وكان من أثر هذه العوامل أن قضت في النفس الفارسية على فكرة المثل الأعلى تعيش الأمة من أجله وتجاهد في سبيله، والناس إذا لم تجتمع على مثل أعلى مصور في رسالة يريدون صادقين تحقيقها، لم يهزهم للجهاد دافع غير حب الذات والمحافظة على الحياة، وكان هذا شأن السادة الأمراء في فارس، وشأن يزدجرد نفسه، أورثه حب الذات حرصا على العرش أكبر من حرصه على حرمة بلاده، كما أورث حب الذات السادة والأمراء حرصا على مطامعهم غشى في نفوسهم على كل ما سواه، وسرى هذا الروح في الأمة الفارسية كلها، فأورث أهلها الخضوع والرضا بحياة الذلة، وقد خدعت عما بها من ذلك حين غلبت الروم وانتزعت من أيديهم الشام ومصر، ونسيت أن الروم كانوا كالفرس تدهورا وانحلالا، فلما ردهم الروم على أعقابهم ظنوا الحرب سجالا، وفاتهم أن القوة السليمة من العلل لا ترد على أعقابها، فإن ردت يوما فلعلة بها، ولم تعبأ فارس بغارات المسلمين أول ما شنوها، وحسبت أنهم لن يلبثوا أن يعودوا أدراجهم هيبة لاسم فارس وإعظاما لبأسها، فلما رأت ظفرهم بها وقهرهم لها، تفتحت منها الأعين، ولكن لترى هزائمها وزوال ملكها.
أفيغني جيش انحلت قوته المعنوية هذا الانحلال إذا وقف بإزاء جيش كملت فيه هذه القوة، فهو يجاهد في سبيل مثل أعلى يؤمن به ويرى الموت في سبيله شهادة يتقدم بها إلى ربه، فتفتح له أبواب الجنة يدخلها خالدا في نعيم مقيم ورضوان من الله سرمدي! وقد اجتمعت كلمة المسلمين حول هذا المثل الأعلى فوهبوا أنفسهم لله في سبيله، واستحبوا الموت على الحياة لتحقيقه، فكانوا بذلك قوة من قوى القدر هيأها ليرد الإنسانية بها إلى الصراط السوي، وألقى عليها رسالة يجب أن يسمع العالم لها محافظة على حياته.
مثل هذه القوة لا يقف في سبيلها سلطان وإن عظم، ولا تصدها عن أداء رسالتها قوة من القوى.
لهذا فرت فيلة الفرس أمامها، وتداعت صفوفهم لبأسها، وولى جمعهم مدبرا من خشية أبطالها، فانفسحت لها السبل تذيع عن جانبيها رسالتها فيقبل الناس على هذه الرسالة طائعين، وقد رأوا قوة الحق ماثلة في كل كلمة من كلماتها، وكل عبارة من عباراتها، ثم رأوها تدفع الباطل فيزهق، إن الباطل كان زهوقا.
هذا هو السر في ظفر المسلمين بالفرس في غزوة القادسية، أما العبرة التي تستخلص منها فخير ما يعبر عنها قوله تعالى:
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، وقد غير الإيمان بالله ورسوله ما بأنفس المسلمين، وهداهم إلى الحق الذي تقوم الحضارة الفاضلة على أساسه، فعزوا بالإسلام وأعزوه، أما الفرس والروم فظلوا أشد حرصا على متع الحياة ولينها منهم على المبادئ السامية التي تجعل للحياة الإنسانية قيمتها ومعناها، وتجعلنا لذلك حقيقين أن نحياها فأذلهم المتاع ولينه، ولم يغن عنهم شيئا.
غير المسلمون ما بأنفسهم حين آمنوا بالله ورسوله، فاجتمعوا حول مثل أعلى صوره الله في رسالته إلى نبيه، فأصبح المسلمون بفضل هذا الاجتماع أمة واحدة، وصار كل واحد منهم في هذه الأمة كالعضو في الجسد، لا قوة له بذاته، بل بقوة الجسد كله، بذلك صار كل رجل من أبناء الأمة، وكل امرأة من نسائها، قوة يجذبها المثل الأعلى إليه، ويدفعها قوية للمغامرة في سبيله، ويسمو بها إلى حيث لا تعرف الضعف ولا التراجع ولا الهزيمة، بل تؤثر الموت الكريم على الموقف الشائن، أرأيت إلى طليحة بن خويلد الأسدي كيف كان ضعيفا أمام خالد بن الوليد في حروب الردة، وكيف كان قويا بالغ القوة على الفرس في القادسية! وهل رأيت كيف انهزم عمرو بن معدي كرب والأشعث بن قيس في ردتهما أمام جند المسلمين، وكيف أبليا في القادسية بلاء ذكره لهما الذاكرون! ذلك أن طليحة كان يوم تنبأ قوي الشكيمة ضعيف الإيمان، فلم تغن قوة شكيمته عن ضعف إيمانه، وكذلك كان عمرو بن معدي كرب والأشعث بن قيس وسائر الذين ارتدوا وحاربوا المسلمين، فلما عادوا إلى الإسلام وصاروا فلذة من الأمة التي اعتزت بإيمانها، زادهم الإيمان قوة على قوتهم، فكان لهم من الفعال في القادسية ما رأيت، وكان لهم بعد القادسية من فعال البطولة والمجد ما خلده التاريخ.
وكان أمير المؤمنين من هذا الجسد بمكان الرأس، يدبر أمور الجميع لخير الجميع، ويجد السعادة في أن يشقى ليسعد الجميع، وقد تأسى عمر في هذا الأمر برسول الله ثم بأبي بكر، فكان مثلا عاليا بعدله وحزمه وإيثاره كل رجل من أبناء الأمة على نفسه، وإيثاره خير الأمة على خير أي من أفرادها بذاته، رأى الخير بعد القادسية في أن يرد الخمس من المغانم على المحاربين فرده، ورأى أن يجزل سعد العطاء لأهل البلاد ففعل، ورأى أن يتألف أهل العراق ممن اعتذروا عن انتقاضهم على المسلمين فتألفهم سعد، ولم يغضب أحد من أهل المدينة لشيء من هذا وفيه ما فيه من حرمانهم؛ لأنهم رأوا أمير المؤمنين يريد الخير للإسلام كله، ورأوه يستشيرهم فيما جل ودق من أمره، وخير الإسلام خيرهم، وإنكار الذات بعض ما أمرهم الله به؛ لذلك أعانوا عمر على ما فعل، فجزاهم الله بعد ذلك عنه أضعافا مضاعفة.
هذا بعض ما في القادسية من سر وعبرة، وهذا السر وهذه العبرة هما اللذان شادا بفضل الله للإسلام إمبراطوريته ومجده، فلنتابع بناة هذه الإمبراطورية والذين رفعوا لواء هذا المجد، ولنسر معهم؛ فإنهم لن يلبثوا أن يسيروا إلى المدائن فيفتحوها، ولن يلبث سعد أن يجلس على إيوان كسرى بعد أن فر عنه صاحبه مودعا إياه الوداع الأخير.
7
صفحة غير معروفة