164

الفاروق عمر

تصانيف

خلص الحصن للمسلمين بعد خروج الروم منه، وبذلك انتهت المرحلة الأولى من مراحل الفتح العربي لمصر، ولقد كان لهذه المرحلة من الخطر ما تشهد به الحوادث التي وردت في هذا الفصل وقد استطاع عمرو بأناته وحكمته وحسن رأيه أن يدور حول هذا الخطر حينا، وأن يقتحمه حينا آخر، حتى اجتازه آخر الأمر رافعا لواء النصر والظفر، فلندعه الآن يجلس بين جنده يجمون جميعا، ثم يدبر هو لتنظيم ما فتحه من الأقاليم، ليكتب بعد ذلك إلى عمر يستأذنه في السير إلى الإسكندرية.

ولم يكن لديه ريب، يوم بعث يطلب هذا الإذن، في أن الله قد مهد له السبيل لإدراك بغيته، فقد رأى من كراهية القبط للروم، ورأى من تخاذل الروم وضعفهم، ما ثبت في نفسه اليقين بأن عاصمة الإسكندر الأكبر ستفتح أبوابها أمامه، وستتلقاه كما تلقت يليوس قيصر وأنطونيو من قبل، وأنه سيجلس بها على عرش البطالسة والرومان، كما جلس سعد بن أبي وقاص بالمدائن في إيوان الأكاسرة من بني ساسان.

ولعله كان يستعجل إذن أمير المؤمنين بالسير بعد أن رأى جيشه قد جم، ورأى الأرض من حوله دانت له، فقد أمر بعد ما استتب له الأمر، فأقيم جسر من السفن بين الحصن وجزيرة الروضة، وبين الجزيرة والجيزة، فوصل بذلك بين شاطئي النهر، وتيسر له الإشراف على ما يجري فيه من السفن والبضائع، ثم إنه نشر جنوده فيما استولى عليه من الأقاليم، فرأى القبط من جنود الحرس الوطني ينظرون إليهم شزرا ويقولون: ما أرث العرب وأهون عليهم أنفسهم! ما رأينا مثلنا دان لهم؛ فخاف أن يثير هذا الأمر القبط بهم فأمر بجزر فذبحت وطبخت بالماء والملح، ودعا القبط فأجلسهم إلى جانب جنده من العرب، فجعل العرب يحتسون المرق وينهشون اللحم على نحو زاد زراية القبط عليهم، وزادهم طمعا فيهم، فلما كان الغد أمر بطعام من ألوان مصر فصنع، وأمر جنده أن يجيئوا في ثياب أهل مصر وأحذيتهم، ودعا القبط كما دعاهم أمس، فأكل العرب أكل أهل مصر ونحوا نحوهم، فتفرق القبط بعد الطعام وقد رابهم ما رأوا، ثم أمر عمرو جنوده بكرة الغداة فتسلحوا للعرض فعرضهم على أعين القبط، ثم قال لهؤلاء: إني قد علمت أنكم قد رأيتم في أنفسكم أنكم في شيء حين رأيتم اقتصاد العرب وهون تزجيتهم، فخشيت أن تهلكوا، فأردت أن أريكم حالهم وكيف كانت في أرضهم، ثم حالهم في أرضكم، ثم حالهم في الحرب، فتفرق القبط وهم يقولون، لقد رمتكم العرب برجلهم، وفي رواية أنهم قالوا: إن العرب قوم لا يغلبون وقد وطئونا تحت أقدامهم، وبلغ عمر ما صنع عمرو فقال لجلسائه: إن عمرا يقاتل بالقول، وغيره يقاتل بالسيف، أو قال: والله إن حربه للينة ما لها سطوة ولا ثورة كثورات الحروب من غيره.

خشع القبط حين رأوا بأس العرب ودانوا لهم؛ بل لقد اختار جماعة منهم الإسلام فدخلوا فيه، فساواهم ذلك بالمسلمين وأعفاهم من دفع الجزية، وإن عرضهم للعنة بني قومهم، وأخذ هؤلاء القبط الذين أسلموا يساعدون إخوانهم العرب في اقتضاء الجزية واستصفاء أموال المسيحيين الذين أخرجتهم الحرب من ديارهم، بذلك كله توطد سلطان عمرو على ما كان تحت يده من الأرض وازداد بسطة، وأصبح في مقدوره أن يسير إلى الإسكندرية مطمئنا متى أذن له أمير المؤمنين في السير إليها.

لم يكن جند عمرو دونه رغبة في السير للقتال، فقد سما النصر على حصن بابليون ومن فيه بقوتهم المعنوية سموا كبيرا، وثبت في نفوسهم ما ثبت في نفس عمرو من اليقين بأن الله معهم، وأنهم لا غالب لهم، وبهذا الروح كله العزة والأنفة كانوا يجوسون خلال الديار، ويتنقلون حيثما شاءوا من الأرض، ويغشون ما شاءوا أن يغشوه من مدن الفراعنة وآثارهم الباقية في هذه البقعة الناطقة في صمتها بحديث التاريخ كله، والتي شهدت فجر الحضارة، ورأت مولد الضمير الإنساني وتفتح عينيه، فإذا عادوا إلى عسكرهم آخر النهار عادوا وقد ملأ الإعجاب أفئدتهم وملك عليهم حواسهم، فلم يتناول حديثهم إلا ما شهدت أعينهم من هذه الآثار الخالدة ليس من آثار العالم ما يدانيها عظمة وجلالا، ومن هذه الحياة الزاخرة في مدينة منف وفي صرتها مصر القائمة قبالتها على النيل تنافسها في عظمة الحياة ثم تقصر دونها حين ينطق التاريخ بما لمنف على الأجيال من مجد وسلطان.

وكان ما أثارته منف بجلال آثارها أعمق أثرا في نفوسهم من الخضرة الزاهية والنعيم المقيم الذي تراه أعينهم في كل ما حولهم من الأرض الخصبة المعطاء، لقد رأوا مثل هذه الخضرة في العراق والشام، وقد ملئوا منها أعينهم مذ نزلوا مصر فزادتهم إيمانا بقدرة الخالق الباري جل شأنه، لكنهم رأوا بمنف ما لم يجن عليه قيام الإسكندرية، وما لم يروا له في غير منف من مدن العالم نظيرا، رأوا آثارا تحدث عن حضارة الفراعنة الأقدمين وعبادتهم حديثا عجبا، كان فيها معبد «فتاح» الضخم الفسيح، تعبد فيه الشمس كما كانت تعبد بالكرنك في طيبة، وكان بظاهرها معبد السرابيوم، مقام العجل أبيس، محاطا بكل مجالي الإجلال والإكبار، وكان أمام هذا المعبد صفان طويلان من آباء الهول يلقيان في روع الداخل إليه الهيبة، وكانت قبور العجول المقدسة قائمة وراء المعبد تأخذ عظمتها بالنظر، ثم لا تحول هذه العظمة دون العجب من قوم يحدث ما تركوا من صور وتماثيل وملاعب وعمائر كلها العظمة عن سمو مكانتهم من الحضارة، ذلك كان شأنهم في تصوير معبوداتهم، وفي إقامة ما أقاموا لهذه المعبودات ورموزها من تماثيل بارعة يخطئها العد فكيف أنساهم رهبانهم وفراعنتهم عبادة الله الواحد الأحد تؤمن به القلوب المضيئة بنور الحق! صدق تعالى:

إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين ، ولذلك محت المسيحية هذه الألوان والطقوس من العبادة، وها هو ذا الإسلام يسير جنده في أرض الفراعنة، وتخفق أعلامه فوق ربوعها ليقر فيها دين الحق إلى يوم الدين.

وأين يستقر الحق إن لم يستقر في جنة الله على الأرض! ومن ذا يقره فيها إلا جنود الله الذين وهبوا أنفسهم لله مخلصين له الدين حنفاء! لذلك لم تجذب منف بجمالها هؤلاء الجنود للبقاء حولها، بل كان الشوق إلى الإسكندرية يحرك نفوسهم بالقوة التي كان يحرك بها نفس قائدهم، ويدعوه إلى استعجال الإذن من أمير المؤمنين بهذا السير.

ولم يبطئ هذا الإذن، فقد عرف عمر أن النيل يعود بعد ثلاثة أشهر إلى مده وفيضانه، وأن الخير في أن يسير جيش مصر يفتح عاصمتها قبل أوان هذا الفيضان، وما لبث ابن العاص حين تسلم الإذن بالسير أن خلف في حصن بابليون مسلحة من المسلمين جعل عليها خارجة بن حذافة السهمي، ثم سار على رأس جيشه يريد المدينة العظيمة، مستقر الجمال والعلم والفن في العالم كله.

هوامش

صفحة غير معروفة