التوسع في فتح فارس
كانت سياسة عمر أن يقف بالفتح في حدود العراق والشام لا يتعداهما، وأن يجمع العرب بذلك في وحدة تمتد من جنوب شبه الجزيرة إلى شمال بادية السماوة؛ لذلك كتب إلى سعد بن أبي وقاص بعد فتح المدائن، حين بعث يستأذنه في مطاردة الفرس وراء جبلهم: «وددت لو أن بين السواد والجبل سدا لا يخلصون إلينا ولا نخلص إليهم ! حسبنا من الريف السواد، إني آثرت سلامة المسلمين على الأنفال.» وكان عمر مخلصا في هذه السياسة كل الإخلاص، والواقع أنها كانت خطوة جديدة في سياسة الإسلام؛ فقد كان رسول الله يحرص كل الحرص على تأمين شبه الجزيرة وتخومها حتى لا يعتدي الفرس أو الروم عليها، وكان يرجو أن يهدي الله كسرى وقيصر وأمراء مصر والشام والعراق إلى الإسلام بلا قتال، وكانت هذه سياسة أبي بكر حين أنفذ بعث أسامة لقتال الروم على تخوم الشام كما أمر به رسول الله، فلما دخل المثنى بن حارثة الشيباني العراق وأمده الصديق بخالد بن الوليد فانتصر على الفرس، ثم لما بدأ الفتح في الشام، لم يدر بخاطر أبي بكر ولا بخاطر عمر أن يتخطيا حدود العراق والشام إلى ما وراءهما، فقد كان بالعراق والشام من قبائل العرب التي نزحت من شبه الجزيرة وأقامت مملكة الحيرة ومملكة غسان من يمتون إلى المسلمين بأوثق الصلة؛ فمن حق المسلمين أن يطمعوا في مؤازرتهم وانضمامهم إليهم، فأما ما وراء ذلك من أرض الفرس وأرض الروم فلم يكن للخليفتين الأولين مطمع في غزوه وفتحه.
على أن الحوادث كثيرا ما كانت أقوى من الرجال، وكثيرا ما حملتهم على تعديل اتجاههم وتغيير سياستهم، وقد حملت الحوادث عمر على تعديل سياسته بإزاء الفرس وبإزاء الروم على كره منه بادئ الأمر، ثم ملأته حماسة للسياسة الجديدة بعد أن حالف النجاح هذه السياسة إلى مدى لم يتوقعه الخليفة ولم يتوقعه أحد غيره.
فأنت تذكر أن الهرمزان أحد قواد الفرس بالقادسية قد نجا من الموت وفر بعد الهزيمة فلجأ إلى الأهواز وأقام بها، وأن يزدجرد عاهل الفرس فر بعد فتح المدائن إلى حلوان ثم إلى الري، وأن سائر جنود فارس وقوادها فروا أشتاتا في مختلف أرجائها، فلما أمر عمر سعدا ألا يتعقبهم وأن يتولى تنظيم العراق وإصلاحه، خيل إلى الفرس أن العرب أمسكوا عن تعقبهم خوفا منهم، فأطمعهم ذلك فيهم وأغراهم بمناوشتهم، وكان أهل الأهواز أسبق من غيرهم إلى المناوشة، فكانوا لذلك أول من اصطدم بالمسلمين، فدارت الدائرة عليهم، فكانت هزيمتهم طليعة ما تلاها من هزائم الفرس واندحارهم.
والأهواز تقع إلى الجنوب الشرقي من العراق العربي وتتصل به، ويجري فيها من فروع دجلة نهير دجيل ونهير كارون، ولا يفصلها عن العراق العربي جبل فارس الرفيع الذرى، وإن فصلت بينهما في بعض الأماكن مرتفعات يتعذر اجتيازها إلا من مسالك مألوفة لأهل تلك الأرجاء، وكان موقع الأهواز على مقربة من الأبلة والبصرة، سببا في اشتباك أهلها بالعرب قبل غيرهم من أهل فارس، فأكثر الروايات على أن المسلمين فتحوا الأبلة في عهد أبي بكر أول ما ذهب خالد بن الوليد إلى العراق، وأن الفرس استردوها بعد ذلك فبقيت في سلطانهم حتى فتحها عتبة بن غزوان في عهد عمر بن الخطاب.
وتوفي عتبة وولى عمر المغيرة بن شعبة على البصرة مكانه،
1
وكان عتبة قد شخص إلى المدينة قبيل وفاته، فحدثت أهل الأهواز أنفسهم بالثورة بسلطان المسلمين في غيابه، فخرج المغيرة حتى يؤمن التخوم بينه وبينهم، ولم يجد مشقة في التغلب عليهم، لكن ما يعرفه من سياسة عمر جعله لا يتعقبهم داخل بلادهم، بل يكتفي بقهرهم ومصالحتهم على مال يدفعونه، ثم إنهم لم يلبثوا إلا قليلا حتى نكثوا عهدهم، فأحلوا المسلمين من صلحهم وأباحوهم أرضهم.
ذلك أن عمر عزل المغيرة بن شعبة عن البصرة وولاها أبا موسى الأشعري، وأمره أن يشخص المغيرة إليه ليحاكمه، فقد كانت أم جميل إحدى نساء بني هلال تغشى الأمراء والأشراف، وكان بعض النساء يفعلن ذلك في زمانها، فغشيت المغيرة يوما فهبت ريح فتحت كوة داره، فرآه أبو بكرة وجماعة معه عليها، ثم خرج المغيرة ليؤم الناس للصلاة، فمنعه أبو بكرة وقال له: لا تصل بنا، وكتب إلى عمر بما حدث، ودعا عمر أبا موسى الأشعري إليه أول ما قرأ الكتاب وقال له: «يا أبا موسى إني مستعملك، إني أبعث بك إلى أرض قد باض بها الشيطان وفرخ فالزم ما تعرف، ولا تستبدل فيستبدل الله بك.» وأجاب أبو موسى: «يا أمير المؤمنين أعني بعدة من أصحاب رسول الله من المهاجرين والأنصار، فإني وجدتهم في هذه الأمة وهذه الأعمال كالملح لا يصلح الطعام إلا به.» قال عمر: «فاستعن بمن أحببت.» فاستعان أبو موسى بتسعة وعشرين صحابيا.
وبلغ أبو موسى البصرة ومعه كتاب عمر إلى المغيرة، وإنه لأوجز كتاب كتب به أحد من الناس: «أما بعد، فإنه بلغني نبأ عظيم، فبعثت أبا موسى أميرا، فسلم ما في يدك، والعجل!» وكتب أمير المؤمنين إلى أهل البصرة: «أما بعد، فإني قد بعثت أبا موسى أميرا عليكم ليأخذ لضعيفكم من قويكم، وليقاتل بكم عدوكم، وليدفع عن ذمتكم، وليمضي لكم فيأكم ثم ليقسمه بينكم، وليتقي لكم طرقكم.»
صفحة غير معروفة