ولو أن المسلمين اقتحموا حمص في هذا الوقت لما قاومت ولأخذوها عنوة، لكنهم كانوا قد طال حصارهم لها، واشتد عليهم شتاؤها، ثم كان اضطراب الأرض بالزلزال قد رابهم وروعهم، فلم يشعروا بما كان من رعب أهل المدينة وفزعهم؛ لذلك أجابوا رؤساء المدينة إلى الصلح حينما فاتحوهم فيه، فتركوا لأهلها دورهم وبنيانهم، وصالحوهم على صلح دمشق في الخراج والجزية، وأخذوا منهم من المنازل ما يكفي لإقامتهم، ثم إن أبا عبيدة كتب إلى عمر بما حدث، فبعث عمر إليه: «أن أقم في مدينتك وادع أهل القوة والجلد من عرب الشام؛ فإني غير تارك البعثة إليك بمن يكاتفك إن شاء الله.»
أقام أبو عبيدة في مدينته حتى تنصف الربيع من السنة الخامسة عشرة للهجرة، فلما زالت عن جنده شدة الشتاء وما أصابهم من زمهريره، عاودهم النشاط للفتح، وانضم إليه أهل القوة والجلد من عرب الشام فازدادوا نشاطا، فعاد أبو عبيدة يفكر في متابعة الغزو بشمال الشام، وزاده إقبالا على هذا التفكير ما ترامى إليه من أنباء عمرو بن العاص وزملائه الذين نازلوا جنود هرقل بفلسطين، وتداول المشورة مع خالد بن الوليد، فاستقر رأيهما على السير شمالا إلى أنطاكية من ناحية، وإلى حلب من الناحية الأخرى، والطريق إلى أنطاكية بشاطئ نهر الأرند،
2
ويمر بحماة وشيزر، وتهدده قلاع اللاذقية، ودون الطريق إلى حلب حصن قنسرين تحيط به هضاب لا بد من اجتيازها قبل بلوغ هذا المعقل المنيع.
خلف أبو عبيدة عبادة بن الصامت على حمص، ومضى في الجيش نحو حماة، ففتحت له أدستان أبوابها، ثم تلقاه أهل حماة مذعنين، فصالحهم على صلح حمص، وبلغ أهل شيزر أن المسلمين يسيرون إليهم فأسرعوا إلى مصالحتهم على صلح حماة، وفتح أبو عبيدة سلمية، ثم سار حتى أتى ثغر اللاذقية، فلما رأى أهلها مقدمه تحصنوا بمعقلهم وأغلقوا باب مدينتهم وأعدوا لمقاومة عدوهم، مطمئنين إلى أنه إن حاصرهم استطاعوا الوقوف في وجهه، حتى يأتيهم المدد من طريق البحر، ورأى أبو عبيدة حصون المدينة وأدرك صعوبة مرامها، وأنه إن يقف قبالتها يطل وقوفه، فإذا جاءتها الأمداد كان بين أن ينصرف عنها عاجزا دونها، أو يقيم على حصارها فيصرفه ذلك عن السير إلى أنطاكية؛ لذلك لجأ إلى الحيلة، فعسكر على بعد من المدينة ثم أمر أن تحفر حفائر كالأسراب تستر الحفيرة منها الفارس راكبا، فلما فرغ رجاله من حفرها أظهروا أنهم منصرفون عن المدينة إلى حمص، ورآهم أهل اللاذقية يسيرون فاطمأنوا ورجعوا إلى مألوف حياتهم، فلما جن الليل عاد المسلمون أدراجهم فاستتروا بتلك الحفائر، وأصبح أهل اللاذقية ففتحوا أبوابها وانتشروا بظاهرها، فلم يرعهم إلا المسلمون يخرجون من مكانهم مندفعين إلى المدينة يدخلونها عنوة، فيقف حرسهم على بابها يمنعون أهلها من دخولها، وتحيط قواتهم بالحامية المقيمة في حصونها، وفر الذين خرجوا إلى ظاهر المدينة، تولاهم الفزع فهم يطلبون النجاة حيثما وجدوا إلى النجاة سبيلا، ولم يجد الذين أقاموا بالمدينة بدا من التسليم فسلموا، وطلب الفارون الأمان، فصالحهم أبو عبيدة على خراج يؤدونه قلوا أو كثروا، وترك لهم كنيستهم وبنى المسلمون من بعد مسجدا على مقربة منها.
وسار أبو عبيدة من اللاذقية إلى معرة حمص
3
ففتحها، ووجه خالد بن الوليد منها إلى قنسرين كورة ولاية حلب، ولم تكن مناعة قنسرين لتخفى على ابن الوليد، ولم يكن يخفى عليه ما يجيئها من مدد، ولكن! متى راعت خالدا قوة حصن أو مناعة مدينة! ومتى ردته الصفوف المتراصة عن اقتحامها وخوض لجتها! لذلك سار إلى غايته مطمئنا إلى أن الله ناصره، وكان لقنسرين حاضر إلى جنوبها يقيم بها عرب من تنوخ وسليح في خيامهم وكأنهم طلائع لهذه المدينة المنيعة، شأنهم في ذلك شأن إخوانهم العرب الذين ينزلون ظاهر المدن لحمايتها، وعلم الروم أن القادم عليهم هو العبقري القاهر، فلم يطمئنوا إلى مقدرة أهل الحاضر على الوقوف في وجه الغزاة، فخرج ميناس، أعظم رجل في المملكة بعد هرقل، على رأس جند عظيم، فسار إلى الحاضر فعبأ جيشه بها وأقام ينتظر مقدم المسلمين ليصدهم عن التوغل في ملك قيصر، وبعث رجالا من أهل ثقته يتنطسون أخبار عدوه ليدبر على ضوئها خطة لقائه، وإنه ليتنسم هذه الأخبار إذ فجأه خالد مع الصبح من حيث لا يدري، وحاول ميناس أن يصد هذه المفاجأة، لكن خالدا كان قد أحكم تدبيره فهاجم الروم بكل قوته، فلم يستطيعوا الصبر أمامه، وكيف يصبرون واسمه يهز القلوب، ويدك العزائم! وكيف يصبرون وقد تداولت أسماعهم أنباء المسلمين وفتحهم دمشق وحمص وحماة واللاذقية! ومتى كان لجيش تحطمت قوته المعنوية صبر! وحاولوا الفرار فإذا خالد قد أخذ عليهم مسالكه، فأمعن جنده فيهم قتلا فمات أكثرهم على دم واحد، وتردى ميناس على رأسهم يتخبط في دمه، ولجأ الذين فروا إلى قنسرين وتحصنوا، فتبعهم خالد إليها فألفاهم غلقوا أبوابها، عند ذلك بعث إليهم النذير يقول: «لو كنتم في السحاب لحملنا الله إليكم أو لأنزلكم إلينا.» وقاومت حصون المدينة زمنا أيقن أهلها بعده أن لا مفر لهم من النزول على حكم قاهر ميناس وتذريق وقواد الروم جميعا، فبعثوا إليه طالبين الأمان على صلح حمص، لكن خالدا رأى أن يعاقبهم بمقاومتهم فأبى إلا تخريب المدينة، ففر أهلها إلى أنطاكية تاركين أموالهم ونساءهم وأبناءهم وديعة بيد القدر.
هذه هي الرواية المشهورة في فتح قنسرين، على أن بعض المؤرخين المولعين بالأدب يضيفون إليها موقفا كان لجبلة بن الأيهم الغساني في الدفاع عن هذه المدينة، وأنت تعلم أن جبلة كان آخر ملوك بني غسان من قبل هرقل، وأنه كان حليفا صادق الولاء للروم، وقد كان، كغيره من ملوك بني غسان وملوك الحيرة محبا لشعراء العرب، يكرمهم ويحسن وفادتهم، وكان حسان بن ثابت الأنصاري شاعر رسول الله أحب الشعراء إليه وأحظاهم عنده، ومدائح حسان فيه لا تزال تروى إلى اليوم على أنها من عيون الشعر العربي، وكان جبلة مقيما عند جسر الحديد على نهر الأرند قريبا من أنطاكية حين ترامت إليه أنباء قنسرين وحصارها، فسار إليها يخفف الضغط عنها ويعين حاميتها على قهر عدوهم، وإنه لفي مسيرته إذ جاءته طلائعه برجل من المسلمين ذكر أنه سعيد بن عامر الخزرجي، وأنه ينتمي إلى أجداد جبلة من مزيقياء إحدى بطون بني ثعلبة العنقاء، وادكر جبلة حين سمع اسم الخزرج صديقه الشاعر الأنصاري، فسأل سعيدا: كم لك منذ فارقته؟ وأجابه سعيد، عهدي به قريب، وقد دعاني إلى دعوة صنعها وأمر جاريته أن تنشد شعرا فيك فأنشدت:
لله در عصابة نادمتهم
صفحة غير معروفة