سيدي جبلة في جند الروم بحمص».
قال: «وما الذي جمعه بالأمير جبلة وقد كنت أعلم أنهما متخاصمان».
قالت: «نعم إنهما كانا متخاصمين ولكنهما تصافيا بعد انكسار جنودهما في واقعة اليرموك».
فقال حماد: «وكذلك يتصافى العدوان إذا أصيبا بسوء معا. وماذا جرى بعد ذلك».
قالت: «وكنا مقيمين في دمشق مع سيدتي هند ووالدتها وسائر الحاشية كما ذكرت لك فلم ندر إلا وكتاب وارد من سيدي الأمير جبلة إلى سيدتي الأميرة سعدى ينبئها بقرب قدومه مع ثعلبة إلى الشام لعقد اقترانه على هند في أثناء مهادنة العرب فلم تتمالك سيدتي عند تلاوة الكتاب عن أن تخبر هندا به فأسرت سيدتي هند إلي واقعة الحال وبعثتني في هذه المهمة وأوصتني أن ألقي إليك الأمر كما وقع لتتدبر في إنقاذها فأنها تفضل الموت على الاقتران به».
فلما سمع حماد ذلك الحديث ثارت الحمية في رأسه واتقدت نيران الغيرة في قلبه وود لو أن له أجنحة ليطير إلى دمشق حالا ولكنه لبث برهة يفكر ثم قال للمرأة: «وأين ثعلبة الآن».
قالت: «هو مع سيدي جبلة بجوار حمص ولكنني أظنه أقلع قاصدا دمشق».
فازداد قلقا وأخذ يخطر في الغرفة ذهابا وإيابا ثم قال لها: «ارجعي إلى سيدتك وأخبريها إني قادم إليها على عجل وربما وصلت دمشق قبلك».
قالت: «وماذا يؤكد لها إني لقيتك وقصصت عليك الخبر إلا تذكر لها علامة تبين لها ذلك».
ففكر قليلا ثم قال: «قولي لها إن صاحب البرد والخاتم قادم إليك وهذا يكفي».
فودعته وركبت وركب الخادم ورجعا.
أما هو فوقف يفكر في حاله مع عبد الله وتردد بين أن يعود إلى بصرى فيخبره بجلية الخبر أو أن يسير توا إلى دمشق فلبث برهة في حيرة حتى خاف أن تفوته الفرصة فذهب إلى غرفة الراهب الشيخ فإذا هو متكئ فحياه فرحب به وسأله عن أمره فقال: «لقد جئتك بوصية أرجو أن تبلغها إلى الأمير عبد الله».
قال: «وما ذلك».
قال: «إذا لقيته قل له إني سرت إلى دمشق لأمر هام وسأعود إليه فإذا استبطأني فليدركني هناك».
قال: «سأفعل ذلك إن شاء الله».
وودعه حماد وخرج على جواده قاصدا دمشق.
الفصل الثمانون
هند في دمشق
فلنترك حمادا سائقا فرسه إلى دمشق ولنذكر ما تم لهند بعد سفرها في صرح الغدير فقد تركناها بعد وداع حماد حائرة منقبضة النفس وقد خافت ذاهب آمالها أدراج الرياح لما آنسته من جفاء والدها على أثر ما سمعه عن نسب حماد. فلم يكد يتوارى حماد عن عينيها حتى أحست بانخلاع قلبها فانزوت في غرفتها وعادت إلى البكاء وكان والدها في شاغل يأمر أهل القصر بالاستعداد للمسير في صباح الغد فجاءت سعدى إلى غرفة هند وقد أدركت حالها وتوقعت بكاءها فأخذت تطيب قلبها وتواسيها بالوعود وهند لا تزداد إلا بكاء فقالت سعدى لا يفيدنا البكاء يا ولداه وإنما نحن في موقف حرج لا بد لنا فيه من الحكمة فاصبرى وتبصرى عسى أن تكون العاقبة خيرا.
فتنهدت هند وصاحت بها: «دعيني يا أماه لقد كفاني ما قاسيته من أنواع الشقاء وما سمعته من الوعود فقد كان عذركم في رفضه جهلكم نسبه ثم قبلتموه على غموض نسبه فما بالكم وقد علمتم بشريف أصله تترددون أليس ذلك لسوء حظي وللشقاء الذي كتبه الله علي». قالت ذلك وأوغلت في البكاء فبكت سعدى لبكائها ولكنها تجلدت وطيبت خاطرها وقالت لها: «اسكتي لئلا يسمع والدك صوت البكاء فيزيد الخرق اتساعا أما أنا فإني ضامنة لك ما تريدين فإن حمادا لك وأنت له فلا تجزعي» وأخذت تخفف عنها حتى سكن روعها ومسحت آماقها ولبثت صامتة وقد ذبلت عيناها وتعكرتا وتكسرت أهدابها وأخذت تراجع في ذاكرتها ما مر بها من الأهوال بسبب الحب وكيف كانت قبل ذلك السباق خالية الذهن ساذجة لا تعرف متاعب الهوى وكانت تتعزى بما ترجوه من لقيا الحبيب ولكنها تذكرت أنه خرج من الصرح منقبض النفس منكسر القلب فكتبت إليه ذلك الكتاب إلى دير بحيراء تلتمس صبره.
وفي اليوم التالي سافر أهل الصرح جميعا إلى البلقاء فأقاموا هناك إلا جبلة فأنه سار إلى الإمبراطور هرقل في حمص فأمره بإعداد الرجال من غسان وغيرهم وكان ثعلبة قد ضعف أمره وأهمله جبلة لما قام بينهما من الضغائن بعد وفاة الحارث ولكنه أصبح بعد ما عرفه عن نسب حماد ميالا إلى مصافاة ثعلبة لعله يتزوج هندا فينجى ملكه من الخروج إلى المناذرة. فلما احتاج إلى الرجال من غسان اضطر إلى استقدام ثعلبة فكتب إليه فجاء برجاله وانضم إلى رجال جبلة وهما على ظاهر الفتور ثم علم جبلة بقدوم المسلمين إلى اليرموك وبصرى فخاف على أهله في البلقاء فاستقدمهم إلى دمشق وأسكنهم بيتا مع نساء بعض أصدقائه من رجال الروم هناك بقرب كنيسة مريم. واشتغل هو في حرب اليرموك وغيرها فلما قضي على جنده بالانهزام في وقعة اليرموك شعر بزيادة الميل إلى مصافاة ابن عمه ثعلبة وذلك طبيعى في جسم العمران بل هو جار في سائر أنواع الحيوان فإذا رأيت ديوكا في منزلك تتخاصم وتتضارب وقد عمر عليك مصافاتها أجمعها في قفص وامنع الطعام والماء عنها فلا تلبث أن تراها قد اصطحبت وتصافت. كذلك الناس فأنهم لا يزالون في خصام ونقار حتى يصيبهم سوء ويقصوا جميعا في مصيبة واحدة فتراهم قد تألفت قلوبهم وأغضوا عن السوابق. فلما أصيب الغساسنة في اليرموك اجتمع جبلة وثعلبة للنظر في أحوال الجند وكان ثعلبة قد ذاق مرارة الجفاء وصغرت نفسه فلما رأى من ابن عمه مؤانسة وتقربا زاده رقة واستئناسا فاجتمع قلباهما. ولم تطل المصافاة قبل أن جرتهما إلى حديث الاقتران فتعاتبا وتشاكيا لما مر من الجفاء بينهما فاعتذر كل منهما عذرا انتحلها لنفسه وكان ثعلبة أكثرهما سرورا بذلك لأنه أصبح بعد موت والده ضعيفا مرذولا. وقد علم أنه إذا تزوج هندا كان الوارث الوحيد لرئاسة غسان جميعا وكان قد درس أخلاق عمه جبلة وعرف أميال قلبه فتظاهر بما ينطبق على نياته حتى حبب إليه مصاهرته ووعده بهند.
أما جبلة فإنما حمله على مصاهرة ثعلبة استبقاء الحكومة في بني غسان وإنقاذها من المناذرة ولولا ذلك لما رأى في ثعلبة ما يقربه منه أو يفضل به حمادا.
فلما تحقق ثعلبة رضاء عمه عنه سأله عن يوم الاقتران فقال جبلة: «أرى أن يكون بعد انقضاء الحروب بيننا وبين المسلمين».
فقال ثعلبة: «ولكن تلك المدة لا حد لها يعرف وما أدرانا متى تنقضي وكيف يرتاح بالنا وأهل البيت مقيمون في دمشق ونحن لا نستقر على حال فإذا رأى عمي أن نستعجل الاقتران كان ذلك أقرب إلى جمع الشمل».
فأجابه جبلة إلى مرامه وكانا بجوار حمص بعد وقعة اليرموك فكتب جبلة إلى سعدى ينبئها بنتيجة ما دار بينه وبين ثعلبة ويبين الوجه الذي حمله على اختياره دون حماد فقال: «وفي زواج هند بثعلبة نستبقي الملك في الغساسنة ونخلصه من خطر الوقوع بين أيدي المناذرة». وأوصاها بالتأهب لعقد الاقتران قريبا ولم تتم سعدى قراءة ذلك الخبر حتى تناثرت الدموع من عينيها لما تخشاه على هند إذا علمت بما نواه والدها وأعادت تلاوة الكتاب بتمعن فأدركت سبب تغير زوجها على حماد وندمت على ما فرط منها من اطلاعه على حقيقة نسب حماد وشعرت أنها هي السبب في كل هذه المتاعب فرأت أنها مطالبة شرعا بإنقاذ ابنتها من مخالب ثعلبة فضلا عما في نفسها من الاحتقار له فأخذت تفكر في طريقة تصل بها إلى ذلك والوقت ضيق لا يأذن بالصبر والعودة وكانت هند تلاحظ فيها ارتباكا وتسألها عن السبب فتتجاهل وما زالت سعدى في مثل ذلك يومين كاملين حتى خافت فوات الفرصة فرأت أخيرا أن تستقدم حمادا على عجل وهند لا تعلم فإذا حضر شاورته في الأمر. فكتبت إلى حماد الكتاب الذي تقدم ذكره بحبر من الدم استحثاثا له على القدوم وبعثت الكتاب مع خادمة يعرفها حماد كما تقدم.
الفصل الحادي والثمانون
حصار دمشق
ولم يتوار حماد عن بصرى حتى أدرك صعوبة المسير إلى الشام وحده وهو لم يطرق تلك البلاد إلا قليلا. وأقرب الطرق بين هاتين المدينتين تمر في حوران واللجا وكلا الصقعين وعر خطر وهناك طرق أخرى تختلف بعدا ووعورة فلم ير له بدا من اصطحاب الدليل فاختار دليلا من سكان بصرى فسار شمالا يقطع الجبال والأودية والسهول والغابات لا ينام إلا قليلا ولكنه تاه مرة فأضاع يوما كاملا حتى اهتدى إلى الطريق فبعد بضعة أيام أشرف صباحا على غوطة وقد استقبلها بوجهه والشمس من ورائه فظهرت له ظهورا واضحا فإذا هي بساتين واسعة الأطراف فيها الأغراس المشمش والرمان واللوز والبرتقان والخوخ والسفرجل والكرم وسائر أصناف الفاكهة تجرى بينها الأنهار وتتناغى فوقها الأطيار وظهر له من وراء تلك الغوطة أبنية توارت وراء الغبار. فوقف ينظر إلى ما حوله وقد تعب جواده فسأل دليله عن تلك الأبنية وهذه الغيطان فقال: «إنك يا مولاي في غوطه دمشق المشهورة بغياضها وبساتينها ومياها وما تلك الأبنية التي تتبدى لك من وراء الغوطة إلا دمشق الفيحاء مقر والي الروم».
فقال حماد: «وما هذا الغبار الذي يكاد يحجب المدينة عنا».
قال: «لا أدرى ما هو ولعله غبار جنود الروم وقد خرجوا للسباق أو هو غبار جنود المسلمين فقد بلغني بالأمس من بعض القادمين من جهات اليرموك أن المسلمين لما غلبوا الروم هناك عزموا على دمشق ولا يبعد أنهم جاؤوها وحاصروها».
فاستعاذ حماد بالله وخاف أن يكون كلام الدليل صوابا فيمتنع عليه الدخول إلى المدينة وربما وقع بين أيدي المسلمين أسيرا ولا يدري ما ينجيه منهم فتذكر سلمان لاحتياجه إليه في تلك الحال وندم لمجيئه منفردا ولم ير لديه من يستشيره ويعتمد عليه غير ذلك الدليل وكان الدليل شابا من عرب الغساسنة المقيمين في بصرى في العشرين من عمره يتكلم العربية واليونانية فقال له حماد: «أتعرف دمشق وهل دخلتها قبل الآن؟»
قال: «أعرفها جيدا وقد أقمت فيها أياما وكثيرا ما جئتها مع والدي لوفاء النذور أو الصلاة في كنيسة ماري يوحنا المعمدان».
فقال حماد: «وهل تعرف كنيسة مريم».
قال: «نعم أعرفها فأنها في شارع مستقيم طويل يقطع المدينة من طرفها الشرقي إلى الطرف الغربي أي من الباب الشرقي الذي يستقبلنا عند أول وصولنا المدينة إلى الباب المقابل له في الطرف الآخر منها في الغرب ويقال له باب الجابية».
فاستبشر حماد باصطحاب هذا الدليل ليستعين به في الوصول إلى منزل هند فأخذ يتلطف في معاملته ويسترضيه بالإكرام والهدايا وهو يزداد رغبة في خدمته وبعد أن وقفا برهة ركب حماد وسار الدليل في ركابه وسارا في الغوطة والأشجار تظللهما ولم يسيرا قليلا حتى غابت المدينة عنهما ثم أشرفا على مرتفع أطلا منه على سهل أمام دمشق فرأيا بالخيام والأعلام والخيول والرجال قد ملأت ذلك الفضاء.
فأمعن حماد نظره فإذا هي أعلام المسلمين وخيامهم وتحقق ذلك مما شاهده وراءها من مرابض الجمال ومساكن النساء فأيقن بعرقلة مساعيه وعلم أنه لن يستطيع الدخول إلى دمشق وخاف المسير إلى معسكر العرب لئلا يستغشوه فيلحقوا به ضررا فوقف حائرا لا يدري ماذا يعمل وفيما هو يهم باستفهام الدليل عن سبيل يدخل به المدينة سمع قرقعة لجم ووقع حوافر خيول على الحصى في جدول جف ماؤه بين الأشجار فأوجس خيفة وحول عنان جواده نحو الصوت وتهيأ للدفاع وأمر الدليل فانحدر بين الأشجار يتشوف من خلالها وحماد يصيخ بسمعه فلم يكد يقف هنيهة حتى سمع صوتا يناديه باسمه فخفق قلبه لاستئناسه بذلك الصوت فأجابه للحال: «من أنت» ثم أدرك أنه صوت الأمير عبد الله ولكنه استبعد أن يراه هناك وعهده به مقيم في بصرى ثم ما لبث أن رآه قادما على جواده ووراءه فارسان عربيان فتحقق أنه هو بعينه وأحس بانفراج الأزمة واستغرب مجيئه فإذا بعبد الله قد ترجل وضم حماد وقبله.
فقال حماد: «ما الذي جاء بك يا أبتاه».
قال: «جئت لحراستك يا مولاي وقد علمت من الراهب الشيخ أنك شخصت إلى الشام فأسرعت إليك لعلمي بما قد تلقاه من العراقيل في سبيل الدخول إليها وقد صادف ظني محله وشكرت الله لمجيئي لأني رأيت العرب محدقين بالمدينة وقد حاصروها حصارا شديدا ولولا سابق معرفتي بخالد بن الوليد لما تمكنت من خدمتك وقد مضى علي يومان أطوف هذه البقاع ومعي هذان الفارسان نتوقع وصولك لنشير بك إلى خالد وقد أمنا ووعد بحياطتنا».
فشكر له حماد وأثنى على غيرته وسأله عن حال المدينة فقال: «أنها في حصار شديد لا يدخلها ولا يخرج منها أحد. وأنت ما الذي جرك إلى هذه المخاطرة». فقص عليه حكايته وأطلعه على كتاب هند والخجل ظاهر على وجهه.
فحدثته نفسه أن يثني عزمه عن هند ولكنه علم أنه لن يصادف منه إصغاء فضلا عما قد يلتجئ إليه من التستر في أعماله فشجعه وقال له: «لا بأس عليك يا ولدي فإن ثعلبة لم يستطيع دخول المدينة ولن يستطيعه».
فقال: «وما الذي أنبأك بعدم دخوله».
قال: «لم ينبئني أحد ولكنني عرفت أن الغساسنة كلهم وفيهم جبلة وثعلبة مقيمون في حمص خوفا من هجمات المسلمين وكان هرقل قد أنفذهم مع جند الروم لنجدة دمشق فلم يستطيعوا دخولها فعادوا على الأعقاب».
قال: «وما العمل الآن؟»
قال: «هلم بنا إلى معسكر خالد فأنهم يتوقعون عودتنا لنقيم بينهم ونكون في ذمتهم إلا إذا أحببت الرجوع إلى بصرى فان ذلك آمن لنا وأبقى».
فصمت حماد ولسان حاله يقول: «كيف أعود عن دمشق وهند محصورة فيها». فابتدره عبد الله قائلا: «لا بل أرى أن نقيم مع المسلمين لعلنا نستطيع أمرا ننقذ به هندا من الخطر». فأبرقت أسرة حماد لما آنسه من مجاراة عبد الله فقال: «نعم الرأي رأيك فهلم بنا». وهموا بالمسير نحو دمشق فقال الدليل: «هل ترى حاجة إلي بعد الآن يا سيدي».
قال حماد: «نعم أرى أن تبقى معنا لعلنا نحتاج إليك في شيء ونحن في مأمن ولك علينا خير مكافأة».
فأذعن وسار معهم وفيما هم سائرون بين الغياض خاطب حماد عبد الله بلسان أهل العراق لئلا يفهم الفارسان. هل ترى جند العرب كثيرين حول دمشق.
قال: «هم عديدون وقد تفرقوا فرقا إحداها فرقة خالد عند الباب الشرقي في الشرق والأخرى فرقة أبي عبيدة عند باب الجابية في الغرب والثالثة فرقة عمرو بن العاص عند باب الفراديس وفرقة شرحبيل بن حسنة عند باب آخر وفرق أخرى عند الأبواب الأخرى وهناك فرقة يقودها جبار عنيد يقال له ضرار بن الازور تطوف حول الأسوار ويخال لي أن الروم لا يستطيعون الصبر على الحصار».
وما زالوا سائرين حتى أشرفوا على معسكر العرب عند الباب الشرقى فرأوا الخيول والجمال ترعى في البساتين ومعها العبدان والخدم ورأى النساء في أخبيتهن يتحدثن بأمر الجهاد وهن مشتاقات إليه اشتياق الأبطال إلى ساحة القتال.
فلما وصلوا المعسكر أتوا فسطاط خالد فدخله عبد الله وحماد بلا معارض وكان خالد جالسا في صدر المكان فرحب بهما ودعاهما للجلوس فنظر حماد إلى من في الفسطاط فرأى روماس صاحب بصرى إلى جانب خالد وقد تعمم بالعمامة وتزمل بالرداء العربى وغادر القلنسوة والطيلسان وكان خالد قد استقدمه معه ليترجم بينه وبين الروم فتهيب حماد من مجلس خالد ومن أحدق به من الأمراء وفيهم جماعة كبيرة لم يعرفهم ولكنه رأى الشجاعة والإقدام تلوحان على وجوههم.
فتقدم عبد الله إلى خالد فعرفه بحماد فأثنى خالد عليه وقال: «أن غلامك سيزداد زينة بالإسلام». فسكت عبد الله ولم يجب.
أما حماد فلم يكن همه إلا هند وحالها في دمشق ولو لم يطمئنه عبد الله ببعد ثعلبة عنها لما صبر على البقاء هناك ولكنه ما فتئ يفكر بحيلة يدخل بها المدينة ليرى هندا ويطمئنها ويسعى في إنقاذها.
وبعد قليل استأذن عبد الله خالدا بالخروج إلى خيمة أعدت له فخرج وخرج حماد معه حتى أتيا الخيمة فقال حماد: «وما الرأي الآن إني أرى هندا في خطر ونحن في مأمن فلابد من حيلة ندخل بها المدينة».
قال: «تمهل يا سيدي لعلنا نتوفق إلى ذلك في الغد». وباتوا تلك الليلة وأفاقوا في الصباح على أصوات الأذان والصلاة فقال عبد الله: «لا أرانا نستطيع شيئا طالما كنا في هذا المعسكر هلم بنا إلى معسكر أبي عبيدة عند باب الجابية لعلنا نؤانس خيرا» فمشيا كأنهما من الجند وتركا الدليل في الخيمة حتى أتيا معسكر أبي عبيدة فدعاهما إلى خيمته وكان عبد الله قد عرفه وسمع بسهولة أخلاقه وطول أناته ورغبته عن سفك الدماء فبعد السلام والترحاب قال عبد الله: «الا يرى مولاي مخابرة هؤلاء الروم بأمر الصلح عسى أنهم يسلمون ويكفونكم مؤونة الحرب».
قال أبو عبيدة: «إني أرغب الناس في ذلك ولكن خالدا يطرب لمقارعة السيوف ومصادمة النبال».
فقال عبد الله: «وما ضر لو أنفذت إليهم أحدا يستطلع رأيهم وأنت رئيس هذه الجنود والمتصرف فيهم».
فقال: «لا أرى بأسا في ذلك إلا أنهم يحسبوننا خائفين».
قال: «أرسلوا من يستطلع رأيهم إذ قد يكونون راغبين في الصلح وهم يحسبونكم لا ترضون به فإذا سار إليهم أحد فيلكن كلامه من عند نفسه».
قال: «ومن لنا بمن يعرف لسانهم».
قال: «لا أظننا نعدم وسيلة». وكان حماد قد تعلم شيئا من اليونانية في أثناء إقامته في بصرى وهم عبد الله بأن يشر بإرسال حماد ولكنه جزع عليه فلبث صامتا فابتدره حماد قائلا: «إني أقدم نفسي لهذه المهمة».
فقال أبو عبيدة: «ولكنك تسير إليهم سرا فإذا فزت بمهمتك أنحجبت الدماء على يدك وإلا فإننا باقون على حالنا من الحرب. واعلم أن قائد جند الروم هناك رجل اسمه توما هو صهر الإمبراطور هرقل فسر إليه واستطلع رأيه من قبلك فإذا رأيت فيه ميلا إلى التسليم انبئني».
فسر حماد بمهمته وخرج من فسطاط أبي عبيدة وعبد الله معه فناداهما أبو عبيدة فعادا فقال لحماد: «إذا سرت أنت بقي والدك عندنا رهنا فإن النفس أمارة بالسوء». فرضيا وخرج حماد وحده وبقي عبد الله هناك وقد ندم لما جره على حماد وعلى نفسه من الخطر وضاق صدره وخاف العاقبة.
أما حماد فأنه حمل علما أبيض وركب جوادا وأسرع نحو المدينة فلم يتبين الأسوار حتى رأى جماهير الناس عليها وفيهم القسس بصلبانهم والجند بأعلامهم ورأى بعضهم يهم أن يرميه بالنبال فأشار إليهم عن بعد أنه إنما جاء مسالما فكفوا عن أذاه حتى إذا دنا من الباب هاله عظمه فقد كان عبارة عن ثلاثة أبواب صفا واحدا المتوسط منها كبير ذو قنطرة واسعة والى جانبيه بابان صغيران وفي أعلى الباب صورة النسر الرومانى تحته كتابة باليونانية وفوق النسر جدار السور وفيه مرامي النبال والناس يتزاحمون فوقها تتلألأ ألبستهم بألوانها الحمراء والزرقاء مما يدل على البذخ والترف وفوق رؤوسهم الخوذ من الفولاذ. فناداهم بلسانهم أنه يريد الوصول إلى رئيسهم.
الفصل الثاني والثمانون
داخلية دمشق وحال الروم فيها
فنزل إليه جماعة فتحوا له أحد البابين الصغيرين فدخل بجواده وسلاحه فأحدق به الرجال فتهيب لذلك الموقف ولكنه تجلد وطلب أن يرى البطريق توما فقالوا أنه في قصره بالقرب من كنيسة مارى يوحنا ومشى في شارع عريق قد استطال على استقامة واحدة يبتدئ بالباب الأوسط ولا يكاد يرى آخره وأرضه مرصفة بالحجارة الصوانية الضخمة والى كل من جانبيه رصيف عريض أوله عند أحد البابين الصغيرين وعلى الرصيف عمد فخيمة من الرخام متراصة على طول الطريق. ولم يكن حماد دخل الشام قبل ذلك الحين فرأى فيها من العظمة ودلائل المدنية ما لم ير مثله في بصرى.
فما زال سائرا وحوله الخفر وأهل المدينة يطلون من الشرفات والنوافذ ينظرون إليه ويتحدثون بأمره وهو يلتفت يمنة ويسرة لعله يرى هندا بينهم وكلما وقع نظره على أنثى ظنها هي وكان يخترق الصفوف بلحظه لعله يرى قبة أو كنيسة على أمل أن تكون كنيسة مريم حيث تقيم هند حتى مر بكنيسة علم من بعض حديث القوم أنها الكنيسة المشار إليها فخفق قلبه وشاعت عيناه وهو يلفت إلى ما حولها من النوافذ فرأى جموعا ولكنه لم ير هندا بينهم فسار والناس حوله يتحادثون بلسانهم وقد علت الضوضاء يتخللها قرقعة حوافر الخيل على البلاط.
وبعد أن ساروا برهة انعطفوا إلى شارع آخر فآخر حتى وصلوا إلى باب كبير يحف به الخدم والأعوان فوقفوا عنده فعلم أنه باب القصر فأنفذوا بعض الحرس ينبئ البطريق بقدوم الرسول فأنبأوه فأمر بإدخاله عليه فجردوه من سلاحه فدخل وركبتاه ترتعشان لهول ما يتوقعه بملاقاة ذلك الرجل فدخلوا به إلى صحن الدار فأعجبه ما رآه في أرضها من النقوش الجميلة وفيها صور وقائع وهيئات آدميين وحيوانات بالفسيفساء بألوان بديعة متراصة قطعا صغيرة بصناعة فائقة. وفي وسط الدار بركة من الرخام يتدفق الماء منها. ثم دخلوا به قاعة مفروشة بالرياش الثمين مما يبهر النظر وعلى جدرانها وسقفها صور بعض القديسين وصورة الإمبراطور هرقل بتاجه وصولجانه وصور أخرى دينية. ورأى على النوافذ الأستار من الديباج والحرير المزركش بالقصب والأرض مكسوة بالسجاد والطنافس عليها رسوم الأسود والفهود والخيول في أبدع ما يكون. فدعوه إلى الجلوس هناك ريثما يخرج إليه البطريق فجلس يتوقع قدومه وهو يهون على نفسه ويتجلد حتى سمع وقع أقدام كثيرة ورأى أهل القصر في هرج وتزاحم فعلم أن الرجل قادم ثم رآه وقد دخل القاعة فإذا هو طويل القامة عظيم الهامة كثير الهيبة وطيلسانه يكاد يجر وراءه وسيفه إلى جنبه وهو في رداء قصير إلى ركبتيه كثير الألوان مزركش بالذهب. وعلى رأسه قلنسوة أشبه بالتاج مرصعة بالحجارة الكريمة فحالما رآه حماد وقف إجلالا له وتقدم نحوه متأدبا فنظر توما إليه بعينين حادتين يكاد النور ينبثق منهما فهاب حماد منظره ولكنه تظاهر بالتجلد وحياه بتحية الملوك وصبر حتى جلس وأمر له بالجلوس فجلس حماد وهو يفكر في ما يبدأ به من الحديث.
فابتدره البطريق قائلا: «ألعلك من هؤلاء العرب المغتربين».
قال: «كلا يا مولاي إني غريب الديار وقد وقعت بين أيديهم بالاتفاق».
قال: «لقد لاح لي ذلك من شكل لباسك فإني أراك حسن البزة وهؤلاء على ما أعلم حفاة عراة ولم يسقهم إلينا إلا قرب آجالهم. هل أنت على دينهم الجديد».
قال: «كلا يا مولاي إني على دين النصرانية» قال ذلك واستخرج من بين أثوابه صليبا من الذهب معلقا بسلسلة في عنقه.
قال: «ألعلك من الغساسنة».
فتحير حماد في الجواب مخافة أن يكون في تصريحه بالصدق ما يوغر صدر البطريق عليه فقال: «إني غريب الديار ولكنني مقيم في بصرى الآن».
فقال: «ومن أي البلاد أنت؟»
فتذكر حماد الصلح الذي أبرم بين الفرس والروم على أثر الحروب الأخيرة فقال: «إني من أهل العراق ولما تم الصلح بين ملكنا وجلالة الإمبراطور هرقل قدمت إلى البلقاء».
فقال توما: «وما الذي جاء بك إلينا؟» قال ذلك ودلائل الاهتمام ظاهرة على وجهه بأقطاب حاجبيه وتفرسه.
فهاب حماد منظره ولكنه تذكر أنه ملك ابن ملك فعادت إليه أنفة الملوك فقال: «إذا أذن مولاي بخلوة بسطت له بها رأيي» وكان في مجلس البطريق بعض الحاشية. فأشار إليهم فخرجوا وجلس البطريق إلى جانبه. فقال حماد: «أقسم لمولاي بحرمة الصليب والمعمودية إني إنما جئت إليه أنوي له ولدولة الروم خيرا».
قال: «لقد صدقت قل ما في نفسك».
قال: «إني رأيت معسكر هؤلاء العرب وخبرت صبرهم في ساحة القتال واستهلاكهم في سبيل الجهاد فخفت أن يطول الحصار فيصيب هذه المدينة جهدا وقد عرفت قائد جند العرب الأكبر وهو رجل ميال إلى السلم رغاب في حجب الدماء فقلت في نفسي لعلي إذا توسطت في أمر الصلح بينكما إن أفعل خيرا فاحتلت في دخول المدينة لأعرض هذا الأمر عليك».
فلم يكد حماد يتم حديثه حتى بدت ظواهر الغضب على وجه توما وقد أقطب حاجبيه وتململ في مقعده ونظر إلى حماد بعينين براقتين يكاد الشرر يتطاير منهما وقال: «وحرمة الصليب وصاحب هذه الكنيسة (وأشار إلى كنيسة مار يوحنا بالقرب من القصر) ورأس الإمبراطور هرقل لو لم تسبق إلى اقناعي بنصرانيتك لارتبت بحقيقة مقاصدك كيف تدعونا إلى صلح قوم ساقهم العقر إلينا وغرهم الجهل في منازلتنا أنخالهم يحسبوننا مثل حامية بصرى التي خانت ملكها وسلمت إليهم ألم تكن لهم عبرة برجوعهم عن أسوار هذه المدينة خاسرين منذ بضعة أسابيع (ثم نهض وهو يقول) إني سأعلمهم كيف حرب الروم منذ اليوم». قال ذلك ويده على قبضة حسامه وهو يخطر في الغرفة غضبا.
فكبر ذلك الانتهار على حماد وجرت دماء الملوك في عروقه وحدثته نفسه أن يغلظ له بالمقال ولكنه علم إذا فعل ذلك أنه مائت لا محالة فصبر نفسه وكظم غيظه وقال: «إن الصلح لا يحط من قدر رجال الحرب ولا أخال سيدي يحسبني أجهل بطش الروم وشدة بأسهم ولكنني ظننت في الصلح حجبا للدماء فإذا كنتم ترون الحرب فأنتم أصحاب الأمر».
وكان توما لا يزال واقفا فلما سمع مقالة حماد جلس إلى مقعد آخر ويده لا تزال على قبضة حسامه وقال: «لولا علمي بحسن نيتك لما أبقيت عليك ولكنك مع ذلك ستبقى في حاشيتي حتى ترى عاقبة الغرور وترى حال هؤلاء العرب في حربنا».
فاستعاذ حماد بالله من هذا السجن وكان في حسبانه أن يطلق سراحه فيفتش عن هند فندم على مجيئه وظل صامتا فسمع البطريق ينادي بعض رجاله فلما حضرا وصاه أن يحتفظ بالرسول ويستبقيه في حاشيته ريثما يأمره أمرا آخر. قال ذلك وخرج مسرعا غاضبا وسيفه يقرقع على البلاط وراءه وطيلسانه يكاد يتطاير عن كتفيه وبقى حماد وخفيره في القاعة برهة ثم أشار الخفير إليه فخرجا واختلط حماد بالحاشية كواحد منهم لا يؤذن له بالخروج من القصر إلا معهم فلبث يصبر نفسه ويتوقع القدر.
وفي مساء ذلك اليوم سمع أهل القصر يتحدثون بعزم توما على الصلاة في كنيسة يوحنا في صباح الغد وهو صباح الأحد وأنه دعا رجال حكومته وأعيان المدينة للاجتماع فيها فأمل حماد أن يتنسم خبرا عن هند هناك.
الفصل الثالث والثمانون
كنيسة ماري يوحنا
ولم يكد يفيق في صباح اليوم التالي حتى سمع دق النواقيس في سائر كنائس المدينة ورأى أهل القصر يتهيأون للذهاب إلى الكنيسة فسأل خفيره عن ذهابه فقال: «تعال معنا إن الصلاة لا تمنع عن طالبها» ولم تمض برهة حتى خرج توما بأحسن ما يكون من اللباس فمشى وحوله الأعيان والوجهاء ورجال الدولة بأفخر الألبسة من الحرير المزركش على أجمل ألوانه وأزهاها.
وكانت الكنيسة على مقربة من القصر فلم يكن إلا القليل حتى وصلوها فإذا هي محاطة بسور عظيم الارتفاع يوقع في النفس رهبة فدخلوا منه إلى باب الكنيسة الجنوبي وهو كبير مرتفع الأعتاب فدخلوا منه إلى صحن الكنيسة وهو فسيح مبلط بالرخام الملون طوله نحو 200 خطوة وعرضه 150 وتحيط به الأروقة وفيها الأعمدة الهائلة من الرخام الأبيض النقي أو الغرانيت الملون بأحسن ما يكون من الدقة تعلوها تيجان جميلة الصنعة على النمط الروماني أكثرها محلى بالذهب حتى إذا أشرف على الهيكل حيث تقام الصلاة بهره ما على جدرانه من الصور البديعة بالألوان الطبيعية وفيها الذهب فضلا عن النقوش الجميلة من الفسيفساء البلورية بالألوان البديعة. وكان حماد فيما التفت تمثلت له عظمة الروم في أبان مجدهم فبهت لأنه لم يشاهد مثل هذه الكنيسة قط.
فأدرك خفيره ذلك منه فقال له: «ما بالي أراك منذهلا». قال: «إني لم أر مثل هذه الكنيسة في الشرق إلا بإنطاكية من هو الذي بناها من الملوك» قال: «أنه بناء أقدم من النصرانية عهدا فقد كان هيكلا وثنيا من أيام الآراميين الذين ورد ذكرهم في التوراة بنى على اسم اله من آلهتهم اسمه رامون وكان له مذبح جميل أمر آحاز ملك يهوذا أن يبنى مثله في هيكل سليمان بأورشليم».
فلما استولت دولتنا الرومانية على الشام قبل النصرانية اتخذوه معبدا لأوثانهم حتى إذا تنصرت قياصرتنا جعله أحدهم أرخاديوس قيصر كنيسة على اسم يوحنا المعمدان وكان قد تخرب بعضه فرممه ونقش فيه صور القديسين ومن جملة ما نقشوه آيات من الكتاب المقدس ترى كثيرا منها على الجدران والسقف وأظنك قرأت ما هو منقوش على الباب عند دخولنا فقد كتبت عليه هذه العبارة (باليونانية) «ملكوتك أيها المسيح ملكوت أبدي وسلطانك يمتد مدى الأدوار».
ولم يكد ينتهي الرجل من حكايته حتى انتظم عقد الصلاة وقام الأساقفة بمباخرهم وصلبانهم وعلت أصوات الترتيل والترنيم والجدران تردد الصدى حتى صمت الآذان وتخشع الناس ونظر حماد إلى الجماهير فرآهم وقوفا وقد ولوا وجوههم المشرق وفي مقدمتهم توما في كرسي من العاج المرصع بالفسيفساء فوقه قبة من العاج بديعة النقش. ولما انقضت الصلاة حول توما وجهه نحو الجماهير وبيده صليب من الذهب مرصع بالحجارة الكريمة وأمامه طاولة عالية فوقها كتاب مغشى بالذهب عرف حماد أنه الإنجيل الشريف والتفت توما وقد تغير منظره وهو يهيئ كلاما يقوله فأصغى الناس ففتح الإنجيل ووضع يده اليسرى عليه وفي يده اليمنى الصليب يشير به وهو يتكلم وقال ما معناه: «اعلموا يا معشر النصرانية أن عمي ومولاي جلالة الإمبراطور هرقل قد كتب إلينا يستحثنا على دفع هؤلاء الأعراب عن أسوار دمشق وإخراجهم من بلاد الشام فقد القوا الفتن فيها وما هم بالحقيقة إلا قوم جياع عراة ساقهم فقر بلادهم وجدب أرضهم إلى التماس الغزو من غياض الشام وخيراتها وقد أطمعهم فيها ما لا قوة من ضعف حامية بصرى وقائدها روماس اللعين الذي قاده الانتقام إلى التسليم. أما أنتم فإنكم رجال أشداء قائمون على الولاء فلا يهمكم من أمر هؤلاء شيء. ولا أحرضكم إلا على الاتحاد ونبذ الاختلافات المذهبية فقد آن لنا أن نفقه حالنا ونعتبر بما صار إليه الناس قبلنا وما هؤلاء العرب بشيء يذكر إذا نحن اتحدنا وإلا فان العاقبة وخيمة فإذا رأيتم الخروج إليهم خرجنا وأذقناهم مر العذاب».
فقال رجل واقف بالقرب منه: «ما لنا وللخروج إليهم ونحن آمنون في أسوارنا فلنهملهم حتى يملوا الإقامة فينقلبوا على أعقابهم».
فتأمل حماد في حال ذلك الجمع وفيهم خيرة رجال الدولة فرأى التردد والخمول مستوليين عليهم وكان يحسب كلام توما يثير فيهم حمية فإذا هو لم يسمع منهم إلا تمتمة ولم ير إلا تقاعدا وقد فقدوا الحمية بما انغمسوا فيه من الترف والبذخ والرخاء وفسدت أخلاقهم وساءت آدابهم فقابل ذلك بما آنسه في جند العرب من الأنفة وعزة النفس والنشاط ووحدة الكلمة فتمثلت له عاقبة الأمر جليا وأيقن أنها عائدة على الروم إذا هم لم يصالحوا العرب فلبث ينتظر ما يأتى به القدر.
وعادوا من الكنيسة وهم يتحدثون بما سمعوه وحماد مشتغل بهند وقد حاول الخروج منفردا إلى كنيسة مريم فلم يستطع لما ضيقه عليه توما من الحجر فإن خفيره لم يكن يفارقه لحظة وخاف إذا خرج خلسة أن يرتكب ذنبا يستوجب عليه القتل فصبر نفسه رغما عنه. وفي صباح الغد خرج توما ومعه رجاله إلا الخفير فأنه بقى في القصر وحماد معه وآنس في خروجهم حركة غير اعتيادية فاستطلع الخبر فقال الخفير: «إن البطريق سار إلى الأسوار يرمى العرب منها بالنبال ولم يأت المساء حتى عاد الروم وفيهم توما ويده على عينه وقد جاءه الأطباء فسأل حماد عن حاله فقيل أنه أصيب بنبلة من نبال العرب فقأت عينه وأنه تشاءم من ذلك كثيرا» فقال حماد في نفسه: (فعسى أن يرجع إلى صوابه ويرغب في الصلح).
الفصل الرابع والثمانون
باب الفرج
ومضت بضعة أسابيع والحرب سجال بين الجانبين والروم ينتظرون نجدة من هرقل والنجدة تمنع عنهم حتى إذا كان ذات صباح وحماد جالس في بعض غرف القصر يئسا أسيفا إذ جاءه رسول يستدعيه إلى توما فسار إليه وقلبه يخفق مخافة أن يكون في الدعوة ما يدعو إلى الخطر.
فلما دخل عليه رآه جالسا على سريره مقطب الوجه فحياه فأجلسه توما إلى جانبه وهو يبش له فآنس حماد منه رقة لم يعهدها فيه. ثم أشار توما فخرج كل من في الغرفة ولم يبق غيرهما فقال توما: «دعني أقص عليك خبرا أقلقني وهو حلم رأته امرأتي في منامها البارحة وهي حامل أما الحلم فأنها رأت الدماء تتدفق عن أسوار دمشق والأسواق مزدحمة بالقتلى فأفاقت من نومها مرعوبة فقصت علي الحلم وهي ترتعد وتقدمت إلي أن أقبل بصلح هؤلاء العرب حجبا للدماء ولقد ساءني اقتراحها لأني راغب في الحرب إلى آخر نسمة من الحياة ولكنها ابنة الإمبراطور صاحب الأمر والنهي فضلا عن منزلتها عندي وهي حامل. وأذكر أنك أخبرتني عن أبي عبيدة قائد فرقة باب الجابية أنه ميال إلى السلم فهل تظن إذا خابرناه به يفعل ويحفظ عهده».
فاستبشر حماد بذلك وانفرجت كربته وقال: «لا ريب عندي بحفظه العهد إذا عاهد».
قال: «أتذهب إليه وتستطلع رأيه في ذلك سرا وتعود بالخبر».
قال: «أفعل ذلك مأمورا طائعا فإذن بمن يرشدني إلى الطريق ويخرج بي من الباب وأنا أسير إلى الرجل وأخاطبه».
قال: «قد أذنا لك بذاك ولكنني أشترط في أمر الصلح شرطا لا بد منه».
قال: «وما هو».
قال: «أريد من هؤلاء العرب إذا دخلوا المدينة أن يحفظوا الأرواح ويحجبوا الدماء وأن يتركوا لنا كنائسنا ولا ينقصوا علينا منها كنيسة».
فقال حماد: «لا أظنهم يخلفوننا في ذلك وعلى كل فإني أسير إليهم وأعود إليك بالجواب». وكان حماد يكلم توما وهو معجب بتنازله إلى هذا الحد على أن خيال هند ما زال نصب عينيه فخطر له أن يغتنم تلك الفرصة للاستعانة به على تسهيل زواجه بها وقال في نفسه (لا أخالني أرى رجلا أقدر على مساعدتي من صهر الإمبراطور وهو الآن في حاجة إلي فإذا استعنته ووعدني فقوله نافذ على جبلة وغيره).
فتوسم توما في حماد توقفا وترددا فقال له: «ما بالك تتردد ألعلك خفت الذهاب إلى العرب». قال: «كلا يا مولاي فإني أقتحم المخاطر في سبيل إنفاذ أوامرك ولكن لي أمرا يهمني ليس هنا محل الكلام عليه على أنني لا أرى بد من استعانتك فيه وهو من أسهل الأمور عليك فاجعل مساعدتي في إتمامه مكافأة لي إذا فزت في عقد الصلح على ما تريدون».
قال توما: «وماذا عسى أن يكون طلبك».
قال : «أخاف إذا ذكرته أن تضحك مني وتظنني مشتغلا بعبث الغلمان ولكن الأمر يا مولاي قد أقلقنى ولا أرى بدا من استعانتك فيه فاعذرني».
قال: «وما هو».
قال: «أتعرفون الأمير جبلة الغساني».
قال: «أليس هو ملك الغساسنة حليفنا».
قال: «بلى يا مولاي هو هو بعينه».
قال: «وما خبره».
قال حماد: «أقول بالاختصار إني خطبت ابنته هندا ثم إن ابن عم لها يقال له ثعلبة يسعى في الحصول عليها وقد قبل والدها به ولكن الفتاة لا تريده ونظرا لما أعهده من نفوذكم على جبلة أرجو أن توعزوا إليه أن يعطيني الفتاة».
فتبسم توما وقد تذكر أبان شبابه وزمن عشقه فعذر حمادا وطيب خاطره وقال: «إنه أمر سهل لك علينا قضاؤه». فانبسطت نفس حماد ومال إلى مشاهدة هند وتبشيرها بذلك الوعد وهم باستئذان توما أن يمر بكنيسة مريم أثناء ذهابه فإذا هو قد ابتدره قائلا: «فأتقدم إليك أن تسرع في مهمتك فتسير حالا إلى مخابرة أبي عبيدة فإذا عقد الصلح وهدأت الأحوال زففنا إليك هندا رضى والدها أو لم يرض».
فشكر له حماد شكرا جزيلا وقد عول في باطن سره على أن يحتال في المرور خلسة ثم سمع توما ينادي اثنين من حاشيته فأتيا فقال لهما: «أعدا مركبة من مركبات القصر أحملا بها هذا الشاب العراقي إلى باب الجابية حالا وافتحا له الباب وليركب جواده هناك وأما أنتما فانتظرا رجوعه فمتى عاد ارجعا به إلى هنا».
فقالا سمعا وطاعة وخرجوا جميعا وحماد آسف لمسيره في المركبة إذ لا يتأتى له الوقوف عند الكنيسة.
وبعد برهة أعدت المركبة فركبوها فجرت مسرعة وقد تعاظمت قرقعتها على بلاط الشوارع وخصوصا الشارع المستقيم حتى إذا دنت من كنيسة مريم خفق قلب حماد وشاعت عيناه وهو يلتفت نحو النوافذ والشرفات لعله يرى هندا أو أحدا من أهلها فخاب رجاؤه وتجاوزت المركبة الكنيسة وهو يصيخ بسمعه مخافة أن يناديه أحد وتحول قرقعة المركبة دون سماع النداء ولكنه ما لبث أن وصل إلى باب الجابية فوقفت المركبة وكان جواده هناك فركبه وخرج والعلم معه حتى أتى معسكر أبى عبيدة فلم يستغشه أحد من العرب فسار توا إلى خيمة عبد الله وهي في الطريق فرآه جالسا حزينا لانشغال باله فحالما وقع نظره عليه نهض مسرعا وضمه إلى صدره وسأله عن سبب غيابه فقص عليه الخبر فحمد الله على سلامته. ثم سأله حماد هل سمع شيئا عن سلمان فقال: «لا لم أسمع عنه شيئا ولكنني أرسلت دليلنا إلى بصرى لعله يراه هناك فيخبره بمقرنا ولم يعد الدليل بعد». فانشغل بال حماد ولبثا برهة يتحادثان في أمر جبلة وجنده فقال عبد الله: «أظننا إذا تم الصلح بين العرب والروم لا نعدم وسيلة في العثور على سلمان فهيا بنا الآن إلى أبي عبيدة» ثم نهضا معا حتى أتيا فسطاطه فرحب بهما فقص حماد ما اشترطه توما من أمر الكنائس والأموال فقال أبو عبيدة: «لقد قبلنا بذلك فليرسل من يعتمدهم من رجاله لعقد الشروط».
فودعهم حماد وعاد إلى دمشق وقد مضى معظم النهار فوصل القصر فرأى أهله في هرج وضجة فسأل عن السبب فقيل له أن امرأة البطريق توما تتمخض والبطريق عندها ينتظر ساعة الولادة فقال: ابعثوا إليه من ينبئه برجوعي فآنبأوه فخرج إليه وأمارات البغتة ظاهرة على وجهه فقال: «ما خبرك» فقال: «إن الأمير عبيده قبل بالصلح فأرسل من تعتمده لعقده». فأمر مئة من كبار القصر أن يخرجوا في صباح الغد ومعهم حماد وقال لهم إني مشتغل في ما تقاسيه ابنة الإمبراطور من آلام المخاض وعسى أن يأتي الفرج قريبا.
الفصل الخامس والثمانون
صلح الشام
وكان الليل قد سدل نقابه فباتوا تلك الليلة وأصبحوا وقد تهيأ مئة منهم بالألبسة الرسمية وحملوا الأعلام والصلبان وساروا حتى أتوا باب الجابية وكان حماد أكثر الناس رغبة في ذلك الصلح أملا بقرب الوصول إلى هند.
فلما وصلوا الباب كان بعض العرب هناك وعليهم أبو هريرة قد قاموا ينتظرون وفد الروم فأنبأهم حماد بما أتوا من أجله وفتحوا الأبواب وخرج الوفد بأعلامهم وصلبانهم وقد تكسرت أشعة الشمس عن خوذهم وملابسهم وأرديتهم المختلفة الألوان وصلبانهم المرصعة بالحجارة الكريمة مما يبهر الأبصار ومشى أبو هريرة ورجاله في مقدمتهم حتى أتوا معسكر أبي عبيدة فلما أشرفوا على المضارب أوعز إليهم أبو هريرة أن ينزعوا الصلبان فنزعوها حتى وصلوا إلى فسطاط أبي عبيدة فاستقبلهم بالحفاوة وعقد مجلسا أمضوا فيه الشروط وفي جملتها أن يتركوا الكنائس على ما هي. وكان في دمشق عدة كنائس منها كنيسة مريم وكنيسة يوحنا المعمدان المتقدم ذكرهما وكنيسة سوق الليل وكنيسة إنذار فكتب لهم أبو عبيدة كتاب الصلح والأمان ولم يسم فيه اسمه ولا أثبت شهودا فتناولوا الكتاب ودعوه لصحبتهم ليدخلوا المدينة معا فقام أبو عبيدة ومعه 25 من أعيان الصحابة وسار الجميع وفيهم عبد الله وحماد. فلما وصلوا باب المدينة وقف أبو عبيدة وقد تذكر أمرا هاما وذلك أنه لسلامة نيته رضي بالصلح وقبل بدخول المدينة مع عدوه ولم يخامره ريب من غدر أو نحوه ولكنه لما وصل الأبواب ورأى الأسوار وفوقها الجند بالأسلحة تخوف وتحذر فقال لمن معه من الروم: «إننا نطلب منكم الرهائن قبل الدخول فيبقى منكم أناس رهنا عندنا حتى إذا حدث غدر ذهبوا ضحية الغدر». فتركوا بعضا منهم وسار الباقون حتى دخلوا الأبواب وأقبلوا على الشارع المستقيم وقد تزاحم فيه الناس وفي مقدمتهم الأقسة والرهبان فلما دخل أبو عبيدة استقبلوه بالأناشيد واعتذروا عن تخلف البطريق توما لانشغاله بأهل بيته ثم مشوا بين يديه على مسرح الشعر وقد رفعوا الأناجيل والمباخر وفيها البخور يتصاعد دخانه حتى حجب عنهم أواخر الشارع فساروا يهتفون شكرا لله على حجب الدماء والأعلام تخفق فوق رؤوسهم وبينها أعلام المسلمين والروم معا.
وكان الدمشقيون يطلون من النوافذ وعن الأسطحة والشرفات رجالا ونساء وأولادا وكلهم فرحون بنجاة أنفسهم وأموالهم لأن أهل البلد أكثر الناس نفورا من الحرب لأنها عائدة عليهم بالخسارة في إي حال.
وأما حماد فكان مشتغلا عن تلك الضوضاء يعلل نفسه بقرب اللقاء وعبد الله إلى جانبه وكان الموكب سائرا ببطء فنفد صبر حماد وهو يتشوف من خلال الأعلام والصلبان إلى كنيسة مريم عن بعد وقد عول على ترك الموكب ودخول الكنيسة خلسة ليرى هندا ويبشرها بانفراج الأزمة.
الفصل السادس والثمانون
خصام أبي عبيدة وخالد
وفيما هو في ذلك تراءى له في آخر الشارع جموع قادمون نحو الموكب فرارا من أناس يطاردونهم فأمعن نظره فرأى مع المطاردين أعلاما إسلامية ورجالا من المسلمين في أيديهم السيوف والرماح وقد أمعنوا في الناس قتلا ونهبا ورأى في مقدمة الأعلام علما أسود عرف أنه راية العقاب لخالد بن الوليد ثم ما لبث أن رأى الفارين يتقدمون حتى التقوا بالموكب عند كنيسة مريم ثم دنا خالد فلما رآه أبو عبيدة عجب لأمره وناداه قائلا: «كف يا أبا سلمان قد فتح الله على يدي المدينة صلحا وكفى الله المؤمنين القتال».
فصاح فيه خالد: «وما الصلح لا أصلح الله بالهم وأين لهم الصلح وقد فتحتها بالسيف وخضبت سيوف المسلمين من دمائهم وأخذت الأولاد عبيدا ونهبت الأموال».
فقال أبو عبيدة: «اعلم أيها الأمير أني ما دخلتها إلا بالصلح».
فقال خالد: «انك لم تزل مغفلا وأنا ما دخلتها إلا بالسيف عنوة وما بقي لهم حماية فكيف صالحتهم».
فقال أبو عبيدة: «أتق الله أيها الأمير والله قد صالحت القوم ونفذ السهم بما هو فيه وكتبت لهم الكتاب».
فاعترضه خالد وارتفع الصياح بينهما وقد شخص الناس إليهما وأصحاب خالد لا يزالون يقتلون وينهبون وكانوا قد دخلوا المدينة من الباب الشرقي وهم لا يعلمون بصلح أبي عبيدة ولكنهم اغتنموا الفرصة باشتغال توما ورجاله بالقصر والولادة.
فقال أبو عبيدة: «وانكلاه حقرت والله ونقض عهدى». وجعل يقسم على المسلمين أن لا يمدوا أيديهم نحو الطريق الذي جاء هو منه حتى يرى ما يتفق هو وخالد عليه فسكتوا عن النهب واجتمع رجال المسلمين هناك وتراضوا في الأمر فتم الرأي على القبول بالصلح على أن يخرج توما وهريس (وهو وال على نصف الشام من قبل توما) وفيما هم في الجدال جاء توما وهريس وذكرا أبا عبيدة بالعهد وقالا: «إذا أبيتم صلحنا فإننا نخرج من المدينة ونكون في ذمتكم نحن وأهلنا وأموالنا» وبعد جدال طويل قبل خالد بذلك.
فأخذ توما يتأهل للخروج وكان حماد في جملة الوقوف يسمع ما دار من الحديث فلما علم بخروج توما على هذه الصورة ارتبك في أمره وعلم أنه لن يرجو منه نفعا ولكنه عول على دخول الكنيسة ومقابلة هند فاستأذن عبد الله فقال: «هلم ندخل معا».
وتركا الناس في تزاحمهم وعرجا نحو الكنيسة فإذا هي مقفلة فالتمسا مفتاحها فظن البواب أنهما يريدان بها أذية فذكرهما بالعهد فقالا إننا لا نريد أمرا غير الزيارة ونحن مسيحيون مثلكم ففتح لهما الباب فسأل حماد عن قيم الكنيسة فتقدم إليه قسيس شيخ وكان مختبئا في الهيكل وهو يخاف الفتك فلما رأى الرجلين يرسمان علامة الصليب اطمأن باله فسألهما عن مرادهما فتقدم إليه حماد وقبل يده وقال: «هل يقيم في هذه الكنيسة أحد من الغرباء». قال القسيس: «لم تجر العادة أن يقيم الناس في الكنائس».
قال: «وإنما أريد هل يقيم أحد في بعض الغرف التابعة للكنيسة».
قال: «لا يا سيدي ولكن أهل ملك غسان وكلهم من النساء كن مقيمات عندنا ومعهم الخدم ولكنهم خرجوا جميعا منذ بضعة أسابيع».
فاضطرب قلب حماد وقال وقد ظهرت البغتة على وجهه: «وإلى أين خرجوا».
قال: «لا أدري ولكن رجالا جاؤوا من قبل الأمير جبلة أقاموا هنا ساعات قليلة ثم خرجوا جميعا». فوقف حماد برهة صامتا وقد نسي موقفه وغلب عليه اليأس وجعل يفكر في ماذا عسى أن يكون سبب رجوعهم. فأعاد السؤال وأوضحه فلم يفهم شيئا آخر.
فقال: «وهل تذكر أنهم خرجوا من هذا المكان قبل حصار المدينة أو بعده».
قال: «أظنهم خرجوا قبل الحصار».
فبغت حماد وقد اسقط بيده ونظر إلى عبد الله كأنه يستطلع رأيه فقال عبد الله: «أظن الملك جبلة أنفذ في طلبهم لما سمع بقرب الحصار فساروا إليه».
فتعاظم اليأس على حماد وفكر في الأمر يسيرا فلاح له أن هندا لا تخرج على هذه الصورة ما لم تترك له خبرا أو إشارة وخصوصا بعد أن كتبت إليه تستعجل قدومه إليها فقال للقسيس: إلا ترشدنا إلى المنزل الذي كان يقيم به أهل جبلة.
الفصل السابع والثمانون
الاستطلاع
قال القسيس: «سمعا وطاعة» وخرج بهما من بعض أبواب الكنيسة إلى زقاق ضيق لكنه مرصف بحجارة عظيمة شأن أرفة دمشق على اختلاف عرضها واستطرقوا من الزقاق إلى منزل لا يظهر من بابه وسوره أنه يليق بسكنى الملوك على أنهم ما لبثوا أن دخلوا داره حتى تبينت لهم منزلته من الإتقان والزخرفة ولكنهم لم يسمعوا غير خرير الماء في بركة تدلت فوقها أغصان الصفصاف وفاحت رائحة الأزهار لما أحاطوا به جوانب المكان من أغراس الرياحين فوقف حماد وهو يتوقع أن يرى أحدا أو يسمع صوتا فلم يؤانس غير السكوت فمشى إلى باب رآه في صدر الدار ففتحه وصعد في سلم ومعه عبد الله فانتهى إلى رواق مشى فيه فأطل من نافذة مفتوحة تطل على غرفة مقفلة الأبواب فتطاول بعنقه يستطلع ما فيها فرأى شبحا منزويا في بعض جوانبها عليه لباس النساء فناداها فصاحت وصوتها يرتجف قائلة: «ليس في هذا المكان أحد من الرجال فإذا كنتم تريدون النهب فأشفقوا على النساء».
فاختلج قلب حماد لما سمع ذلك الصوت وتنسم منه شخصا يعرفه فقال: «لا تخافي يا خالة فما نحن من الأعداء ولا نريد بك شرا وإنما نحن نسأل عن أهل ملك غسان».
فلما سمعت المرأة صوت حماد دنت من النافذة وتفرست فيه فعرف أنها خادمة هند التي حملت إليه الكتاب في دير بحيراء وأما هي فحالما عرفته قالت: «ألعلك سيدي حماد فقد كدت ألقي حتفي في انتظارك».
فقال: «افتحي الباب ولا تخافي وأخبريني خبرك».
ففتحت الباب وهمت بيده فقبلتها وقالت والبغتة لا تزال ظاهرة على وجهها وقد امتقع لونها: «لقد خرج أهل الملك من دمشق منذ أسابيع وتركوني هنا في انتظار قدومك لأطلعك على خبرهم فطال غيابك حتى يئست من لقياك ثم حوصرت المدينة ووقع ما وقع فيها من القتل والنهب . ولما سمعت وقع أقدامكم الآن حسبتكم من العرب الفاتحين فخفت واختبأت في هذه الغرفة فنشكر الله على ما حصل».
فقال حماد: «أخبريني يا خالة أين سيدتك هند؟»
قالت: «لقد خرجت من دمشق مع والدتها وسائر الخدم بأمر والدها قبل الحصار».
قال: «وأين هي الآن؟»
قالت: «أظنها في بيت المقدس لأن سيدي الملك بعد أن أنفذ إليها أن تتأهب للاقتران بالأمير ثعلبة عاد فكتب إلى سيدتي سعدى أن تأتي سريعا إلى بيت المقدس لأنها أبعد عن الخطر من دمشق والظاهر أنه سمع بعزم العرب على حصارها. فشق ذلك على سيدتي وخافت أن تأتي أنت ولا تعلم بمصيرنا فاستبقتني هنا لأقص عليك الخبر».
فنظر حماد إلى عبد الله وقال: «ما الرأي يا أمير».
فقال: «لا حيلة في الواقع يا مولاي فان مقامنا في دمشق لا يجدينا نفعا وأرى أن نغتنم أول فرصة للخروج إلى بيت المقدس».
فالتفت حماد إلى المرأة وقال لها: «وأنت ماذا تفعلين؟»
قالت: «إذا بقيت حية سأذهب إلى بيت المقدس».
قال: «إن الحرب قد انقضت وتم الصلح فلا بأس عليك ولكنني لا أظنك تستطيعين الذهاب وحدك وأنت امرأة».
قالت: «إنما أستطيع ذلك لأني امرأة لأن هؤلاء العرب شديدو المحافظة على الأعراض فإذا لقيني أحد منهم كان لي عونا في ايصالي إلى حيث أريد».
فقال: «أوصيك إذا أتيت بيت المقدس وكانت هند لا تزال هناك أن تقريها مني السلام وتخبريها إني قادم إليها على عجل إن شاء الله».
قال ذلك وتحول مسرعا وعبد الله معه ثم قال: «علينا بالإسراع إلى بيت المقدس».
قال عبد الله: «علينا قبل الذهاب أن نحمل أمتعتنا فأنها في معسكر أبي عبيدة».
قال: «لابد لنا من الانتظار ريثما يهدأ البال وتسكن الأحوال فنودع أبا عبيدة ونشكره على حسن وفادته وننصرف ولعله يصحبنا بمن يدفع عنا خطر الطريق».
فخرجا من المنزل فلقيا القسيس فودعاه وخرجا إلى الشارع وكان الناس قد استأمنوا وهدأت الأحوال فسارا توا إلى قصر الحاكم فرأيا المسلمين قد تخللوه ووضعوا أيديهم على ما فيه وأهل توما يحملون الأحمال ويخرجون مهرولين وفيهم النساء والرجال فأسفا لما انتهت إليه حال هؤلاء وتذكر حماد أنفة توما يوم لقيه في ذلك القصر فاعتبر وتأمل.
وقضيا بقية ذلك اليوم والناس في هرج بين مهاجر ومستسلم ولم يستطيعا مقابلة أبي عبيدة ليخاطباه بشأن الذهاب.
وفي اليوم التالي دخلا عليه فإذا هو قد ازداد رفعة بعز النصر وكان جالسا يملي على كاتبه وهو يكتب إلى الإمام عمر بخبر الفتح فتنحيا حتى انتهى من الكتاب فدخلا عليه فرحب بهما وبش لهما وخاطب حمادا قائلا: «انك خدمت هذه المدينة خدمة تستوجب الثناء عليها لأنك كنت الواسطة في حجب الدماء».
فخجل حماد لذلك الإطراء وقال: «إني لم أفعل شيئا أستوجب عليه ثناء وإن ما حصل من الصلح إنما كان من رغبة الأمير في السلام». ثم هم حماد أن يذكر له عزمه على الخروج إلى بيت المقدس ولكنه لم ير سبيلا إلى ذلك فصمت فأدرك عبد الله ذلك فيه فخاطب أبا عبيدة قائلا: لقد أتينا يا مولاي نهنئك بالفتح الذي تم على يدك ونستأذنك بالانصراف.
فقال أبو عبيدة: «وإلى أين تنصرفون».
قال: «إن لنا في بيت المقدس أهلا نريد النزوع إليهم».
ففكر أبو عبيدة مدة ثم قال: «لم يأن زمن الانصراف بعد فالبثوا في ضيافتنا أياما نحسن وفادتكم بعدما عانيتم معنا في زمن الحرب ثم تنصرفون ومعكم رجال منا حتى تبلغوا مأمنكم».
فلم يتجرأ عبد الله على مراجعة أبي عبيدة ولبث صامتا على نية العود إلى الاستئذان في فرصة أخرى ولكنه استأذنه في الخروج إلى المعسكر ليستولي على الأمتعة.
فقال أبو عبيدة: «إن أمتعكم وخيولكم في مأمن مع أمتعتنا في المعسكر ونحن خارجون إليها لأننا لا نحب الإقامة في القصور خوفا من الانغماس في الترف».
الفصل الثامن والثمانون
مهمة خطرة
وفي الغد خرج الجميع إلى المعسكر وقد اقتسموا الغنائم ونزل كل في خيمته وكان عبد الله يتوقع عود الدليل من مهمته التي سار فيها إلى بصرى فلم يعد فعلم أنه إنما رغب في الذهاب فرارا من غائلة ذلك الحصار فلبثا وهما قلقان على سلمان وهند فحاولا مخاطبة أبي عبيدة مرة ثانية في المسير إلى بيت المقدس فلم يملكا فرصة لانشغاله في تسيير الجند لفتح سواحل الشام وغيرها من البلاد. فصبرا ريثما تسنح الفرصة فمضت أيام وهما على ذلك حتى أصبحا ذات يوم وهما على مثل الجمل في انتظار الخروج إلى بيت المقدس يتوقعان حيلة يخرجان بها فرأيا بعض الجند في هرج ومسارعة فخرجا فإذا هما بهجان قد دخل المعسكر وعليه غبار الأسفار فعرفا أنه رسول من الإمام عمر إلى أبي عبيدة ثم رأياه ترجل ودخل فسطاطه فلبثا ينتظران ما جاء به.
وبعد هنيهة خرج الرسول وجاء بعض القائمين في خدمة أبي عبيدة والتمسوا من عبد الله وحماد الذهاب إلى فسطاط الأمير حالا. فأوجسا خيفة لئلا يكون في تلك الدعوة ما يدعو إلى التأجيل.
فلما دخلا رأيا أبا عبيدة في صدر الفسطاط والى جانبه خالد بن الوليد وعمرو ابن العاص وغيرهما من الأمراء فحياهم فأمر لهما بالجلوس.
ثم قال لهما مخاطبا عبد الله: «لقد أنبأني أخي (وأشار إلى خالد) أنكم من أهل العراق ولم أكن أجهل ذلك ولكنني علمت منه أنكم من أمراء العراق العارفين بأحوال تلك البلاد وقد شاهدنا من إخلاصكم في خدمتنا ما دعانا إلى تكليفكم أمرا تستوجبون عليه الأجر والثواب».
فازداد عبد الله خوفا من تلك الدعوة ولكنه تظاهر بالارتياح وقال: «إننا في خدمة الأمير طوع إرادته».
فقال: «لقد جاءنا رسول مولانا أمير المؤمنين الآن يدعونا إلى نصرة إخواننا في العراق وان ننفذ إليهم جندا ممن خبروا تلك الأرض فأريد أن تسيرا مع تلك النجدة وفي ذهابكما خير لكما وخدمة لجند الجهاد».
فقال عبد الله: «إن أمر مولاي الأمير مطاع ولو أنفذني إلى حيث أراد لفعلت ولكنني خرجت من العراق منذ أعوام ولا أدري ما طرأ عليها من التغيير والتبديل فأخشى أن لا يكون في ذهابي فائدة لكم وزد على ذلك أننا مشتغلو البال على بعض أهلنا في بيت المقدس».
وكان خالد مصغيا لما يبدو من عبد الله وكان يتوقع ذلك الجواب منه فقال له : «لقد سمعت من خادمك سلمان يوم صلح الحيرة أنك صاحب عقار وكلمة نافذة وقد حمينا لك مالك وأهلك في ذلك الصلح فكيف تعتذر عن الذهاب». قال خالد ذلك وعلامات الغضب تكاد تظهر على وجهه فخاف عبد الله عاقبة اعتذاره فابتدره قائلا: «إني لا أعتذر عن الذهاب فإن ذلك فرض علي ولكنني أود أن أتفقد الذين في بيت المقدس أيضا».
فقال أبو عبيدة: «فليذهب ابنك حماد إلى بيت المقدس ونحن نصحبه بمن يوصله إليها وسر أنت إلى العراق وكن واثقا إننا نحافظ على أهلك وولدك محافظتنا على أهلنا لأنك في ذمتنا واعلم أن سفرك إلى العراق لا يطول لأن الفتح قريب إن شاء الله».
فأذعن عبد الله صاغرا لعلمه أن تردده ربما هاج غضب خالد لما يعلم من شدته وتسارعه.
أما حماد فشق عليه فراق عبد الله ولكنه تأسى بقرب مشاهدة هند.
فقال عبد الله: «هل يأمر مولاي بتسيير ولدي هذا قبل خروجي».
قال: «نعم سنسيره في الغد وأما أنت فلا بد من بقائك بضعة أيام ريثما يتأهب الجند للذهاب».
ثم خرج عبد الله وحماد إلى الخيمة لا يلويان على شيء وباتا تلك الليلة لا حديث لهم إلا حديث ذلك الفراق وفكرا طويلا في الفرار ولكنهما خافا العاقبة فضلا عما حسباه من تجسس العيون وما قد تكون عاقبة الفرار لو قبض عليهما. ولو كان حديثهما مع أبي عبيدة لهان التخلص لما يعلمانه من سهولة أخلاقه أما خالد فأنه سريع الانتقام.
وفي الغد ركب حماد وودع عبد الله وتواعدا على اللقاء في بيت المقدس وإذا اضطر حماد للخروج قبل مجيء عبد الله فليترك له خبرا في كنيسة القيامة هناك. ثم سار حماد إلى أبي عبيدة فودعه فقال أبو عبيدة وهو يتبسم: «سر بحراسة المولى ونرجو أن نلاقيك قريبا في بيت المقدس وقد نحتاج إلى خدمتك هناك مثل حاجتنا إليها في دمشق». فأدرك حماد أنه يشير إلى قرب ذهابهم لحصارها فتجاهل ولم يجب فأمر أبو عبيدة ببعض الرجال يسيرون معه لحمايته أثناء الطريق فسار وعينا عبد الله تراعيان حتى توارى.
أما هو فلما ابتعد عن دمشق تذكر هندا وحالما وخيل له أنها تزوجت بثعلبة فارتعدت فرائصه ولكنه قال في نفسه (أنها لو كانت تقبل به لما أنفذت في طلبي إلى دمشق ثم استبقت خادمتها لاستقدامي إلى بيت المقدس) ثم فكر في طول مدة غيابه فخيل له أنها يئست من قدومه فاضطرت لمجاراة والدها والقبول بثعلبة فقضى معظم الطريق في مثل هذه الهواجس.
الفصل التاسع والثمانون
خيبة المسعى
وصل حماد بيت المقدس فنزل في دير بالقرب من كنيسة القيامة حتى إذا استراح قليلا خرج للبحث عن هند في دير القيامة نفسه فأخذ يفتش ويستطلع لعله يتنسم خبرا فلم ير أحدا يعرف جبلة ولا أهله ولم يكن حديث القوم إلا الحرب وعواقبها وكلهم خائفون مما سمعوه عن سقوط دمشق فقال في نفسه (لأذهبن إلى قيم ذلك الدير لعله ينبئنا نبأ) وكان يونانيا فسار إليه فقال له القيم: «أن أهل الملك جبلة نزلوا هنا أياما ولكنهم سافروا منذ أسبوع».
فأجفل حماد وقال: «هل سافروا جميعا نساء ورجالا؟»
قال: «لقد كان النساء فقط عندنا ولكن رجالهم أتوا منذ أسبوع وأقاموا هنا ساعات قليلة ثم أقلعوا جميعا إلى حيث لا يعلم أحد».
فقال حماد: «ألم يتركوا شيئا من أمتعهم هنا». قال: «تركوا منها ما لا قيمة له من ثقيل الأحمال هبة للدير ولم يأخذوا إلا ما خف حمله وغلا ثمنه».
فبهت حماد لذلك الخبر وقال في نفسه (وهل ثعلبة معهم) ثم لم ير بدا من إعادة السؤال فالتفت إلى القيم وقال له: «أتقدم إليك أن تعيرني سمعك ولا يثقل عليك سؤالي لأن هؤلاء القوم يهمني أمرهم وقد كنت في دمشق أقاسي عذاب الحصار فلما تم صلحها أتيت لأفتش عنهم فهل عرفت أشخاصهم جيدا».
فاهتم القيم لحديث حماد عن حصار دمشق وكان شديد الرغبة في سماعه.
فقال له: «وهل عاينت الحصار بنفسك ورأيت جند العرب رأي العين ».
قال: «نعم رأيتهم واختلطت بهم وسمعت أحاديثهم».
قال: «ألا قصصت علي حديث الحصار».
فاضطر حماد أن يقص عليه الخبر مختصرا استجلابا لرضاه لعله يصبر على أسئلته فلما انقضى الحديث امتقع لون القيم وهو راهب طاعن في السن فقال: «وما ظنك بهم هل يأتون إلينا».
قال: «أظنهم يأتون إذا لم يجدد الإمبراطور هرقل الهمة في التجنيد والترميم فان هؤلاء العرب أشداء صبورون على القتال ولكن الله يحمي عباده». فاخبرني الآن عما تعرفه من أمر أهل الملك جبلة.
قال: «أما وقد أفصحت لي عن رأيك بعد أن خبرت الأمور فأخبرك يا ولدي إن سقوط دمشق أوقع الرعب في قلوب رجالنا فأصبح كل منهم خائفا لا يأمن على نفسه ولا أهله وكذلك جبلة فأنه أسكن أهله في هذا الدير وفي عزمه أن يعقد لابنته الوحيدة على ابن عمها ... فهل بينك وبينهم قرابة».
قال: «ليست بيننا قرابة ولكن لي مع الأمير جبلة شغلا هاما» قال ذلك وهو ينتظر بقية الخبر ليرى ماذا تم من أمر الاقتران.
فقال الراهب: «ولكنني لحظت من الفتاة نفورا شديدا من ابن عمها هذا وكان والدها قد كلفني بإقناعها».
فثارت الغيرة في قلب حماد وأصبح كله آذانا ليسمع نهاية الحديث فقال: «وهل اقتنعت؟»
قال: «كلا يا ولدي لأنها كانت شديدة النفور وكنت إذا سألتها أجابتني والدموع ملء عينيها تعتذر ووالدتها لا تلومها».
ولم يتم الراهب كلامه حتى تناثر الدمع من عيني حماد فتشاغل بإصلاح كوفيته إخفاء لعواطفه وقال: «لقد همني أمر هذه الفتاة وارى من الظلم أن تجبروها على الاقتران برجل لا تريده».
قال الراهب: «لقد صدقت يا ولدي فان العناية الصمدانية حلت هذا المشكل على أهون سبيل».
فقال حماد: «وكيف ذلك».
قال الراهب: «إن ابن عمها المشار إليه قتل في بعض المواقع الأخيرة».
فأجفل حماد إجفال البغتة وقال: «هل تيقنت ذلك يا مولاي لعل الذي قتل هو غير الخاطب».
قال: «بل تحققت أنه هو لأني سمعتهم يتحدثون بحكايته وكأنهم يهنئون هندا بذلك».
فقال حماد: «إلا تذكر اسمه».
قال: «أذكر أن اسمه ثعلبة».
فأيقن حماد بنجاته من ذلك المناظر ولكنه ما زال في ريب من مقر هند ووالدها فقال: «وماذا فعلوا بعد ذلك».
قال الراهب: «وبقي أهل جبلة عندنا بعد ذلك أياما حتى شاع سقوط دمشق ونصرة المسلمين فوقع الرعب في قلوب الناس وجاء جبلة ومعه بعض الحاشية من رجاله فأسرعوا في حمل أمتعتهم مما خف حمله وغلا ثمنه وخرجوا خروج الهاربين من الموت ولا أدري إلى أين».
فوقف حماد صامتا وقد تحير في أمره لا يدرى ماذا يعمل فشعر بافتقاره إلى عبد الله وسلمان وهو بعيد عنهما فأظلمت الدنيا في عينيه وضاق صدره فنهض للحال فودع الراهب وانصرف إلى حجرته وهو غارق في لجج الهواجس لا يفقه جهة مسيره.
الفصل التسعون
سلمان
وكان حماد في أثناء مسيره إلى الدير تائها في بحار الهواجس يفكر تارة في هند وطورا في سلمان وآونة في عبد الله حتى عظم عليه الأمر وخيل له أن المسالك سدت دونه فضلا عما كان يعترض سبيله من أحوال الحرب وقد أصبح أهل الشام في هرج على أثر سقوط دمشق وأخذوا في المهاجرة زرافات ووحدانا إلى مصر أو بلاد الروم أو غيرهما.
فوصل الدير وهو لا يدري أنه وصل حتى إذا كان على مقربة من غرفته رأى عند بابها رجلا كان جالسا ثم هم مسرعا لملاقاته وحالما وقع نظره عليه علم أنه سلمان فناداه باسمه فترامى سلمان على يده يقبلها ويشكر الله على لقياه فقال حماد: «أهلا بك أيها الصديق لقد أطلت الغياب علينا فأذقتنا من الوحشة ما لم يبق لنا صبرا عليه».
فخجل سلمان لذلك الإطراء وقال: «لقد غمرتني أيها الملك بفضلك فدعوتني صديقا لك وما أنا إلا من بعض خدمك».
فلما سمع حماد لفظ الملك تبدلت له حالته وتذكر حكاية النذر والانتقام وما شغله عن ذلك من شواغل الغرام وما انتهت إليه حاله من اليأس حتى كأن الأيام قد كتبت عليه الشقاء فلا يكاد يقترب من نصيبه حتى يفاجئه عارض يحول دون مرامه وأفضت به الحوادث إلى ضياع كل آماله بفرار جبلة وأهله إلى حيث لا يدرى أحد. ولكن ظلمات تلك المخاوف كان يتخللها بعض النور مما يتوقعه من مساعدة سلمان ومشورته فزاد استئناسه به ولما رآه ينكر عليه ذلك الإطراء مال إليه وصافحه وقال له: «لا بل انك صديق وأعز من الصديق وما نحن في معرض الأنساب وإنما يفضل أحدنا الآخر بما طمع عليه من مكارم الأخلاق والشهامة وصدق المودة ولقد رأيت فيك من ذلك ما يعز مثاله».
فأطرق سلمان خجلا ومشيا حتى دخلا الحجرة وكل منهما يتوقع سماع حديث الآخر فلما استتب بهما المقام قال حماد: «أين كان مقامك كل هذه المدة وما الذي جاء بك إلى هنا حتى التقينا على هذه الصورة».
قال سلمان: «إن لقاءنا يا سيدي لم يكن على سبيل الصدفة ولكنني قطعت القفار وأطلت البحث حتى علمت بمقرك وجئت على ما ترى. وقبل سرد حديثي الطويل أبشرك بموت ثعلبة».
فتنهد حماد وقال: «لقد عرفت ذلك يا سلمان ولكنه جاءنا متأخرا وقد كادت تنقطع منا الآمال».
فقال سلمان: «وكيف ذلك؟»
قال: «لأني سمعت بمقتل ثعلبة وفرار جبلة في وقت واحد في هذا اليوم».
قال سلمان: «وأي فرار؟»
قال: «لقد تحققت فرار الأمير جبلة من بيت المقدس بأهله إلى حيث لا يعلم أحد» وقص عليه مختصر الحديث من يوم مجيئه إلى دمشق وسقوطها وسماعه بمقام هند في بيت المقدس وما سمعه من قيم الدير.
وكان سلمان شاخصا ببصره مصيخا بسمعه حتى أتى على آخر الحديث فامتقع لونه وظهرت عليه مظاهر الأسف والفشل ولبث صامتا كأنه أصيب بصدمة وكاد الدمع يتناثر من عينيه ثم تنهد وقال: «ألم تعلم إلى أين سافر جبلة يا سيدي».
قال: «كلا ولولا ذلك لهان الأمر».
قال سلمان: «لا تيأس يا مولاي إني غير تارك وسيلة لا أستخدمها في سبيل البحث عنه ويكفينا الآن أننا تخلصنا من ثعلبة».
فقال حماد: «وكيف عرفت بمقتله ومن هداك إلى مكاني؟»
قال: «ستعلم ذلك من سياق حديثي عن سبب تغيبي عنك».
قال : «أقصص علينا خبرك».
قال: «تركتكم في بصرى وجئت اليرموك فشهدت حربها وكان الأمير جبلة في جملة المحاربين فلما عقد لواء النصر للمسلمين وقد علمت أن هندا في دمشق هممت بالمسير إليكم ثم حدثتني نفسي أن أستطلع مقاصد جبلة وكان قد فر إلى حمص برجاله وفيهم ثعلبة فما التقيت بهم حتى أمروا بالمسير لملاقاة المسلمين في اجنادين فسرت إليها وشهدت موقعة هائلة وقعت بين الروم والعرب هناك تشيب لهولها الولدان وفي تلك الواقعة قتل ثعلبة وفشل جند الروم وفر الغساسنة. وكنت قد سمعت بحصار دمشق فآن لي أن أسير إليكم بالخبر فأسرعت إلى بصرى فلم أجد أحدا منكم فظننت الراهب الشيخ ينبئني بخبركم فسرت إليه فإذا هو قد مات فأسفت لوفاته لعلمي أنه لو كان حيا لهداني إلى مقركم فمكثت في بصرى مدة أبحث عنكم وأسأل كل من عرفته فلم يرشدني مرشد فظننت أنكم في دمشق ولكنني استبعدت ذلك لما علمت من حصارها ثم ما لبثت أن سمعت بسقوطها فهممت بالمسير إليها لعلي أرى أحدا أستطلع منه خبركم وفيما أنا أهتم بذلك رأيت جندا من المسلمين قادما إلى بصرى فقلت لعلي أتنسم منه خبرا فلقيت أميره مالك بن الحارث بن هشام وقد وجهه أبو عبيدة أميرا على حوران بعد سقوط دمشق وكان الحارث بن هشام والد الأمير مالك قد جاء مع أبي عبيدة أميرا في بنى مخزوم لحصار دمشق فقتل في بعض الوقائع فلما سقطت دمشق تعين ابنه مالك أميرا على حوران لينجد الجند الذي يقوم من الحجاز مددا لأبي عبيدة في حروبه بالشام.
فلما وصل هذا الجند إلى بصرى تمكنت بطرق مختلفة من الاجتماع بالأمير مالك فأخبرني عما كان من نزولكم على أبي عبيدة في الجابية والمهمة التي أنفذك بها هذا الأمير إلى حاكم دمشق إلى أن أنبأني بخروجك إلى بيت المقدس وخروج الأمير عبد الله إلى العراق فهرولت حتى أتيت هذه المدينة وما زلت أبحث عن مقرك حتى علمت اليوم أنك مقيم في هذا الدير وانك خرجت منذ الصباح فأقمت هنا في انتظارك حتى أتيت فأحمد الله على سلامتك وأرجو أن نلتقي بسيدي الأمير عبد الله قريبا».
فقال حماد: «لقد نفد الصبر يا سلمان واحتملت من غدر الزمان ما تعلم وأراني قد مللت هذه الحياة المحفوفة بالمكارة الممزوجة بالمشاق ويخال لي أن الله لم يكتب لي نصيبا بهند مع ما تعلمه من تعاقد قلبينا». قال ذلك وترقرقت الدموع في عينيه. فثارت الحمية في رأس سلمان حتى كاد يتقد غيرة ونظر إلى حماد وقال: «دع ذلك إلي يا مولاي واتكل على الله وإذا كانت لك على أبي عبيدة دالة فلنذهب إليه لعلنا نستطلع منه خبرا».
فقال حماد: «إن لي عليه دالة عظمى ولقد أصبح بعد ما تم على يدي من صلح الشام كثير الوثوق بى حتى أشار يوم قدومي إلى بيت المقدس إلى أنه ربما يحتاج إلي فيها مثل حاجته في دمشق فلا أظنني إذا استعنته في البحث عن جبلة إلا فاعلا ما أريد».
قال سلمان: «وأين هو الآن؟»
قال: «تركته في دمشق يبعث البعوث لفتح ما بقي من بلاد الشام».
قال: «إذا أذنت أن نذهب إليه غدا فعلنا».
قال: «حسنا».
فقال سلمان والاهتمام ظاهر على وجهه: «أتقدم إليك يا مولاي في أمر أرجو أن تطيعني فيه».
قال: «وما هو».
قال: «أرجو إذا نحن ظفرنا بجبلة هذه المرة ورأينا منه ترددا أو سمعنا منه وعودا أن لا نضيع الوقت في الانتظار والمماطلة عبثا».
قال حماد: «وما معنى ذلك».
قال: «معنى ذلك يا سيدي أن تأخذ هندا من بين يديه أراد هو أو لم يرد».
فضحك حماد وكان قد قضى زمنا لا يضحك وقال: «سنرى في ذلك يا سلمان».
وقضيا بقية ذلك اليوم في الأحاديث المتنوعة وباتا على نية الاهتمام في الركوب إلى دمشق في الصباح.
الفصل الحادي والتسعون
حصار بيت المقدس
ولما أصبحا أخذا يهتمان في الخروج وكان ذلك اليوم من الآحاد فقال حماد: «هلم بنا ندخل كنيسة القيامة نتبرك بسماع الصلاة قبل ذهابنا» فخرجا حتى أتيا الكنيسة فرأيا جماهير الناس في صحنها ينتظرون قدوم البطريرك لإقامة الصلاة فوقفا بينهم فلم يسمعا من أحاديثهم إلا ما يتوقعونه من قدوم العرب لفتح بيت المقدس ثم ماج الناس وتزاحموا يسابق بعضهم بعضا فعلما أن البطريرك قادم ولم تمض برهة حتى أطل بموكبه يتوكأ على عكازه يحف به الأساقفة والقسيسون وقد أوقدت الشموع وفتح الناس طريقا في وسطهم مر بها البطريرك وهم يتبركون بلمس ردائه حتى دخل الكنيسة فتبعوه حتى وقف عند الهيكل فبدل ثيابه بما يلبسه البطاركة أثناء الصلاة وعلى رأسه تاج مرصع بالحجارة الكريمة وعلى كتفه قباء مزركش بالذهب والفضة وفي عنقه صليب مرصع يتدلى على صدره بسلسلة من الذهب وقد أوقدت الشموع وأحرق البخور وعلت أصوات المرنمين والمصلين. ثم وقف البطريرك على عرشه وهو كرسي من العاج مزين بالفسيفساء الجميلة والتفت نحو الجماهير فعلموا أنه يهم بالكلام فأصغوا إليه فقال بعد البركة:
اعلموا معاشر النصرانية أن رجال العرب الحجازيين الذين قد سمعتم بقدومهم هذه البلاد واستيلائهم على بصرى ودمشق قد استفحل أمرهم حتى فتحوا حلب وحمص وبعلبك وقيسارية وقنسرين وإنطاكية وغيرها وقد بلغني في هذا الصباح أنهم قادمون إلى هذه المدينة المقدسة بجند كبير. وقد بلغكم على ما أظن خروج مولانا الإمبراطور هرقل من بلاد الشام إلى القسطنطينية لأحوال اقتضت ذلك وقد فوض إلينا التصرف في أمر هذه الحرب بالتي هي أحسن ففاوضنا حاكم هذه المدينة فرأينا من الحكمة أن لا ندع لأولئك العرب سبيلا لتخريب شيء من أبنيتها المقدسة فإن فيها كنوز النصرانية بل ندافعهم بالأمر الممكن فإذا رأينا خطرا في مقاومتهم عقدنا معهم صلحا نحفظ به الأرواح والأموال ونستبقي كرامتنا لا كما فعل أهل دمشق. فما علينا إلا أن نصلي إلى الله أن يؤيدنا بالنصر في الدفاع عن قبر ابنه المخلص وهذه حصوننا متينة وعندنا العدة والرجال فانبذوا الشقاق وأطيعوا أولي الأمر واعلموا أن الله لم يمكن هؤلاء العرب من بلادنا إلا لما أردناه من الانغماس في دنيانا والانشغال عن طاعة الله بالشقاق والانقسام فلتجتمع قلوبكم ولندافع جهد طاقتنا والله يفعل ما يشاء.
فلما انتهى البطريرك من خطابه ضج الناس وهم بين مصوب ومخطئ أما حماد فلما انقضت الصلاة خرج وهو يقول لسلمان لم تعد ثمت حاجة بنا إلى دمشق فإننا لا نلبث أن نرى أبا عبيدة هنا ويلوح لي أنني سأخدمه في هذه المدينة خدمة أعظم شأنا من خدمتي في دمشق لأن أهلها على ما يظهر أقرب إلى الصلح من الدمشقيين. وسارا إلى مرتفع من المدينة يطل على ضواحيها وقضيا بقية ذلك اليوم يتشوفان لعلهما يريان جند العرب قادمين وأهل المدينة يتأهبون للدفاع وفي صباح اليوم التالي رأيا الغبار يتصاعد في الأفق وبانت من تحته أعلام المسلمين وفي مقدمتها راية العقاب فعلم حماد أنهم رجال خالد بن الوليد وفي اليوم التالي جاءت فرقة أخرى نزلت في جانب آخر من المدينة ومازالوا يرون كل يوم فرقة تأتي بأعلامها وخيامها وتنزل في ناحية من المدينة حتى صارت عدة الفرق سبعا كل واحدة منها خمسة آلاف وجملة الجند 35 ألفا عليهم سبعة قواد عرف حماد بعد ذلك أنهم خالد بن الوليد وشرحبيل والمرقال ويزيد والمسبب وقيس المرادي وعروة بن مهلهل فلما تحقق حماد وسلمان انحصار المدينة على هذه الصورة جعلا يبحثان عن أبي عبيدة لعله جاء معهم فلم يريا رايته هناك ولكن حمادا كان يظن أن لا بد من حضوره فتح تلك المدينة.
وقضيا أياما يترددان بين أسوار بيت المقدس والدير يستطلعان مقاصد الروم فرأيا الخوف مستوليا على الخاصة أما العامة فكانوا لا يزالون مصرين على الدفاع فرموا المسلمين بالنشاب عن الأسوار فأجابهم المسلمون بمثلها ومضت أيام والحرب سجال بين الجانبين حتى مل حماد الانتظار وعول على الخروج إلى الشام لملاقاة أبى عبيدة وسؤاله عن جبلة فقال له سلمان: أن الطريق لا يخلو من الخطر يا مولاي وأخشى إذا خرجنا من المدينة أن يستغشنا أهلها فيريدوا بنا سوءا وإلا فليكن خروجنا بحيلة فتربصا بضعة أيام وهم في كل يوم يقفان في مشارف المدينة يطلان على ما وراء الأسوار من السهول والمسالك فرأيا يوما جيشا جديدا قادما من جهة دمشق عرفا أنه جند أبي عبيدة وفيهم رايته فاستبشر حماد وقال: «قد آن الوقت يا سلمان فلنسع في سبيل إلى الخروج فما الرأي».
قال: «الرأي أن نحرض حاكم المدينة على مخابرة العرب بشأن الصلح فلعله أن يأذن بخروجنا أو يخرج أحدنا للمخابرة».
قال حماد: «ومن يوصلنا إليه وأنا لا أعرفه وهو لا يعرفنا ولا يثق بنا».
قال سلمان: «دع ذلك إلي فإني أدبره بإذن الله». وأطلعه على ما ينوي إجراءه.
الفصل الثاني والتسعون
صلح بيت المقدس
ورجعا إلى الدير ولبس سلمان أحسن لباس عنده وسار يلتمس الحاكم فقيل له أنه عند البطريرك في الكنيسة فسار إليه فرأى الخدم والحاشية وقوفا أمام غرفة الاستقبال لا يأذنون لأحد بالدخول فتقدم إلى كبيرهم وقال له: «إني آت بمهمة ذات بال إلى حضرة الحاكم فاستأذنه بالدخول عليه». فاستأذنه فأذن له فدخل سلمان فإذا هو في غرفة قد خلا فيها البطريرك والحاكم وعلى وجهيهما دلائل البغتة وكأنهما كانا في جدال فسجد بدخوله أمام البطريرك فقبل يده ثم قبل يدي الحاكم ووقف متأدبا فأذن له بالجلوس فجلس فقال له الحاكم وهو مقطب الوجه: «ما غرضك؟»
قال: «إن غرضي يا مولاي سلامة هذه المدينة من سلاح الأعداء وصيانة قبر السيد المسيح من الاهانة والاحتقار».
قال: «ومن أنت».
قال: «إني تابع لأمير من أمراء العراق كان في جملة من شهد فتح دمشق وتوسط في صلحها بين الروم والعرب ولولا توسطه لأهرقت الدماء وخربت تلك المدينة وله مع أمراء جند المسلمين معرفة ودالة».
فقال الحاكم: «أتريد أن نلتمس الصلح من عند أنفسنا ونحن لم نبد دفاعا بعد».
فقال سلمان: «كلا يا سيدي إنما أنا أعرض عليكم الأمر عرضا ولا غرض لي فيه سوى حجب الدماء».
قال البطريرك: «بورك فيك يا بني ولكننا لا نرضى بما رضي به أهل دمشق فإن بيت المقدس قبر سيدنا ومخلصنا وما تسليمها بالأمر السهل».
فقال سلمان: «إذا أمر مولاي بسماع رأيي لا أظنه إلا راضيا به».
قال : «قل».
قال: «أرى أنكم إذا خابرتم هؤلاء العرب بأمر الصلح أن لا ترضوا بعقده على يد أحد منهم إجلالا لمقام هذه المدينة المقدسة وحفظا لمنزلتكم ولكنكم تطلبون أن يتم ذلك على يد أمير المسلمين الأكبر وهو سلطانهم وخليفتهم ومقامه في يثرب بالحجاز فاطلبوا أن يكون الصلح على يده فإذا رضوا به وأتى الخليفة بنفسه من كرسي ملكه إلى هنا كان في ذلك حفظ لكرامة هذه المدينة وامتيازها عن كل ما فتح من مدن الشام قبلها».
فأمعن البطريرك بفكرته قليلا ثم قال: «أين هو مولاك الأمير؟»
قال: «هو في منزله هنا فإذا أمرتم باستقدامه فعلت».
فأمره باستقدامه فذهب سلمان وقد سر بنجاح مهمته حتى أتى حمادا وكان في انتظاره فلما قص عليه ما دار من الحديث نهض فلبس لباس الأمراء وسار مع سلمان حتى دخل على البطريرك والحاكم فلما رأياه استأنسا بطلعته وما يتجلى في وجهه من المهابة والجلال فأذنا بجلوسه ثم قال البطريرك: «هل تعرف قائد جند هؤلاء العرب؟»
قال: «نعم أعرفه جيدا ولي معه صداقة».
قال: «هل أنبأك تابعك بما استقدمناك بشأنه».
قال: «نعم وهو الأمر الذي أراه أنا أيضا وقد شهدت حرب هؤلاء في دمشق وبصرى وغيرهما ورأيت من ثباتهم وصبرهم ما لا أقول أن الروم يعجزون عن مثله ولكنهم قد يقلقون راحة الناس فتقف حركات الأعمال بلا فائدة وخصوصا بعد أن رسخت أقدامهم في كثير من البلدان وزد على ذلك أن السبيل الذي تطلبون مخابرتهم به يحفظ مقام هذا المدينة وكرامتها إلى الأبد إذ لا يخفى على حضرتكم أن أمير المسلمين المقيم في يثرب رجل عظيم جدا قد أقر بعظمته القريب والبعيد وهو عندهم في أرفع منزلة بعد نبيهم لأنه خليفته والقائم بأمره ولم يسبق أنه قدم هذه البلاد لمثل هذا الشأن فقدومه بنفسه على ما ذكرت امتياز خاص ونظرا لما لي من الصداقة لدى الأمير أبي عبيدة كبير أمراء هذا الجند سأحبب إليه أن يجيب طلبكم ولا أظنه إلا فاعلا».
فالتفت البطريرك إلى الحاكم كأنه يستشيره فقال الحاكم: «لا بأس من ذلك غير إني لا أرضى أن يفهم هؤلاء إننا خائفون أو إننا نطلب الصلح لعجزنا عن القتال».
فابتدره حماد قائلا: «لا تخف يا مولاي فإني إذا خابرتهم إنما أجعل ذلك من عند نفسي على أسلوب ليس عليكم منه بأس غير إني ألتمس أن يصحبني من يخرجني من الأسوار لئلا يستغشني أحد من رجالكم».
فقال الحاكم: «لك علينا ذلك ونحن نطلب أن يبقى تابعك هذا هنا ريثما تعود».
قال: «لا بأس بذلك» وخرج حماد حالا فركب جواده ومعه بعض أهل القصر حتى أوصلوه إلى باب المدينة فخرج إلى معسكر أبي عبيدة فلما رآه أبو عبيدة استقبله باسما ورحب به وقال له: «ألعلك جئت بمهمة أخرى».
قال: «إني لا آلو جهدا يا مولاي في كل ما يأول إلى حجب الدماء».
فقال أبو عبيدة: «هل جنح أهل بيت المقدس إلى السلم».
قال: «نعم يا سيدي أظنهم يريدون الصلح ولكنني فهمت أنهم رفعة لمقام هذه المدينة المقدسة يريدون أن يكون صلحها على يد خليفتكم الإمام عمر بن الخطاب إلا ترى أنه يقدم إليها بنفسه وهي مدينة مقدسة يحترمها كل طوائف الناس».
قال: «لا أظنه إلا قابلا بذلك. وما بعد قبوله».
قال: «إذا أكدت لي قبوله جعلت المخابرة في ذلك رأسا بينكم وبين حاكم المدينة أو بطريركها على مشهد من الناس وإني إنما جئت توطئة للأمر بمهمة خصوصية».
فأثنى أبو عبيدة عليه وقال له: «لقد سعيت سعيا حسنا بورك فيك وإذا تم الصلح وقدم أمير المؤمنين إلى هنا سأقدمك إليه وأذكر له شهامتك».
قال: «إن ذلك شرف كبير أحسبني سعيدا إذا حصلت عليه وأتقدم إلى مولاي الأمير بسؤال أرجو أن لا يثقل عليه».
قال: «قل وما هو».
قال: «أتعرف جبلة بن الايهم أمير الغساسنة الذي كان يحاربكم مع الروم».
قال: «نعم أعرفه وما حديثه».
قال: «إن لي معه أمرا يهمني وكنت أحسبه في بيت المقدس فجئت كما علمت فلم أجده ولا أحدا من أهله وقيل لي أنهم كانوا هناك وخرجوا خروج الفارين لا يعلم أحد بمقرهم فهل يعلم مولاي شيئا عن هؤلاء الغساسنة».
قال أبو عبيدة: «إن الذي أعرفه من أمر هذا الأمير أنه خرج من بلاد الشام جملة هو وأهله وقد بعثت العيون عليه فإذا عرفت مقره أنبأتك به أو ربما سمعت بقتله بسيفنا إلا إذا سلم صاغرا».
قال: «وكيف تقتلونه وهو إنما يحارب بسيف مولاه الإمبراطور ولعله إذا خير لا يختار غير التسليم».
قال: «أما إذا سلم فهو في ذمتنا له ما لنا وعليه ما علينا وإلا فإن السيف بيننا وبينه وأخشى مع ذلك أن يكون قد قتل في بعض الأماكن ولم يعلم به أحد».
فاضطرب قلب حماد وخاف أن يفتك الحجازيون بجبلة وأهله إذا التقوا بهم في مكان فوقع في حيرة ونظر إلى أبي عبيدة وهو يهم أن يخاطبه في الأمر ويوقفه الحذر.
فلحظ أبو عبيدة ذلك فيه فقال: «ما لي أراك تحاذر أن تخاطبني فهل يسوءك قتل جبلة».
قال: «نعم يسوءني يا سيدي».
قال: «وهل بينكما قرابة».
قال وقد تلجلج في الجواب: «نعم بيننا شبه قرابة».
قال: «وأي قرابة بينكما وأنت من لخم وهو من غسان فالظاهر أنها قرابة المصاهرة».
فقال وهو مطرق: «نعم يا مولاي» ثم رفع نظره إليه وقال: «هل يأذن لي الأمير بأمر أتقدم إليه فيه».
قال: «قل ما بدالك».
قال: «إن أمر جبلة يهمني كثيرا وحياته أفتديها بحياتي».
قال: «وما معنى ذلك إني لم أفهم السر فإذا كانت بينكما هذه العلاقة فما بالك لم تدافع عنه في شيء ولا ذكرته أمامي في مثل هذا المعرض قط».
قال: «إن الأحوال لم تلجئني إلى ذلك قبل الآن أما وقد آنست فيك هذا الانعطاف فأتجاسر في بثك أمرا يهمني كتمانه الآن ولكنني أبسطه لديك عساه أن يعود علي بالفائدة».
قال: «قل ما هو».
قال: «أعترف لمولاي الأمير أيده الله أن لي في جبلة مأربا يهمني كثيرا ولا أخفي عنك إني خاطب ابنته وقد قضيت بضعة أعوام في انتظار وقت القران فحالت الحروب بيني وبينه وكان آخر عهدي بالأمر أن أجتمع به وبأهله في بيت المقدس فلما جئتها رأيتهم قد رحلوا إلى مكان لا يعلمه أحد فجئت أستفهم عن مكانهم». قال ذلك وقد ظهرت على وجهه علامات الاهتمام يمازجها الحياء.
فقال أبو عبيدة وهو ينظر إلى وجهه يراعي حركاته: «كيف هان على ملك غسان أن يزوجك ابنته وأنت غريب ولست من سلالة الملوك».
فتغير حال حماد وعلا وجهه الاحمرار لما تذكر من حقيقة نسبه ولكنه تجاهل وقال: «لقد عانينا في سبيل ذلك مشقة ولعله السبب في تأخير الاقتران إلى اليوم».
فقال أبو عبيدة: «طب نفسا يا حماد واعلم إني نصيرك في الحصول على مرامك ولا يحق لجبلة أن يفاخرك في النسب وأنت شهم همام قد رفعتك همتك إلى أعلى من مقام الملوك وها إني باث العيون والأرصاد للبحث عن جبلة وسأحمله على ما تريد قهرا».
فأثنى حماد على غيرته وشكر له وهم بوداعه على أن يعود إلى حاكم بيت المقدس بنتيجة الرسالة. فقال له أبو عبيدة: «تمهل ريثما أشاور الأمراء في الأمر».
وأمر فجاء خالد وسائر الأمراء وخرج حماد فعقد أبو عبيدة مجلسا شاور فيه أصحابه فلما انفض المجلس استدعي حماد فدخل على أبي عبيدة ولم يكن في الخيمة غيره فرآه عابسا فقال له: «ما بال مولاي مقطب الوجه».
فقال: «ليس بي بأس ولكنني لقيت من الأمراء رغبة في إجراء الصلح على يدنا استعجالا للفتح. لأن استقدام الخليفة من المدينة يستغرق زمنا طويلا وقد يمتنع عن المجيء لما يحول بينه وبين ذلك من المشاغل الهامة».
فأدرك حماد أن البادئ في ذلك الرأي خالد بن الوليد لما يعلم من عجلته ورغبته في الفخر فقال: «أظن الأمير خالدا أكثر الأمراء ميلا إلى هذا».
فلم يجب أبو عبيدة في بادئ الرأي فصمت حماد ولبث ينتظر الجواب فقال أبو عبيدة: «عد إلى حاكم ايلياء وقل له إننا قبلنا بإجراء الصلح على يد إمامنا الخليفة أمير المؤمنين وإذا جاءهم أحد من الأمراء بغير ذلك فهم مخيرون في القبول أو غيره».
فنهض حماد فودعه وأوصاه بالسعي في البحث عن جبلة ثم خرج يريد بيت المقدس فلقيه سلمان فأخبره الخبر فسر لنجاح مهمته وقال له: «هلم بنا إلى الحاكم» فسارا إليه فلما أقبلا عليه استطلعهما الخبر فقص حماد ما دار بينه وبين أبي عبيدة.
فقال الحاكم: «لا نصالح أحدا غير الإمام».
فقال البطريرك (وكان حاضرا): «وكيف نميز بين الأمام وأحد الأمراء لو جاءنا باسمه».
فقال سلمان: «إني عالم بصفة أمامهم وقد شاهدته بنفسي غير مرة في المدينة يوم شهدت فتح مكة وكان لا يزال أميرا كسائر الأمراء».
وفي اليوم التالي صعد البطريرك والحاكم إلى أسوار المدينة ومعهما حماد وسلمان متنكرين فلبثوا ينتظرون ما يكون من أمر العرب فجاءهم رسول على جواد خاطبهم من أسفل السور يطلب إليهم التسليم فقال البطريرك: «إننا نقبل بالصلح إذا كان على يد أعظم أمرائكم».
فمضى الرسول وبعد برهة عاد ومعه فارس آخر علموا من لباسه وحاله أنه من الأمراء فقال الرسول: «هذا هو كبير أمرائنا فصالحوه».
فنظر حماد فإذا هو أبو عبيدة بنفسه فعلم أن رأي أمرائه غلب على رأيه فجاء يطلب الصلح بنفسه فلما رآه البطريرك استطلع رأي حماد عن الرجل فقال: «هذا هو أبو عبيدة كبير أمراء جند الشام».
فقال: «أليس هو ملكهم الكبير».
قال: «كلا».
فنظر البطريرك إلى أبي عبيدة وقال: «إننا لا نصالح أحدا غير خليفتكم المقيم في المدينة فاستقدموه واحجبوا الدماء».
فعاد أبو عبيدة وفي اليوم التالي جاءهم خالد بمثل ذلك فأبوا مصالحته وأصروا إلا أن يأتيهم عمر بنفسه وكان الفصل شتاء وقد تكاثرت الأمطار والعواصف فامتنع على المسلمين الثبات هناك مثل ثباتهم في دمشق الشام لأن أهل بيت المقدس مقيمون في البيوت والعرب في الخيام على أنهم صبروا على مناجزتهم أربعة أشهر بين حرب ونضال ومخابرة والروم مصرون على أن يكون الصلح على يد الإمام عمر فلم ير أبو عبيدة بدا من استقدامه فكتب إليه بذلك.
أما حماد فكان يتردد إلى معسكر أبي عبيدة يستطلع ما حدث من أمر جبلة ويستحث أبا عبيدة على استقدام عمر قياما بوعده فمضت الأشهر الأربعة ولم يقف لجبلة على خبر.
أما سلمان فأنه لم يطق صبرا في انتظار أبحاث أبي عبيدة فخرج بنفسه يستخبر الناس ممن ظن أنهم يعلمون شيئا عن جبلة وأهله فلم يسمع إلا أخبارا متضاربة فمن قائل أنهم فروا إلى العراق أو مصر أو غيرها وقال آخرون أنهم لا يزالون مختبئين في بعض بلاد الشام ولكن الأكثرين على أنهم فروا إلى العراق فعاد إلى حماد بتلك الأخبار المتضاربة فلم تغنه شيئا فاشتد اليأس وضاقت دونه السبل ولم يكن ير تعزية إلا بلقاء أبي عبيدة. ففيما هو عنده ذات يوم وسلمان ينتظر خارجا إذ دخل عليه رجل منبسط الوجه كأنه جاء ببشارة فقال أبو عبيدة: «ما وراؤك».
قال: «إن بالباب رسولا من أمير المؤمنين جاء يخبرنا بقدومه».
قال: «فليدخل» فدخل الرجل وآثار السفر بادية على وجهه وعلى ثيابه.
فقال له أبو عبيدة: «أين تركت أمير المؤمنين».
قال: «تركته راكبا من دمشق وأسرعت لبشارتكم».
فقال أبو عبيدة: «ما باله أبطأ علينا».
قال: «إنما أبطأ لما اعترضه في طريقه من المسلمين يستفتونه ويتقاضون إليه وهو لا يرى إلا سماع أقوالهم والعدل بينهم».
قال: «هكذا يكون الأمراء بورك ببطن حملك يا عمر». ثم بعث إلى خالد وسائر الأمراء فجاءوه فأنبأهم بقدوم عمر وقال: «فلنذهب للقائه» والتفت إلى حماد وهمس في أذنه هلم بنا لعلنا نسمع من أهل المدينة خبرا عن صاحبك جبلة.
فركب الأمراء وركب حماد ومعه سلمان وقد شغله ركوبه هذا عن اهتمامه بجبلة وخبره وكان الأمراء بلباس الديباج والحرير وقد امتطوا خيولا فوقها السروج الفضة مما غنموه من دمشق الشام وغيرها إلا أبا عبيدة فقد كان على قلوصة (ناقة) وفوقه عباءة قطوانية وخطام الناقة من الشعر وساروا وقد تركوا الجند في مكانهم حول أسوار بيت المقدس. وكان حماد مشتاقا لمشاهدة عمر بعد أن تولى أمر المسلمين وهو يتوقع أن يراه في موكب حافل كما تعود أن يرى أو يسمع عن ملوك الروم والفرس مما يبهر النظر ويستوقف البصر فكان كلما مشوا قليلا تشوف عن بعد لعله يرى الغبار أو نحوه مما يتقدم المواكب فلم ير شيئا.
الفصل الثالث والتسعون
الإمام عمر بن الخطاب
وفيما هو يتشوف رأى هجنا قادمة فقال في نفسه (هذه هي طليعة الموكب قد جاءت ببشارة) فلما اقتربت رأى في مقدمتها هجينا أحمر عليه من الجانبين غرارتان وأمام الرجل قربة الماء ووراءه جفنة للزاد وقد أمسك بخطام الناقة بدوي ماش وعلى الناقة رجل أبيض الوجه مع حمرة تعلوه شديد حمرة العينين حسن الخدين والأنف خفيف العارضين ضخم الكراديس على رأسه عمامة وعلى كتفيه عباءة من صوف عليها بضع عشرة رقعة بعضها من الجلد والبعض الآخر من الصوف يحمل بيده درة هي عبارة عن سوط عريض من الجلد. فتحير حماد في أمر هذا الهجان والتفت إلى سلمان فابتدره قائلا: «هذا هو الإمام عمر يا مولاي» ثم ما لبث أن رأى أبا عبيدة ترجل عن ناقته وأسرع نحوه وترجل عمر أيضا وتعانقا فتحقق حماد أنه الإمام عمر فعجب لزهده ثم ما لبث أن سمع عمر ينتهر بعض الأمراء فتقدم ليسمع كلامه فإذا هو يؤنبهم لما اتخذوه من لباس الديباج والحرير وقال لهم: «ما بالكم تمسكتم بالدنيا وغفلتم عن الآخرة ما هذه الملابس أنها ألبسة أهل الترف وأنتم في سبيل الجهاد» قال ذلك وحسا عليهم التراب فقال أبو عبيدة: «أنهم يا أمير المؤمنين إنما اتخذوه كساء خارجيا وتحته السلاح».
ثم نادى أبو عبيدة حمادا فأقبل فقدمه إلى عمر وقال له أنه شاب من أمراء العراق كان لنا نصيرا في حصار الشام وواسطة في صلحها.
فرحب به عمر والتفت إلى أبي عبيدة وقال: «لقد أذكرتني بجبلة بن الايهم الغساني ألم يصلك كتابى بشأنه».
قال: «كلا يا مولاي وما خبره».
قال: «له خبر طويل سأقصه عليك بعدئذ وهلم بنا الآن إلى بيت المقدس» وركبوا جميعا.
أما حماد فلما سمع اسم عمه جبلة خفق قلبه وتاق لسماع حديثه ولكنه لم يجسر على التماس ذلك فاضطر للانتظار إلى فرصة أخرى.
ومازالوا سائرين حتى أشرفوا على بيت المقدس وحولها معسكر العرب ورأوا الأعلام عن بعد ولما اقتربوا من الخيام سمعوا ضجيج الناس ورأوا جماعات منهم مهرولين لملاقاة عمر فرحب بهم وأثنى على غيرتهم وشكرهم لحسن جهادهم وذكر ما فتح من المدن على أيديهم حتى إذا وصلوا معسكر أبي عبيدة نزل عمر في فسطاط من شعر نصبوه له هناك ونزل الأمراء معه وتزاحم الناس للتيمن بمشاهدته وسماع كلامه. أما هو فجلس على التراب وجلس الجميع معه وحماد يعجب لزهده وتواضعه.
ثم نهض وألقى عليهم خطابا ثم جلس الجميع يتحدثون بأمر الفتح وما لقوه من الجهد وما كان من فوزهم وكلهم فرحون وأمارات الافتخار ظاهرة على وجوههم.
وكان حماد ينتظر أن يجري حديث جبلة لعل عمر ان يقص خبره فاشتغلوا عن ذلك بأحاديث الفتح ثم نودي بالصلاة.
فخرج حماد وقد مل الانتظار فقال: «ما قولك يا سلمان هل نسأله ليقص علينا خبر جبلة».
قال: «لا حاجة بنا إلى ذلك وإنما يكفينا أن نسأل أبا عبيدة وهو يطلب إليه».
قال: «حسنا» وسارا إلى أبي عبيدة بعد الصلاة فلما وقع نظره على حماد قال له: «غدا نسمع حديث أمير المؤمنين عن جبلة وأهل بيته أما الآن فاطلب إليك أن تسير إلى حاكم هذه المدينة فتنبئه بقدوم أمير المؤمنين وقل له ليخرج للصلح ومتى عدت من هذه المهمة قدمتك إلى مولانا الخليفة فتنال منه بركة وحظوة».
فخرج حماد وسلمان فأنبئا الحاكم والبطريرك بقدوم عمر فخرج البطريرك على الأسوار وطلب أن يرى عمر رأى العين.
فعاد حماد بالخبر فركب عمر ناقته ومرقعته وتقدم نحو الأسوار وأبو عبيدة إلى جانبيه وكان حماد قد عاد إلى الأسوار وأشار إلى البطريرك أنه هو الرجل فاستغرب ما رآه من سذاجة لباسه وكثرة زهده واعتبر بما انغمس فيه الروم من الترف والرخاء وما أراد الله من خضوعهم لأولئك العربان ثم نظر إلى أعيان المدينة وكانوا وقوفا معه على الأسوار وقال: «إليكم يا أهل بيت المقدس هذا هو الرجل الذي تفتح بلادنا على يده فاخرجوا واطلبوا صلحه واعقدوا معه الأمان والذمة» ففتحوا الأبواب وكانوا قد ضاقوا ذراعا عن احتمال الحصار وخرجوا أفواجا وفيهم الرجال والنساء والشيوخ والأطفال وصاحوا بصوت واحد يستغيثون فلما رآهم عمر على هذه الحالة تخشع لله وسجد وهو على قتب بعيره ثم أناخ ناقته ونزل وقال للناس: «عودوا إلى منازلكم ولكم الذمة والعهد».
فعادوا ولم يقفلوا الأبواب وعاد عمر إلى معسكره وفي صباح الغد دخل عمر المدينة والناس يرحبون به وقد رفعوا أصواتهم بالترنيم والترتيل وفيهم القسس في أيديهم المباخر حتى أتى سراي الحاكم قرب كنيسة القيامة واجتمع إليه الحاكم والبطريرك وكبار أهل الدولة وعقدوا صلحا أقروا به على أداء الجزية وأوصى بهم الإمام عمر خيرا وهدأت الأحوال وسكنت القلوب إلا قلب حماد فأنه مازال يتقلب على جمر الانتظار والتردد.
الفصل الرابع والتسعون
جبلة بن الايهم
ومكث عمر في بيت المقدس عشرة أيام لم يخل يوما واحدا من الوفود من سائر أنحاء سوريا وخصوصا عظماء البلاد التي خضعت للمسلمين فأنهم كانوا في اشتياق لرؤية الخليفة. وفي اليوم الخامس من دخوله وهو يوم الجمعة خط عمر محرابا في المدينة وفي موضعه بني جامعه بعد ذلك ففي ذلك اليوم سار حماد إلى أبي عبيدة وشكا إليه قلقه ورغبته في سماع حكاية جبلة عن لسان الإمام عمر فاستمهله إلى المساء وقال له: «إن أمير المؤمنين سيخرج من المدينة بعد صلاة العصر ليصلي العشاء مع باقي الأمراء في فسطاطه وسنقضي السهرة هناك فيقص علينا الخبر».
وفي العصر خرج حماد وسلمان إلى معسكر أبي عبيدة حتى إذا كان العشاء وصلى المسلمون سارا إلى خيمة الإمام عمر فلقيهما الحاجب فاستأذن لهما فدخلا وجلسا في بعض جوانب المكان وكانت الخيمة كبيرة وفيها زهاء خمسين رجلا.
وكان الجميع جلوسا على الثرى تمثلا بإمامهم الخليفة وبعد أن قرأ القراء بعض السور وتبرك الناس بذلك المساء تقدم أبو عبيدة إلى الإمام عمر أن يقص عليه حكاية جبلة بن الايهم ملك غسان وما كان من أمره.
فقال الإمام عمر: «ماذا تعلمون عنه أنتم».
قال أبو عبيدة: «أنه فر بأهل منزله إلى مكان لا نعلمه».
فتبسم عمر وقال: «إنه لم يفر ولكنه جاء المدينة بعد فتح دمشق يلتمس الدخول في الإسلام فقبلت منه ذلك فاعتنق الإسلام وأقام بيننا في أهل منزله معززا مكرما وأذنا له أن يبقى على ما اعتاده من فاخر اللباس من الحرير والديباج وركوب الخيل مسرجة بالسروج الثمينة عليها سلاسل الذهب في أعناقها وإذا ركب وركبت حاشيته عقدوا أذناب الخيل فسارت تخطر بهم حتى لا تبقى واحدة من نساء المدينة إلا وتخرج لمشاهدتهم.
ولكننا ما برحنا نرى فيه روح الاستبداد والظلم مما يأنفه عدل الإسلام لأن هؤلاء العرب المنتصرة عاشروا الروم واعتنقوا ديانتهم وتخلقوا بأخلاقهم ولا يخفي عليكم ما في دولة هؤلاء الروم من التفاوت بين طبقات رعاياهم فيأكل القوي منهم الضعيف بغير وجه الحق فأراد جبلة أن يسير على ذلك فأوقفناه عند حده.
ومما دعانا إلى إيقافه خاصة حادثة جرت لرجل من فزارة مع جبلة وذلك إننا خرجنا مرة للحج وفيما نحن نطوف في البيت ومعنا جبلة وجمع فقير من المسلمين وفي جملتهم رجل من فزارة فوطئ الفزاري آزار جبلة فانحل الإزار فغضب جبلة. ورفع يده وضرب الفزاري فهشم أنفه فجاءني هذا الرجل يشكو ما ألم به فبعثت إلى جبلة فأتى فقلت: «ما هذا؟» قال: «نعم إني هشمت أنفه لأنه تعمد حل إزاري ولولا حرمة الكعبة لضربت بين عينيه بالسيف».
فلما قال ذلك علمت أنه يريد الاستبداد فقلت: «اعلم يا جبلة انك مخطئ وقد أقررت بما ارتكبته فعليك إما أن ترضي الرجل وإما أن يفعل بك مثل فعلك به». فعظم ذلك على الغساني واستغربه وقال: «وماذا قلت آمر بتهشم أنفك كما فعلت».
فقال: «كيف ذاك يا أمير المؤمنين وهو سوقة وأنا ملك».
قلت: «إن الإسلام جمعك وإياه فلست تفضله بشيء إلا التقى والعافية».
فقال وقد خاب ظنه: «كنت ظننت يا أمير المؤمنين إني أكون في الإسلام أمنع مني في الجاهلية».
فقلت: «دع عنك هذا فإنك إن لم ترض الرجل أقدته منك».
فقال: «إذا أتنصر».
فقلت له: «إن تنصرت ضربت عنقك لأنك قد أسلمت فإن ارتددت قتلتك».
فلما رأى ابن الايهم ما صممت عليه سكت ثم قال لي: «إني ناظر في ذلك ليلتي هذه».
قلت: «انظر ما شئت» ثم انصرف ولم أعد أراه ولا أدري مقره. وقد كتبت إليك بشأنه والتمست أن تبحث عنه فهل علمت عنه شيئا».
قال أبو عبيدة: «كلا يا مولاي إننا قضينا أشهرا ونحن نبحث عنه فلم نقف له على خبر».
الفصل الخامس والتسعون
مشورة وذكرى
وكاد حماد يسمع حديث عمر وهو شاخص ببصره يتطاول بعنقه وقلبه يخفق في انتظار آخر الحكاية فلما أتى عمر على آخر كلامه انقبضت نفس حماد وعظم عليه الأمر وهم بمخاطبة عمر يستطلعه رأيه في مصير جبلة وأهله فأقعدته هيبة المجلس ومقام الخليفة وما صدق أن أرفض الجمع حتى خلا بسلمان ووقفا بالقرب من معسكر أبي عبيدة فقال حماد: «ما رأيك يا سلمان».
قال: «لقد هان الأمر يا مولاي والرأي عندي أن نبحث عن جبلة في الطريق بين المدينة والشام إذ لا أظنه إذا فر من الحجاز إلا قادما إلى أطراف الشام أو البلقاء أو مكان آخر لم يفتحه المسلمون أو لعله يختبئ في بعض الديور ولا بد له في كل حال من المرور بدير بحيرا ولو متنكرا فلنبحث عنه ونستخبر أهل الدير وإذا أشكل الأمر أكثر من ذلك قصدنا ناسك حوران فإن له معرفة وكرامة».
فتأفف حماد وتذمر ولكنه فكر في الأمر فرأى كلام سلمان معقولا فظل صامتا برهة وسلمان ينظر إليه ويتأمل حاله فرآه غارقا في بحار الهواجس وقد تولاه الانقباض وغلب عليه اليأس فقال له: «ما بال مولاي لم يعتد بكلامي ألعلي مخطئ في ما أقول».
قال: «لا أقول مخطئا ونعم الرأي رأيك ولكنني أفكر يا سلمان في هند كيف طال هذا الأمد ولم يصلني منها علم ولم أسمع عنها خبرا مع علمها بذهابي إلى بيت المقدس بعد فتح الشام».
قال: «لا تلمها يا سيدي ألا تعلم أنها فتاة لا تستطيع المجاهرة بأمرها فضلا عما كانوا فيه أثناء فرارهم من الخوف والاهتمام وأقاموا في المدينة غرباء ثم عادوا فارين كما قد رأيت فهل تستطيع هند أمرا».
فقال حماد: «لا أدري ولكنني أراني مقيد الفكر مغلول اليدين والأمير عبد الله بعيد عنا لا نعلم خبره ولا ما لاقاه في العراق».
قال سلمان: «أما الأمير عبد الله فأنت تعلم أنه من الحكمة والتعقل في ما لا نخشى عليه معه بأسا ولا يلبث أن يعود إلينا وقد نال حظوة في عيني المسلمين ولكن ...» وصمت.
فقال حماد: «ما بالك صمت قل ما في نفسك».
قال سلمان: «ماذا أقول ونحن كما قلت مقيدو الفكر مغلولو الأيدي».
قال: «وماذا تعني؟»
قال: «أعني يا مولاي أننا شغلنا بحروب الشام والتماس ملك غسان عن أمر إنما أتينا هذه البلاد من أجله ولولاه لكان مقامنا في العراق معا ندافع عن دولة الفرس دفاعنا عن أنفسنا».
فانتبه حماد إلى حكاية النذر وحقيقة نسبه وما له من الثأر على الفرس فقال: «لقد صدقت يا سلمان إننا تقاعدنا عن ثأرنا وانشغلنا بمهام أنفسنا عن وصية والدي ووالله لو إني فرغت من مشاغلي المتواترة وخلوت بنفسي يوما واحدا لما بقيت في هذه الديار بل كنت أول شاخص إلى العراق أشهد فتح المدائن عاصمة تلك الدولة الظالمة واني لواثق بقرب سقوطها لما نعلمه من بطش العرب وفساد أحوال الفرس وانقسام حكامهم بعضهم على بعض».
فقال سلمان: «إذا نسير إلى العراق ...».
قال حماد: «بصوت مختنق ونفس صغيرة «وهند»» ونظر إلى سلمان فكان لنظرته وقع السهام على قلب سلمان فنظر إليه وتبسم ثم هم به وضمه إلى صدره وقال له: «إن هندا في المقام الأول يا مولاي ثم الثأر».
فتنهد حماد وقال: «لا بل الانتقام للملك النعمان قبل كل شيء هكذا أوصانا بصوته المنبعث من ظلمات القبر ولكن ...» قال ذلك وترقرقت الدموع في عينيه.
فابتدره سلمان قائلا: «إن كلا الأمرين مستدرك فلنبحث أولا عن مقر هند فإذا التقينا بها وكان السفر إلى العراق مستعجلا وكان أجل الفرس قريبا أجلت الاقتران إلى ما بعد الرجوع منها وسقوط دولة الفرس وإلا فانك تتزوج ثم تسير. فقم بنا إلى بيت المقدس وغدا نستطلع أخبار العراق ثم نسير للبحث عن جبلة وأهله في أطراف الشام وحوران ويفعل الله ما يشاء».
فقال حماد: «حسنا ترى ولكن ذهابنا إلى بيت المقدس في هذا الليل لا يخلو من المشقة فضلا عن الخطر وقد دعانا أبو عبيدة للمبيت عنده فلنبت هنا الليلة وغدا لناظره قريب».
قال: «حسنا» وتحولا نحو الفسطاط وقبل الوصول إليه سمعا أصواتا عرفا أنها أصوات القراء يتلون القرآن والناس يصلون فتنحيا برهة حتى فرغوا من الصلاة فدخلا على أبي عبيدة فقال لهما: أين ذهبتما وأنا أبحث عنكما منذ خروجنا من مجلس الخليفة.
فقال حماد: «لقد كنا في شأن جبلة وخبره ولم يزدني حديث أمير المؤمنين إلا تلبكا فلا أدري أين هو هذا الرجل الآن».
فقال أبو عبيدة: «سنبحث عنه في سواحل الشام لعله يقيم في مكان هناك أو إذا كان قد خرج منها إلى بلاد الروم أو مصر أو غيرها عرفنا خبره».
فقال سلمان: «ونحن نرى أن نفتش عنه في أطراف الشام وحوران لعلنا نسمع عنه شيئا في بعض الديور». قال أبو عبيدة: «نعم الرأي رأيت وسيكون بحثنا وبحثكم معا فمن استطلع أمرا أطلع الآخر عليه».
فقال حماد: «وماذا تعلمون من أخبار العراق وفارس فإن والدي لم يكتب إلي شيئا منذ سفره».
فقال أبو عبيدة: «إن ما أتانا به مولانا أمير المؤمنين يسر كل مسلم فإن النصر معقود لواؤه لجنود المسلمين حيثما ولوا وجوههم وقد كان الإمام عمر على موعد من موقعة هائلة بين المسلمين والفرس في القادسية فخرج من المدينة وهو في انتظار البريد بخبرها وقد أبطأ عليه فأوعز إلى نائبه في المدينة إذا جاء بريد العراق أن ينفذه إليه في بيت المقدس حالا فنحن ننتظر ورود البريد انتظار الظمآن لموارد الماء. وكلنا على يقين من نصرة رجالنا مهما تكاثرت جنود الفرس وأفيالهم ودوابهم فما هم أشد وطأة من الروم بل نحن أشد وطأة على الفرس منا على الروم لأن هؤلاء أهل كتاب قد أوصينا بهم خيرا وأما الفرس فأنهم مجوس يعبدون النار فضلا عن اختلال أحوال مملكتهم وتنازع دعاة الملك على كرسيهم فقد توالى على إيوان كسرى بضعة ملوك في عام واحد بعضهم نساء والبعض الآخر من الرجال وملكهم الآن يزدجرد بن شهريار ابن كسرى انوشروان وهو ضعيف الرأي لا يستطيع القيادة فهل يعقل أن جنده يغلب جند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وعلى كل حال إن موعدنا من أخبار النصر قريب إن شاء الله».
ثم أمر بعض رجاله فأعدوا خيمة للضيفين فباتا تلك الليلة وأصبحا وقد قام الإمام للخطابة والصلاة فأذن المؤذنون وصلى المصلون فتنحى حماد وسلمان ومشيا خارج المعسكر يتحدثان في تلك الشؤون فوقع نظرهم على هجين قادم من عرض الأفق بسرعة البرق فقال سلمان: «هذا هو صاحب البريد على ما أظن» فوقفا فإذا به دار حتى أتى معسكر أبي عبيدة وترجل عند فسطاطه فأسرعا إلى الفسطاط فرأيا أبا عبيدة خارجا من خيمته ومعه الهجان وهو لا يزال بغباره وقد مشي وهجينه وراءه حتى أتوا فسطاط عمر فدخلوا جميعا ودخل حماد وسلمان معهم فرحب عمر بهم وخاطب صاحب البريد قائلا: «ما وراءك يا رجل». فقال: «ما ورائي إلا الخير». ومد يده فاستخرج من بين أثوابه صندوقا فتحه واستخرج منه ملفا من جلد ناوله إلى الإمام عمر ففضه ودفعه إلى بعض خاصته وقال: «أتله عليا لنرى ما كان من أمر المسلمين في العراق».
فتناول الرجل الكتاب ووقف وأخذ يقرأ والناس سكوت فإذا فيه:
الفصل السادس والتسعون
وقعة القادسية
إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من سعد بن مالك أمير جند العراق أما بعد
فإني أكتب إليك تفصيل واقعة القادسية التي فاز بها المسلمون على أهل فارس وإليك هي. جئنا يا أمير المؤمنين بجنود المسلمين ممن تعلم ما انضم إليهم من جند الشام وجملتهم 25,000 ونزلنا في القادسية بين العقيق والخندق بجبال القنطرة والقادسية يا أمير المؤمنين واقعة في رأس بحيرة وراءها مضيق من البر يفصل بين البحيرة والفرات فأقمنا هناك شهرين ندافعهم تارة ونطاردهم أخرى حتى ملوا منا فكتبوا إلى ملكهم يزدجرد وشكوا ما يقاسونه وقالوا إننا أخربنا ما بيننا وبين الفرات ونهبنا الدواب والأطعمة فبعث يزدجرد إلى رستم كبير قواده وألح عليه أن يقدم هو بنفسه لقتالنا فجاء وعسكر في ساباط وقد كتبت إليك بذلك في حينه فكتبت إلينا أن لا يكربنا ما يأتينا عنهم فاستعنا الله وأرسلنا نفرا من المسلمين إلى يزدجرد في المداين يدعونه إلى الإسلام أو الجزية أو السيف فاستقدم رستم إليه واستشاره فيما جاؤوا من أجله فلما سمع مقالهم تهددهم وتوعدهم ثم وعدهم بقوت ومال وكساء فأجابوه بكلام شديد فأخرجهم من المداين مهانين فلما رأينا ذلك منهم جعلنا نغزو ما حولنا من البلاد والقرى نسوق أغنامها وأبقارها وأسماكها وأبلها. فلما بلغ رستم ذلك حمل بجند عدده مئة ألف وعشرون ألفا أربعون منها يقودها رجل اسمه الجالينوس والباقون يقودهم رستم فجاؤونا في هذا الجند الثقيل ومعهم الفيلة والخيول وكانوا لا يمرون ببلدة إلا أساؤا أهلها وشربوا خمورها. وأكثروا من الفساد فيها فنقم الناس عليهم وقد علمنا من بعض أسراهم أنهم قضوا في انتقالهم هذا من المدائن إلى القادسية أربعة أشهر فلما وصلوا القادسية عسكروا بجبالنا ورأينا معهم فيلة بعضها مشهور عندهم بالفتك كالفيل المسمى فيل سابور الأبيض وغيره. فنظم رستم جيشه فجعل من الأفيال 18 في الوسط و15 في المجنبتين ثم انفرد هو في مكان مشرف ينظر منه إلى جندنا وبعث إلينا أن نوافيه برجل منا يكلمه فأرسلت إليه واحدا فأخبرنى لما عاد أنه دخل على رستم فإذا هو جالس على سرير من الذهب وبين يديه البسط والنمارق والوسائد المنسوجة بالذهب فلما وصل رسولنا بعباءته ودرعه وسيفه لم يبهره ما رآه هناك من بهارج الدنيا فقاد جواده فوق البسط وشق وسادتين ربطه بهما فسألوه أن يضع سلاحه فأبى حتى أقبل على رستم فابتدره ترجمانه وهو من أهل الحيرة واسمه عبود فسأله عما جاء من أجله. فأجابه بالدعوة التي تعلمونها فعظم ذلك عليهم وقالوا: «كيف تطلبون قتالنا أو الجزية وقد كنتم في قشف ومعيشة سيئة لا نراكم شيئا وكنتم إذا أقحطت أرضكم استعطيتمونا فنأمر لكم بشيء من التمر والشعير ونردكم ولا نظنكم قادمين علينا إلا من الجهد فانا آمر لأميركم بكسوة وبغل وألف درهم ولكل منكم وقر تمر وتنصرفون عنا». فأجابه الرسول بما أسكته وبعد جدال طويل غضب رستم وأقسم أن النهار لا يطلع قبل أن يقتلنا أجمعين فقال له الرسول: «من يقتل منا يدخل الجنة». وأرسلت إليه رسلا آخرين يدعونه إلى ما هو خير لنا وله فأجابهم بمثل جوابه الأول فلم يجدنا ذلك نفعا.
وفي اليوم التالي جلس رستم على سريره وضرب عليه طيارة وعين الأفيال كما ذكرت واتخذ في إيصال خبر الحرب إلى ملكه يزدجرد طريقة اعجبتني ولعلي متخذها في بعض حروبي إن شاء الله وذلك أنه جعل بينه وبين يزدجرد رجالا على كل دعوة رجلا أولهم على باب إيوانه في المداين وآخرهم عند رستم فكل ما فعل رستم شيئا قال الذي معه للذى يليه كان كذا وكذا ثم يقول الثاني ذلك للذي يليه وهكذا إلى أن ينتهي إلى يزدجرد في أسرع وقت. وكنت يا أمير المؤمنين مصابا بدمامل وعرق النساء فلا أستطيع الجلوس وإنما كنت أجلس مكبا على وجهي وصدري فوق وسادة على سطح القصر أشرف على الناس وأرى قتالهم ولكن الله أعاننا بمنه وكرمه فإننا لما رأينا الفرس يتهيأون للقتال بعثنا الخطباء في الجند وقرأنا سورة الجهاد ثم صلينا الظهر وكبرنا أربعا فزحف الجند وتلاحم الجيشان ووالله يا أمير المؤمنين لقد كنت أرى جند فارس ينهالون كالسيل وفيهم الأفيال كالأمواج المتلاطمة وهي تثور فتتلقف الرماح والنبال بخراطيمها وتدوس الناس والخيول بخفافها فهالني أمرها فقلت يا قوم أما من حيلة لها فرماها بعض المسلمين بالنبل فقتل ركابها وتقدم آخرون فأزاحوا عنها توابيتها فتلبكت حركاتها وفسد نظامها فجاء المساء وقد قتل من الفرس جند كبير وفي اليوم التالي وصلتنا نجدة أهل الشام التي أرسلها أبو عبيدة فهاجمنا الفرس حتى كدنا نقبض على رستم ولكنه نجا وفي اليوم الثالث لقي الجندان شدة وجهدا أما نحن فواصلنا العمل في الليل وكانت ليلة سميناها ليلة الهرير لأن رجالنا لم يكونوا يتكلمون وإنما كانوا يهرون هرا فنقلنا الجند إلى مكان يأخذ العدو من خلفهم ففعلنا ذلك وهم لا يعلمون.
ولما أصبحنا هاجمنا أعداء الله من كل جانب ففشلوا واختل نظامهم ووصل بعض رجالنا إلى سرير رستم وقد أطارت الريح الطيارة عنه فاستظل بظل بغل فقتلوه وقتلوا الجالينوس فانهزم الفرس شر هزيمة فتعقبتهم رجالنا وغنمنا أسلابهم وانتصرنا نصرا مبينا ونحن سائرون الآن لفتح المدائن بعون الله تعالى. انتهى..
فما فرغ القارئ من قراءة الكتاب حتى ضج المسلمون بالتكبير والشكر لله على ذلك الفتح أما حماد فأنه صبر على سماع الخبر رغما عنه فلما تفرق الناس خرج حماد وسلمان فقال سلمان: يظهر أن أجل الفرس قريب وسيفتح المسلمون عاصمتهم فيندك عرشهم ويكون ذلك جزاء ما كسبته أيديهم من قتل الأبرياء.
فقال حماد: «ولكننا لم نستفد شيئا عن الأمير عبد الله ولا عن جبلة إلا تظن صاحب البريد يعلم شيئا عن ذلك».
قال: «ربما كان على علم فهلم بنا نستطلعه» وسارا يبحثان عنه فإذا هو قد خرج إلى خيمة بعض الجند للاغتسال والوضوء وتناول الطعام.
فقال سلمان: «أظن صاحب البريد يحتاج إلى الراحة بعد سفره الطويل فلندعه وشأنه على أن نعود إليه في صباح الغد».
قال حماد: «لقد أحسنت رأيا» وانصرفا إلى خيمة للاستراحة.
الفصل السابع والتسعون
ويأتيك بالأخبار من لا تسائله
تركنا حمادا وسلمان وقد انصرفنا إلى خيمة يلتمسان الراحة ريثما يتمكنا من مقابلة ساعى البريد واستطلاع خبر جبلة وعبد الله. وفيما هما صائران إلى الخيمة رأيا عجوزا حدباء عليها سمات الفقر وغبار الأسفار قادمة نحوهما تتوكأ على عكاز وقد أتت رأسها بخمار فظناها من المتسولات فلم يعبئا بها وظلا في طريقهما حتى دخلا الخيمة وليس فيها سواهما وما لبثا أن جلسا حتى رأيا تلك العجوز قد شقت حجاب الخيمة بعصاها ودخلت بلا استئذان فصاح بها سلمان: «ما غرضك يا خالة».
فلم تجبه وظلت داخلة حتى دنت من حماد وحسرت اللثام عن وجهها فإذا هي خادمة هند التي لقيها في دمشق فخفق قلبه لرؤيتها وشعر بانعطاف نحوها وقد تنسم منها رائحة حبيبته فبغت وصاح بها: «ما خبرك وأين هند».
قالت: «تمهل ريثما أستريح فأخبرك الخبر وقد جبت البلاد وتفحصت العباد وأنا في هذا الزي أبحث عنك فلم أقف لك على خبر وقضيت حول هذه المدينة أياما لا يخبرنى أحد عن مقامك ولا أنا أستطيع المجاهرة باسمك لأن حالنا تدعو إلى الاستتار». قالت ذلك وهي تبحث عن وسادة تجلس عليها وتنظر إلى خارج مخافة أن يسمعها أحد فجلست وعينا حماد تراعيانها وقد نفد صبره في استطلاع حال هند فقال لها: «أخبريني عن هند قبل كل شيء هل هي في خير».
قالت: «كن مطمئنا أنها في خير وسلامة لا ترجو إلا لقاءك».
فقال: «أين هي؟»
قالت: «لا أدري أين هي الآن ولكنني أعرف الخطة التي ستسير فيها فإذا قصصت عليك الحديث من أوله هان عليك فهم الحقيقة».
قال: «قولي باختصار». ولبث صامتا مصغيا لما تقوله.
فقالت: «تركتني في دمشق بجوار كنيسة مريم فأسرعت إلى ما بين يدى ما يحمل واكتريت بغلة ركبتها حتى أتيت بيت المقدس. وكانت سيدتي هند ووالدتها وسائر أهل القصر مقيمين في دير هذه المدينة فأنبأتهم بسقوط دمشق فخافوا ولكنني طمأنت هندا وأملتها بقرب مجيئك فهان عليها كل عسير ولبثنا ننتظر ذلك اليوم. ولكن الأمر جاء بالعكس فإن سيدي الملك جبلة بعث إلينا في اليوم التالي أن نتأهب للرحيل سرا ثم جاء هو وأمر أن نسير على عجل بما خف حمله وغلا ثمنه ولم يجسر أحد من أهله أن يسأله عن جهة المسير ولولا ذلك لبقيت أنا هنا لأخبرك بمكانهم فخرجنا وقد أسرت مولاتي هند إلي أنها حالما تعرف المكان الذي سنقيم فيه تبعث بخبره إليك.
فسرنا أياما وليالي ولم نحط رحالنا إلا في المدينة مقام خليفة المسلمين الذي سمعتم الكتاب يتلى بين يديه الآن وقد كنا في خوف عظيم ولكننا آنسنا إكراما وحسن وفادة وبلغني أن سبب سلامتنا اعتناق سيدي الملك ديانة هؤلاء الفاتحين. فلما ظننا المقام استقر بنا لم يبق على سيدتي إلا أن تنفذ إليك بذلك. وقد فاتني أن أخبرك وفاة ثعلبة أو لعلك سمعت به قبلا».
قال حماد: «لقد سمعنا خبره رحمه الله».
قالت: «ولم نكد نتوسم الراحة ونحيي الأمل حتى جاءنا سيدي الملك بعجلة وبغتة كما فعل يوم خروجنا من هنا فتأهبنا وخرجنا في ليل دامس خفنا فيه خوفا شديدا ولكن بعض جيراننا اليهود من أهل المدينة كانوا لنا عونا في مسيرنا إلى ما وراء أسوارها. وفي اليوم التالي تحققنا أننا قاصدون بلاد الشام فرأيت في سيدتي هند ارتياحا إلى هذه الوجهة على رجاء أن تقرب منك فقضينا في طريقنا هذه مدة طال أمدها ونحن نسير ليلا متنكرين ونختبئ نهارا ولا نقيم إلا في الديور لأنها أأمن مبيت أو مقام لأهل النصرانية وكنا نمكث في بعضها أياما وأسابيع». قالت ذلك وخفتت صوتها لئلا يسمعها أحد وجعلت تتطلع من باب الخيمة خوفا ممن يتجسس أو يستمع. فقال لها سلمان: «تكلمي لا تجزعي فإن ليس في هذا المعسكر من يظن بنا سوءا ولكن اخفتي صوتك».
قالت: «وآخر مكان أقمنا فيه دير بحيراء ولا تسل عن حالنا لما أطللنا قبل ذلك على صرح الغدير وبستانه وميدانه وما استولى عليه أولئك الحجازيون من المغارس والأبنية التي بناها الملوك الغساسنة منذ أجيال وقد رأيت في وجه سيدي الملك علامات الغضب والفشل حتى كادت الدموع تتناثر من عينيه لولا عزة النفس. أما سيدتى سعدى وهند فقد بكتا وأظن هندا إنما بكت لتذكرها أمرا وقع لها في ذلك الصرح. والخلاصة أننا لم نصل دير بحيراء حتى أخذ اليأس من سيدي الملك كل مأخذ لما ذاقه من ذل التنكر في بلاد كانت طوع إشارته لا يمر بها إلا محفوفا بالجنود والأعوان فتنصب له الأعلام ويحتفل أهلها بقدومه فكيف يمر الآن متنكرا يخاف أن يعرفه أحد» (قالت ذلك وشرقت بدموعها فمسحتها بطرف خمارها ) فتأثر سلمان وحماد لكلامها وعظم عليهما ما آلت إليه حال الغساسنة وتصور حماد أن حال ملوك الحيرة ستؤول إلى مثل ذلك فشكر الله في باطن سره لأن سقوطهم سيكون على يد غير يده.
وأتمت المرأة حديثها فقالت: «ففي ذات ليلة دعا سيدي الملك سيدتي سعدى وهندا وخلا بهما في حديث طويل وفي الصباح التالي دعتني سيدتي وأسرت إلي أن أبحث عنك في بيت المقدس فما حولها حتى أقف على مكانك وأطمئنك عنها وأخبرك أنهم ساروا إلى العراق وسيقيمون في دير هند بعيدين عن الشام والبلقاء لأنهم لا يستطيعون صبرا على ما خرج من أيديهم أن يروه كل يوم رأي العين وايدي الغالبين فوقه».
فلما سمع ذكر دير هند أجفل وقال: «أي دير تعنين؟»
قالت: «دير هند في ضواحي الحيرة».
فنظر إلى سلمان وقال: «اعهد دير هند في الحيرة وليس خارجها فما هذا الدير».
فقال سلمان: «إن في الحيرة ديرين ينسبان إلى هند أحدهما الأصغر وهو في الحيرة والآخر في ظاهرها أما الأول فقد سمي باسم أختك هند سنة قبض كسرى على المرحوم والدك الملك النعمان في أوائل حكمه وحبسه قبل أن تولد أنت بأعوام فنذرت شقيقتك هذه إن رده الله إلى ملكه أن تبني ديرا وتسكنه حتى تموت فلما أطلق سبيل والدك فعلت ذلك ومكثت في ذلك الدير.
وأما الدير الأكبر وهو ما يسمونه بدير هند الكبرى فقد بنته هند بنت الحارث بن عمر بن حجر آكل المرار الكندي بظاهر الحيرة وهي من كندة وليست من لخم والدير كبير أذكر إني زرته غير مرة وكان رهبانه يترددون على منزل سيدي الأمير عبد الله للمداولة بشؤون تتعلق بأملاك له هناك. يأم هذا الدير أناس من جهات العراق وغيره يقيمون فيه أياما وفيه ما يحتاجون إليه من الزاد ونحوه».
فنظر حماد إلى المرأة وقال: «هل تظنين هندا في ذلك الدير الآن».
قالت: «لا أدري إذا كانت لا تزال هناك لأنها أوصتني بما تقدم منذ بضعة أسابيع قضيتها في البحث عنك. ولكن سيدتي سعدى أسرت إلي بعد خروجي من بين يدي هند أن مولاي الملك جبلة إنما يريد الشخوص إلى القسطنطينية ليقيم بقرب إمبراطوره هرقل معززا مكرما وأنه سيجعل طريقه في الفرات ومنه برا في البلاد التي لم يصل سيف المسلمين إليها أما سواحل الشام فأنها في أيديهم لا يخلوا المرور بها من الخطر. وقالت لي أنها أقنعته أن يقيم في دير هند مدة ليرى ما يكون من حال جند العراق. فإذا طال غيابي عنهم أظنهم يقصدون القسطنطينية وذاك آخر مكان يقصدونه فافعل ما يبدو لك».
فلما سمع حماد ختام الحديث انقبضت نفسه مخافة أن يقصد العراق فيذهب سعيه ضياعا وأدرك سلمان فيه ذلك فقال له: «ألا ترى يا مولاي أن بمسيرنا إلى العراق نرمي حجرا فنصيب صيدين ألم نكن في حاجة للبحث عن سيدي الأمير عبد الله في العراق فمسيرنا إلى هناك يجمعنا به وبهند إن شاء الله».
فقال حماد: «ألم تسمع ما تلي علينا اليوم من خبر واقعة القادسية وهي بالقرب من الحيرة إلا تظن على الحيرة خطرا».
قال سلمان: «إن الحيرة يا مولاي دخلت في صلح المسلمين منذ أعوام وكنت شاهدا صلحها بنفسي وزد على ذلك ما نعلمه من صيانة الديور عند المسلمين».
فقال حماد: «وهل تعرف الطريق إلى الحيرة».
قال: «نعم».
قال: «وأنت ماذا تفعلين يا خالة».
قالت: «لا أظنني أستطيع المسير معكما لما أنتما فيه من الاستعجال ولكنني أتبعكما في طريق آخر أو أبقى في دير بحيراء أنتظر خبرا من عندكم».
الفصل الثامن والتسعون
هند في دير هند
دير هند الكبرى بناء واسع شادته هند بنت الحارث الكندية بحجارة ضخمة في بستان خارج الحيرة يشرف عن بعد على بحيرة كانت هناك وفي الحديقة أنواع الرياحين والأزهار وحولها كروم العنب والتين وغيرها من الفاكهة. يأوي إليه الرهبان من أهل العراق وفيه منازل للأضياف هي دار الضيافة ينزل فيها الغرباء من المارة أو نحوهم يقيمون أياما ثم ينصرفون. ورئيس الدير راهب شيخ سرياني أصله من ساباط. وقد جاء جند المسلمين العراق وجرى ما جرى لهم من الوقائع والدير في مأمن لم يصيب بسوء وأهله آمنون.
ومن يستقبل باب الدير بوجهه يقرأ على عتبته نقشا هذا نصه:
بنت هذه البيعة هند بنت الحارث بن عمرو بن حجر الملكة بنت الأملاك وأم الملك عمرو بن المنذر أمة المسيح وأم عبده وبنت عبيده في ملك ملك الأملاك خسروا أنوشروان في زمان مار افريم الأسقف فالإله الذي بنت له هذا الدير يغفر خطيئتها ويترحم عليها وعلى والدها ويقبل بقومها إلى أمانة الحق ويكون الله معها ومع والدها الدهر الداهر.
ففي ذات ليلة بعد انقضاء واقعة القادسية وسكون الناس إلى الراحة سمع أهل الدير قرع الأجراس وهي أجراس تعلق ببنيان بعض الديور حتى إذا مر غريب دقها فيفتحوا له فيبيت هناك يتناول الطعام أو نحوه. فلما سمع خدام الدير الدق هرول بعضهم إلى الباب وكان الباب ثقيلا مصفحا بالحديد وفيه المسامير الضخمة فأطل من فوقه من غرفة صغيرة فرأى ركبا على أفراس ومعهم الخدم والأمتعة فنزل إلى الباب ففتحه ورحب بالقادمين وأسرع إلى قيم الدير يخبره بقدوم ركب كبير فدخلوا وفيهم المشاة والفرسان فلما وصلوا إلى ساحة الدير ترجل الفرسان وتقدم بعض المشاة فأمسكوا بأزمة الخيل ووقفوا جانبا لا يفوه أحد منهم بكلمة. فلما ترجلوا جميعا تقدم واحد منهم وهو لا يزال ملثما حتى دنا من قيم الدير فهمس في أذنه فأسرع وسار الكل وراءه إلى غرفة باتوا فيها تلك الليلة وأهل الدير يتحدثون في من عسى أن يكون هؤلاء الناس الذين لتلثمهم لا يعرف النساء فيهم من الرجال ولكنهم عرفوا من قيافتهم وسروج أفراسهم أنهم من أهل الشام وكانوا قد سمعوا بحروب المسلمين هناك فترجح لديهم أنهم بعض كبار الغساسنة وهم بالحقيقة جبلة وأهله فأقاموا هناك مستترين.
أما حماد وسلمان فما عزما على العراق سارا لوداع أبي عبيدة فإذا هو يتأهب لوداع الإمام عمر وقد هم بالرجوع إلى المدينة فوقفا ريثما ودعه فامتطى عمر جمله وركب معه بعض الأمراء وودع الناس وتحول نحو المدينة وسلمان وحماد ينظران إليه ويعجبان بما أوتيه من رفعة المنزلة مع رغبته في الزهد والاقتصار على بسائط الأشياء.
ولما توارى الإمام عاد الأمراء إلى معسكرهم وفي مقدمتهم أبو عبيدة فانتظر حماد وسلمان ريثما خلا بنفسه فسارا إليه واستأذناه بالانصراف.
فقال: «إلى أين؟»
قال حماد: «إننا سائرون إلى العراق لعلنا نلتقي بوالدي فقد طالت غيبته».
قال: «ثقوا بسلامته وصحته فأنه مقيم على الرحب والسعة وهل سمعتم خبرا عن جبلة».
قال: «لم نسمع خبرا بعد ولعلنا نعرف عنه شيئا هناك». (قال ذلك وهو يعلم أنا أبا عبيدة إذا علم بمكانه بعث من يقبض عليه عملا بإرادة الإمام عمر فأنكر مكانه).
فقال أبو عبيدة: «أظنكما تعثران عليه في العراق فقد سمعت من بعض الناس أنه سار إلى هناك وربما يقيم في دير هند الكبرى خارج الحيرة».
فلما سمع حماد ذلك أجفل ولكنه تجلد وتجاهل وقال: «سنبحث عنه جهد الاستطاعة وهل تظن عليه بأسا إذا عرف مكانه».
قال: «إن أمير المؤمنين كتب إلى عماله في الشام وفلسطين والعراق كافة أن يقبضوا على الرجل حيثما وجدوه لأنه أسلم وارتد وخرج من المدينة فارا».
فشكر حماد لنفسه لأنه لم يبح بمكان جبلة ولكنه خاف عليه من الرقباء ومال إلى العجلة في المسير إلى العراق فاستأذن أبا عبيدة وودعه سلمان وسارا إلى خالد وغيره من الأمراء ودعاهم وخرجا يتأهبان للمسير.
الفصل التاسع والتسعون
وادي الفرات
وبعد بضعة أيام حملا ما استطاعا حمله من المتاع وخرجا من بيت المقدس وفيما هما في الطريق قال حماد: «لا تظننا إذا أتينا العراق عائدين إلى هذه البلاد فلنأخذ أمتعتنا التي تركناها في بصرى وخصوصا الدرع فأنها كنز ثمين عندي وقد أحتاج إليها في دفاع أو هجوم». فمرا ببصرى فنزلا البيت حملا منه ما طاب لهما من خفيف الحمل وغالي الثمن وخرجا إلى دير بحيرا ودخلا الصومعة قبلا أيقوناتها فتذكر حماد أياما مرت به هناك فهاجت فيه ذكرى هند وتنبهت أشجانه وتاقت نفسه إلى العراق لملاقاة حبيبته قبل أن يصيبها سوء ولقيا في دير بحيراء خادمة هند فسألاها عن حالها فقالت أنها ستسير في أثرهما مع قافلة من قوافل العراق.
أما هما فاصطحبا خادما أو دليلا يسوس الخيل ويدلهما على الطريق وسارا وهما تارة يمران بغياض وطورا برمال وآونة بجبال وأودية وتارة بصخور وعرة وكانت أكثر البقاع مشقة عليهما صحراء الشام وفيها بقايا مدينة تدمر العظمى وبعد بضعة عشر يوما أطلا على وادي الفرات من أكمة مرتفعة فإذا هو سهول منبسطة يخترقها الفرات وفيها القنوات والبحيرات بينها المغارس والبساتين. والمزارع وكان وصولهم إلى هناك قبل الغروب فوقفا والخادم ينصب الخيمة على نية المبيت فوق ذلك التل أما حماد فوقف وهو على متن جواده والتفت إلى تلك السهول الخصبة وما يتخللها من القرى والمدن وفيها الماشية عن بعد وشجر النخل كأنه جند واقف لألقاء التحية فتذكر والده النعمان وقال في نفسه (هذه هي البلاد التي كان يحكمها والدي). ومرت بذاكرته خيالات جمة أكثرها مخيف ولكن صورة هند كانت تظللها كلها فتزيل المخاوف على أنه ما لبث أن تصورها في حال الضيق فهب من أعماقه تصوراته وعاد إلى قلقه.
أما سلمان فكان يساعد الخادم في نصب الخيمة وإعداد معدات الراحة فلما فرغ من ذلك جاء إلى سيده وطلب إليه أن يترجل فترجل فساق الخادم الفرس ووقف حماد وسلمان ينظران معا إلى وادي الفرات.
فقال حماد: «وأين موقع الحيرة يا سلمان؟»
قال: «إن الحيرة أول مدينة تستقبلك قبل وصولك الفرات وأظننا نشرف عليها غدا وبينها وبين القادسية بضعة عشر ميلا».
ثم جلسا للعشاء وانصرفا بعده للرقاد لأن التعب أخذ منهما مأخذا عظيما. وفي الصباح التالي بكرا وركبا وحماد لا يصدق أنه يشرف على الحيرة ويرى دير هند ولو عن بعد. وبعد ظهيرة ذلك اليوم أشرفا على بحيرة من الماء كبيرة ظنها حماد لأول وهلة بحرا فقال: «ما هذا يا سلمان» قال: «هذه بحيرة النجف يا مولاي وعلى ضفافها جرت واقعة القادسية التي سمعنا خبرها في معسكر أبي عبيدة. ووراء هذه البحيرة شمالا مدينة الحيرة مقام المناذرة أجدادك ووراء الحيرة شرقا نهر الفرات. وأما دير هند فهو خارج الحيرة وربما أطللنا عليه بعد قليل. ولا يخفى عليك أن معظم الكروم والبساتين المجاورة للدير في ضواحي الحيرة هي من أملاك الأمير عبد الله ولا ندري ماذا جرى فيها بعد واقعة القادسية وإذا كان مولاي الأمير ممن شهدوا الواقعة فأظنه يتدبر في حفظها وحمايتها».
فقال حماد: «ألا ترى إذا أطللنا على الحيرة الآن أن نبيت في الدير الليلة».
قال: «لا أظننا نستطيع ذلك والمسافة بعيدة ولا ندري ما هنالك من العقبات فقد نبيت الليلة في مكان على مقربة من الحيرة وفي الغد نسير إلى الدير».
قال: «حسنا» وفي الغروب ظهرت لهما الحيرة بأبنيتها ولكن الظلام غشيها قبل أن يتبيناها فباتا تلك الليلة وأصبحا وحماد لم ينم إلا قليلا لشدة قلقه وتشوقه فكان كلما تصور ملاقاته هندا اختلج قلبه فوصلا ضواحى الحيرة عند الظهيرة فأطلا على دير هند فلما رآه حماد تذكر أنه يعرفه من ذي قبل ولكنه لم يدخله فمشيا بين الكروم ومغارس الفاكهة والزيتون وسلمان يدله على ما يملكه الأمير عبد الله وحماد يزيد استئناسا ولكنه ما زال هاجسا بهند لا صبر له على لقائها ثم وصلوا إلى قناة من الماء تظللها شجرة عظيمة وحولها الأشجار يانعة يمر بها النسيم اللطيف فتسمع لأوراقها حفيفا يطرب السمع بما يمازجه من خرير الماء الجاري فوق الحصباء فتقدم سلمان إلى حماد أن يستريحا هناك ويتناولا الغداء وفي الأصيل يدخلا الدير.
فقال حماد: «لا صبر لي على ذلك كيف نكون بقرب الدير ولا نسرع إليه».
قال سلمان: «أرى والأمر لمولاي أن تستريح أنت هنا والخادم يدبر لك الطعام وأذهب أنا إلى الدير أبحث عن هند وأعود إليك بالخبر».
قال: «لا أراني قادرا على ذلك ولا بد لي من المسير معك فلنترك أحمالنا تحت هذه الشجرة مع الخادم ونذهب إلى الدير».
قال: «افعل ما بدا لك» فشربا وغسلا أيديهما ووجهيهما من الغبار وهما بالمسير.
الفصل المائة
الفشل
ركبا وسارا بين الأشجار والشمس فوق الرؤوس فلم يغنهم ظل الأغصان إلا قليلا حتى انتهيا إلى باب الدير وحماد قد نفد صبره. وكان سلمان عارفا الجرس المعلق هناك فجذب الحبل فدق الجرس ودق قلب حماد معه فوقفا برهة لم يفتح لهما أحد فأعاد الدق وبعد قليل أطل من فوق الباب راهب وقال مستفهما: «من أنتم؟»
قال سلمان: «زوار للدير».
قال: «من أين أنتم قادمون؟»
قال: «من جهات الشام».
فقال الراهب بلهجة النفور: «لا محل للزيارة عندنا» وتحول إلى داخل الدير فناداه سلمان فلم يجب فكلمه بلسان أهل الحيرة فعاد الراهب وقد تذكر أنه يعرف ذلك الصوت فأطل ثانية من أعلى الباب وقال: «من أنتم؟»
قال سلمان: «لسنا من أهل الشام وإنما نحن عراقيون مثلكم افتحوا لنا» فتفرس الراهب في وجه سلمان برهة ثم جذب سلسلة مشدودة بالنافذة ففتح الباب فدخل حماد وسلمان وفرساهما وراءهما فأخذ الراهب يرحب بهما وينظر إلى سلمان لعله يعرفه.
فقال له سلمان: «أتعرف هذا الشاب يا حضرة الأب». وأشار إلى حماد.
فالتفت إليه وقال: «أليس هو الأمير حماد بن الأمير عبد الله».
قال: «بلى هو فهل رأيت والده في هذه الأثناء».
قال: «رأيته مرارا وهو الآن مع جند المسلمين في خير ولولاه لأصابنا ضنك وربما قتلنا فقد كان لنا عونا ومجنا بورك فيه ومربحا بابنه».
وما زالوا سائرين حتى أتوا دار الضيافة وحماد ينظر يمنة ويسرة وقد شاعت عيناه لعله يرى شيئا يتنسم منه رائحة هند فلم ير إلا رهبانا وفعلة فدخلوا دار الضيافة وتناول الفرسين بعض الخدم فساقوهما إلى الإسطبل وبعثوا من يدعو الخادم ليأتي بالأحمال.
أما حماد فتعاظم قلقه ولم يعد يستطيع صبرا فأدرك سلمان فيه ذلك فابتدر الراهب بالاستفهام عما منعه من فتح الباب لهما حالا وما الذي يخافونه من أهل الشام.
فقال: «نلتمس من الأمير حماد عذرا على توقفنا عن استقباله برهة وما ذلك إلا لأننا وقعنا منذ أيام في ورطة بسبب ضياف نزلوا عندنا وكانوا قادمين من الشام».
فقال سلمان: «ومن هم أولئك الاضياف؟»
قال: «جاءنا جماعة نزلوا في هذا الدير شهرا ونحن نحسبهم من أعيان الشام فما لبثنا أن عرفنا أنهم جبلة بن الايهم وامرأته وأبنته وبعض خدمه».
فلما ذكر جبلة وأهله خفق قلب حماد وخاف أن يسمع خبرا يسؤه وقد عودته حوادث الأيام أن يسيء الفأل في كل مستقبل فأصاخ بسمعه ليرى ما تم لهم واكتفي باصغائه حال الراهب على إتمام حديثه. وكان بعض الرهبان قد جاءوا بالمواعين فيها الماء ليغتسل الضيفان فلم يلتفت أحد منهما إليها وظلا مصغيين.
قال الراهب: «فأقام الملك جبلة بيننا أياما على الرحب والسعة ونحن لا نحسبه إلا من بعض أمراء الشام. على أننا كنا نعجب لاحتجابه في الدير واحتباسه عن العيون ونحن نتوسم من خيوله وخدامه أنه محب للصيد والفروسية. ولكن الأمر انكشف لنا بغتة فجاءنا جماعة من جند المسلمين في عصاري بعض الأيام وفيهم الفرسان والمشاة وقرعوا الباب ففتحنا لهم ونحن غير خائفين لما نعلمه من العهود التي خصصوا الديور والكنائس بها. فخرج الرئيس المحترم لاستقبالهم فقالوا لا خوف عليكم ولكن عندكم عدوا فر منا في حرب الشام وكان قد أسلم ثم ارتد فلا بد من القبض عليه وسوقه إلى الأمير سعد بن مالك».
فسأله الرئيس عن ذلك العدو فقال: «أنه جبلة بن الايهم ملك غسان وكان جبلة قد رأى الرجال وعلم أنهم قادمون للقبض عليه فتربص ولو كان وحده لتمكن من الفرار ولكنه لم يجد إليه سبيلا. فقبضوا عليه وساقوه حالا ولم يمهلوه ريثما يلتفت وراءه».
فقطع سلمان الحديث قائلا: «هل ساقوه وحده».
قال: «ساقوه معه امرأته والخدم».
قال حماد: «وماذا جرى لابنته؟» قال ذلك وهو مضطرب الحواس.
قال الراهب: «أما ابنته هند فكانت قد خرجت في صباح ذلك اليوم لزيارة دير هند الصغرى في الحيرة على أن تقضي نهارها هناك وتعود في المساء. فلما أخذ والداها لم تكن هي هنا فلما جاءت في المساء أخبرناها بما كان فأجفلت ولطمت خديها وندبت والدها ثم وقفت تبكي تارة وتفكر أخرى حتى قاربت الشمس الزوال ونحن نخفف عنها فسألتنا عما قاله لنا والدها قبل ذهابه فاعتذرنا بأنه لم يستطع كلاما لفرط ما ألحوا عليه بالذهاب. فأسرعت إلى جواد لها كان باقيا هنا فركبت وتزملت بعباءة من الحرير المزركش كأنها فارس مغوار واستفهمت عن الجهة التي ساروا فيها بوالدها فأشرنا إليها فهمزت الفرس وخرجت تنهب الأرض نهبا ونحن لا نعهد مثل ذلك في البنات. ثم لم نعد نعلم عنها خبرا».
فما أتى الراهب على تمام الحديث حتى انقبضت نفس حماد واتقدت الغيرة في قلبه وتولاه اليأس فلبث صامتا كأنه أصيب بصدمة ثم التفت إلى سلمان فإذا هو صامت يفكر.
فاستغرب الراهب ما ألم بهما من البغتة وعهده باللخميين يسرون بما يسوء الغساسنة لما بينهما من الضغائن القديمة فقال لهما: «ما بالي أرى حديث جبلة قد همكما إلى هذا الحد وهو غساني ألعلكما من غسان».
فقال سلمان: «لم يهمنا حديثه ولا يهمنا أمر الغساسنة كلهم ولكننا نفكر في تلك الفتاة المسكينة. فهل مضى على ذهابهم مدة طويلة».
قال: «لا تزيد على بضعة عشر يوما».
قال: «وهل سمعتم عنهم شيئا بعد ذلك».
قال: «سمعنا أخبار متضاربة فمن قائل أن سعدا أمير جند المسلمين قتلهم حالا وقائل أنهم قتلوا قبل وصولهم إليه وقائل أنهم لا يزالون أحياء».
فازداد اضطراب قلب حماد وهم بالنهوض فأقعده سلمان وقال للراهب متجاهلا: «وماذا سمعتم عن ابنته المسكينة».
قال: «لم أسمع شيئا عنها منذ خروجها ولعلها اقتصت آثارهم إلى معسكر المسلمين».
فلم يعد حماد يستطيع صبرا فنهض إلى جواده وتبعه سلمان. وكان خادم حماد قد وصل الدير بما معه من الأمتعة وجعلها في مأمن. فانفردا في مكان.
فلما خلوا قال حماد: «دعني يا سلمان أقتفي أثر جبلة فقد ضاق صدري وتحدثني نفسي بسوء أصابهم جميعا. أهذه نهاية آمالي ونتيجة أتعابي». قال ذلك وحرق أسنانه وتلألأت الدموع في عينيه ولكنه تجلد تجلد الرجال وقال: «علينا السعي يا سلمان وعلى الله التدبير. فما الرأي».
قال: «الرأي أن نقصد معسكر المسلمين وندخل على سعد بن مالك أميرهم فنسأله عن مولاي الأمير عبد الله وهو عنده من كبار المشيرين كما تعلم فإذا لقيناه أعاننا في البحث عن جبلة وأهله وإذا كان جبلة لا يزال حيا وسطنا الأمير عبد الله بالعفو عنه».
فقال: «نعم الرأي رأيك ولكن هندا أين هي».
قال: «نظنها معهم وهب أن والدها قتل فهي لا تقتل لأن المسلمين لا يؤذون النساء فقد تكون عندهم في حفظ وخصوصا إذا كان سيدي الأمير عبد الله قد رآها أو عرف مقرها».
فقال حماد: «إلا تظنهم يتخذونها سبية.. أعوذ بالله» قال ذلك وهم بالجواد يركبه. فقال سلمان: «تمهل يا مولاي ريثما نلاقي رئيس الدير ونسأله عن معسكر المسلمين لئلا نبذل السعي والوقت عبثا». قال: «حسنا» وتجلدا ودخلا على الرئيس وكان قد عرف قدومهما فرحب بهما وقبل حماد وأمر لهما بمائدة فقالا لا نستطيع طعاما لأننا خارجان على عجل لأمر هام لنا وقد جئنا لوداعك. قال: «أتودعانني قبل أن نلتقي».
قال: «كذلك قضي علينا وأنتم تعلمون أن سيدي الأمير عبد الله في معسكر المسلمين وفي نيتنا أن نذهب إليه فأين هو معسكرهم».
قال: «إن المسلمين معسكرون الآن تجاه المداين في بهر شير وأظنكم تعرفونها وهي بالحقيقة قسم من المداين فأنها في الغرب والمدائن في الشرق وبينهما دجلة. فقد نزل المسلمون على بهر شير وحاصروها شهرين ورموها بالنبال والمجانيق حتى فتحت. فاحتلوها وهم عاملون على فتح المدائن».
فقال سلمان: «إني أعرف بهر شير جيدا ويسهل علينا الوصول إليها إذ لا يحول بيننا وبينها إلا الفرات وبعض السهل».
الفصل الحادي والمائة
فتح المدائن
فودعا الرئيس ونزلا إلى الغرفة التي أودعا الأمتعة فيها فلبس حماد درعه ورداء والده الملك النعمان وجعل خاتمه بين أثوابه وسلمان ينظر إليه فسأله عن سبب لبسه ذلك الرداء فتنهد وقال: «ألسنا ذاهبين إلى المدينة التي قتل فيها والدي النعمان؟»
قال: «بلى».
قال: «ألسنا في شك من بقاء هند حية؟»
قال: «الله أعلم».
قال حماد: «ونحن نعلم أيضا أنها قد تكون حية أو ميتة إذ لا يعرف أحد مكانها وقد سيق والدها إلى القتل لا محالة فإذا كانت لحقت به فلا يخلوا أمرها من أحد خطرين أما إن تكون سبية أو قتيلة وكلاهما موت. فهل أطمع بعد ذلك في الحياة وقد آن الوقت الذي يجب علي أن أنتقم فيه لوالدي وهذه جنود المسلمين على أبواب المدائن فاني محارب معهم حتى أدخل الإيوان بنفسي فأقتل كسرى بيدي فإذا قتلت فما أنا خير من هند ولا عيش لي بعدها. وإذا حييت فذلك أمر الله يقدره لحكمة لا نعلمها». قال ذلك وقد علاه الغضب وتجلت في وجهه مهابة الملوك فأقطب أسرته ومازال يلبس درعه وصليل حديده مسموع إلى الخارج. فتهيب سلمان من منظره ولبث صامتا لا يدري ما يقول ثم قال: «ألا ترى يا مولاي أن نتنكر بزي المسلمين لئلا يستغشوننا في وسط المعركة فيحسبونا من الفرس أو من عرب الحيرة أحلافهم؟»
قال: «لقد رأيت حسنا». وكان بين ثياب سلمان كثير من تلك الأثواب لما كان يحتاج إليه من التنكر فاستخرج ثوبين لبس كل منهما ثوبا وتعمما بعمامة أهل الحجاز حتى لا يشك الناظر اليهما في أنهما حجازيان.
وكانت الشمس قد مالت إلى الأصيل وهم أهل الدير بتهيئة طعام المساء فشاهدا جماعات منهم عائدين بأحمال الأثمار والأخشاب من بساتين الدير.
ثم ركبا وأطلقا الأعنة للجوادين فقضيا مدة صامتين وأفكارهما سابحة في ما سمعاه يستوقف مجاريها أصوات حوافر الخيل وأنغام وقعها بين قرقعة على الحجارة وهمس على الرمال وهما لا يتكلمان. فأمسى عليهما المساء وراء الحيرة فباتا في كنيسة هناك وأصبحا راكبين فمرا بجيف بعضها وهم خيول وجمال والبعض الآخر جثت آدميين مبعثرة في تلك السهول لم يبق منها غير العظام الضخمة التي لم تقدر على قضمها النسور فتذكرا ما وقع هناك من الحروب الهائلة بين المسلمين والفرس. ثم قطعا الفرات على جسر من السفن وفي اليوم التالي أشرفا على المدائن وقصورها عن بعد فرأيا فوقها ضبابا كثيفا يكاد يحجبها عن الأبصار فقال سلمان: «لقد همني أمر هذا الضباب فاني أظنه غبار الحرب ويخال لي أن المسلمين يهاجمون المدينة في هذا الصباح». ثم وخزا الجوادين حتى وصلا بهر شير فإذا هي في هرج والناس فيها بين فارس وماش يهرعون نحو النهر فسألا عن سعد بن مالك فقيل لهما أنه يخوض النهر بجيشه لفتح المداين والمسلمون يقتفون أثره ففتشا عن الأمير عبد الله فلم ينبئهما بخبره أحد فصعدا إلى أكمة أشرفا منها على المدائن ودجلة فرأيا المسلمين يقطعون النهر بأفراسهم والرماح مشرعة في أيديهم وبعضهم قد بلغو الضفة الأخرى يحملون الأعلام. ونظرا إلى المداين فإذا ببعض حاميتها قد خرجوا من الأسوار بأفيالهم وأفراسهم وأعلامهم يتأهبون للقاء المسلمين وقد علا الضجيج حتى أستكت المسامع وتصاعد الغبار حتى حجب السماء. فهاجت عواطف حماد وجرى دم الملوك في عروقه وثارت الحمية في رأسه فنظر سلمان إليه فرآه قد احمرت عيناه وهو يتفرس في ساحة القتال كأنه يهم بالوثوب إليها فقال له: «ما بال سيدي في شاغل».
فنظر حماد إليه وقال: «أراني يا سلمان راغبا في نزول هذه الساحة فقد آنت ساعة الانتقام لوالدي. هؤلاء هم قتلة النعمان بن المنذر قد نزلوا لقتال المسلمين فلا أراني صابرا عن منازلتهم ووصية والدي خارجة من ظلمات القبر. ولا ريب عندي يا سلمان أن تقاعدي عن القيام بتلك الوصية من أول الأمر هو الذي عرقل مساعي وحرمني من هند لأن طاعة الوالدين واجبة وقد تهاملنا في هذا الواجب فجوزينا بالتعب والشقاء والفشل والقنوط. ألم تكن هند طوع إرادتنا ألم يكن والدها راضيا بي ينتظر ساعة القران. فما باله أحجم وتغير من يوم قرأنا تلك الوصية المقدسة وعولنا على إغفالها. ذلك أول قصاص نلناه وما زالت تتوالى علينا الإحن وتقف في سبيلنا العقبات من ذلك الحين حتى خرج النصيب من أيدينا أو كاد وكأن الله سبحانه وتعالى قد جرنا إلى هذه الساحة ليذكرنا بما ارتكباه لعلنا نرعوي ونصدع بالأمر وكأني بوالدي يناديني بأعلى صوته من أعماق قبره وأظنه ما انفك يفعل ذلك منذ أعوام ولكننا كنا بعيدين عن مدفنه فلم نسمع النداء. وتحدثني نفسي يا سلمان أن أنازل هؤلاء الفرس في جملة المنازلين وعلي برد النعمان بن المنذر وبيدى خاتمه فإما أن أقتل شهيد الثأر المقدس وإما أن أحيا بعد النصر وأظفر بخطيبتي فيطيب لي القران عملا بوصية والدي فقد أوصاني أن لا أقضي أمرا مثل هذا إلا بعد الانتقام له».
وما أتى حماد على آخر كلامه حتى ارتعشت أنامله وثارت عواطفه ولم يتمالك عن أن همز جواده نحو النهر فخاض الماء وخاضه وسلمان في أثره حتى أتيا الضفة الأخرى فرأيا المسلمين يطاردون الفرس حتى دخلوا المداين فدخلوها في أثرهم. وأوغل المسلمون في المداين وحماد في جملتهم حتى أتوا إيوان كسرى فدخلوا حديقته وخيولهم تدوس الأزهار والرياحين ورماحهم تخترق أغصان الليمون والازدرخت حتى وصلوا باب الإيوان فكان حماد أول داخل وقد عول أن يقتل كسرى بيده. والإيوان قاعة كبيرة طولها مئة ذراع وعرضها خمسون مبنية بالآجر والجبص سقفها عقد واحد قائم على عمد من الرخام المنقوش وفي صدر الإيوان عرش يجلس عليه كسرى تعلوه قبة مرصعة في داخلها مروحة من ريش النعام والى جانبي العرش مجالس الأعوان والوزراء من المرازبة والكهنة وجدران الإيوان وسقفه مزينة بالرسوم وفي جملة ذلك رسم كسرى انوشروان وغيره من الأكاسرة العظام وأبيات من الشعر الفارسى مكتوبة بالحرف الكداني وفي سقف الإيوان رسوم الأفلاك والأجرام.
فلما رأى حماد نفسه في وسط الإيوان ووقع نظره على ذلك العرش أسرع نحوه وهو يحسب كسرى جالسا عليه فإذا هو خال وليس في المكان أحد من الفرس لفرارهم جميعا إلى حلوان ولم تمض لحظات حتى امتلأ الإيوان بالمسلمين وقد أخذوا في تكسير التماثيل وتمزيق الصور وكان الفرس قبل خروجهم قد حملوا معهم ما خف حمله وغلا ثمنه وبقي مع ذلك ما لا تقدر قيمته من الذهب والحجارة الكريمة والثياب المزركشة والأسلحة المذهبة والتيجان المرصعة.
أما حماد فحالما تحقق سقوط المداين لم يعد يشغله شاغل عن التماس الأمير عبد الله فلم يره بين الهاجمين فانشغل باله عليه فأوعز إلى سلمان أن يساعده في طلبه وكان سلمان أكثر قلقا عليه من حماد. فقال لحماد: «لا تبعد أنت عن هذا الإيوان فإني ذاهب إلى سعد بن مالك أمير هذا الجند لعلي أسمع منه خبرا عن سيدي الأمير».
قال: «حسنا» وبقى حماد في جملة الجند لا يستغشه أحد حتى سكنت الغوغاء وهو ينظر إلى ما يحمله الفاتحون من التحف الغريبة وفيها التيجان والسيوف المرصعة فسمع قائلا يقول: «هذا هو سيف النعمان» فلما سمع ذلك خفق قلبه وود لو يناله هو ولكنه لم يجسر على التماسه فقال في باطن سره هذا هو سيف النعمان وهذا ابن النعمان وهذا برد النعمان وهذا خاتمه وقد شهدوا حرب الفرس معا ورأوا سقوط دولتهم رأى العين وذلك ما تمناه والدي ولم يبق لي في الحياة مأرب إلا إذا ظفرت بمنيتي ومنتهى أربي. ولم يكد يتذكر هندا حتى عادت إليه أشجانه ونسي موقفه واليأس في شاغل عنه فهمز جواده وأخذ في البحث عن عبد الله فتذكر موعده مع سلمان فوقف حتى عاد سلمان فإذا هو منقبض الوجه فقال له حماد: «ما وراءك» قال: «لقيت بعض حاشية سعد بن مالك وسألتهم عن الأمير عبد الله فقالوا أنه كان معهم ولكنه خرج من المعسكر أول البارحة ولم يعد».
فقال: «هل سألتهم عن جبلة؟»
قال: «سألتهم فقالوا إن سعد أمر بقتله منذ قبض عليه».
فقال: «هل علمت إذا كانت هند معه عند قتله وماذا جرى لها؟»
قال: «علمت أنها لم تكن معه ويظهر أنها لم تصل إليه فقد قال لي مخبر أن جبلة سيق أسيرا ومعه امرأته فقط وعلى كل حال لا نظننا نتبين الحقيقة إلا من سيدي الأمير عبد الله».
وتركا المدينة والمسلمون يحسبونهما من جملة جندهم لما تنكرا به من الزي الحجازي حتى إذا صارا خارج المدائن قال حماد: «لقد قضي الأمر يا سلمان وسقطت عاصمة الفرس وإن يكن ملكها يزدجرد فر ولم يقتل بعد ولكنه مقتول لا محالة فها قد أنفذنا وصية والدي ولكننا ما لبثنا أن سمعنا بمقتل جبلة ونحن في ريب من أمر أهله ولا نعلم مقر هند». قال ذلك وحرق أسنانه وأطرق.
فقال سلمان: «لا أظن هندا إلا في بعض الديور وعلى كل حال إننا لا نستطيع أمرا قبل مواجهة الأمير عبد الله».
قال حماد: «وما العمل؟»
قال: «أرى أن نفتش عنه».
قال: «أخاف أن يكون قد أصاب حتفه أيضا».
قال: «لا أظن ذلك لأنه لم يكن في المعركة وقد علمنا أنه كان في المعسكر قبل الهجوم فلعله التجأ إلى مزرعة من مزارعه خوفا من الحرب».
قال: «أتعرف له مزرعة قريبة من هذا المكان؟»
قال: «أعرف مزرعة له على بضعة أميال منا فلنذهب إليها لعلنا نقف على خبره من بعض الفلاحين هناك».
قال حماد: «سر أنت في هذه المهمة ودعني أعود إلى الحيرة أجدد البحث عن هند لعل أحدا من أهل الدير ينبئني بخبرها ولنضرب موعدا نلتقي فيه بمكان نعينه».
قال: «لقد رأيت رأيا حسنا وأرى أن نلتقي في دير هند الصغرى في الحيرة بعد ثلاثة أيام فمن استطلع خبرا قصه على الآخر». وافترقا.
الفصل الثاني والمائة
أين هند
فأطلق حماد لجواده العنان وعاد فخاض دجلة وأغرب يلتمس الفرات فقطعه وسار قاصدا دير هند الكبرى وبات في الطريق ليلة ونزل على الدير في أصيل اليوم التالي فقرع الجرس ففتحوا له وهم يحسبونه مسلما لتنكره بلباس الحجازيين فرحبوا به ولبثوا ينتظرون ما يبغيه فلم يكلمهم وظل قاصدا الرئيس وقد عرف غرفته فاستقبله أحسن استقبال وبالغ في إكرامه فلم يصبر على تنكره فأطلعه على حقيقته فسأله عما لقيه فقص عليه خبر المداين وفتحها فذكر الله وقال: «لقد توسمنا قرب سقوط الفرس منذ أشهر لأنه سبحانه وتعالى لا يبقي على عبده النار فان هؤلاء الفاتحين وإن لم يكونوا نصارى فهم يعبدون الله ويوحدونه ويؤمنون بالأنبياء والرسل ويذكرون عيسى ومريم بالخير ففي انتصارهم نصرة للدين القويم».
ولم يكن هذا الحديث ليهم حمادا ولكنه صبر حتى فرغ الرئيس من كلامه فقال له: «هل سمعتم شيئا عن جبلة بعد ذهابي؟»
قال: «لم نسمع عنه شيئا ولكننا سمعنا خبرا عن ابنته».
قال: «وماذا سمعتم عنها».
قال: «إن بعض رهباننا ينزلون الحيرة مرتين في الأسبوع يحضرون سوقها يستبدلون ما يفضل عندنا من غلات أرضنا بما نحتاج إليه من الأنسجة أو الآنية أو نحوها فاتفق للذين نزلوا على أثر خروج جبلة وأهله أنهم رأوا تلك الفتاة في بعض طرق الحيرة على أنهم اختلفوا في حقيقتها فأنكرها بعضهم وأصر الآخرون على أنها هي هي بعينها فلا ندري أيهما مصيبا».
فلما سمع حماد ذلك قال: «إلا يتنازل حضرة المحترم لاستقدام أولئك الرهبان لعلي أتحقق الأمر بنفسي».
قال: «حبا وكرامة». وصفق فجاء راهب فأمره أن يدعو راهبين سماهما وبعد هنيهة جاء الراهبان فسألهما حماد عن تلك الفتاة فقال أحدهما: «رأيناها قبل أن ندخل الحيرة بقرب بحيرة هناك ويخال لي أنها ابنة جبلة ولكن أخي هذا ينكر علي ذلك».
فقال الآخر: «لا أظنها هي لأني لم أتوسم فيها ما عهدناه من الأنفة والعزة فقد عرفناها هنا وفي وجهها مهابة الملوك وفارقتنا على جواد كأنها من أمهر الفرسان والفتاة التي شاهدناها لا أقول أنها لا تشبهها ولكنها أشبه بعامة الناس منها بالملوك أو الأمراء».
فلما سمع حماد كلامهما تحير في أمره ومال بكليته للمسير إلى الحيرة يتفقد هندا بنفسه فتظاهر بالاكتفاء بما سمعه وهم بالنهوض فدعاه رئيس الدير للمبيت عندهم تلك الليلة فاعتذر بما يدعوه إلى سرعة المسير وودعه وخرج والشمس قد مالت نحو المغيب وجعل الحيرة وجهته ولم يكد يتوارى عن الدير حتى أشرف على الحيرة ورأى غديرها المتصل بالبحيرة وقد غابت الشمس وأخذت الكواكب في الظهور فأظلمت الدنيا في عينيه فالتفت فإذا هو على ميل وبعض الميل من المدينة ثم اشتد الظلام ولم يعد يرى الطريق فتبين له عن بعد نور مزدوج عرف من خفقانه أنه وقود عند الشاطئ انعكس نوره في الماء فظهر مزدوجا فقصده وقبل أن يصله سمع صوتا يناديه بلغة العراق: «من أنت».
فقال: «غريب لا أعرف الطريق ومن أنت».
فقال: «يا هلا بالضيف أهلا بالفارس».
ثم رأى حماد الرجل قادما وبيده خشبة مشتعلة يستضيء بها فتفرس فيه فإذا هو شيخ طاعن في السن قد استرسلت لحيته وشاب شعره ولكنه لا يزال في نشاط الشباب عليه عباءة خلقة وبيده عصا كبيرة فعرف حماد من مجمل منظره أنه راع على أنه ما لبث أن شم رائحة الزريبة وسمع معاء الماعز فتحقق ظنه ولكنه لم ير حوله بناء ولا خيمة فترجل وسلم والراعى يتفرس فيه وينظر تارة إلى وجهه وطورا إلى لباسه.
ثم قال له: «ما بالي أرى لباسك حجازيا وكلامك عراقيا».
قال: «إني من كليهما». وقطع الكلام. فسكت الراعي وتقدم إلى الفرس فقاده بعناية وليس في ذلك المكان غيرهما فمشيا لا يسمعان صوتا غير معاء المعاز ونقيق الضفادع حتى انتهيا إلى كوخ صغير مبني من سعف النخل وقد ربض عند بابه كلب كبير الجثة ظل رابضا هادئا كأنه أدرك أن النازل ضيف لا خوف منه على القطيع.
الفصل الثالث والمائة
أين الشجي من الخلي
أما حماد قلما وصل الكوخ واشتم رائحة الرعاة استنكف من الدخول إليه فقال للشيخ: «دعنا نجلس ههنا فإن ذلك أفرج لنا».
قال: «مرحبا بك حيثما جلست». وأتاه بفرو من جلد الماعز جلس عليه وذهب الشيخ بالفرس إلى عمود وراء الكوخ شده إليه وأخذ في نزع السرج. وفيما هو يفعل ذلك سمعه حماد يتمتم ويقول أقوالا لم يفهمها.
فناداه فلم يجبه فأعاد النداء فجاء الشيخ واللجام بيده فنظر حماد إليه فإذا هو يتبسم فبانت لثته ولم يبق فيها إلا سن بارزة إلى الأعلى.
فقال له حماد: «وما يضحكك يا أخا لخم».
قال: «إنما أضحكني ما رأيته في عدة هذا الجواد مما يشبه عدة فرس تعودت أن أراه كل ليلة من ليالي الأسبوع الماضي يركبه فارس قد أعجبني فيه ما أعجبني فيك».
قال: «من هو ذلك الفارس وما الذي أعجبك فينا؟»
قال: «لقد أعجبني فيكما التنكر فإن ذاك كان يأتيني في كل صباح ملثما وعليه عباءة من الحرير فيكلمني بصوت النساء وعليه رداء الرجال. وأنت جئتني بلباس الحجاز وكلام العراق فلا أدري هل تغيرت الأرض واختلط الناس أم كيف».
فتذكر حماد هندا وما سمعه من تزملها بالعباءة يوم خروجها من الدير فاستأنس بحديث الرجل فهم باستيضاحه فإذا هو قد تركه وتحول نحو الزريبة فاستقدمه فأجاب أنه آت على عجل فلبث حماد كأنه على مقالي الجمر حتى عاد الراعي وفي يده قصعة من الخشب قد أكمد لونها من توالي السنين على استخدامها بلا غسل وفيها لبن حلبه من ماعزه وقدمها له ليشرب.
فاعتذر حماد بأنه لا يحتاج إلى طعام.
فقال الشيخ: «لقد نزلت ضيفا فما عليك إلا أن تتناول الطعام وإذا كنت ملآن الجوف تمهل ريثما أتيك ببعض الخمر» قال ذلك وتحول نحو الكوخ وعاد بقصعة فيها خمر فقدمها لحماد وهو يقول إليك هذه الخمر فأنها من غلة كرمنا هذا العام. فتناول حماد القصعة لا رغبة في الشرب ولكنه خاف إذا اعتذر أن يأتيه الشيخ بشيء آخر.
ثم جلس الراعي بجانب كلبه ويده على رأس الكلب يلاعب ناصيته بين أصابعه وهو ينظر إلى حماد.
فابتدره حماد قائلا: «ذكرت لي الفارس المتنكر ولم تتم حديثك».
قال: «هذا هو كل حديثي عنه فإنه أتاني منذ بضعة عشر يوما فأوقف جواده عند هذا الكوخ وسألني الذهاب إلى دير هند لاستفهم له على أناس قادمين من الشام هل نزلوا الدير أم لا. وكنت إذا نظرت إليه رأيته فارسا ملثما فإذا تكلم خلته امرأة فسألته أن يحسر اللثام عن وجهه فأبى ودفع إلي دينارا فأطعت أمره ووعدته بالجواب في المساء فعاد في المساء وهو يظنني ذهبت لإنفاذ مهمته ولم يدر إني لا أستطيع التخلي عن ماشيتي وليس عندي من أعهد أمرها إليه. فلما سألني أجبته إني سألت أهل الدير فقالوا أنه لم يأتهم أحد. وما زال يكرر زياراته ودفع الدنانير وأنا أجيبه جوابا متشابها حتى إذا كان منذ بضعة أيام استحلفني بدر الماشية والسيدة مريم أن آتيه بالخبر اليقين. فسرت إلى الدير فسألتهم فقالوا أنهم لم يأتهم أحد وهب أن أحدا من أهل الشام جاءهم فلا يقبلون زيارته. فلما أجبت الفارس هذا الجواب غضب وتمتم وكأني سمعته يلطم ثم تحول عني ولم أعد أراه من ذلك اليوم فندمت لإخلاص الخدمة وإنفاذ المهمة بالصداقة. فلما رأيتك وآنست ما آنسته من المشابهة بينكما ضحكت وعولت على أن لا أصدق في خدمتك».
فلما سمع حماد ذلك تحقق أن السائل هند بعينها فقال للشيخ: «ألم تعلم الجهة التي سار فيها ذلك الفارس».
قال: «لا. وهب إني أعلم فما أنا صادقك».
فمد حماد يده واستخرج دينارين دفعهما إليه فتناول الشيخ النقدين وهو يتفرس فيهما ويضحك ثم قال: «أما إذا شئت أن أصدقك الخبر فاعلم أن الفارس سار محاذيا لهذا الشاطئ قاصدا الحيرة فلما بعد عني وصار على مقربة من المدينة رأيته ترجل ووقف مدة فظننته عائدا إلي فانشغلت عنه برهة ثم التفت فلم أره».
فاستولى القلق على حماد وعجب لترجلها ووقوفها ولبث صامتا يفكر ثم قال: «ومتى حدث ذلك؟»
قال: «حدث منذ أسبوع».
أما الشيخ فلما آنس من حماد بذلا حاول المبالغة في إكرامه فجعل يقدم له الخمر واللبن فلما رآه لا يشرب شيئا وقد مضى بعض الليل دعاه للرقاد في الكوخ.
قال حماد: «لا أحتاج إلى رقاد».
فقال: «إذا كنت تحتقر كوخي وقد تعودت المنام على الأسرة فإني معد لك فراشا من الحرير». ودخل الكوخ ثم عاد وفي يده ملاءة فرشها له فعجب حماد لوجود تلك الملاءة عنده فتفرس فيها فإذا هي عباءة مزركشة فأجفل لرؤيتها ومد يده فتناولها ونظر إليها بضوء القمر فإذا هي عباءة هند وكان كثيرا ما يراها عليها إذا ركبت فصاح في الرجل: «وأنى لك هذه العباءة». فضحك الراعى ضحكة يمازجها خوف ولم يجب.
فندم حماد على ما باداه به من الجفاء وقال بهدوء: «لقد أعجبني لطفك وحسن وفادتك فإني يا عماه لا أستطيع القيام بحق شكرك على هذا الإكرام ألا تخبرني ممن ابتعت هذه العباءة».
فسكن روع الشيخ وأشار إلى كلبه وقال : «إنها من صيد هذا الكلب».
وقال: «وكيف ذلك».
قال: «افتقدته ذات صباح فلم أجده وكان قد تعود السرح في بعض الأيام ثم ما لبث أن عاد وقد عض على هذا الرداء بعينه وجاء يجره وراءه».
فازداد قلق حماد وقال: «ومن أي جهة قدم به؟»
قال: «من جهة الشاطئ».
فقال: «ألا تظنها العباءة التي كان ذلك الفارس ملتحفا بها».
فتنحنح وتشاغل عن الجواب وحرك حاجبيه وكتفيه كأنه يقول لا أعلم.
الفصل الرابع والمائة
المناجاة
فتحقق حماد أنها عباءة هند فخاف أن يكون لوجودها هناك سبب محزن فخفق قلبه وتشاءم وحدثته نفسه أن يتتبع الشاطئ لعله يقف على أثر آخر ثم تردد مخافة أن يتوه عن الطريق والوقت ليل فحاول الانتظار إلى الصباح ولكنه نظر إلى السماء وتأمل مواضع الأبراج فعلم أنه في نصف الليل فاستبعد الأجل. وكان القمر قد طلع حتى تكبد السماء فأنار البحيرة وشاطئها وأبنية الحيرة. وفي أول تلك الأبنية قصر الخورنق الشهير. فعول على مغافلة الراعي والمسير على الشاطئ فتظاهر بالضجر والقلق وقال له: «أراني لا أستطيع رقادا الآن فاحتفظ بالفرس ريثما أتمشى على هذا الشاطئ برهة لعل النعاس أن يأتيني وأعطني العباءة التحفها فتقيني من البردة».
فقال: «افعل ما بدا لك».
فتناول حماد العباءة وتزمل بها وسيفه إلى جنبه فرفعه وعلقه بمنطقته لئلا يطرق الأرض فيحدث صوتا يعترض مجاري تصوراته وسار الهوينا محاذيا للشاطئ وقد سكن الهواء وأوت الطيور إلى أوكارها. فبعد أن مشى برهة وقف والتفت وراءه فإذا بالزريبة قد توارت عنه فنظر إلى ما حوله فعلم أنه على مقربة من الحيرة وبينه وبينها المغارس والكروم وأمامه البحيرة وقد هدأ ماؤها ونور القمر ينعكس على سطحها فيتلألأ كالزجاج والطبيعة هادئة ساكنة لا يتخلل سكونها إلا نقيق الضفادع. فجلس على صخر هناك وأطلق لتصوره العنان ففكر في ما هو فيه من الهواجس وتصور هندا وعباءتها وما الذي أوصل ذلك الكلب إليها. فاعترضه فكر اقشعر منه بدنه وخيل له أن هندا لما يئست من لقائه ألقت بنفسها في ذلك الماء فبقيت العباءة على الشاطئ حتى حملها الكلب إلى الزريبة ولما تصور ذلك انقبضت نفسه وأحس كأنك صببت عليه ماء باردا وهم بالعباءة يقبلها ويتنسم رائحة هند منها فغلب عليه الوجد فأخذ في البكاء وجعل يخاطب العباءة وهو يبكي ويتنهد ويقول: «أخبريني يا عباءة هند أين تركت هند هل أنت خلعتها أم هي خلعتك وقد غرقت في هذا الماء وتركتك نذيرا بمصيرها آه من طوارئ الحدثان آه من تقلبات الزمان أين هند الآن ألعلها لا تزال في قيد الحياة أم هي غارقة في هذا الماء وقد أكلت لحمها الأسماك ... كيف تموت هند وحماد حي يرزق..» وسكت برهة ثم قال: «ألعلي قصرت في البحث عنك حتى يئست من لقائي من يخبرني أين أنت.. هند هند ... أين أنت أالبستني درعا لتقيني وتقتلي نفسك قبح الله رأي والدك وضعف عزيمته لقد جر علينا الشقاء سامحه الله إذا كان لا يزال بين الأحياء. من يخبرنى أن هندا حية أو ميتة فإذا تحققت موتها استودعت الدنيا ولحقت بها لعلنا نلتقى في ظلمة الأبدية ...» ثم سكت برهة ومسح دموعه ونظر إلى ما حوله فإذا هو منفرد ليس من يسمعه أو يراه فأطلق لنفسه عنان البكاء وعاد إلى العباءة فلف بها وجهه وجعل يشمها ويقبلها ويشهق في البكاء حتى كاد يغمى عليه.
ثم رفع العباءة عن وجهه ووقف بغتة والتفت نحو الحيرة فإذا ببيوتها ساكنة هادئة فقال: «... هؤلاء أهل الحيرة نيام لا يزعجهم طيف ولا يقلقهم خيال. هل يعلمون أن على شاطئ بحيرتهم ملكا يبكي كالطفل هل يعلمون أن ابن ملكهم النعمان صب هائم يبحث عن حبيبته في أكنافهم هبوا أيها الراقدون أخبروني أين هي هند أين أنت يا هند أين قامتك أين عيناك أين أنت أجيبيني فأخبرك إن دولة الفرس قد سقطت وانتقمت لوالدي تعالي نجتمع وننسى الأحزان والأتعاب لقد آن زمن الراحة ...
ولكن آه أين الراحة من فتى مات والده قبل أن يولد هو وانقضت زهرة عمره وهو لا يعرف نسبه حتى إذا عرفه وآن له أن يستريح نكبه الزمان بضياع حبيبته آه - يا ليتني لم أعرف ذلك النسب فإن معرفته جرت علي كل هذا البلاء - ما أحلى الحب وما أسعد الحبيبين إذا التقيا ولو عاشا في كوخ مثل كوخ هذا الراعي» وأوغل في البكاء وهو يقلب العباءة بين يديه ويقبلها ويشم رائحتها حتى بلها وقد تعب وخارت عزيمته فاتكأ على الصخر فعقره الدرع فتوسد الثرى وألقى رأسه على حجر فغلب عليه التعب والنعاس فغمضت أجفانه وهو بين اليقظة والمنام.
ثم استيقظ مذعورا كأنه سمع صوتا يناديه فنظر إلى ما حوله فلم ير أحدا فعلم أنها أحلام اقتضتها هواجسه وشكوكه. ولكن ذلك الصوت ما زال يرن في أذنيه وقد اضطربت حواسه وخيل له لهدوء المكان وسكون الطبيعة أنه في عالم الأرواح وإن ذلك الصوت خارج من القبور فاقشعر جسمه.
وكان البرد قد قرصه والتعب أنهكه على أثر ما قاساه من الركوب نهاره كله مع ما ألم به من التهيج والكدر في ذلك الليل فالتف بالعباءة جيدا ونهض ومشى بالشاطئ وهو يحاذر أن تسمع خطواته كأنه يخاف أحدا ثم رأى النجوم تتوارى رويدا رويدا حتى لم يبق منها إلا القليل وقد تضاءل ضوءها فعلم أن الفجر قريب. ثم بدا الشفق من وراء الأفق يطارد أشعة القمر وهو سابح في الفضاء كأنه يودع الليل على موعد. ورأى الأطيار خارجة من أوكارها بين مغرد ومرنم ومصفق ومرفرف ومحلق فمشى حماد والعمامة على رأسه وقد فسد هندامها لما قاسته من صدمات العباءة. أما العباءة فجعلها على كتفيه وشدها على صدره يتقي البرد بها ولم تمض برهة حتى سمع دق الأجراس من كنائس الحيرة وأديرتها فأخذ يتفرس في الشاطئ لعله يقف على أثر آخر من آثار هند ثم خاف أن ينزل أحد من أهل الحيرة ليغتسل أو يستقي فيراه في تلك الحال فهم بالرجوع وفيما هو يتحول سمع وقع حوافر فأجفل والتفت فرأى فارسا خارجا من سور الحيرة كأنه يطلب البحيرة ولم يقع نظره على الفرس حتى خفق قلبه لأنه يشبه فرس هند ولكنه لم ير فوقه سرجا وقد ركبه غلام يشبه أن يكون خادما فوقف حتى دنا الفرس منه فتأمله فإذا هو فرس هند بعينه فبغت واستبشر وصاح في الغلام فوقف.
فقال له: «إلي يا غلام».
فحالما رأى الغلام العمامة الحجازية خاف وأسرع نحوه.
فقال له: «لمن هذا الفرس؟»
قال: «هو للأمير فلان».
قال: «ومتى اقتناه».
قال: «أول البارحة».
قال: «وممن اشتراه».
قال: «من بعض الرهبان عرضه للبيع في سوق الأربعاء».
قال: «وأنى للرهبان مثل هذا الفرس وهو من خيول الشام».
قال: «لقد تعودنا مشاهدة مثل هذه الخيول يا سيدي منذ قامت الحرب فكل قتيل لم يكن له وارث وهبت أمتعته وأسلابه للأديرة تنفقها في سبيل البر فكم من فارس قتل وظل فرسه تائها فاستولت عليه الديور وباعته».
فلما سمع حماد ذلك أيقن بموت هند غرقا في تلك البحيرة وتحول عن الغلام خشية أن يرى بكاءه وأطلق لدموعه العنان والشمس لم تشرق بعد. أما الغلام فلم يصدق أنه نجا من ذلك الحجازى فحول عنان الفرس وكان قادما ليسقيه فعاد ولم يسقه.
فلما خلا حماد بنفسه وقف عند الماء والعباءة تظلله ونظر إلى السماء وتنهد وقال: «أأطمع بعد ذلك بالبقاء ... لمن أحيا وقد فقدت حياتي أأشرب الماء وقد غرقت فيه حبيبتي ... ما الذي حملك على الانتحار يا هند أيأسك من لقائي ففضلت اللحاق بي إلى دار الأبدية وقد ظننت إني سبقتك إليها. فنحن على كل حال لا حق أثر سابق ولكن ويلاه أنفترق أعواما ونحن في جهاد وشقاء فإذا آن اللقاء وزالت العراقيل امتنعت علينا الحياة ...» ثم سكت ونظر نحو الشمس فإذا هي لم تطل بعد فقال: «أأنتظر شروقك لعلك تأتيني ببشارة أم أنت لا تحملين إلا البلاء والشقاء. دعيني أتوسد الماء قبل أن أرى وجهك». ونظر إلى الماء أمامه فإذا هو رقيق لا يغرقه فتحول إلى صخر رآه ناتئا فوق الماء على مقربة منه وقال: «الأولى بي أن ألقي نفسي من فوق ذلك الصخر» فمشى نحوه وفيما هو ذاهب شعر بجاذب في نفسه يمسكه عن الانتحار فاعتبر ذلك من قبيل الضعف الذي يتولى الإنسان إذا تحقق دنو الأجل.
الفصل الخامس والمائة
لقاء هائل
فلما وصل الصخر صعد إليه ومشى نحو حافته فزلت قدمه وتعثر بأذياله فوقع وفيما هو يتحفز للنهوض حانت منه التفاتة فرأى أشباحا خارجة من ضواحي الحيرة تطلب البحيرة فقال في نفسه (فلأعجلن الأجل قبل وصولهم) فتقدم فأحس بما يمسكه عن ذلك العمل واستولى عليه الضعف الطبيعي فتجلد ونظر إلى تلك الأشباح فرآها تقترب نحو الشاطئ فتأملها فإذا هي أشباح نسوة أحداهن تحمل جرة والأخرى سلا وأخرى تسوق بعيرا وكلهن في زي واحد فاستغرب ألبستهن المتشابهة وكلها سوداء وعلى رؤوسهن أغطية سوداء فهمه أمرهن وعلم أن تلك الألبسة لا تكون إلا في الديور. فخيل له أنهن راهبات خرجن قبل الفجر للاستقاء وقطف الأثمار والبقول من مزروعات الدير فحسدهن على سذاجتهن وخلو قلوبهن من لواعج الحب ورأى حاملة الجرة تقترب نحو الشاطئ ثم ما لبثت أن دنت منه حتى كرت راجعة كأن أحدا يطاردها فاستأنس بخطواتها لمشابهتها خطوات هند ولكنها أضعف منها كثيرا فعلق ذهنه بتلك الفتاة وود لو أنه يراها لحظة أخرى فظل يتبعها بنظره حتى رآها وقفت إلى رجل يحطب فخاطبته وأشارت إلى حماد فانشغل بال حماد ومال إلى معرفة سر ذلك الخطاب ثم رآهما آتيين معا الفتاة بجرتها والرجل بفأسه.
فلبث ينتظر وصولهما فتقدم الرجل أولا وحيا حمادا وتلطف في السلام عليه وحماد ينظر إلى الفتاة وهي منصرفة نحو الشاطئ لتملأ جرتها فقال الرجل لحماد: «أتأذن لي بسؤال؟» قال: «قل». قال: «من أين اشتريت هذه العباءة».
قال: «وما يعنيك من أمرها».
قال: «لأنها مسروقة من صاحبها فإذا أخبرتنا عمن باعك إياها طالبناه بها».
قال: «وما أدراك أن هذه هي بعينها إن العبي قد تتشابه».
قال: «إن صاحبها رآها بعينه وعرفها وله فيها علامات».
قال: «ومن هو صاحبها».
قال: «الفتاة التي رأيتها الآن فإنها حالما رأتك عادت إلي بالخبر وقد كنا قضينا ثلاثة أيام ونحن نبحث عنها».
فلما سمع ذلك الكلام ظن نفسه في منام فمسح عينيه والتفت إلى ما حوله واستشهد وجدانه فتحقق أنه في يقظة فنظر إلى حاملة الجرة فرآها قد ملأت جرتها وعادت إلى رفاقها فجعل يتأمل خطواتها فإذا هي خطوات هند ولكن الجسم نحيل فقال للرجل: «ما بال صاحب العباءة لا يطالب بها بنفسه».
قال: «لأن صاحبتها من راهبات دير هند الصغرى ولا يؤذن لهن بمخاطبة الرجال وأما أنا فمن خدمة الدير المكلفين بمثل ذلك».
فقال حماد (وقلبه يكاد يطير من الفرح وهو يمسك نفسه ويتجلد): «وهل صاحبة هذه العباءة قديمة في سلك الرهبنة».
قال: «لا تزال حديثة وقد دخلت في طور الابتداء فإذا مضى عليها بضعة أشهر تحت الاختبار رسموها ولذلك فقد وهبت الدير كل ما كان معها من الثياب والمصاغ والدواب» فأيقن حماد أنها هند ولولا عمامته ولباسه الحجازى لعرفته لأول نظرة وهي لولا ثوبها الأسود ونحولها لعرفها. فلما أيقن أنها هي بنفسها ارتعدت فرائصه لما كان فيه من الخطر وحمد الله لنجاته على هذه الكيفية وحدثته نفسه أن يسرع إلى هند فيطلعها على حقيقته فخاف عليها من البغتة مع ما آنسه من ضعفها فصبر نفسه. وخاف من الجهة الثانية أن تكون قد نذرت العفة فلا يبقى له إليها سبيل فقال للرجل: «وهل نذرت العفة».
قال: «لا تنذرها قبل أن تنقضي مدة الابتداء».
فاطمأن باله ونظر فإذا بالفتيات لا يزلن في شواغلهن بعيدات لا يسمعن ولا يرين وصاحبة الجرة قد وضعت جرتها على الأرض وجلست على حجر منفردة تنتظر رفيقاتها ليرجعن إلى الدير معا.
فقال حماد للرجل: «اذهب إلى صاحبة العباءة وقل لها إني لا أعطي العباءة إلا تسليما بيدها».
قال: «قلت لك يا مولاي أنها لا تستطيع ذلك».
قال: «إليك هذا البرد» وخلع برد النعمان عنه من العباءة ادفعه إليها بدلا وقال له: «أدفعه إليها بدلا من عباءتها».
فتناول البرد وتأمله فإذا هو أثمن من العباءة كثيرا فأسرع به حتى أتى الفتاة وهي لا تزال جالسة وحدها فدفعه إليها وقال: «لم يعطني العباءة ولكنه دفع إلي هذا البرد». فحالما رأته صاحت للحال حماد حماد ... وتركت الجرة وأسرعت نحوه وكان هو يراقبها ليرى ما يبدو منها فلما رآها نهضت وأسرعت نحوه لم يبق عنده ريب بشأنها فأسرع لملاقاتها وقد نزع العمامة عن رأسه فلما التقيا وقعت هند مغميا عليها فاستقلت على جنب حماد فأنهضها وكان خادم الدير قد رآها تسرع نحو حماد فلما أغمي عليها أسرع بالماء ورشها فأفاقت وهي تقول حماد حماد حماد .... وهو يقول هند هند حبيبتي هند أأنت حية وأنا أحسبك غريقة في هذا الماء ولو تأخر قدومك لحظة أخرى لذهب حماد طعاما للأسماك.
قالت: «حماك الله يا حبيبي». ثم غلب عليها الحياء فغطت رأسها بالنقاب الأسود وجلست متأدبة وقد امتقع لونها وتولاها الهزال. فقال لها: «أين والدك يا هند». قالت: «أما سمعتم خبره إنهم قتلوه وأظنهم قتلوا والدتي آه من تقلبات الأيام». وأوغلت في البكاء.
قال: «هل تحققت مقتله؟»
قالت: «لم أره ولكنني سمعت به ولولا ذلك لرأيتني معه حينما كان لأني لما قبضوا عليه وعلى والدتي امتطيت جوادي وتعقبت أثرهما فوصلت الحيرة فبت في هذا الدير وقد كنت أتردد إليه قبلا فأشارت علي الرئيسة أن أبقى عندها وأبعث من يستطلع الخبر فعاد المخبرون وقد أكدوا مقتلهما فلم يبق لي نصير إلا حبيبي حماد ومن يخبرنى بقدومه فإن الخادمة التي كنت أرسلتها للبحث عنك في بيت المقدس لم تعد بعد فاستخدمت راعيا بالقرب من هذه المدينة كنت أتردد إليه متنكرة ليسأل عن قدومك إلى الدير فقطع أملي من دخولك الدير لأن أهله لا يقبلون فيه واحدا من الشام فضقت ذرعا واستولى علي اليأس ولم يبق لي في الدنيا مطمع بعد فقد والدي وضياع حبيبي وزوال عز الملك وخسارة الأموال والعقار ولا أنكر عليك إني هممت بالانتحار غير مرة ولكن قلبي لم يطاوعني لأني لم أيأس من لقائك بعد. فلم أجد وسيلة غير الترهب في دير أعرف رئيسته وبعض راهباته فطلبت ذلك فقبلوني مبتدية تحت التجربة فوهبتهم كل ما لي من الثياب والفرس ولم أحفظ شيئا غير الأساور وهي عربون المحبة بيننا فأنها مخبأة بين أثوابي وكنت قد أضعت عباءتي هذه أثناء رجوعي المرة الأخيرة من عند الراعي لفرط قلقي وهواجسي على أثر ما أنبأني به من خبر الدير فوقعت العباءة عني ولم أنتبه فبحثت عنها في اليوم التالي فلم أجدها وهو اليوم الذي طلبت فيها الانضمام إلى الرهبنة فأخبرتهم إني فقدت هذه العباءة فإذا عثروا بها كانت حلالا للدير وهذا هو اليوم الثالث من دخولي وقد كلفوني تجارب كثيرة فحملت الأحمال واشتغلت الأشغال الشاقة فزادني ذلك ضعفا على ضعف».
الفصل السادس والمائة
دير هند الصغرى
وكان الخادم واقفا وقد ذهل لما رآه فتقدم إلى هند فأومأ إليها أن عملها هذا مخالف لشروط الرهبنة فقالت: «دعنا نذهب إلى الرئيسة» فنهضت ونهض حماد ومشيا لمقابلة الرئيسة وفيما هما في الطريق سألته عن سبب تنكره وما مر به فأحكى لها حكايته بالاختصار حتى أتى إلى حديث المدائن والبحث عن والدها فلما بلغ إلى هناك تنهدت هند وقالت: «آه يا حبيبي إني سعيدة بلقياك ولكن حظي غير تام لما قاسيته من فقد والدي».
فقال لها: «إننا لم نتحقق مقتلهما وقد كلفت سلمان بالبحث عنهما وموعدنا الالتقاء في دير هند هذا في الغد وهو اليوم الثالث من افتراقنا ومن عرف خبرا أطلع الآخر عليه فقد فزت بطريدتي فعسى هو أن يفوز بمن يبحث عنهم والأمير عبد الله معهم».
وكانا ماشيين في وسط المدينة لا يهمهما استغراب الناس لمسيرهما معا بل كانا في شاغل من تجاذب القلوب لا يكادان يريان الطريق فلما وصلا الدير أسرع الخادم إلى الرئيسة فأنبأها بما شاهده من جرأة ذلك الحجازي على الراهبة المبتدية مما يخالف العهود المعطاة من المسلمين. فأطلت الرئيسة من باب الدير فرأت هندا وحماد قادمين وكان حماد قد نزع عمامته فعرفت من ملامح وجهه أنه عراقي فأرادت استطلاع السر فدخلت بهما إلى غرفة منفردة فهم حماد فقبل يد الرئيسة فعرفت أنه مسيحي فسألته عن أمره.
فقال: «إذا أذنت فأخبرك أن هذه الفتاة خطيبتي منذ أعوام وقضت حروب الشام بافتراقنا لا يعلم أحدنا بمكان الآخر حتى أذن الله باجتماعنا على يدك».
وتأملت الرئيسة بوجه حماد وهو يكلمها فآنست في وجهه هيبة وجلالا فقالت: «ألست عراقيا؟»
قال: «نعم ومن بني لخم».
قالت: «ويخال لي أن هندا شامية من غسان».
قال: «نعم».
فقال: «وكيف اجتمعتما؟»
قال: «كذلك قدر الله».
أما هند فتذكرت أول معرفتها حمادا وتذكرت والديها ويأسها من حياتهما فترقرقت الدموع في عينيها.
فلحظت الرئيسة فيها ذلك فقالت لها: «ما بالك تبكين يا ابنتي» وكان حماد قد أدرك سبب بكائها فقال: «أظنها تبكي لضياع بعض أقاربها في أثناء حرب الشام».
فجعلت تخفف عنها وتعزيها وتذكر حماد الأمير عبد الله وسلمان فصبر نفسه ليرى ما يأتي به الغد وقال للرئيسة: «هل ترين ما يمنع خروج هند من سلك الرهبنة».
قالت: «لا أرى مانعا لأنها لم تنذر العفة بعد».
قال: «فلتبق إذا يوما آخر في ضيافتك لأنني على موعد مع خادمي باللقاء هنا غدا وقد ذهب للتفتيش عن ضائع لنا فاحتفظي بها ريثما أعود فإني ذاهب إلى راع في ضاحية الحيرة تركت فرسي عنده البارحة».
ثم نهض فلبس العمامة لئلا ينكره الراعي وترك العباءة عند هند وهم بالخروج فأمسكته قائلة لا تذهب فإني لست تاركتك لحظة بعد هذا اللقاء فقد كفاني ما قاسيته فلا يفرق بيني وبينك إلا الموت.
قال: «والفرس».
قالت: «دعنا من الأفراس أو أرسل من يأتي به فما أنا راضية بذهابك ولا نخرج من هذا الدير إلا معا إما إلى القتل وإما إلى الحياة».
فعذرها والتفت إلى الرئيسة فطلب إليها أن تنفذ رسولا من قبلها يستجلب الفرس فبعثت واحدا يعرفه الراعى ويثق به وأطلعه حماد على علامة يتقدم إليه بها وبعث إليه دينارين ولبث ينتظر عودته.
أما الرئيسة فقالت لحماد: «لا يخفي عليك يا سيدي أننا في دير راهبات لا يؤذن للرجال دخوله إلا إذا نزلوا في دار الأضياف وأما اجتماعهم بالراهبات فمحظور فإذا رأتك الراهبات مع هند وهن لا يعرفن علاقتكما ساءوا الظن فهل تتفضل فتنزل في دار الاضياف ريثما يأتي الغد».
قال: «أفعل ما تأمرين». وودع هندا ونزل يصحبه الخادم إلى دار الاضياف فمرا بمربط الخيول فرأى أفراسا شاهد بينها فرسا يشبه فرس سلمان فاستبشر وأسرع إلى الدار فلقيه سلمان فهم أحدهما بالآخر وهما يبتسمان فاستبشرا معا فقال سلمان: «هل ظفر سيدي بهند؟»
قال: «نعم ولكنها راهبة في هذا الدير».
قال: «وهل نذرت العفة؟» فضحك حماد وقال: «لا وأنت هل ظفرت بالأمير عبد الله؟»
قال: «ظفرت به وبجبلة وامرأته».
قال: «أين هم؟»
قال: «سيصلون إلينا الليلة أو غدا وسيأتون متنكرين لأنهم كانوا مختبئين عند سيدي الأمير عبد الله ولولاه لكان حموك جبلة في عالم الأموات ولكن الأمير عبد الله حالما علم بالقبض عليه استرضى الذين أمسكوه وأظهر للناس أنه قتل وخبأه في منزله بتلك المزرعة ريثما يتمكن من العثور على هند أو الاجتماع بك فلما وصلت إليهم وأنبأتهم بخبرك أنفذني لأطمئنك وأساعدك في البحث عن هند ريثما يقدمون هم إلينا».
فانشرح صدر حماد أيما انشراح وحمد الله على انقضاء الأزمة بالتي هي أحسن ولم يملك صبرا عن تبشير هند ببقاء والدها حيا.
وهم بالرجوع إلى الدير فرأى هندا واقفة في الشرفة تطل على دار الضيافة لأنها لم يعد يرتاح بالها على حماد إلا إذا كان أمامها فلما رأته عائدا وعليه أمارات الدهشة أومأت إليه فنظر إليها وضحك فضحكت هي وقد أشرق وجهها ونسيت كل متاعبها وقالت: «ما وراءك».
قال همسا: «إن والدك ووالدتك قادمان إلينا غدا».
فأبرقت أسرتها وأسرعت لملاقاته عند الباب ولم تعد تعبأ بقوانين الدير. فلما لقيته مدت يدها إليه وصافحته وضغط كل منهما على يد الآخر ضغطة ما أدراك ما وراءها. ولا تسل عن حديث القلوب وجواذب العيون.
فقالت هند: «هل أنت متحقق قدوم والدي».
قال: «هذا سلمان قد جاء بالخبر اليقين ولكنهم قادمون ومعهم الأمير عبد الله متنكرين فاحذري أن يلحظ أحد ما نحن فيه لئلا نقع في شر أعمالنا فتكون البلية الثانية شرا من الأولى».
قالت: «وسأخبرك خبرا جديدا حدث ساعة خروجك من غرفة الرئيسة».
قال: «وما ذلك».
قالت: «إن خادمتنا الأمينة التي كانت تسعى في اجتماعنا ولولاها لا أدري ما تم لنا قد وصلت الدير الآن بعد أن قضت أياما بالبحث والتفتيش ولم تكن عالمة بوجودي هنا ولكنها جاءت تتنسم الأخبار من الراهبات فلقيتني وسررت بها لأنها ذات فضل علينا».
قال: «لقد أذكرتني بفضل سلمان الشهم الغيور فلا أدري بماذا أكافئه على مروءته وحسن صنيعه». ثم قال: «فاذهبي الآن إلى الرئيسة ودعيها على أن نفارقها غدا بعد وصول والديك والأمير عبد الله واحذري أن تسمي اسم أحد منهم».
قالت: «لا تخف من ذلك».
وتحولت وتحول هو إلى دار الضيوف ومكث هناك إلى صباح اليوم التالي.
الفصل السابع والمائة
قران سعيد
فاستحسن حماد الخروج لملاقاة القادمين في الطريق فخرج وسلمان معه على الخيول وهند لا تعلم وقطعا مسافة حتى وصلا عين ماء لا بد للقادم من المدائن إلى الحيرة من الوقوف عندها فترجلا وجلسا ولم تمض برهة حتى رأيا هندا وخادمتها قادمتين مسرعتين على الأقدام وهند بثوبها الأسود الجديد فبهتا وصاح حماد: «ما الذي أتى بك يا هند». قالت: «سامحك الله ألم أقل لك إني لم أعد أستطيع البعاد عنك لحظة مخافة أن نعود إلى ما كنا عليه من الفراق». فشكرها وجلسوا ولم يكد يستتب بهم الجلوس حتى رأوا الغبار يتصاعد من جهة الفرات فتقدم سلمان لتحقق القادمين فعاد ضاحكا مبشرا فنهضوا جميعا وتهيئوا لاستقبال القادمين ولكن سلمان عاد فأخبر الركب أن حمادا وهندا ينتظرانكم هنا فقبل وصلوهم إلى العين ترجلوا جميعا وهم جبلة مسرعا إلى حماد فضمه إلى صدره وجعل يقبله والدموع تتساقط من عينيه وأسرعت سعدى إلى هند وجعلت تقبلها وتبكي ثم تبادل جبلة وسعدى فقبلت سعدى حمادا وجبلة هندا وأما عبد الله فظل واقفا يتأمل في ذلك المنظر المؤثر فلما انتهت سعدى من تقبيل حماد تقدم إليه وضمه إلى صدره وجعل يقبله ويبكي بكاء مرا ولم يستطع أحدا إبعاده عنه حتى خافوا عليهما وهم لا يعلمون سبب ذلك وبعد برهة انفصل عنه وقد تبللت عيناه وقال: «لا تلوموني على ما رأيتم من شدة تعلقي بحماد وإن ما ترونه من دموعي إنما هو دموع الفرح فإن حمادا ملكي وولدي وصديقي وفخري وسندي ومما زادني تعلقا أنه قد انتقم لوالده وشهد سقوط دولة الفرس ومحا العار عن لخم ورفع ثقلا عن عاتقي حملته منذ نيف وعشرين سنة» ثم تقدم عبد الله إلى هند فقبلها والجميع يبكون بكاء الفرح وسلمان ينظر إليهم وقلبه يكاد يطير فرحا فلما سكت الجميع وهدأ روعهم وقف سلمان وقال: «أتسمحون لي بكلمة أقولها بين ملكين وملاكين. لقد شاركتكم في فرحكم بهذا الاجتماع السعيد فشاركوني بفرحي بمقتل ثعلبة الخائن الذي كان سبب كل هذه الأتعاب». ثم نهض جبلة والدموع لا تزال في عينيه وقال: «أما أنا فلا أقدر أصف خجلي من ولدي حماد لما سببته له من الشقاء وما بذله هو ورفيقه أو قل والده الأمير عبد الله من الجهد في إنقاذنا من الموت» فنظر سلمان إلى جبلة وقال: «ألا تزال سيدتي هند تمتنع على سيدي حماد ومن يا ترى أفضل لديك حماد أم ثعلبة». فضحكوا جميعا.
ثم نهض عبد الله وقال: «اعلموا أيها السادة إننا في خطر عظيم الآن ولم يعد يحلو لنا المقام في هذه البلاد لأننا أعداء الفرس بالطبع وأعداء المسلمين بالفعل لما ارتكبناه من مخالفة أوامر أميرهم فلا شك أنهم سيبحثون عنا ويبذلون كل سعي في القبض علينا».
فقال سلمان: «لقد نطقت بالصواب وأزيد على ذلك أننا لا نبرح الحيرة قبل أن نعقد للعروسين ثم نذهب حيثما تشاءون ولو زعل حماد وهند ...» فضحك الجميع.
فقال جبلة: «ذلك هو الرأي الصواب وإذا استحسنتم فلتكن وجهتنا القسطنطينية دار الإمبراطور هرقل نقضي بقية العمر هناك إذا لم يبق لنا مقام في الشام ولا العراق» قالوا: «حسنا» ونهضوا إلى كنيسة بقرب الدير عقدوا للعروسين بالاختصار.
ولا يحتاج القارئ إلى تقدير قيمة تلك الساعة السعيدة فأنها من ساعات العمر، وبعد الإكليل ركب الجميع وساروا متنكرين نحو القسطنطينية فوصلوها بعد بضعة عشر يوما وأقاموا فيها حتى قضى الله بما شاء.
صفحة غير معروفة