التفكير في فتح مصر
بينما كانت أسلحة المسلمين تنساح في بلاد الفرس، بإمرة الأحنف بن قيس ونعيم بن مقرن وسويد أخيه وعبد الله بن عبد الله بن عتبان وغيرهم من أمراء الجند ذوي المكانة والبأس، كان عمرو بن العاص يتقدم بجنوده في مصر؛ يفتح مدنها، ويجلي الروم عنها ويديل دولتهم فيها، وقد بدأ عمرو مسيرته إلى مصر في شهر ذي الحجة للسنة الثامنة عشرة من الهجرة، وتخطى إلى أرضها في مستهل السنة التاسعة عشرة، ثم سار في قتال أهلها وقتال الروم بها حذرا أول الأمر، فلما جاءته الأمداد من الخليفة طوعت له سرعة السير وكفلت له الغلبة والنصر.
وكانت مسيرة عمرو إلى مصر بإذن من عمر بن الخطاب، لكن عمر لم يأذن بهذا السير إلا بعد تردد طويل، فالمتواتر أن ابن العاص خاطب الخليفة في غزو مصر حين فتحت بيت المقدس أبوابها، وبعد أن صالح أمير المؤمنين أهلها في السنة السادسة عشرة من الهجرة، ولعل عمرا قد ذكر في حديثه يومئذ أن قائد الروم الأطربون انسحب بقوات الروم من فلسطين إلى وادي النيل، فمن الخير تعقبه وهو منهزم قبل أن تتاح له فرصة التحصن في بلاد وافرة الخصب عظيمة الثروة؛ يستطيع أن يجد في حصونها المنيعة وفي ميرتها الوفيرة، من وسائل الدفاع وأسباب المقاومة، ما ينسي هرقل هزيمته وفراره من المدينة المقدسة، ولعل عمرا ذكر كذلك في حديثه ما تعج به مصر من خيرات ينال الروم أكثرها ولا يبقى للمصريين منها إلا القليل الذي يقيم أودهم ليعملوا في أرضها المعطاء، ولعله أعاد هذه الأحاديث غير مرة على الخليفة، وعززها بأن علاقات مصر بحكامها من الروم ليست خيرا مما كانت علاقة العراق بحكامها من الفرس؛ وأن النزاع المذهبي قد أثار على ضفاف النيل حفائظ المصريين وأضعف من حماستهم لحكامهم، إن لم يدعهم للتمرد عليهم، وهذه كلها عوامل تكفل للعرب الظفر بأعدائهم في الوادي الخصيب ، فإذا أضيف إليها ما استقر في نفوس الناس لذلك العهد من بأس المسلمين ومن أن الله معهم فلا غالب لهم، لم يبق موضع للتردد في غزو مصر ونشر لواء الإسلام فيها، ثم كان للمسلمين من ثراء مصر ومن خيراتها الوفيرة ما يضاعف حظهم من نعيم الدنيا، بقدر ما يضاعف الاستشهاد حين الجهاد حظهم من نعيم الآخرة.
سمع عمر هذه الأحاديث ومثلها غير مرة، وكان ينصت لها ويطيل التفكير فيها، فالإغراء بغزو مصر لمن استطاع غزوها قوي شديد، وأين منها العراق والشام ثروة ونضرة! وهل يحدث تاريخ في بقاع الأرض بمثل ما يحدث تاريخها، أو تنهض في المشرقين آثار في جلال آثارها! لكن عمر كان يتردد كلما حدث في أمرها، فلا يأذن لابن العاص في غزوها، فلما انتهى بعد سنتين إلى الإذن بهذا الغزو وجد جماعة من كبار الصحابة بالمدينة راغبة عنه، خاشية سوء مغبته، تحاول حمله على الرجوع عنه، ورد ابن العاص عن السير إليه.
وقد تداولت عمر أسباب متلاحقة حملته على هذا التردد، وأول هذه الأسباب أن سياسته في الفتح كانت إلى آخر السنة السابعة عشرة من الهجرة سياسة عربية بحتة؛ فهو لم يكن يريد أن يتعدى العراق والشام بعد أن ضمهما إلى شبه الجزيرة، وكان يرى أن يضمهما إليها؛ لأن القبائل العربية التي نزحت إليها طوعت للخميين والغسانيين أن يقيموا ملكا عربيا خضع لنفوذ كسرى ولنفوذ قيصر، ومن الحق أن يكون هذا الملك للعرب وحدهم، يستقلون به ويكونون أصحاب السلطان فيه، حتى يجتمع العرب في وحدة تمتد من خليج عدن والمحيط الهندي إلى أقصى الشمال من بادية السماوة، ولذلك أبى على سعد بن أبي وقاص أن يتخطى سهول العراق إلى جبل فارس، وود لو أن بين السواد والجبل سدا من نار، فلا يخلص الفرس إليه ولا يخلص هو إليهم، وقد ظل حريصا على هذه السياسة حتى لم يكن للمسلمين من قتال الهرمزان مفر، فلما جمع الفرس لهم بعد ذلك بنهاوند وأظفر الله المسلمين بهم، أمر عمر بالانسياح في بلادهم ليخرج يزدجرد منها، وليقضي على كل خارج عليه فيها.
وسبب آخر حمل عمر على التردد في فتح مصر، ذلك أن الشام لم تكن خضعت كلها لسلطان المسلمين إلى آخر السنة السادسة عشرة، وقد بقي شمالها يناوئهم ولا يستقر لهم فيه أمر حتى قضى أبو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد على مقاومتهم، وذلك حين بعث هرقل قواته تحملها السفن من الإسكندرية إلى أنطاكية، وحين خرج أهل الجزيرة يمدونه، ثم انتهى الأمر بهؤلاء وأولئك إلى الفرار، هذا، ثم إن قيسارية ظلت في موقعها الحصين على شاطئ البحر تقاوم قوات المسلمين وتهدد مراكزهم بفلسطين إلى أن افتضها معاوية بن أبي سفيان. لم يكن لعمر، وذلك كان شأن سورية وفلسطين إلى أخريات السنة السابعة عشرة من الهجرة أن يغامر بإرسال قواته من الشام لمواجهة الروم بمصر، أتراه يقدم على هذه المغامرة إذا فتح الله عليه الشام؟ كان يتردد في هذا، وكان يجد من عثمان بن عفان ومن غيره من الصحابة المقيمين بالمدينة من يزيده دون الإقدام والمغامرة ترددا.
فلما خضعت الشام كلها طرأ سبب جديد أبقاه في تردده؛ فقد فشت المجاعة في شبه الجزيرة وهددت أهلها بالفناء، فشغلت عمر عن التفكير فيما سواها، وكيف يفكر في غزو الروم بمصر والناس في شبه الجزيرة جياع لا يصلحون مددا لأي جند يواجه الروم أو يواجه الفرس! ولم تكد المجاعة تنقضي حتى فشا طاعون عمواس بفلسطين وامتد منها إلى الشام والبصرة، فأزعج عمر والمسلمين جميعا، حتى لقد ساورتهم الخشية من انتقاض العراق والشام بهم؛ ورجعة الفرس والروم للقضاء ثم على سلطانهم، وكان طبيعيا أن ينسى عمر في أثناء المجاعة والطاعون كل ما حدثه به عمرو بن العاص عن مصر وأن ينصرف كل الانصراف عن التفكير في غزوها.
ولزم ابن العاص الصمت في أثناء هذه الحوادث فلم يخاطب عمر في غزو مصر، لكن الأمل في إقناع الخليفة عند سنوح الفرصة لهذا الفتح العظيم ظل مع ذلك ماثلا أمامه، ولما عادت شبه الجزيرة إلى مألوف حياتها، وبرئت الشام من الوباء وجاء الخليفة إليها يصلح شئونها وينظم جندها، لقيه عمرو بالجابية وسار معه في أرجاء البلاد وعاد يحدثه في فتح مصر ويدلي إليه بحجج جديدة حسبها تزيل تردده، فلو أن المسلمين قنعوا، بعد الذي أصابهم من هول المجاعة والطاعون، بالاستقرار في البلاد التي فتحوها لظن أعداؤهم بهم الضعف، ولأغراهم هذا الظن بمهاجمتهم، وهذا الأطربون بمصر قد جمع إليه الجند وأعد للقتاء العدة، فإذا لم يجد من يهاجمه خرج في قواته إلى فلسطين يقاتل المسلمين، أليس الخير أن يفاجئه المسلمون في مأمنه؛ فالهجوم خير وسائل الدفاع؟! وإذا تقدمت قوات العرب لغزو مصر أيقن الروم أن المسلمين لا يزال بأسهم شديدا كما كان، فهابوهم ووقفوا منهم موقف المدافع، بذلك تأمن الشام رجعتهم لغزوها، وكيف لهرقل أن ينقل الجند على السفن من مصر إلى أنطاكية أو غير أنطاكية والمسلمون يهاجمونه في مصر نفسها! فإذا فتح الله مصر يوما للمسلمين وأورثهم إياها، وذلك ما يؤمن ابن العاص به، فذلك الفوز الذي لا فوز يعدله؛ وإن تكافأت القوتان فطلب الروم الصلح، أمن المسلمون جانبهم في الشام وفي جزيرة العراق، وفي سائر الأرجاء التي دانت من قبل بأسلحة أمير المؤمنين، ولا خوف من أن يهزم المسلمون في مصر وأن تؤدي هزيمتهم إلى كارثة تضيع ما كسبوا من ملك قيصر، فقد أصبحت الشام كلها حصينة بقوات المسلمين المنتشرة فيها، وبانضمام العرب من أهلها إلى بني عمومتهم في الدفاع عنها، وباطمئنان غير العرب من أهلها إلى أن المسلمين خير من الروم حكما، وأكثر منهم عدلا وإنصافا.
سمع عمر إلى هذه الحجج وقلبها في نفسه فمالت به إلى مشاركة ابن العاص في رأيه، وزاده ميلا إلى هذه المشاركة ما رآه من إيمان عمرو بالقدرة على فتح مصر إيمانا مستندا إلى منطق تتعذر معارضته، هذا إلى أن الإغراء بفتح مصر شديد؛ فقد كان عمر وكان كثيرون من العرب في عهده يعرفون الشيء الكثير عن مصر وثروتها، وعن برم أهلها بسلطان الروم وأساليب حكمهم؛ لذلك لم يرفض طلب عمرو ولكنه استمهله حتى يكتب إليه بعد عوده إلى المدينة، وأقام ابن العاص ينتظر هذا الكتاب ويدبر في أثناء انتظاره خطة السير إلى مصر.
كان عمر وكان كثيرون من العرب يعرفون الشيء الكثير عن مصر، ولم يكن علمهم بها مقصورا على ما ينقله عنها من يذهبون في تجارتهم إليها من أمثال عمرو بن العاص، بل كان أوسع من ذلك مدى وأكثر دقة وإحاطة، فبين مصر وبلاد العرب صلات ترجع إلى أقدم الحقب، ذلك أن مصر كانت دولة بحرية منذ عهد الفراعنة، فكانت أساطيلها الحربية والتجارية تشق عباب البحرين الأبيض والأحمر من أقدم عصور التاريخ، وكانت سفن من هذه الأساطيل تذهب إلى الجنوب من بلاد العرب تحمل إليه التجارة وتجيء منه بمختلف السلع، وفي مقدمتها العطور والروائح التي توضع في حنوط الموميات، وكانت هذه السفن تسير وترسو من حيث تقع القصير اليوم، ثم ينقل ما تجيء به إلى مصر في طريق امتد في عهد الأسر الفرعونية الأولى بين القصير على البحر الأحمر وقفط على ضفة النيل، وقد أثبت الأثريون ما سجلته نقوش الكرنك وطائفة من المعابد المصرية من صور لهذه السفن المصرية وما تحمل من تجارة، كما أثبتوا ما سجلته نقوش الدير البحري من قيام الملكة الفرعونية «هاناسو» بشق طريق ملاحي يصل النيل بالبحر الأحمر عند خليج السويس مارا بالبحيرات المرة، وفي هذا الطريق الملاحي كانت السفن تنتقل بين البحرين الأبيض والأحمر، تحمل تجارة مصر والمغرب إلى الشرق، وتحمل تجارة مصر والشرق إلى الغرب، فكانت مصر يومئذ، أكثر مما هي اليوم، مركز التجارة للعالم المعروف كله، وكان تيسير الانتقال لهذه التجارة بعض ما يوليه ملوكها أعظم العناية.
صفحة غير معروفة