ولما طال وقوف المسلمين عند فحل خيل إلى سقلار بن مخراق قائد هرقل على قواته العظيمة أن الخير في أن يأخذ عدوه على غرة منه فيوقع به ويقضي عليه، وتخيرت له طلائعه، خلال الأرض المحيطة به، مكانا تسير منه قواته، فلما أقبل الليل تخطى بجنده هذا المكان ولا يخامره الريب في أن المسلمين قد أمنوه فهم في غير عدة القتال، وأنهم لذلك ستضطرب صفوفهم لأول صدمة من صدماته، لكنه قدر فأخطأ؛ فقد كان المسلمون على حذر لا يأمنون مجيء الروم، وكان شرحبيل لذلك لا يبيت ولا يصبح إلا على تعبئة؛ لذلك تلقى سقلار وجنوده فقاتلهم أشد قتال وأمره، واستبسل الروم مستقتلين، فطالت المعركة الليل كله واستمرت اليوم الذي يليه إلى الليل، وكان لخالد بن الوليد ولضرار بن الأزور يومئذ مواقف ذكرت المسلمين بفعالهما فيما سبقها من الغزوات والوقائع، فلما أظلم الليل خارت قوى الروم، فاضطربت صفوفهم، فانهزموا وهم حيارى بعد ما أصيب سقلار ومن يليه من قواده.
أما لهذه القوات المنهزمة من ملجأ تفر إليه أو خط دفاع تحتمي به؟ كلا! فقد أسلمتهم هزيمتهم وحيرتهم إلى الوحل فتعذر عليهم السير فيه، فلحق بهم المسلمون، وكانوا يحسبونهم على قصد فإذا هم في اضطرابهم لا يطيقون سيرا ولا فرارا، ولا يستطيعون أن يردوا يد لامس، وركبهم المسلمون فوخزوهم بالرماح وألقوهم في الوحل وقتلوهم شر قتلة، فأصيب الثمانون ألفا لم يفلت منهم إلا الشريد، وكذلك ظفر المسلمون أحسن ظفر وأهنأه، وغنموا ما شاء الله أن يغنموا، واقتسموا ما أفاء الله عليهم، واطمأنوا إلى أن الله ناصرهم، وكتب أبو عبيدة إلى أمير المؤمنين بالمدينة يخبره بظفرهم، وبأنه سيسير ومعه خالد بن الوليد إلى حمص.
وازداد المسلمون بنصر الله إيمانا حين رأوه جل شأنه يصنع لهم وهم كارهون، كرهوا توحل الأرض إذ حال بينهم وبين عدوهم، فكان ما كرهوا عونا لهم وحصارا لعدوهم وقضاء آخر الأمر عليه أيما قضاء، أليست هذه آية الله وبرهانه على أنه لا محالة ناصرهم وأنهم سيديلون من دولة الروم والفرس جميعا؟
7
كان أبو الأعور لا يزال محاصرا طبرية حين فرغ المسلمون من فحل، ونهد شرحبيل ومعه عمرو بن العاص من فحل إلى بيسان فنزل بجنوده يحاصرها، وتحصن أهل بيسان بكل مكان وحاولوا صد المسلمين، وما لهم لا يصدونهم وقد علموا أن خالد بن الوليد وأبا عبيدة عادا إلى دمشق ليسيرا منها إلى حمص، وأن أبا الأعور لا يزال على حصار طبرية، وأن قوات المسلمين مقسمة في أماكن مختلفة من الشام، فالقوات التي بقيت منها لمحاصرتهم ليست مما يتعذر صده! لكنهم لم يطل مع ذلك مقاومتهم واضطروا بعد قليل إلى التسليم وقبول صلح كصلح دمشق، ذلك بأن حالهم المعنوية كانت قد هوت إلى منحدر من الضعف بسبب ما أصابهم في اليرموك وفي دمشق وفي فحل، ثم إن أهل الشام لم تبلغ منهم عداوة المسلمين مبلغا يعاون الروم على المقاومة؛ فقد حكمهم الروم حكم بأس وقسوة لا يثيران في النفس حماسة لهذا الحكم أو حرصا على بقائه، ومن أهل الشام قبائل كثيرة من العرب والنصارى، تنازعتهم رابطة الجنس ورابطة الدين زمنا، فهم عرب كالمسلمين، ونصارى كالروم؛ فلما رأوا ضعف هرقل وجبن بلاطه وهزائم قواده لم يأب بعضهم أن يكون مع العرب المسلمين وأن يدلهم على عورات الروم، هذا إلى ما للنصر من لألاء يبهر الأنظار ويدعو الجماهير للإعجاب بالمنتصر والانضمام إليه.
وبلغ أهل طبرية ما أصاب بيسان وأهلها، فطلبوا إلى أبي الأعور أن يصالحوا شرحبيل، فجمعهم به فصالحوه كما صالحه أهل بيسان على صلح دمشق؛ وذلك أن يشاطروا المسلمين المنازل في المدن وما أحاط بها، فيدعوا لهم نصفها، ويجتمعوا في النصف الآخر، وأن يدفعوا جزية دينارا عن كل رأس كل سنة، وكيلا من البر عن كل قدر معين من الأرض، واحتذى أهل أذرعات وعمان وجرش ومآب وبصرى مثالهم، وصالحوا المسلمين مثل صلحهم، وكذلك أذعنت بلاد الأردن إلى حوران وإلى البادية، ورضيت سلطان المسلمين الذين أقاموا الجند في المدن ثم تركوا لأهلها إدارة شئونها، على أن يتولوا هذه الإدارة بالعدل والنصفة. •••
والآن أنتابع أبا عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد في مسيرتهما إلى حمص، أم نسير مع هاشم بن عتبة والقعقاع بن عمرو وجيش العراق لنرى ما فعل الله بالمثنى ومن بقي معه من رجاله، ولنشهد القادسية مع سعد بن أبي وقاص؟ وبعبارة أخرى: أنتابع قوات المسلمين في فتح الشام حتى يفتح الله عليهم الشام كلها، أم ننتقل إلى العراق فنقص أنباءه إلى أن يتم فتحه؟ جرى بعض المؤرخين على الطريقة الأولى، وآثر آخرون الطريقة الثانية. وسنتابع نحن الآخرين فننتقل إلى العراق، لتكون رقعة الدولة الإسلامية تحت نظرنا نتابعها في مجموعها، ونراها أمام أعيننا تنفرج شيئا فشيئا إلى الشرق وإلى الغرب، ذلك أدنى إلى أن نقدر الجهد الذي كان هؤلاء المسلمون الأولون يبذلونه في مواجهة الأسدين فارس والروم في وقت واحد، أدنى كذلك إلى أن نحيط بسياسة عمر، وأن نعرف كيف كان يواجه هذه الحوادث الجسام المتلاحقة، وكيف كان ينهض معها بأعباء الحكم في المدينة وفي شبه الجزيرة جميعا على نحو يزيد العرب طمأنينة إلى حياتهم، وحماسة للفتح الذي كان يدر عليهم من خيرات فارس والروم ما لم يدر مثله بخواطرهم في أي عهد من عهود تاريخهم.
على أنه لا بد لنا، قبل أن ننتقل مع هاشم بن عتبة وأصحابه إلى العراق، من أن نقف وقفة قصيرة لنذكر هنا ما ذكرنا في سيرة أبي بكر عن اختلاف المؤرخين في التسلسل التاريخي لوقائع الفتح في الشام، فقد رأينا من حوادث هذا الفصل أن أبا بكر قبض والمسلمون على اليرموك، وأن المسلمين انتصروا باليرموك في عهد عمر، وذلك يوم أقبل البريد إلى الشام بوفاة أبي بكر وعزل خالد بن الوليد عن إمارة الجيش وبإسنادها إلى أبي عبيدة بن الجراح، وأنهم ساروا بعد ذلك بأمر عمر إلى دمشق فحاصروها وفتحوها، ثم عادوا بعد صلح دمشق إلى الأردن فطهروه وصالحوا أهله على صلح أهل دمشق، وهذه رواية الطبري وابن خلدون وابن الأثير وابن كثير ومن أخذ أخذهم، أما الأزدي والواقدي والبلاذري فيخالفون الطبري في هذا الترتيب لوقائع الفتح في الشام، ويذكرون أن أجنادين ودمشق وغيرهما من الوقائع كانت قبل اليرموك، ويذهب بعضهم إلى أن اليرموك كانت آخر الغزوات بالشام، ومن العسير أن نقطع برأي حاسم في هذا الاختلاف، والطبري نفسه يذكر هذا الاختلاف ولا يقطع فيه برأي، فيقول: «قال محمد بن إسحاق: كان فتح دمشق في سنة أربع عشرة في رجب، وكانت وقعة فحل قبل دمشق، وإنما صار إلى دمشق رافضة فحل واتبعهم المسلمون إليها، وزعم أن واقعة فحل كانت سنة ثلاث عشرة في ذي القعدة، وأما الواقدي فإنه زعم أن فتح دمشق كان في سنة أربع عشرة، وزعم أن وقعة اليرموك كانت في سنة خمس عشرة، وزعم أن هرقل جلا في هذه السنة بعد وقعة اليرموك في شعبان من أنطاكية إلى قسطنطينية، وأنه لم يكن بعد اليرموك وقعة.»
لا غناء في الوقوف عند هذا الاختلاف ما دام القطع فيه برأي غير ميسور، وقد أخذنا في هذا الفصل برواية الطبري ومن أخذ مأخذه، فلنجر عليها، ولن يجني ذلك في شيء على ما نريده من التأريخ للإمبراطورية الإسلامية في عهد عمر، فسواء تقدم فتح دمشق على اليرموك أو تأخر عنه، فوقائع الفتح متفق على جملتها وإن وقع الخلاف على تاريخها وعلى بعض تفاصيلها، ورواية الطبري عن سيف بن عمرو عمن روى عنه أن اليرموك كانت في رجب من سنة ثلاث عشرة (سبتمبر سنة 634)، وأن دمشق حوصرت في شوال من تلك السنة، وفتحت في أوائل السنة التي تليها (بين ديسمبر سنة 634 وأوائل الربيع من سنة 635)، وأن فحل وقعت بعد دمشق في صيف سنة 635، ثم تلتها سائر مدن الأردن.
سار أبو عبيدة وخالد بن الوليد بعد فحل إلى حمص، وسار هاشم بن عتبة عائدا إلى العراق، فلندع خالدا وأبا عبيدة، ولنسر مع جيش العراق لنشهد القادسية، هذه الغزوة الفاصلة التي فتحت أمام المسلمين أبواب المدائن، والتي تعد في رأي المؤرخين جميعا إحدى الغزوات الحاسمة التي وجهت تاريخ العالم وجهة جديدة.
صفحة غير معروفة