فقالت عائشة وقد أدركها ما يشبه الغيظ: إنني قد أخوض مهالك أخشى أن يصيبك رشاشها، فخير لك يا فلورندا أن تقيمي هنا حتى أعود. إنني سأكون في جيش المغيث وسنثب غدا على قرطبة، فرجي الخير وانتظري إيابي. - لن أنتظر، وسيكون فرسي جنب فرسك.
فهزت عائشة رأسها في صمت ووجوم.
وتحرك جيش المغيث في الصباح نحو قرطبة، وكان البرد شديدا، والريح صرصرا عاتية، وركبت عائشة وفلورندا ووراءهما العبيد، وكانت عائشة تتبع راية المغيث، وتمشي في ظله لا يرتد طرفها عنه لحظة.
سار الجيش يهز جناحيه متصل الأجزاء متماسك البناء، كأنه وحش هائل الجثة من وحوش الأساطير، ومر بالجند يومان، حتى إذا كانوا على مقربة من نهر «شقندة» والشمس على وشك المغيب، لمحت عائشة فارسا مدججا بالسلاح من فرسان الإسبان، يخرج في تلصص وحذر من غيضة أرز، ويدنو نحو المغيث من الخلف، وسيفه في يده يلمع على صفحته لعاب المنية، وما كاد يرفع به يده حتى انقضت عليه بسيفها انقضاض النسر الغاضب، فأطارت رأسه في الهواء كأنه كرة لاعب. وتلفت المغيث وأصحابه فإذا الإسباني الذي حاول الغدر به صريع مجندل، ورأوا الفتى الذي أنقذ حياته يمر من خلفهم مرور البرق فيندس في الجيش، ويغيب في آذيه المضطرب، ولا يكاد يلمحه المغيث حتى يصيح: «أدركوا الفارس الملثم!»
ويسرع أتباعه يتعقبونه فلا يجدون له أثرا، فيضرب المغيث كفا بكف، ويهمهم: «لقد كاد العلج يقتلني لولا هذا الفارس، فمن يكون يا ترى؟» فيجيبه مالك الجرهمي، وكان من أخص أصحابه: لقد حيرني هذا الفتى بفراره، ولو أن غيره فعل فعلته لتبجح بها، ولملأ الدنيا صياحا بأنه أنقذ حياة القائد. - هذا عجيب! لقد حاولت أن أرى وجهه وهو يطير بجواده فما استطعت؛ لأنه كان ملثما.
فضحك مالح وقال: لعله ملك من السماء. - إن لم يكن ملكا فلقد قتل شيطانا، وإني لأتحرق شوقا إلى لقائه لأجزيه أجر ما صنع لنا. - سنراه بعد المعركة إن تركته شجاعته حيا.
بلغ الجيش نهر قرطبة فعبره، ورفع الجنود أبصارهم فرأوا أسوار المدينة شامخة متحدية، وقد أغلق أهلها أبوابها فلم يتركوا منفذا لهاجم. ورأى المغيث أن ينتظر حتى يقبل الليل؛ ليباغت الحراس، وينقض عليهم انقضاض الباشق، وكان البرد شديدا قارسا، وهطل مطر منهمر أخفى أصوات الجنود، ووقف المغيث بين جنده وهو يقول في صوت خافت: «ليس من وسيلة إلا أن يتسلق رجل منا السور، حتى إذا بلغ قمته تحين غفلة من الحراس فنزل إلى المدينة في خفة وحذر، وفتح الباب للجيش.» فقال رجل كانت دقات قلبه أعلى من نبرات صوته: إن الحراس لا يتركون الأبواب في هذه الليلة، والذي ينزل إليهم إنما ينزل إلى قبره!
فقال المغيث في غضب: استرح يا أخا الهزيمة، فإني لم أدع الجبناء لهذا الأمر الجسيم، وإنما دعوت من يرون أن الموت في سبيل الله حياة باقية.
وهنا التفت بعض الجنود إلى بعض في ذهول اعترك فيه الجبن والإقدام، ولم تدم حيرتهم طويلا حتى رأوا فارسا ملثما يتسلق شجرة زيتون كانت إلى جانب السور، ثم يتعلق بأحد فروعها العالية، ويترك جسمه يترجح ذهابا وجيئة، وهو في كل مرة يزيد في اتساع قوس حركته، حتى إذا قرب من قمة السور قذف بنفسه إليها في خفة النمر وجرأته، وكان الجنود ينظرون إليه في دهشة وعجب، ورآه المغيث فصاح: «إنه الفارس الملثم! إنه البطل الذي يحمل روحه في يده؛ ليصون أرواح المسلمين.»
وكانت ساعة رهبة وصمت ويأس وأمل، واستمر المطر هطالا والبرد قاسيا. ونظرت عائشة من أعلى السور إلى المدينة فإذا الحراس وقد أضناهم التعب والسهر وأضر بهم البرد والمطر، قد اجتمعوا تحت سقيفة والتفوا بأغطيتهم، وأسلموا أجسامهم الهامدة إلى نوم مفزع مضطرب، فنزلت من السور في هدوء كأنها الحرباء، لا تسمع لها نأمة، ولا تحس ركزا، حتى إذا قربت من الأرض وثبت في خفة واحتراس، واتجهت نحو الباب؛ فعالجت مزاليجه، وكانت من الحديد الضخم الثقيل. فعجزت أول الأمر، وخانتها قواها، وسعل أحد الحراس تحت غطائه، فاهتزت أعصابها وأدركها الخوف، وكادت تستسلم لليأس لولا أن استنجدت بما بقي من قواها، واستنفدت كل طاقتها، وأعادت الكرة فخضع لها الحديد، ورفعت المزاليج، وكانت تنوء بالعصبة أولي القوة، وما كادت تفتح الباب حتى اندفع إليه المجاهدون كأنهم السيل المنهمر، وهم يصيحون: «الله أكبر! الله أكبر!»
صفحة غير معروفة