الفراشة والدبابة وقصص أخرى: مختارات قصصية من الأعمال القصصية الكاملة لإرنست
تصانيف
ونظر العجوز من فوق قدحه عبر الصالة المستديرة، ثم إلى النادلين، ونادى مشيرا إلى قدحه: مزيدا من البراندي!
وذهب إليه النادل الشاب المتلهف على العودة وقال له: خلاص! لا مزيد الليلة ... سنغلق!
وقال العجوز: كوبا آخر! - كلا ... خلاص!
ومسح النادل طرف المائدة بمنشفة وهو يهز رأسه، فنهض العجوز ببطء وعد بطاقات الحساب التي أمامه، ثم أخرج حافظة نقود جلدية من جيبه ودفع ثمن المشروبات، تاركا نصف «بيزيتة» كبقشيش. ونظر إليه النادل وهو يسير في الطريق ... رجل بالغ الهرم يسير مترنحا وإن يكن بوقار.
وسأل النادل المسن زميله وهما يغلقان مصاريع النوافذ: لماذا لم تدعه يبقى ويشرب ... إنها لم تكد تبلغ الثانية والنصف؟ - أريد أن آوي إلى فراشي. - وماذا في ساعة أخرى؟ - إنها أهم عندي عنها لديه. - إن ساعة زمن هي ساعة زمن! - إنك تتحدث كرجل عجوز أنت الآخر ... إن باستطاعته أن يشتري زجاجة يشربها في منزله. - إن ذلك مختلف. - نعم إن ذلك مختلف .. معك حق. - وأنت؟ ألا تخشى أن تعود لبيتك قبل ساعتك المعتادة؟ - أتحاول إهانتي؟ - كلا أيها الرجل، إنما أنا أمزح فقط.
وقال النادل المتعجل وهو ينهض بعد أن فرغ من إغلاق المصاريع المعدنية: «كلا، إني واثق من نفسي، إن كلي ثقة!»
قال النادل العجوز: إن لديك الشباب، والثقة، والعمل، أنت تملك كل شيء. - وماذا ينقصك أنت؟ - كل شيء إلا العمل. - إن لديك كل ما لدي. - كلا. لم أثق في شيء قط ... ثم إنني لست شابا. - هيا، فلنكف عن هذا الهراء ولنغلق المحل.
فقال النادل العجوز: أنا من الذين يحبون البقاء في الحانة حتى وقت متأخر، مع أولئك الذين لا يرغبون في العودة إلى الفراش، مع أولئك الذين يحتاجون للنور في الليل. - أما أنا فأريد العودة إلى منزلي وفراشي. - إننا على طرفي نقيض ... إنها ليست مسألة شباب وثقة فقط، مع أن هذه الأشياء جميلة. إني أبطئ في الإغلاق كل ليلة، فربما كان هناك أحد في حاجة إلى القهوة. - يا رجل، هناك حانات كثيرة تظل مفتوحة طوال الليل. - إنك لا تفهمني! هذه حانة نظيفة تشرح الصدر، إنها حسنة الإضاءة، والضوء شيء جميل!
قال النادل الشاب: سعدت مساء.
وبعد أن أطفأ النور، واصل النادل الآخر الحديث مع نفسه: «إن النور هو المهم طبعا، ولكن يلزم أيضا أن يكون المكان نظيفا بهيجا، الموسيقى غير ضرورية، لا حاجة للموسيقى بكل تأكيد، كما أن المرء لا يستطيع الشراب في إحدى الحانات مع الاحتفاظ بوقاره، رغم أن تلك الأماكن هي التي تبقى مفتوحة في مثل هذه الساعات ... مم يخاف؟ لم يكن خوفا أو خشية، بل هي لا شيئية يعرفها تمام المعرفة ... إن الأمر كله لا شيء، والإنسان أيضا لا شيء، إن الأمر كله كذلك، ولا يحتاج إلا إلى النور وبعض النظافة والترتيب. إن بعض الناس يعيشون في اللاشيء دون أن يشعروا أبدا بحقيقته ... أما هو فإنه كان يعلم أنه لا شيء ثم لا شيء، ولا شيء ثم لا شيء. لا شيئا الذي في اللاشيء، لا شيء اسمك، لا شيء ملكوتك، لتكن مشيئتك لا شيء في لا شيء، كما هي في اللاشيء، أعطنا هذا اللاشيء، لا شيئنا اليومي ... ولا تشيئنا في اللاشيء، بل نجنا من اللاشيء من أجل لا شيء! ... سلاما أيها اللاشيء المليء باللاشيء ... لا شيء معك.»
صفحة غير معروفة