ونحن نميل إلى ترجيح هذا الرأي الأخير، وهو على كل حال أكثر الآراء تواترا، ورواته هم أكثر الرواة عددا.
اختلف الرواة في أمر المقاسمة، لكنهم جميعا متفقون على أن الصلح فرض على أهل دمشق جزية يدفعونها لقاء منعهم وحرية عقيدتهم وحماية مدينتهم وأموالهم، كانت هذه الجزية دينارا وكيلا معينا من الحنطة على كل رأس وزيتا وخلا لقوت المسلمين، هذا خلا الضرائب التي كان الدمشقيون يدفعونها لحكامهم من الروم، فقد ظلوا يدفعونها لمن قام على حكمهم من المسلمين.
أبلغ أبو عبيدة عهد الصلح عمر بن الخطاب، فكتب إليه بتعديله، وذلك بأن فرق بين الطبقات في الجزية، إذ جعل على الأغنياء أربعة دنانير عن كل رأس، وأربعين درهما على من دونهم، وقيل: بل جعلها طبقات على قدر غنى الغني وإقلال المقل وتوسط المتوسط، ثم ألزمهم أرزاق المسلمين من الحنطة والزيت ومن الودك والعسل.
هذا نصاب الجزية في صلح دمشق، وذلك ما قيل في أمر المقاسمة، وعلى أساس من هذا الصلح العادل بعد حصار طويل استقر المسلمون بعاصمة الشام وجلت عنها حامية هرقل، وجلا عنها المتعصبون للروم من أهله، وكانت سياسة المسلمين في إدارتها هي السياسة التي رسمها أبو بكر في عهده حين بعث خالد بن الوليد يفتح العراق؛ تركوا لأهل دمشق ما كان لهم من إدارة مدينتهم، وأقاموا الأمر فيها على الأساس الذي صوره خالد في كلمته لبعض أهل العراق: «إن كنتم عربا فماذا تنقمون من العرب! وإن كنتم عجما فماذا تنقمون من الإنصاف والعدل!» فلما اطمأن المقام للمسلمين بالمدينة الجميلة بدءوا يفكرون في الواجب عليهم لدينهم ووطنهم.
كان طبيعيا أن يتجه أبو عبيدة بادئ ذي بدء إلى التفكير فيمن خلف وراءه من جنود المسلمين عند فحل بالأردن، وفيما يجب عليه بعد أن يتغلب على قوات الروم هناك، على أن كتاب عمر إليه بتعديل نصاب الجزية تناول أمورا لم يكن له بد من المسارعة إلى تنفيذها، وفي مقدمة هذه الأمور رد القوات التي فصل بها خالد بن الوليد إلى العراق على أن يظل خالد بالشام، فقد كان مما أوصى به أبو بكر عمر حين استخلفه أن قال له : «إذا فتح الله على أمراء الشام فاردد أصحاب خالد إلى العراق فإنهم أهله وولاة أمره وحده، وهم أهل الضراوة بهم والجرأة عليهم.» وها قد فتح الله دمشق على أبي عبيدة، ثم إن المسلمين بالعراق يلاقون في قتال الفرس الشدائد، فهم أشد ما يكونون حاجة إلى المدد، والقوة التي فصلت من العراق إلى الشام مدد لا يستهان به؛ ففيها من الأبطال الصناديد من عركوا الحرب وعركتهم، ومن كان لهم في كل المواقع التي حضروها بلاء مشهود؛ لذلك أمر أبو عبيدة هاشم بن عتبة على جند العراق وجعل معه القعقاع بن عمرو وأضرابه من أولي النجدة والبأس، وعوضهم عمن استشهدوا في وقائع الشام جندا يعدل الجند الذي جاء من العراق عددا وقوة، وخرجوا جميعا يقصدون المثنى وعسكره بذي قار على تخوم البادية، متخذين طريق القوافل المعبد، بعيدين عن الطريق التي غامر بهم خالد فيها حين جاء إلى الشام لينسي الروم وساوس الشيطان، ولم يدر بخاطر هاشم بن عتبة وقواده وجنوده في أثناء مسيرتهم خلال الصحراء أنهم يتقدمون إلى العراق ليقفوا مع المسلمين بإمرة سعد بن أبي وقاص، فيواجهوا الفرس في الموقعة الحاسمة التي فتحت الطريق إلى المدائن وإلى قلب فارس؛ موقعة القادسية.
فلندعهم الآن في مسيرتهم، ولنصحب أبا عبيدة في الشام، وسنعود عما قليل إليهم نشهد معهم هذه الموقعة الفاصلة التي قضت على جيش كسرى وأدالت دولته وفتحت صحفا في التاريخ جديدة مجيدة.
6
اطمأن أبو عبيدة إلى مقام المسلمين بدمشق، فاتجه إلى التفكير فيمن خلفهم وراءه من جنود المسلمين عند فحل الأردن، ولقد دفعت حماسة الظفر جماعة من أصحابه، فأشاروا عليه أن يسير من دمشق إلى حمص ليفتحها، فقد كان هرقل مقيما بها في أثناء حصار دمشق، فلما رأى قواته لا تستطيع الوصول إلى عاصمة الشام للذود عنها جلا عن حمص إلى أنطاكية، فلو أن أبا عبيدة سار إلى حمص ففتحها لجلا هرقل عن أنطاكية إلى الأناضول أو إلى القسطنطينية، فإذا فعل انهدت عزائم جنوده في أنحاء الشام جميعا فألقوا بأيديهم لا يقاومون ولا يقاتلون، لكن أبا عبيدة خالف هذه المشورة، وما كان له أن يقبلها وقد أمره عمر ألا يتقدم ما بقي وراءه من الروم جند يهددون رجعته، أو يستطيعون أن يقطعوا ساقته، وقد استقر من جند الروم عند فحل إلى الجنوب من بحيرة طبرية من نجوا من اليرموك، ثم أيدهم هرقل بقوات جديدة، وكانت هذه القوات لا تزال في فزعها من هزيمة اليرموك حين سار أبو الأعور السلمي في جند المسلمين ليقاتلها؛ لذلك أطلقت مياه البحيرة والنهر في الأراضي التي حولها فتوحلت، فعاقت جيش المسلمين عن التقدم، لكن الروم لم يستطيعوا هم كذلك أن يتقدموا ولم يجدهم لذلك مدد هرقل نفعا، وبقيت الأرض متوحلة طول الشتاء وطيلة حصار دمشق، وبقي الروم محصورين وراء فحل في وادي بيسان، فلما سلمت دمشق وكان الصيف قد أقبل، وبدأت الأرض تجف، وترك أبو عبيدة يزيد بن أبي سفيان على قوة من فرسان اليمن بدمشق، وتقدم ومعه خالد بن الوليد وقوات الجيش مجتمعة، فبلغ فحل ووادي بيسان حين بدأ جفاف الأرض يسمح للجيوش بالالتقاء والقتال.
وكان أبو بكر قد جعل إمارة الأردن لشرحبيل بن حسنة، كما جعل حمص لأبي عبيدة، والبلقاء ليزيد بن أبي سفيان، والعربات لعمرو بن العاص، وجعل القيادة العملية لمن يقع القتال في إمارته، ولم يعدل عمر عن هذا الأمر؛ لذلك تولى شرحبيل القيادة على جيوش المسلمين المقيمين عند فحل، ومن أقام منها بإمرة أبي الأعور السلمي من قبل أن تحصر دمشق، ومن جاء منها بعد حصار دمشق بقيادة أبي عبيدة.
وبعث شرحبيل أبا الأعور في لوائه إلى طبرية فحاصرها، وجعل خالد بن الوليد على مقدمة الجيش، وأبا عبيدة وعمرو بن العاص على مجنبتيه، وضرار بن الأزور على الفرسان، وسارت هذه القوات جميعا فعبرت اليرموك عند أم قيس على مقربة من مصبه بالأردن، ثم تخطت وادي الغور، حتى إذا بلغت فحل عسكرت بها فوقفت قبالة الروم ببيسان، ولما لم تستطع أن تتخطى الأرض المستوحلة إليهم تشاور الأمراء، فكتبوا إلى عمر بموقفهم وأقاموا ينتظرون جوابه، ولم تكن قلة المئونة تعجلهم إلى التزحزح عن موقفهم؛ فقد أصابوا من ريفه أفضل مما أصاب الروم، إذ كان الخصب من حولهم يجعل مادتهم متصلة وعيشهم رغدا، وكان الروم بإزائهم يقفون في ثمانين ألفا أشد ما يكونون حرصا على أن يظفروا بأولئك الذين قضوا على قواتهم باليرموك وفتحوا عليهم دمشق.
صفحة غير معروفة