ووجد سعد خزائن كسرى مترعة بالأموال وبنفيس الثياب والأمتعة والآنية والألطاف والأدهان وما إلى ذلك مما لا تعبر الألفاظ والأرقام عن قيمته، وكان سعد قد بعث جنده يطاردون يزدجرد والذين فروا معه إلى حلوان، فأدركوهم وجاءوا به وبما حملوه، فإذا قيمته تضاهي قيمة ما بالقصر، ووجد المسلمون بدور المدائن من التحف والنفائس ما أذهل خيالهم، وما دل على ترف أهلها ترفا لم يعرفه غير الفرس.
وإنا لتتولانا الدهشة اليوم لنفاسة هذه الغنائم وقيمتها وكثرتها، فلا عجب أن تولت أولئك الفاتحين الذين رأوا هذه الغنائم بأعينهم أضعاف ما يتولانا من البهر والدهشة، وأن يذكر المؤرخون العرب هذه الغنائم في تفصيل يسوغ دهشتنا ودهشة الفاتحين.
ذكروا أن سعدا وجد بخزائن كسرى ثلاثة آلاف ألف ألف ألف دينار، ثلاث مرات، ووجدوا بالقصر من التحف والأمتعة ما لا تدرى قيمته، وجاء الذين خرجوا في أثر يزدجرد بتاج كسرى مرصعا بالدر والجوهر، وبثيابه من الديباج المنسوج بالذهب المنظوم بالجوهر، ومن غير الديباج منسوجا ومنظوما، كما جاءوا بخرزات كسرى ووشاحه ودرعه التي فيها الجواهر، وطارد القعقاع بن عمرو فارسيا فقتله وأخذ منه عيبتين فيهما أسياف وأدراع لكسرى ولهرقل ولخاقان الترك وللنعمان ولملوك آخرين غزاهم الفرس وغزوا الفرس، وجاء عصمة بن خالد الضبي بسفطين في أحدهما فرس من ذهب بسرج من فضة وعلى ثغره ولباته الياقوت والزمرد المنظوم على الفضة، ولجامه كذلك، وفارس من فضة مكلل بالجواهر، وفي الآخر ناقة من فضة عليها شليل
3
من ذهب وبطان من ذهب ولها زمام من ذهب، وكل ذلك منظوم بالياقوت، وعليها رجل من ذهب مكلل بالجواهر، ووجد المسلمون بدور المدائن سلالا مختومة برصاص ظنوا ما فيها طعاما فإذا هو آنية من الذهب والفضة متماثلين ، ووجدوا بدور المدائن كذلك كافورا كثيرا حسبوه لكثرته ملحا فعجنوا به فوجدوه مرا.
ترى أأغرت هذه الكنوز أولئك العرب، فهم أحد منهم بأن يأخذ شيئا منها لنفسه ولا يرده إلى من ولاهم سعد قبضها ليقسمها من بعد؟ كلا! بل جاء كل بما استولى عليه من السلب فسلمه والي القبض حتى يرى سعد فيه رأيه، ولما جاء القعقاع بن عمرو بأسياف كسرى والملوك وأحضرها عند سعد خيره بينها، فاختار سيف هرقل وترك سائرها، وأقبل رجل إلى والي القبض بحق نفيس، فقال الوالي والذين معه: ما رأينا فيما عندنا مثل هذا ما يعدله أو يقاربه، وسألوا الرجل: هل أخذت منه شيئا؟ قال: لا والله، لولا الله ما أتيتكم به! وسألوه: من هو؟ فقال: لا أخبركم فتحمدوني، ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه، وعرف سعد أمر هذا الرجل وأمثاله، فقال: والله إن الجيش لذو أمانة، ولولا ما سبق لأهل بدر لقلت إنهم على فضل أهل بدر، وكان جابر بن عبد الله يقول: «والله الذي لا إله إلا هو ما أطلعنا على أحد من أهل القادسية أنه يريد الدنيا مع الآخرة، فقد اتهمنا ثلاثة نفر هم طليحة وعمرو بن معدي كرب وقيس بن المكشوح فما رأينا كأمانتهم وزهدهم.» وهذه الشهادة من جابر لأولئك الثلاثة لها دلالة خاصة؛ فقد كانوا على رأس المرتدين الذين حاربهم أبو بكر وحاربوه حرصا على الدنيا وسلطانها، وها هم أولاء حسن إسلامهم فأصبحوا في طليعة العرب جهادا في سبيل الله، وزهدا في الدنيا، وتقربا إلى الله بالعمل الصالح والبلاء في الحرب أحسن البلاء.
فصل سعد خمس الغنائم ليرسله إلى المدينة، وحرص على أن يكون فيه كل ما يعجب منه العرب وكل ما يعجبهم، ثم أراد أن يرسل خمس القطيف، وهو بساط كسرى، فرآه لا تعتدل قسمته، فقال للمسلمين: هل تطيب أنفسكم عن أربعة أخماسه، فنبعث به إلى عمر يضعه حيث يشاء، فإنا لا نراه ينقسم وهو بيننا قليل، وهو يقع من أهل المدينة موقعا؟ وكان هذا البساط مربعا ستون ذراعا في مثلها، وكانت الأكاسرة تعده للشتاء إذا اشتد القر وذهبت الرياحين، وقد صورت في هذا القطيف طرق المملكة وبسطت فيه الأرض مذهبة تجري خلالها أنهار رصعت بالدرر، وجعلت حافاته كالأرض المزروعة فيها نبات الربيع قام على سوق من ذهب، وجعل ورقه من الحرير وتمره من الجوهر، وأقر الناس رأي سعد، فأرسل القطيف مع الخمس إلى المدينة.
وقسم سعد الفيء في الجند، وكان قد تم ستين ألف فارس، فأصاب الفارس منهم اثني عشر ألفا، ثم جعل لأهل البلاد على قدر بلائهم، وقسم سعد المنازل بين الناس، وأنزل العيالات في الدور فأقاموا بها حتى ارتحل منهم من ارتحل عنها بعد أن امتد الفتح إلى ما وراءها من ريف فارس، وأنت في حل من أن تصور لنفسك مبلغ ما أدت إليه هذه المغانم من غبطة الناس ومن حماستهم لفتح جديد يدر عليهم مغانم جديدة.
ذهب بشير بن الخصاصية بخمس الفيء إلى المدينة، ووضعه بين يدي أمير المؤمنين، وكان عمر قد سبقت إليه الأنباء بفتح المدائن، إذ كتب سعد إليه بما يجعله كأنه حاضرها، مع ذلك دهش لما رأى من كثرة هذا الفيء ونفاسته وإحضار المسلمين له كاملا، فالتفت من حوله يقول: «إن قوما أدوا هذا لأمناء!» وأجابه علي بن أبي طالب: «إنك عففت فعفت رعيتك، ولو رتعت لرتعت.» ونظر عمر إلى ثياب كسرى وأسيافه ودروعه، فألبسها خشبة ونصبها أمامه ليرى الناس ما في هذه الزينة من العجب، وقيل إنه دعا إليه سراقة بن جعشم، وكان من أجسم العرب وأبدنهم، فألبسه قميص كسرى وسراويله وقباءه وسيفه ومنطقته وسواريه وتاجه وخفيه وقال له: أدبر فأدبر، ثم قال له أقبل فأقبل، ثم قال: بخ بخ، أعيرابي من بني مدلج عليه قباء كسرى وسراويله وسيفه ومنطقته وتاجه وخفاه! رب يوم يا سراق بن مالك لو كان عليك فيه هذا من متاع كسرى وآل كسرى كان شرفا لك ولقومك! ... وقيل كذلك: إنه كانت لكسرى عدة أزياء لكل حالة زي، فجاء عمر بأجسم عربي بأرض المدينة وجعل يلبسه إياها زيا بعد زي، فيرى الناس ينظرون إليها أمرا عظيما من سحر الدنيا وفتنتها، فلما فرغ الأعرابي من لبسها جميعا رفع عمر رأسه إلى السماء وقال: «اللهم إنك منعت هذا رسولك ونبيك، وكان أحب إليك مني، وأكرم عليك مني، ومنعته أبا بكر، وكان أحب إليك مني، وأكرم عليك، وأعطيتنيه، فأعوذ بك أن تكون أعطيتنيه لتمكر بي!»
هذه لفتة من لفتات عمر سيذكرها من بعد، وسيذكر أثرها في الأمة في صراحة دونها كل صراحة؛ فقد أحس بما لهذا الترف من فتنة تجذب النفوس إليه فتجعله مثلها الأعلى تنفق في سبيله كل ما أوتيت من قوة وتدبير، وتنصرف لذلك عن المعاني الإنسانية الكريمة التي تسمو بقلوبنا وعقولنا إلى أرفع الذرى فتقربنا من الله وتجعلنا بفضل منه نرى وجه الحق ذي الجلال، ولهذه اللفتة، ولخشية عمر أن يكون الله قد أعطاه متاع كسرى ليمكر به، بكى حتى رحمه من كان عنده، ثم أشار إلى هذا المتاع وقال لعبد الرحمن بن عوف: «أقسمت عليك لما بعته ثم قسمته قبل أن تمسي!»
صفحة غير معروفة