176

الفاروق عمر

تصانيف

فأما الذين يذكرون أن مصر فتحت عنوة بغير عهد ولا عقد، فيستندون إلى روايات لجماعة ممن شهدوا الفتح أنهم قالوا إن مصر فتحت عنوة، وإلى تأييد ذلك القول بأنه كان لعمر بن الخطاب تابوت، فيه كل عهد كان بينه وبين أحد ممن عاهده، فلم يوجد فيه لمصر عهد، وهم يضيفون إلى ذلك عن عمرو بن العاص أنه كان يقول: «لقد قعدت مقعدي هذا وما لأحد من قبط مصر علي عهد ولا عقد إلا لأهل أنطابلس فإن لهم عهدا نوفي لهم به.» ويذكر أحد الرواة أن عمرا أضاف: «فإن شئت قتلت، وإن شئت خمست، وإن شئت بعت.» ويورد أصحاب هذا القول حجة أخرى تؤيد رأيهم أن عمرا كتب إلى عمر في رهبان يترهبون بمصر فيموت أحدهم وليس له وارث، فكتب إليه عمر: «إن من كان له عقب فادفع ميراثه إلى عقبه، ومن لم يكن له عقب فاجعل ماله في بيت مال المسلمين، فإن ولاءه للمسلمين.»

وأما الذين يذكرون أن مصر فتحت صلحا فيستندون إلى روايات يذهب بعضها إلى أن البلاد فتحت صلحا كلها، ويستثني بعضهم الإسكندرية فيذكر أنها فتحت عنوة، روي أنه لما فتح عمرو بن العاص مصر صولح على جميع من فيها من الرجال من القبط، ممن راهق الحلم إلى ما فوق ذلك ليس فيهم امرأة ولا صبي ولا شيخ، على دينارين دينارين، فأحصوا فبلغت عدتهم ثمانية ملايين، وقيل: إن عمرا لما فتح الإسكندرية كان أكثر المسلمين يريدون قسم ما عليها ومن فيها، فقال لهم عمرو: لا أقدر على قسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين، وكان جواب عمر على كتاب ابن العاص: «لا تقسمها وذرهم، يكون خراجهم فيئا للمسلمين وقوة لهم على جهاد عدوهم.» فأقرها عمرو وفرض على أهلها الخراج، وأحصاهم فكان عدة من بلغ الخراج بها ستمائة ألف، بذلك فتحت مصر كلها صلحا بفريضة دينارين دينارين على كل رجل، وفي رواية أن شيخا من القدماء ممن شهدوا فتح مصر قيل له: إن ناسا يذكرون أنه لم يكن لأهلها عهد، فقال: لا يبالي ألا يصلي من قال إنه ليس لهم عهد، وسئل: فهل كان لهم كتاب؟ فقال: نعم، كتب ثلاثة: كتاب عند طلما صاحب إخنا، وكتاب عند قزمان صاحب رشيد، وكتاب عند يحنس صاحب البرلس، وأجاب هذا الشيخ، حين سئل عن صلحهم، أنه كان على دينارين على كل إنسان جزية وأرزاق المسلمين، وأنه شرط ألا يخرجوا من ديارهم، وألا تنتزع نساؤهم ولا كنوزهم ولا أراضيهم ولا يزاد عليهم.

هذه أهم الروايات التي استند إليها من يقولون إن مصر فتحت صلحا، ومن يقولون إنها فتحت عنوة، ولعلك توافقني على أنها مع ظاهر اختلافها، تنتهي إلى نتيجة واحدة، وتؤيد أن مصر فتحت عنوة، وفتحت في الوقت ذاته صلحا، فالحرب التي وقعت في أرضها إنما كانت بين المسلمين والروم ولم تكن بين المسلمين والقبط من أهل البلاد، وقد كان موقف المصريين من الفريقين موقف حياد إن شئت، وهو بالأخرى موقف المغلوب على أمره، لا يملك أن ينضم انضماما ظاهرا إلى أحد الفريقين ويقاتل الجانب الآخر في صفه؛ لذلك كانوا ينفذون ما يأمرهم الغالب على منطقة من المناطق بتنفيذه، وكانوا ينفذونه كرها إن لم ينفذوه طوعا، فحينما كان الأمر للروم كان القبط يعاونونهم في تعبيد الطرق وإقامة الجسور وما إلى ذلك مما يحتاجون في القتال إليه، وحيثما كان الأمر للعرب كان القبط يبذلون لهم مثل هذه المعاونة، وهم كانوا كما رأيت يمقتون الروم أشد المقت لما بلغ منهم في دينهم وفي أرزاقهم، وكانوا يخافون العرب أن يحلوا بينهم محل الروم، وألا يعاملوهم بخير مما كان الروم يعاملونهم به، قوم ذلك شأنهم لا يمكن اعتبارهم محاربين، ولا يمكن أن يقال إنهم قاتلوا العرب أو قاتلوا الروم، إنما كان القتال بين العرب والروم في أرض مصر، وقد انتصر العرب على الروم فأجلوهم عن مصر وأدالوا دولتهم فيها، وهم لذلك قد فتحوا مصر عنوة في وجه الروم الذين قاتلوهم وانهزموا أمامهم، ولم يفتحوها عنوة في وجه المصريين الذين لم يقاتلوهم.

وقد رأيت بعد فتح الإسكندرية كيف سلمت إخنا وبلهيب والبرلس ودمياط دون مقاومة، وكيف عاون المصريون العرب في قتال تنيس وفي فتحها، وما كان المصريون ليقاتلوا العرب أو يحاولوا إجلاءهم عن بلادهم ولم ينشئ الروم في البلاد جيشا من أبنائها، ولم يتركوا سلاحا يذود به أهلها عن أنفسهم، بل جردوها من كل سلاح حتى لا تثور بهم ولا تحاول الاستقلال عنهم؛ لذلك كان طبيعيا أن تذعن للعرب أول ما غلبوا الروم في أرضها وأخرجوهم منها، أما وقد فعلوا فقد أوجب الإسلام على الفاتحين أن يعرضوا على القبط أن يسلموا فيكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، أو يبقوا على دينهم ويدفعوا الجزية لقاء حماية المسلمين لهم، وهذا ما رآه عمرو بن العاص مخالفا فيه رأي الذين أرادوا قسمة البلاد فيما بين المسلمين، وقد أقر عمر بن الخطاب هذا الرأي، ورضيه المصريون، بذلك كان فتح مصر عنوة بالنسبة للروم، وصلحا بالنسبة للمصريين.

أي صلح أقره عمر ورضيه المصريون؟ تكثر الروايات في هذا وتتعدد، لكنا نستطيع أن نقول مطمئنين: إنه يطابق الصلح الذي رفضه هرقل، والذي عقدت شروطه بين عمرو بن العاص والمقوقس حين كان المسلمون يحاصرون حصن بابليون، وقد أورد الطبري نص هذا العهد فيما يلي:

بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم وبرهم وبحرهم، لا يدخل عليهم شيء من ذلك، ولا ينتقص، ولا تساكنهم النوبة، وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح وانتهت زيادة نهرهم خمسين ألف ألف، وعليهم ما جنى لصوتهم،

3

فإن أبى أحد منهم أن يجيب رفع عنهم من الجزاء بقدرهم، وذمتنا ممن أبى بريئة، وإن نقص نهرهم من غايته إذا انتهى رفع عنهم بقدر ذلك ، ومن دخل في صلحهم من الروم والنوبة فله مثل ما لهم، وعليه مثل ما عليهم، ومن أبى واختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه أو يخرج من سلطاننا، عليهم ما عليهم أثلاثا في كل ثلث جباية ثلث ما عليهم، على ما في هذا الكتاب عهد الله وذمته وذمة رسوله وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين، وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأسا وكذا وكذا فرسا، على ألا يغزوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة، وشهد عليه الزبير وعبد الله ومحمد ابناه، وكتب وردان وحضر.

ذكرنا أن هذا العهد يطابق الصلح الذي عقدت شروطه بين عمرو والمقوقس ولم نقل إنه هو، فهذا النص الذي أثبته الطبري ليس عقدا بين طرفين، وإنما هو تصريح من جانب واحد، على تعبير فقهاء القانون الدولي في عصرنا الحاضر، صحيح أن أهل مصر قبلوا هذا العهد بعد إعلانه ودخلوا فيه، لكن هذا القبول لا يغير من طبيعته القانونية، فهو عهد أملاه من فتح أرضا لم يقاومه أهلها، أريد به بعث الطمأنينة إلى نفوس الناس في هذه الأرض بتحديد تبعاتهم لقاء تأمينهم على حريتهم وعلى ملتهم وأموالهم، وقبول مثل هذا العهد إنما هو نزول على حكم الواقع اتقاء ما هو شر منه، وليس رضا بالمعنى الفقهي، فإنما يقوم هذا الرضا على أساس من حرية صاحبه في أن يرضى وألا يرضى.

عهد ذلك شأنه يختلف في طبيعته القانونية عن الصلح الذي رفضه هرقل، بعد أن عقده عمرو والمقوقس في أثناء حصار بابليون أشد الاختلاف، فقد كان صلح المقوقس هذا بين طرفين، وكان ينظم أمورا ما كان لعهد الأمان الذي أذاعه عمرو بين المصريين أن يتناولها، وقد أورد بتلر شروط هذا الصلح نقلا عن كتاب حنا النقيوسي، وإن لم يوردها على الترتيب الذي أوردها به المؤرخ القبطي، وظاهر من هذه الشروط أنها كانت صلحا بين المسلمين الظافرين والروم المقهورين على مصر كلها، وكان مدى هذا الصلح أن يجلو الروم عن البلاد، وألا يعودوا إليها أو يسعوا لردها ، وأن يتم هذا الجلاء في أحد عشر شهرا من إقرار هرقل لهذا الصلح، وأن يبعث الروم رهائن من قبلهم مائة وخمسين من الجند وخمسين من غير الجند ضمانا لإنفاذ العهد، وأن يبقى العرب في أماكنهم مدة الهدنة لا يسعون لقتال، وأن يتاح لليهود الإقامة بالإسكندرية، وأن يكف المسلمون عن أخذ كنائس المسيحيين ولا يتدخلوا في أمورهم، وألا يفرق في الجزية بين القبط وغير القبط من سكان مصر.

صفحة غير معروفة