كان إذا قصد بكركي يدخل من باب سري يؤدي إلى غرفة المطران بو نجم، لم يكن يعرج على البطرك إلياس إلا إذا وقعت العين على العين واضطر إلى ذلك. ففي كرسي بكركي مراقبون للوجوه والأعيان، ولكل وجيه أو إكليريكي متنفذ، مرجع في ذاك المقام، قد يزوره ولا يزور سواه من سادات الكرسي، والخوري يوسف كان من حزب المطران أبي نجم ولا يزور غيره.
لم يكن البطرك إلياس يستمرئ حديث الخوري مسرح، ويعتقد أنه خفيف العقل، وهو كذلك. كان يعرفه لأنه ابن حلتا، وحلتا ليست بعيدة عن مسرح. كان يعرف عقله وميوله، فقلما كان يسمع للخوري يوسف كلمة، والخوري يوسف كان غير هين، يحب المعاكسة، فكان يقف دائما في صف المعارضة. فعندما حمي الشر بين رستم باشا والإكليروس الماروني كان الخوري يوسف مع رستم ضد أحبار الطائفة، والخوري إلياس الحويك - البطرك إلياس - كان حامل العلم في تلك المعركة، يناصب رستم العداء بالنيابة عن سيده البطرك مسعد.
وأخيرا راح رستم وبقيت بكركي ... حزم الباشا حقائبه، وتوجه ليركب البحر فسبقه الخوري يوسف مسرح إلى ميناء بيروت، وبدون مبالاة بالموارنة نزل على عيني وعينك يا تاجر إلى الباخرة، التي تقل رستم باشا إلى الآستانة ليودعه، وأنشده قصيدة حامية عرض فيها بخصوم الباشا من الإكليروس، ولم يسلم من لسانه أحد، لا بطرك ولا مطران. وجاء دور الانصراف، فرافق الباشا شاعره خوري مسرح إلى سلم الباخرة، وظل يشيعه بالفرنسية على الطريقة التركية: أوريفوار بار
7
مسرح. حتى ركب القارب.
وكتمها له المطران إلياس، الذي صار فيما بعد أظهر بطاركة الموارنة جسارة وعنادا، ونسيت أم القاتل فجاء الخوري يهنئ البطرك إلياس، فغفر له وقبل توبته على شرط أن يقل من دعاويه على أهالي عين كفاع وأهالي مسرح، ويحب السلام ... وأن يدع الامتياز الذي منحه إياه رستم باشا، أما هذا الامتياز فهو أن الخوري ادعى أمام الباشا أن وقف «سيدته» مهدد دائما بالاعتداء، وهو لا يستطيع دفع الرسوم المفروضة على من يدعي عليهم، فأعفاه وصار الخوري يقيم الدعوى على من يصبحه ويمسيه بنبرة ... وأخيرا صار يقيم الدعوى على نصف أهالي عين كفاع وثلاثة أرباع أهالي مسرح، فتراهم على طرقات محكمتي جونيه والبترون كعصافير العابور
8
في الربيع.
صعبت محبة السلام على الخوري، وطلب مهلة ليفكر بعاقبة ترك هذا الامتياز، وبعد مدة عاد إلى الكرسي ليقص على البطريرك حكايات الاعتداءات على وقف سيدته حين عمل بأمر صاحب الغبطة. فاستكثرها البطرك، ولكنه يعرف أن الخورين قط شر،
9
صفحة غير معروفة