مقدمة
الفراشة والدبابة
قطة تحت المطر
التحول
المخيم الهندي
الطبيب وزوجة الطبيب
حاضرة الدنيا
يوم انتظار
تلال كالأفيال البيضاء
قصة أفريقية
مكان نظيف حسن الإضاءة
ثلوج كليمنجارو
الآن أرقد لأنام
عشرة هنود
الأسد الطيب
الثور الوفي
مقدمة
الفراشة والدبابة
قطة تحت المطر
التحول
المخيم الهندي
الطبيب وزوجة الطبيب
حاضرة الدنيا
يوم انتظار
تلال كالأفيال البيضاء
قصة أفريقية
مكان نظيف حسن الإضاءة
ثلوج كليمنجارو
الآن أرقد لأنام
عشرة هنود
الأسد الطيب
الثور الوفي
الفراشة والدبابة وقصص أخرى
الفراشة والدبابة وقصص أخرى
مختارات قصصية من الأعمال القصصية الكاملة لإرنست همنجواي
جمع وترجمة
ماهر البطوطي
كان يوما ما زلت أذكره من عام 1961م حين قررت على نحو قاطع أن أتخذ الكتابة والترجمة مهنة أساسية لي. كنت أدرس آخر سنة في قسم اللغة الإنجليزية بآداب القاهرة، وقد تشبعت بالمقررات الدراسية، خاصة في تلك السنة، وتأثرت برواية «جيمس جويس»؛ «صورة للفنان في شبابه»، التي قرر بطلها نذر نفسه للأدب والفن والجمال بكل أشكاله. كذلك درسنا «همنجواي» وحياته وأسلوبه الجديد في الكتابة. وكنت أتابع ما يصدر من كتب مهمة خارج مقررات الدراسة، فتأثرت بأدب «ألبير كامي» وفلسفته، وكتاب «اللامنتمي» الذي كتبه «كولن ولسون» وأصبح حديث الأدباء.
وكنت قد بدأت القراءة وجمع الكتب منذ كنت في العاشرة من عمري، فنشأت على كتب «توفيق الحكيم» و«طه حسين» و«نجيب محفوظ» و«يوسف السباعي» وشعر «أحمد شوقي». وبدأت أيضا في جمع الكتب والسلاسل الجميلة التي كانت تصدر في مصر في الخمسينيات، ومنها: «الهلال» و«كتاب الهلال» و«روايات الهلال»، و«اقرأ»، و«كتب للجميع»، وكتب ومطبوعات «كتابي» و«الكتاب الذهبي»، وغير ذلك.
وبعد التخرج في الجامعة، عرفت أن من يريد أن يتخذ الكتابة مهنة، عليه إجادة لغته العربية إجادة تامة، وكذلك ألا يعتمد في معيشته على مكافآت الكتابة؛ فدرست القرآن الكريم وتدبرت آياته ولغته، وقرأت كتب النحو المتاحة، وما طالته يدي من كتب التراث العتيقة. ولم أبدأ الكتابة إلا بعد أن شغلت وظيفة مناسبة بوزارة التعليم العالي بالقاهرة ، تترك لي وقتا كافيا بعدها للقراءة والكتابة. ولما كنت أريد الكتابة في النقد الأدبي، كانت أوائل مقالاتي نقدا وعرضا لما أحببته من الكتاب والأدباء. ثم جاءت الترجمة وأفسحت لها بعض الوقت أولا، ثم زحفت على معظم الوقت بعد ذلك. وكان أول كتبي المنشورة عن «إرنست همنجواي»، ثم رواية «جيمس جويس» التي أحببتها. وبدأت في دراسة اللغتين الإسبانية والفرنسية قبل أن تنتدبني الوزارة للعمل ملحقا ثقافيا في مدريد، حيث قضيت أكثر من أربع سنوات.
وبعد عودتي من إسبانيا، قضيت أربع سنوات أخرى بالقاهرة أزود المجلات في القاهرة وبيروت بمقالاتي المؤلفة والمترجمة، قبل أن أتوجه إلى نيويورك للعمل مترجما ثم محررا بالأمانة العامة للأمم المتحدة. وقد عكفت على الكتابة والترجمة عن الأدب المكتوب بالإسبانية من شعر ورواية ومسرحية، حتى أساهم في تشييد جسر ثقافي للقراء العرب إلى تلك الثقافة الثرية. ولكن لم أنس اللغات الأخرى، فترجمت لشاعر الشعب الأمريكي «والت ويتمان» وبعض آثار اللغة الفرنسية، وزاد إنتاجي بعد التقاعد من العمل حتى قاربت أعمالي ثلاثين كتابا.
ولما كانت الكتب الورقية، رغم أهميتها، تذوي وتغيب حروفها بفعل الزمن، فقد رحبت بقيام مؤسسة «هنداوي» بوضع كتبي رقمية على النت لتكون متاحة لمن يريد قراءتها، والمؤسسة بذلك تضطلع بعمل مهم في نشر الثقافة وإتاحتها وحفظها على مر السنين.
مقدمة
حياة همنجواي وفنه
لعل أحدا من الروائيين الذين يكتبون بالإنجليزية لم يحظ من الشهرة وسعة الانتشار في العصر الحديث قدر ما حظي الكاتب الأمريكي العظيم إرنست همنجواي. فبالإضافة إلى المحصول الوافر من الروايات والقصص التي تركها همنجواي وراءه عند مماته في 1961م، فإن حياته تشكل جانبا مستقلا، له من الأهمية ما لأدبه بالنسبة لقرائه ولدارسيه، وهذا ما حدا بالنقاد إلى الاهتمام بحياته والأحداث الكثيرة التي تزاحمت فيها قدر اهتمامهم بنصوصه الأدبية. وعلاوة على ذلك فإن أدب همنجواي وكتاباته مغموسة كلها بدم الحياة التي عاشها، فهو يستمد أدبه من تجاريب حياته، وتدفعه هذه الحياة إلى تطوير أدبه ومزجه بتجاربه. وقد دفعت الحياة الغريبة التي عاشها هذا الكاتب العظيم بعض النقاد إلى الحديث عن الرغبة في الموت التي تتحكم في لا وعي همنجواي وأعماله، وطبقوها على انغماسه الغريب في الحروب والمعارك، وفي رحلات الصيد الخطرة، ومصارعات الثيران الدموية. وقالوا أيضا: إن همنجواي كان يريد قهر الخوف من الموت، ولذلك لم يكن يحب انتظار الموت بل يبحث عنه في مكمنه.
وقد ابتكر همنجواي أسلوبا فريدا في الكتابة، يعتمد على التخلص من المحسنات البديعية والتزويقات اللفظية والإطناب، ويتجه إلى طريقة الاقتصاد في التعبير
1
والأسلوب البرقي الذي يحاول إيصال التجربة إلى القارئ عن طريق التركيز والمباشرة. وبالإضافة إلى ظهور همنجواي بهذه الطريقة في بناء لغته وفي بناء رواياته، فإن له رؤيا خاصة في الحياة وفي الفن، اجتهد أن يوصلها إلى قرائه من خلال قصصه ورواياته.
حياته وأعماله الأدبية
ولد إرنست ميلر همنجواي، مغامر عصره، في يوم 21 يوليو 1899م، في مدينة يطلق عليها عادة اسم عاصمة الطبقة الوسطى وهي «أوك بارك» من ضواحي شيكاغو. وكانت أمه من النساء ذوات النشاط الديني الفعال، شغلت وقت فراغها بالعزف في الكنائس وفي المحافل الدينية. أما أبوه فهو الدكتور كلارنس إدموندز همنجواي، وكان طبيبا محليا معروفا، يفضل الذهاب للقنص وصيد السمك في منزل العائلة الصيفي بجانب خليج «هورتون» على الاشتغال بمهنته، وعكف والده منذ صغره على تلقينه فنون الهوايات التي شغف بها هو نفسه، فأهداه في عيد ميلاده الثالث قصبة للصيد، كما كان يعلمه فنون الرماية منذ كان في المهد صبيا. ومما يروى عنه: أنه اشترك وهو في هذه السن في الاستعراض العسكري في المدينة، وسار وقد علق مسدس جده إلى جانبه وهو يختال وسط الجنود في مشية عسكرية صارمة. ولكن والدته لم تكن راضية عن تلك التنشئة المبكرة، وكانت تعد لابنها مشروعات مخالفة بالنسبة لمستقبله، مما جعلها تعارض والده على طول الخط وتسخط على ما يفعله مع ابنهما ... ويبدو أن همنجواي لم يغفر لها بعد ذلك هذا الموقف إطلاقا، كما يبدو أن ضيقه منها قد انعكس في كل ما كان يكتبه ويخلقه من الشخصيات النسائية في رواياته وقصصه .
وفي العاشرة من عمره، أهداه والده بندقية، وأهدته والدته آلة تشيللو للعزف، ولكنه أوضح بعد ذلك أنه لم يكن يميل لعزف الموسيقى، وكان يهرب من دروس العزف ليصطاد السمك، وكان من نتيجة هذا الشد والجذب للصبي بين عالم والده وعالم والدته أن أصبح همنجواي شابا عاكفا على التفكير، شديد الحساسية في نفس الوقت. وقد قال مرة بعد ذلك عن أيام حياته الأولى: «إن أفضل مدرسة للكاتب هي طفولة شقية» وقد تسببت هذه الأيام في إصابته ببعض «التهتهة الخفيفة» في كلامه، لازمته طوال حياته.
وتلقى همنجواي تعليمه في مدرسة «أوك بارك»، حيث التحق بفريق كرة القدم بها. وفيها ظهر ميله للكتابة لأول مرة، فكان يكتب بعض القصص القصيرة على الآلة الكاتبة، عن تجاربه في الصيد وعن الهنود الحمر، وينشرها في المجلة الأدبية للمدرسة. وقد اشتغل وقت فراغه في هذه الأيام والتحق بمدرسة لتعليم الملاكمة.
وبعد أن حصل على شهادته الثانوية من المدرسة عام 1917م، كانت الولايات المتحدة قد دخلت الحرب العالمية الأولى التي اندلعت نيرانها منذ سنوات ثلاث في أوروبا، وهجر همنجواي كل مشروعاته بشأن الجامعة وبشأن المستقبل وتطوع في الجيش، ولكنه رسب في الكشف الطبي بسبب عيب كان قد أصاب عينه في إحدى مباريات الملاكمة. وفشلت محاولات همنجواي في الالتحاق بأي سلاح من أسلحة الجيش، وبعدها نجحت مجموعة من الأكاذيب، ونقص في الموظفين إبان الحرب، ونفوذ أحد أعمامه في حصوله على عمل في صحيفة «كانساس سيتي ستار» التي كانت تعتبر أيامها أكبر مدرسة للصحافة في الغرب الأمريكي. وقد تعلم فيها كيف يقص الخبر بأسلوب الصحيفة المعروف عنها: الأحدوثة المباشرة المقتضبة والفقرات القصيرة واللغة القوية. وقد قال همنجواي بعد ذلك عن هذه الفترة من حياته: إنه قد تعلم في هذه الشهور عن الكتابة وعن الصحافة أكثر مما تعلمه في أي فترة أخرى من فترات حياته. وبعدها قرأ عن حاجة الصليب الأحمر العاجلة لمتطوعين للعمل على الجبهة الإيطالية، فتقدم لهذا العمل وقبل فيه في أبريل 1918م كسائق لعربة إسعاف ، وكان أصغر المتطوعين سنا فلم يكن يتجاوز التاسعة عشرة من عمره. وارتحل من نيويورك إلى باريس عن طريق البحر، ثم أرسلوا به إلى ميلانو حيث عمل في خط النار. وبعد أسبوع من الأحداث المثيرة، أصابته قنبلة من مدفع مورتار نمسوي حين كان يحاول إنقاذ أحد الضباط الإيطاليين الجرحى، وأطاحت بطاسة ركبته وجرحته في رأسه. وفي مستشفى «ماجيوري» بميلانو، أجروا له سلسلة من العمليات أخرجوا بها 227 شظية من ساقه. ولم يخرجوا كل الشظايا رغم ذلك، فقد أجروا له عملية أخرى عام 1959م أخرجوا بها من ساقه شظية أخرى استقرت فيها منذ ذلك الوقت. وفي مستشفى ميلانو تعرف على ممرضة إنجليزية حسناء من ممرضات الصليب الأحمر، عقد معها علاقة عاطفية ألهمته فيما بعد حبكة روايته المشهورة «وداعا للسلاح». وقد طاف همنجواي بعد شفائه بصفوف القتال على الجبهة الإيطالية مرتديا سترة عسكرية أمريكية ليبعث الحماس في قلوب المحاربين ويقص عليهم قصة بطولته في الحرب، وكان نتيجة هذا أن أنعمت عليه السلطات الإيطالية بالميدالية الفضية للشجاعة العسكرية ووسام الاستحقاق الحربي.
وعاد همنجواي في 21 يناير 1919م إلى نيويورك واستقبل فيها استقبال الفاتحين، فقد كان من أوائل العائدين الذين اشتركوا في الحرب العالمية الأولى من الأمريكيين. ولكن جو بلدته «أوك بارك» بدا له خانقا قاتلا، خاصة الآن بعد أن ذاق طعم الحرية والإثارة، فدفعه ذلك إلى الاستقلال بحياته عن والديه، وعاش وحده في شيكاغو بعد أن حصل على عمل يقيم به أوده عن طريق كتابة بعض القطع الصحفية لجريدتي «تورنتو ديلي ستار»، «وتورنتو ستار ويكلي». وكان يقسم وقت فراغه ما بين صالة الألعاب الرياضية، والتمرس على فنون الكتابة. وفي أثناء رحلة له إلى «ميتشجان» في هذا الوقت، تعرف على فتاة أمريكية ذات موهبة في العزف على البيانو تدعى «هادلي ريتشاردسون» تزوجها أخيرا في سبتمبر 1921م. واقترح همنجواي على أصحاب الصحيفتين اللتين يعمل فيهما أن يعينوه مراسلا لهما في باريس، حيث يوافيهم بمقالاته وقصصه من هناك، ووافقوا على ذلك. وحمله صديقه شرود أندرسون، بخطابات توصية إلى معارفه الأدبيين في باريس، أمثال جرترودشتاين وعزرا باوند، وتعد سنواته الأولى هذه في باريس من أخصب أيام عمره، قضاها طوافا في البلاد والمدن الأوروبية، يعقد الصداقات مع شخصيات الأدب والفن المشهورين. وفي باريس تعلم همنجواي التمييز بين الأصل والمزيف، بين العبقرية والتصنع، وتعلم كما قال بنفسه: «كيف يكتب القصص بالتطلع إلى اللوحات في متحف اللوكسمبرج في باريس»، وعندما ألمح له الرسام بيكاسو عن مصارعات الثيران في مدريد، صمم همنجواي على خوض هذه التجارب الفريدة، فشد رحاله على الفور هو وزوجته إلى إسبانيا حيث شهد أول عرض لمصارعات الثيران في حياته، وقضى بها عدة أسابيع قبل أن يعود إلى باريس. وكانت هذه نقطة البداية في حبه العريض للبلاد الإسبانية ولمصارعة الثيران التي لازمته طوال حياته ولم يكد يخلو كتاب من كتبه من أي منهما.
وبعد ذلك أبرقت له الصحيفة بالتوجه إلى إيطاليا لتغطية أخبار المؤتمر الاقتصادي في «جنوه»، وبعدها طار إلى القسطنطينية ليغطي أحداث الحرب التركية اليونانية التي استعر أوارها في تلك الأثناء. وفي القسطنطينية شهد فظائع انسحاب الجيش اليوناني من المدن التركية وتقدم الجيوش التركية للاستيلاء على هذه المدن؛ وقد ألهمه هذا الانسحاب الوصف الذي ورد بعد ذلك في مشهد انسحاب من «كابريتو» في «وداعا للسلاح» ... وبعد عودته من تلك المهمة بقليل طار إلى لوزان لتغطية مؤتمر السلام هناك. وهكذا تحقق حلم همنجواي بأن أصبح مراسلا أمريكيا جوالا في البلاد الأوروبية.
واستدعى همنجواي زوجته هادلي لتلحق به في لوزان. وفي الطريق وقعت لها حادثة مفجعة؛ إذ فقدت جميع مخطوطات القصص التي كان زوجها قد كتبها طوال السنوات الأربع السابقة، وكانت قد وضعتها كلها في حقيبة حملتها معها إليه. وقد أثر هذا الفقدان الأدبي في همنجواي فترة طويلة من حياته ولم ينسه مطلقا. وطار همنجواي مرة أخرى إلى ألمانيا لكتابة تحقيق صحفي عن إعادة احتلال «الروهر» بالقوات الألمانية. وفي باريس، أجرى همنجواي كتابه الأول، مجموعة من القصص والقصائد بعنوان «ثلاث قصص قصيرة وعشر قصائد»
2
كما كان يزيد من دخله بالمراهنة عن سباق الخيل الذي برع فيه وربح من ورائه الكثير من المال. ولكنه اضطر إلى العودة لجريدتي «ستار» و«ستار ويكلي» حين أشرفت زوجته على وضع طفلها جون، وأصرت على أن تتم الولادة في موطنها بالولايات المتحدة. وبعدها بفترة قضاها في جو من الضيق و«الإقليمية»، استقال من العمل، ورحل هو وزوجته وطفله إلى باريس حيث خلع عنه أخيرا معوقات الكتابة، ونزل إلى الساحة ليحارب معركته في سبيل الجودة والظهور كمؤلف له قيمته وأصالته. وكانت باريس أيامها تموج بالكتاب والفنانين الذين يأتون بكل مستحدث مستطرف، يغرقون همومهم في الجنس والخمر والسهر طوال الليل. وقد أسمتهم جرترود شتاين بالجيل الضائع، ولكن همنجواي كان يمثل بينهم شخصا مختلفا، فقد أضفت عليه جديته بشأن عمله في الكتابة وتجاربه في الحرب صفة خاصة من النضج. وانضم في هذا الوقت إلى الجماعة التي كانت تلتقي في مكتبة شكسبير التي تملكها شابة أمريكية تدعى «سيلفيا بيتش» في الحي اللاتيني، وتعرف هناك بالمشهورين من أمثال جيمس جويس، وجون دوس باسوس، وأرشبولد ماكليش، بالإضافة إلى جرترود شتاين، وعزرا باوند. وكانوا يعقدون الندوات التي يناقشون فيها مسائل الفن والأدب وقضاياهما.
ومرت بهمنجواي فترة قاتمة في أيامه تلك في باريس، فكانت المجلات ترفض قصصه الواحدة بعد الأخرى، ولم يكن يجد ما يقيم أوده هو وزوجته. ولم يفت هذا من عضده، بل لم يمنعه عن الاستمتاع بكل ما كان يستمتع به من صيد ومن سباق الخيل وسباق الدراجات، ونجح أخيرا بعد ذلك في نشر كتابه الثاني، وهو مجموعة من القصص القصيرة ظهرت تحت عنوان «في أيامنا».
3
وقد صمم همنجواي على أن ينقل تجربته في الهيام بمصارعة الثيران إلى رفاقه، فخرجوا جميعا في عام 1925م إلى إسبانيا لحضور مهرجان «سان فرمين» في بمبلونة، وهو تقليد اتبعه بعد ذلك طوال حياته. وفي هذه المرة، تعرفت الجماعة بفتاة إنجليزية لعوب تدعى «ليدي داف توايسدن»، وقع أحد أفراد الجماعة وهو «هارولد لويب» في غرامها وصار يشك في علاقتها بهمنجواي وبأفراد آخرين من الجماعة، رغم أنها كانت مخطوبة لواحد من الأثرياء الأمريكيين ولا تخفي علاقاتها بكثير من الأفراد الآخرين. وطوال أيام هذا المهرجان ومباريات مصارعة الثيران التي شهدتها الجماعة، كان إرنست يشحذ حواسه كلها لالتقاط دقائق الأحداث التي تدور من حوله. وقد دون كل هذا بعد ذلك في روايته «وتشرق الشمس ثانية».
4
وقد بدأها في يوم عيد ميلاده السادس والعشرين، وكتب فيها في بلنسية وفي مدريد ثم في باريس، وأتمها في مدى ستة أسابيع. وفي الفترة التي كان ينقح فيها الرواية، نشرت روايته الأولى المسماة «سيول الربيع»
5
ولكنها لم تلق حماسا من القراء ولا من النقاد.
وكانت حياته الزوجية مع هادلي قد انتابها الفتور، كما شابها كثير من الشجارات التي نشأت من غيرة هادلي من علاقة إرنست بالممرضة الإنجليزية التي تعرف عليها في مستشفى ميلانو، والتي استمرت بعد ذلك عن طريق الخطابات، وعلاقته المستحدثة مع «ليدي داف توايسدن». وانتهى به الأمر أن انفصل عن هادلي، واتخذ له مسكنا يقيم فيه وحده، ثم انتقل إلى نيويورك مع امرأة من معارفه مال إليها تدعى «بولين بفيفر» الكاتبة الصحفية بمجلة «فوج» النسائية. واستمر همنجواي يعمل في نيويورك في تنقيح مخطوطة «وتشرق الشمس ثانية»، ودفع بها أخيرا إلى الناشر، وظهرت في أكتوبر 1926م ونالت الرواية نجاحا ساحقا فور ظهورها، وأرست دعامة همنجواي كواحد من أعلام الأدب الأمريكي البارزين، وجذب انتباه الجماهير ككاتب وكإنسان. وقد دفع هذا النجاح الناشر «سكريبنر» إلى إخراج كتاب قصص قصيرة له، به أربع قصص جديدة، علاوة على مختارات من قصصه القصيرة التي نشرت سابقا، تحت عنوان «رجال بلا نساء».
6
وحصل همنجواي على الطلاق من هادلي في عام 1927م، وتزوج بعدها حبيبته الجديدة بولين. وقد اضطر لإتمام هذا الزواج أن يتحول من المذهب البروتستانتي إلى الكاثوليكية؛ لأن بولين كانت من هذا المذهب. وبدأ بعد ذلك مباشرة في الإعداد لأقرب المشروعات حبا لفؤاده، وهو كتابة رواية عن تجاربه في الحرب العالمية الأولى.
ومرة أخرى، اضطر همنجواي إلى العودة إلى الولايات المتحدة حين أشرفت زوجته الجديدة على الوضع، فأقام فترة في «كي وست»، ثم نزح إلى «كانساس سيتي» حيث دخلت بولين المستشفى . ومرت الزوجة بتجربة عصيبة؛ إذ تعسرت الولادة وأشرفت على الموت، واضطروا إلى إجراء عملية قيصرية لإخراج الوليد الجديد من بطنها، وسموه «باتريك». ومرت بهمنجواي تجربة أعصب وهو ينتظر خارج المستشفى نتيجة العملية. وقد ظهرت هذه التجربة بعد ذلك بتفصيل شديد في الرواية الجديدة التي كان يكتبها آنذاك «وداعا للسلاح».
7
كذلك ألمت بهمنجواي أزمة روحية في هذه الفترة نتيجة لوصول الأنباء إليه بانتحار أبيه الطبيب بمسدس الجد الذي كان إرنست يحمله وهو طفل ويسير به مختالا في الاستعراض العسكري في «أوك بارك».
وتوطدت أقدام همنجواي في عالم الأدب بنجاح «وداعا للسلاح» التي نشرت في سبتمبر 1929م. وعكف بعدها على كتابة بعض قصصه القصيرة، أشهرها قصص القاتلان
8 «اليوم جمعة»
9
الهنديان
10
ثم قضى الصيف التالي في جولة في إسبانيا في ركب الماتادور المشهور سيدني فرانكلين، خرج منها آخر الأمر بكتاب شامل مشهور عن مصارعة الثيران، وكان بذلك أول كاتب يقدم هذا الفن العظيم للعالم الأنجلوسكسوني، بكتابه الذي يشبه دائرة معارف عن مصارعة الثيران «موت في الأصيل».
11
وقضى همنجواي فترة طويلة في منزله في «كي وست»، وابتاع يختا للصيد أسماه «بيلار»، استخدمه في رحلات صيد ناجحة. وكان يبحث عن آفاق جديدة يبسط عليها ظل خياله، ووجد أنه لن يجد متعة بعد ذلك في مناطق إسبانيا وباريس إلا بعد أن يجددها بمشاهدة الجانب الآخر من العالم. وعلى هذا ففي أواخر عام 1933م، شد رحاله هو وزوجته وأحد أصدقائه إلى أفريقيا، مصطحبين مرشدا أصبح بعدها صديقا حميما لهمنجواي هو «فيليب برسيفال». وطاف همنجواي في هذه الرحلة بممباسة وكينيا وأوغندا، ومر بتجارب هامة مركزة في كيفية صيد الأسود والنمور والفيلة، وخاصة وحيد القرن. وعاد إلى «كي وست» في ربيع 1943م وذهنه محمل بذكرياته الأفريقية. ومرت به هناك تجربة صيد فريدة اختزنها في ذاكرته إلى أن حانت لحظة إخراجها في عمل فني متكامل. ففي أثناء جولة له على قاربه بيلار للصيد، اشتبكت قصبته بسمكة تونة ضخمة، قال من شاهدها إنها تربو على الألف رطل، وظل يطاردها قرابة يوم كامل وهو يجاهد ألا تفلت منه. وتمكن أخيرا من صيدها وجرها إلى جانب قاربه. ولكن بعد أن بذل هذا المجهود الجبار الذي يفوق الطاقة في صيدها، هجمت عليها أسماك القرش ونهشت لحمها وتركت له سلسلتها الفقرية ورأسها تسبح إلى جانب القارب. وكان يشبع النشاط والمغامرات في حياته برحلات صيد من هذا النوع، وبرحلات سريعة بقاربه عبر الخليج إلى كوبا. ولكن القدر كان يخبئ له مغامرة جديدة من نوع المخاطرة التي كادت تودي بحياته في الحرب العالمية الأولى. ففي يوليو من عام 1936م نجح أحد الضباط الإسبان في تدبير انقلاب ضد حكومة الجمهوريين في مدريد، وانحاز قسم كبير من الجيش الإسباني إلى جانبه، مما أدى إلى اندلاع نيران حرب أهلية مدمرة في تلك البلاد التي أحبها همنجواي كل الحب. وقد ساندت القوى الفاشستية في كل من إيطاليا وألمانيا الضابط فرانكو، بينما انضمت إلى الجمهوريين صفوف الشيوعيين والفوضويين والاشتراكيين والنقابيين وغيرها من الجوانب الثورية. وانحاز همنجواي إلى جانب الجمهوريين، وطاف في كل مكان في أمريكا يحاول جمع التبرعات لمساعدتهم وإمدادهم بما يحتاجونه من سلاح. ثم سافر هو بنفسه إلى مدريد ليغطي أنباء الحرب الأهلية، وليكون إلى جانب أصدقائه الجمهوريين، وقبل أن يطير للجبهة أعد رواية جديدة للنشر وأسماها «الغنى والإملاق»
12
وخاض همنجواي في طريقه إلى ميدان القتل أهوالا عجيبة وكاد أن يقتل عديدا من المرات. وكان يعود أحيانا إلى الولايات المتحدة لجمع مزيد من الأموال لمساعدة الجمهوريين، ثم يطير ثانية إلى ميدان القتال. وفي إحدى المرات التي عاد فيها إلى الولايات المتحدة نشر مسرحية كان يعمل فيها في مدريد وهي «الطابور الخامس»
13
وكانت هذه المسرحية الوحيدة التي كتبها همنجواي هي العمل الوحيد الذي أجمع كل النقاد على فشله التام.
وحرص همنجواي على أن يكون في وسط المعارك التي تدور بين الملكيين والجمهوريين، وكم من مرة تحطم زجاج نافذة الغرفة التي يقيم فيها في فندق فلوريدا بمدريد؛ نتيجة قنبلة تقع على مقربة منه، ولكنه كان يتحمل كل ذلك ويختزن في ذهنه تجارب الأهوال التي يراها والتي اقترنت بهذه الحرب البشعة التي مات في العام الأول لها ما يزيد على نصف مليون إسباني. وتعرف في مدريد على مراسلة صحفية شقراء صغيرة السن تدعى «مارتا جلهورن»، كانت قد برزت في عملها ونجحت فيه نجاحا ملحوظا، وتوثقت عرى المودة بينهما في هذه الفترة، بحيث لم يكونا يكادان يفترقان.
ولما انتهت الحرب الأهلية الإسبانية باندحار الجمهوريين ودخول فرانكو مدريد في مارس 1939م، عاد همنجواي إلى بلاده، واستقر في منطقة جديدة اكتشف فيها أحسن مناطق الانزلاق على الجليد، وهي منطقة «صان فالي». وهناك كتب 24 فصلا من فصول رواية جديدة أعدها عن الحرب الأهلية الإسبانية. وكانت رواية «لمن تدق الأجراس»
For whom the Bell Tolls
أحسن وأشهر رواية كتبها همنجواي باعتراف النقاد. وقد قال عنها مؤلفها: «إنني لم أضع فيها الحرب الأهلية فحسب، بل وضعت فيها كل شيء تعلمته عن إسبانيا طوال ثمانية عشر عاما.» وأهدى همنجواي الرواية التي ظهرت في أكتوبر 1940م إلى مارتا جلهورن، وكان قد اتفق معها على الزواج بعد أن وافقت بولين على الطلاق بشرط أن تحتفظ بولديها منه وبمنزلهما في «كي وست». ولما وافق همنجواي على هذه الشروط، قام بشراء ضيعة له في كوبا بقرية تدعى «سان فرانسيسكو دي بولا»، وسمى الضيعة «فينكا فيخيا»، أي «الضيعة الخارجية»، وتتكون من منزلين وبرج للمراقبة تحيط بهم حديقة واسعة بها حوض سباحة وملعب للتنس. وقد جعل من كوبا مقرا لقاربه البيلار.
وبعد طلاق همنجواي من بولين بسبعة عشر يوما، تزوج مارتا، وكان في الثانية والأربعين من عمره، بينما كانت مارتا في الثامنة والعشرين. وطارا بعد الزواج إلى الشرق الأقصى ليغطيا أنباء الحرب اليابانية الصينية لصالح صحيفتين مختلفتين. وكانت رحلة شاقة إلى مناطق القتال. وقضيا أربعة شهور في الصين، لمس همنجواي فيها مدى الصدع الذي حدث بين شيانج كاي شيك وبين الشيوعيين الصينيين وحذر من نتائجه المرتقبة على مستقبل الصين. وبعد شهر العسل هذا، الذي استطال إلى أربعة شهور وسط جبهة القتال ، عاد العروسان إلى ضيعة الزوج في كوبا، حيث اعتزم همنجواي العزوف عن خوض غمار الحروب بعد ذلك ، رغم أن بلاده كانت قد دخلتها رسميا آنذاك بعد واقعة بيرول هاربور المشهورة.
وكان هذا هو الوقت الذي بدأ همنجواي فيه يطلق لحيته التي اشتهر بها، وكان يزعم أنه اضطر إلى ذلك من جراء مرض جلدي أصاب وجهه وجعل من حلاقة ذقنه أمرا عسيرا.
وبدأت زوجته الجديدة تشعر بالملل، ووجدت أن مثل هذا الزواج لن يتفق مع طموحها الواسع في التقدم في عملها الصحفي، فكان أن طارت بمفردها إلى أوروبا لتغطي أنباء الحرب العالمية لصالح مجلة كوليير. وبعد سفرها بستة أشهر طار همنجواي إلى خطوط القتال في أوروبا ليوافي مجلة كوليير هو الآخر بالتحقيقات الصحفية عن الحرب، ولكنه لم يكن مع زوجته، بل قضى معظم وقته مع مراسلة صحفية تدعى «ماري ولش». وقد اشترك همنجواي في القتال فعلا على الجبهة الفرنسية حين كان الحلفاء يعدون العدة للغزو النورماندي، وكون فرقة من الفدائيين ترأسهم وكانوا ينادونه بلقب «بابا همنجواي»، وقد شاعت هذه التسمية بعد ذلك بين أصدقائه ومحبيه. وكانت هذه الفرقة هي أول جنود من صف الحلفاء تدخل باريس، وكان أول شيء فعله همنجواي بعد دخوله العاصمة الفرنسية أن حرر فندقه الأثير «الريتز»، وعب من خموره المعتقة. وقد حوكم همنجواي أمام محكمة عسكرية بعد ذلك لتخطيه حدود قوانين المراسلين الصحفيين باشتراكه الفعلي في القتال، ولكن لم يتقدم أحد للشهادة على تلك الجريمة، فسقطت عنه، كما منح ميدالية برونزية تقديرا لشجاعته.
وبعد الحرب، وفي أكتوبر 1945م، حصلت مارتا جلهورن على الطلاق من همنجواي، لم يعارض في منحها إياه، وعاد إلى فينكا فيخيا بكوبا مع «ماري ولش» التي كان يدعوها دوما «مس ماري»، وقد تزوجها همنجواي أخيرا في هافانا في 1946م، وكانت مس ماري بهذا رابع زيجة له وأحبها إلى قلبه، باعترافه فيما بعد. وقد عملت زوجته الجديدة على إرضائه كلما سنحت لها الفرصة لذلك، فكانت تشاركه حبه للصيد والرحلات وشرب النبيذ، وتهتم بأدويته وأدواته، كما كانت مدبرة منزل وطاهية ماهرة في نفس الوقت ... وقضى همنجواي عدة سنوات من الاستقرار في فينكا فيخيا، كتب خلالها كتابه عن الحرب الذي سماه «عبر النهر وبين الأشجار»
14
وقد هاجمه النقاد بعنف على هذه الرواية التي جاءت مختلفة اختلافا بينا عن أسلوب همنجواي المعتاد في كتبه. وقد أثار النقد الجارح الذي كتبه النقاد على هذه الرواية حفيظة همنجواي وشرع في الإعداد لعمل كبير يتحداهم به. وظهر هذا العمل بعد ذلك مما كان قد اختزنه في ذهنه من تجارب حدثت في الصيد على شاطئ كوبا وغيره. وكانت رواية «العجوز والبحر»،
15
التي نجحت على الفور، وقابلها النقاد بترحاب عظيم، وقد نالت الرواية جائزة بوليتزر عام 1953م. ثم حاز الكاتب جائزة نوبل للآداب عام 1954م. وأصبح همنجواي أعظم كاتب أمريكي في زمانه.
ولكن انهماك همنجواي في العمل والكتابة إبان هذه السنوات لم يمنعه من القيام بالرحلات التي يحبها، فجال في إيطاليا، وعاد ثانية إلى إسبانيا بعد أن سمحت له السلطات بذلك، وشهد مصارعات الثيران مرة أخرى، وطاف بمسارح شبابه فيها وفي الأماكن التي كتب عنها أحداث روايته «وتشرق الشمس ثانية». وحن ثانية إلى أفريقيا، فاصطحب مس ماري في رحلة صيد إلى أفريقيا مولتها مجلة «لوك». وكانت الرحلة موفقة في قسمها الأول، فطاف همنجواي وماري في أدغال كينيا وتوجها مرة إلى الكونغو. ولكن حدث أن سقطت بهم الطائرة التي كانت تقلهم فوق شلالات «مورشيون» ونجا من فيها بأعجوبة. وقضوا ليلتهم بين الوحوش الهائمة إلى أن أنقذهم قارب الاستطلاع الذي يجوب هذه المنطقة. وفي هذه الأثناء، طيرت وكالات الأنباء خبر فقدان همنجواي، وصدرت الصحف وفيها نعي الكاتب الكبير، وهز الواثقون من وجود رغبة خفية في الموت لدى همنجواي رءوسهم في عرفان.
وجاءت طائرة لتقل آل همنجواي بعد الحادثة إلى «عنتيبي» ولكن سوء الحظ لازمهم، فاصطدمت بالأرض وشبت فيها النيران، وقد سببت هذه الحادثة إصابات خطيرة لهمنجواي في الكليتين والكبد وحروقا في الرأس والساعدين والساقين لازمته آثارها بقية حياته.
وعاد همنجواي بعد رحلته المشئومة تلك إلى «فينكا فيخيا» مع مس ماري. ووصلته الأنباء بعدها من «استكهلم» بقرار الأكاديمية السويدية: منحه جائزة نوبل للآداب لعام 1955م؛ لسيطرته القوية على أسلوب فن الرواية، التي تبدت أخيرا في «العجوز والبحر». وقد قبل همنجواي الجائزة شاكرا وإن اعتذر عن عدم استطاعته الذهاب إلى السويد لحضور حفل استلامها، وأرسل خطابا ألقاه نيابة عنه هناك سفير الولايات المتحدة في السويد.
وقد تسلم همنجواي مبلغ 36 ألف دولار قيمة الجائزة، ثم تعاقد مع «هوليوود» على تصوير فيلم عن القصة، وحصل من ذلك على مبلغ ربع مليون دولار، بالإضافة إلى ثلث الأرباح عن حقوقه من الفيلم. وكان ذلك هو الفيلم الوحيد الذي اشترك همنجواي في إعداده، واختار كاتب السيناريو له وممثله أيضا. وفي عامي 1959م و1960م طاف همنجواي مرة أخرى بإسبانيا إبان مواسم مصارعة الثيران في ركب الماتادور المشهور «أنطونيو أوردونييت»، وشهد المباريات المميتة التي كان يعقدها مع المصارع «لويس ميجيل» في منافسة دامية. وقد كتب همنجواي بعدها تحقيقا صحفيا عن هذه المباريات والمنافسات لمجلة «لايف»، نشر تحت عنوان «الصيف الخطير».
16
وقد لاحقته أسطورة الموت مرة أخرى وهو في «مالقة» بإسبانيا؛ إذ صدرت إشاعة قوية تفيد وفاته هناك. وكان كل ما فعله همنجواي حين سمع تلك الإشاعة أن قال وهو يرفع كأسه ويشرب: «إن المرء يحيا في إسبانيا ولا يموت فيها.»
وحين عاد همنجواي في أواخر عام 1960م إلى منزله بكيتشوم في ولاية «آيداهو»، بدأ الأصدقاء المقربون منه يلاحظون عليه تغيرا كبيرا. كان المرح والانطلاق قد زايلاه، وبدأت تهاجمه الشكوك والريب في استمراره ككاتب، وفي مستقبله في مهنته، كما بدأ يجد صعوبة وثقلا في الكتابة. وسر ذلك أنه كان قد تعود أن يعيش على مستوى معين من القوة والنشاط والإقدام في كل شيء، في ممارسة الرياضة، وفي الصيد، وفي الكتابة وفي الشراب، وفي الرحلات، وفي كل أوجه الحياة، فلما بدأت هذه القوة تضعف فيه، فقد الثقة في نفسه وفي فنه.
وخانته أعصابه أخيرا، واختلطت عليه الحقيقة والوهم، فبدأ يتصور أن السلطات تطارده بتهمة إغواء القصر ، وأن البوليس الفيدرالي يتتبعه ليثبت عليه الجريمة، كما كان يراقب البنك الذي يودع فيه أمواله، وينتابه القلق حين يرى الموظفين يعملون هناك ليلا؛ لإيقانه أنهم مدفوعون من قبل البوليس الفيدرالي لمراجعة حساباته لإثبات أنه تهرب من دفع الضرائب والقبض عليه وزجه في السجن لذلك السبب. ولما تفاقمت حالته وكثر ترديده عزمه على أن يقتل نفسه بعد أن توهم عجزه عن الكتابة، لم يستطع المقربون منه أن يتجاهلوا حقيقة ما أصابه، ودفع الخوف زوجته وأصدقاءه إلى العمل، فأدخلوه مستشفى مايو
17
تحت اسم مستعار لكي يعالج من الإرهاق العصبي. ووضع هناك تحت إشراف مستمر، وتلقى عدة جلسات من الصدمات الكهربائية، ولكن كل ذلك لم يفده كثيرا، فبعد أن خرج من العيادة وتفاءل الجميع بتحسن حالته، فوجئت زوجته ماري صباح أحد الأيام بطلقة تنفجر في الطابق السفلي، فهرعت إلى أسفل لتجد همنجواي وقد أطلق النار على رأسه من بندقيته. وقد قالت ماري للصحفيين: إن طلقة قد خرجت بطريق الخطأ بينما كان همنجواي ينظف البندقية فقتلته على الفور. ثم تجلت حقيقة ما حدث بعد ذلك في وقائع كتاب «بابا همنجواي» الذي كتبه واحد من ألصق أصدقاء همنجواي به، وهو «هوتشنر»، وصف فيه ضمن ما وصفه الأحداث الأخيرة في حياة همنجواي، والمحاولات التي بذلها للانتحار بإطلاق الرصاص على نفسه، وبإلقاء نفسه من الطائرة التي كانت تقله إلى مستشفى مايو، إلى أن نجحت محاولته الأخيرة وقضى على نفسه في النهاية.
وهكذا لاقى همنجواي الموت الذي طالما كتب عنه ودارت معظم رواياته وقصصه حوله.
مجموعة القصص القصيرة
تم اختيار المجموعة التي يجدها القارئ بين يديه بحيث تقدم له صورة كاملة لفن القصة القصيرة لدى همنجواي. ورغم أن الكاتب قد اشتهر برواياته، فإن قصصه القصيرة تقدم هي الأخرى نماذج قصصية ذات معمار فني محكم مما يجعل من معظم تلك القصص أعمالا خالدة ضمن إنتاج الكاتب.
وقد صدرت قصص همنجواي القصيرة أول ما صدرت في مجموعات هي: في زماننا (1925م)، رجال بلا نساء (1927م)، المنتصر لا يربح شيئا (1933م ). كما نشر الكاتب عددا آخر من قصصه في الصحف والمجلات بخلاف تلك الكتب الثلاثة. وتقدم المجموعة الحالية عدة قصص تنشر لأول مرة باللغة العربية.
وكان همنجواي يحب أن يكتب عن موضوعات وتجارب مر بها بالفعل؛ نجد ذلك في رواياته كما نجده في قصصه. وضمن مجموعة قصصه القصيرة - التي بلغت في مجملها حوالي الثمانين - نجد سلسلة قصص «نك آدمز» التي تصوره صبيا وشابا ورجلا يتعرض لمواقف مختلفة تزيد من تجاربه بالحياة والطبيعة الإنسانية، وهو يظهر هنا في قصص: المخيم الهندي، الطبيب وزوجة الطبيب، قصة أفريقية، عشرة هنود.
وكتب همنجواي عن إسبانيا، البلد الذي أحبه وعشق رياضته الشهيرة وهي مصارعة الثيران، وتعاطف مع أهله إلى درجة أنه شارك في الحرب الأهلية التي نشبت هناك لمدة أعوام ثلاثة. وتقدم المجموعة الحالية إسبانيا في قصص: الفراشة والدبابة، حاضرة الدنيا، مكان نظيف حسن الإضاءة.
أما عن القصص الأفريقية فنقدم منها هنا: ثلوج كليمنجارو، وقصة أفريقية.
والقصة القصيرة عند همنجواي تتصف بالتركيز الشديد، وتشرك القارئ في مطالعة تجربة إنسانية. وأسلوب الكاتب هنا يمثل رأيه في فكرة جبل الثلج العائم الذي لا يظهر للعيان منه سوى ثمن حجمه فقط، بينما بقيته مختفية تحت الماء. فالرواية عنده يمكن أن تظهر من ذلك الجبل الثلجي الكثير مما هو مختف، فطبيعتها تسمح بوجود التفاصيل الضرورية التي تكتمل معها الصورة الشاملة التي تقدمها الرواية. أما القصة القصيرة فهي تقدم الجزء الظاهر فحسب، وتترك للقارئ تشرب البقية وفقا لإحساسه ودرجة تجاربه في الحياة.
والقصة القصيرة على ذلك الوجه قد سمحت لهمنجواي - أكثر مما سمحت له الرواية - أن يتجلى في أسلوبه اللغوي المشهور القائم على التركيز والتخلي عن المحسنات اللفظية والصفات التي لا تخدم الحدث أو الشخصيات، مما سماه النقاد بأسلوب الاقتصاد في التعبير. وهو أيضا يستخدم الحوار على نحو خاص به، يتصف بالإيجاز، والتكرار المقصود، واستخدام المفردات الشائعة المعروفة لدى من يتحدث من شخصيات القصة. وينجح كل ذلك في نقل اللمحات الإنسانية التي يحاول المؤلف أن ينقلها إلى القارئ كما شعر هو بها وهو يكتب القصة (انظر قصة قطة تحت المطر). وهو ينجح في ذلك إلى درجة جعلته واحدا من كبار مؤلفي القصة القصيرة، مثلما هو من كبار مؤلفي الرواية .
ماهر البطوطي
الفراشة والدبابة
في تلك الليلة كنت أسير في طريق العودة إلى مكتب الرقابة إلى فندق «فلوريدا» - وهو بمثابة منزلي - تحت المطر. وفي منتصف الطريق شعرت بالضيق من البلل وتوقفت في بار «تشيكوتي» من أجل جرعة شراب عابرة. كان هذا هو ثاني شتاء تتعرض فيه مدريد المحاصرة للقذائف الجوية، وهناك نقص في كل شيء، بما في ذلك التبغ وصبر الناس، ويشعر المرء بالجوع دائما، ويمكن له أن يضيق فجأة وبلا سبب من الأشياء التي لا يملك أي شيء إزاءها مثل الطقس. كان يتعين علي أن أذهب إلى البيت، كان على مبعدة خمسة شوارع فحسب، ولكني حين رأيت باب تشيكوتي جال بخاطري أن أتناول شرابا سريعا ثم أسير تلك الشوارع الخمسة عبر «الجران فيا» فوق الطين ومخلفات الطرق التي حطمتها الغارات الجوية.
كان المكان مزدحما، ولا يمكنك أن تدنو من البار، والموائد مشغولة، والجو يعبق بدخان السجائر، والغناء، والرجال في البزة العسكرية، ورائحة المعاطف الجلدية المبللة. وكانوا يتناولون الأشربة عبر جمهرة بلغت ثلاثة صفوف أمام البار.
وعثر نادل أعرفه على مقعد خال وجذبه إلى مائدة جلست إليها مع ألماني رفيع أبيض الوجه بارز الحنجرة، أعرفه لأنه يعمل في الرقابة، وشخصين آخرين لا أعرفهما. وكانت المائدة في وسط القاعة، على يمينك حين تدخل.
ولم يكن بوسعك أن تسمع نفسك حين تتكلم من صخب الغناء، وطلبت كأسا من «الجين» ممزوجا بشراب «الأنجوستورا» كيما أخفف من إحساسي بالبلل من المطر. كان المكان مكتظا حقا، وجو من المرح البالغ يلف الجميع، ربما مرح زائد عن الحد بسبب المشروب الكحولي القطلوني الذي تم صنعه حديثا، والذي كان معظمهم يحتسونه. ولطمني اثنان من الناس لا أعرفهما على ظهري، وحين قالت الفتاة الجالسة إلى مائدتنا شيئا لي لم أسمع ما تقول، فأجبت: بالطبع. والآن حين توقفت عن التطلع من حولي وبدأت أتطلع إلى مائدتنا وجدت أن الفتاة مريعة المنظر، مريعة المنظر حقا. واتضح حين أتى النادل أن ما سألتني إياه هو أنها طلبت مشروبا، ولم يكن يبدو على الرجل الذي معها أي نشاط أو قوة، ولكنها هي التي كانت قوية بالقدر الذي يكفيهما معا. كان لها ذلك الوجه القوي نصف الكلاسيكي، يشبه في تكوينه وجه مروضي الأسود؛ وبدا على الولد الذي معها أنه كان يتعين عليه أن يرتدي ربطة عنق مدرسية قديمة. لكنه لم يكن يرتدي رباط عنق، كان يرتدي معطفا جلديا مثله مثل بقيتنا. غير أن معطفه لم يكن مبللا؛ لأنهما كانا في البار قبل أن يهطل المطر. وكانت هي ترتدي معطفا جلديا أيضا، وكان يليق بمواصفات وجهها.
وعند ذاك تمنيت ألا أكون قد توقفت عند تشيكوتي وإنما توجهت مباشرة إلى البيت حيث بإمكاني أن أغير ملابسي وأجفف نفسي، وأتناول شرابا وأنا مستريح في فراشي رافعا قدماي عاليا. وكنت ضجرا من النظر إلى هذين الشخصين الحديثي السن. الحياة قصيرة، والنسوة القبيحات أطول عمرا وها هن جالسات إلى الموائد. وقررت أنه برغم أنني كاتب ومن المفروض أن أشعر بفضول لا يشبع عن كل أنواع الناس، فإنني لم أكن أهتم بمعرفة ما إذا كان هذان الاثنان متزوجين أم لا، أو ما هو رأي أحدهما في الآخر، أو ما هي آراؤهما السياسية، أو ما إذا كان لديه بعض المال، أو إذا ما كان لديها بعض المال، أو أي شيء عنهما. وخلصت إلى أنهما لا بد يعملان في الإذاعة. كل مرة ترى مدنيين في مدريد ذوي مظاهر غريبة حقا فهم يعملون في الإذاعة. ولذلك حتى أقول شيئا رفعت صوتي كي يعلو على الضجيج وسألت: أتعملان في الإذاعة؟
قالت الفتاة: أجل.
إذن فالأمر كذلك. يعملان في الإذاعة.
وقلت للألماني: كيف حالك يا رفيق؟ - الحمد لله. وأنت؟
قلت: يغطيني البلل.
وضحك مائلا برأسه جانبا. سأل: أمعك سيجارة؟
وناولته علبة سجائري التي لم يكن عندي إلا واحدة غيرها، وتناول منها سيجارتين. وأخذت الفتاة القوية اثنتين والشاب الذي كان يمكن أن يليق به رباط العنق القديم واحدة.
وصحت به: خذ أخرى.
ورد: كلا شكرا.
وأخذها الألماني بدلا منه وتساءل باسما: هل تأذن لي؟
قلت : بالطبع.
كنت في الحقيقة لا أرحب بأخذه السيجارة وكان يعرف ذلك. ولكنه كان في أشد الحاجة للسجائر لدرجة لم يبال معها بشيء. وكان الغناء قد توقف برهة، أو كانت هناك استراحة كما يحدث في وقت العواصف أحيانا. وأصبح بوسعنا أن نسمع ما نقول.
سألتني الفتاة القوية: هل أنت هنا من زمن طويل؟ ونطقت الزاي ثاء كما في كلمة ثمن.
قلت: إني أرحل وأعود.
قال الألماني: يجب أن يكون حديثنا جادا. أريد أن أجري حديثا معك. متى يمكننا أن نتحدث؟
قلت: سوف أتصل بك.
كان هذا الألماني من نوع غريب جدا بالفعل، ولم يكن أحد من الألمان الحميدين يحبه. عاش تحت وهم أنه يمكنه أن يصبح عازف بيانو، ولكن لو أنه بقي بعيدا عن أي بيانو لما اكترث ما دام يشرب الكحوليات أو أتيحت له فرصة النميمة، ولم يتمكن أحد من إبعاده عن أي من هذين الشيئين بعد.
كانت النميمة أفضل ما يفعله، وكان دائما يعرف شيئا جديدا مشينا للغاية عن أي شخص يمكن أن تذكره في مدريد وبلنسية وبرشلونة وغيرها من المراكز السياسية.
ثم بدأ الغناء ثانية، ولا يمكن لك أن تمارس النميمة ممارسة جيدة بصوت عال، ولذلك بدا ذلك الأصيل في «تشيكوتي» مملا وقررت أن أرحل حالما أحصل على شراب لنفسي.
وعند ذلك بدأ الأمر. دخل البار رجل مدني في حلة بنية اللون وقميص أبيض وربطة عنق سوداء، شعره ممشط إلى الخلف مبينا جبهة عريضة، وأخذ يتنقل من مائدة إلى أخرى يهرج مع الحاضرين، وأطلق وابلا من الماء على نادل من رشاشة ماء يحملها معه. وضحك الجميع ما عدا النادل الذي كان يحمل وقتها صينية مليئة بأقداح الشراب. كان حانقا.
قال النادل:
No Hay Derecho . ومعناها: ليس لك حق أن تفعل هذا، وهي أبسط وأقوى عبارة احتجاج في إسبانيا. أما رجل رشاشة الماء مبتهجا بالنجاح الذي حققه، ولا يبدو عليه أي اعتبار لواقع أن البلد في سنتها الثانية من الحرب، وأنه في مدينة مفروض عليها الحصار حيث كل شخص فيها يشعر بالتوتر ، وأنه كان واحدا فقط من أربعة أشخاص بالملابس المدنية في المحل، فقد أطلق وابلا آخر من الماء على نادل آخر.
ونظرت حولي عبثا عن مكان أحتمي به. وكان النادل الثاني ساخطا أيضا، وبخ رجل رشاشة الماء عليه مرتين بعد ذلك في خفة ومرح. كان بعض الحاضرين يعتقدون أن الأمر باعث على الضحك، بمن فيهم الفتاة القوية. ولكن النادل وقف وهو يهز رأسه. كانت شفتاه ترتعشان. كان رجلا هرما عمل في تشيكوتي لمدة عشرة أعوام حسب معلوماتي.
قال في وقار:
No Hay Derecho . وفي تلك المرة لم يكن الأمر احتجاجا. كان اتهاما. ورأيت ثلاثة رجال في بزتهم العسكرية ينهضون من مائدتهم متجهين نحو رجل الرشاشة المائية، وبعدها كان الأربعة يخرجون من الباب الدوار بسرعة، وسمع صوت لكمة حين ضرب أحدهم رجل الرشاشة على فمه. والتقط آخر الرشاشة المائية ورماها له خارج الباب.
وعاد الرجال الثلاثة تبدو عليهم علائم الجد والصرامة وأنهم قاموا بواجبهم. ثم دار الباب ودخل رجل الرشاشة المائية. كان شعره مسدلا فوق عينيه، وتغطي وجهه دماء، وربطة عنقه ملتوية، وقميصه ممزق. كان يحمل رشاشة الماء ثانية، وحين اندفع إلى القاعة جاحظ العينين ممتقع الوجه، أطلق رشة من الماء متحدية عامة بلا هدف، موجها رشاشته تجاه كل من في القاعة.
ورأيت واحدا من الرجال الثلاثة ينهض متجها نحوه، ورأيت وجه ذلك الرجل. كان معه عدد أكبر من الرجال الآن، وحشروا رجل رشاشة الماء بين مائدتين في نهاية القاعة إلى اليسار حين تدلف إلى المحل، بينما رجل الرشاشة المائية يجاهدهم الآن بقوة، وحين انطلقت الرصاصة أمسكت بذراع الفتاة القوية وجذبتها نحو باب المطبخ.
وكان باب المطبخ مغلقا، وحين حاولت فتحه بكتفي لم يستجب.
قلت: «اختبئي هنا خلف زاوية البار.» وانحنت هناك. قلت وأنا أدفعها إلى أسفل: «ارقدي.» كانت ثائرة.
كان كل رجل في القاعة قد أخرج مسدسه ما عدا الألماني - الذي كمن خلف المائدة - والولد الذي يشبه تلاميذ المدارس العمومية، والذي وقف في ركن إلى جوار الحائط؛ وكانت ثلاث فتيات ذوات شعر شديد الصفرة بينما هو أسود عند جذوره، يقفن على أطراف أصابعهن فوق منصة خشبية على طول الحائط كيما يشاهدن ما يحدث وهن يصرخن باستمرار.
قالت الفتاة القوية: إني غير خائفة. هذا سخف.
قلت: إنك لا تحبين أن تصابي بطلقة رصاص في شجار بالمقهى. لو أن لهذا الرجل ذي رشاشة الماء أصدقاء هنا فستصبح العاقبة وخيمة.
ولكن كان من الواضح أنه لم يكن له أصدقاء؛ لأن الناس بدأت تعيد مسدساتها إلى مكانها. وعمل أحدهم على إسكات الصارخات الشقراوات، وابتعد كل شخص كان قد دنا من رجل رشاشة الماء عنه إذ هو مسجى بهدوء على ظهره فوق الأرض.
وصاح أحدهم من عند الباب: لا أحد يغادر المكان حتى تحضر الشرطة.
وكان رجلان من الشرطة يحملان البنادق قد حضرا من دورية الطريق ووقفا عند الباب. وعند ذلك الإعلان رأيت ستة رجال يصطفون كأنهم أعضاء فريق الفوتبول وهم يدلفون إلى الملعب، وخرجوا من الباب. كان ثلاثة منهم هم الذين ألقوا رجل رشاشة الماء إلى الخارج. وكان واحد آخر هو من أطلق عليه الرصاص. ساروا خارجا عبر رجلي الشرطة ذوي البنادق كأنهم لاعبون يمررون الكرة فيما بينهم. وبعد أن خرجوا، وضع واحد من رجلي الشرطة بندقيته عبر الباب وصاح: لا أحد يمكنه الخروج. لا أحد على الإطلاق. - ولماذا خرج أولئك الرجال؟ لماذا تبقوننا ما دام البعض قد خرج؟! - إنهم فنيو محركات الطائرات وعليهم العودة إلى المطار الحربي. - ولكن إذا خرج أي شخص فمن الحماقة الإبقاء على الآخرين. - يجب على الجميع انتظار فريق الأمن. يجب اتباع القانون والنظام. - ولكن، ألا ترى أنه إذا غادر أي شخص المكان فمن الحماقة إبقاء الآخرين؟ - لا يمكن لأحد المغادرة. على الجميع أن ينتظروا.
قلت للفتاة القوية: إنه أمر مضحك. - كلا. إنه أمر مريع.
كنا وقوفا الآن وكانت تتطلع بسخط حيث كان رجل رشاشة الماء راقدا. كانت ذراعاه مبسوطتين على آخرهما وإحدى ساقيه مثنية. - سأذهب لأساعد هذا الرجل المسكين الجريح. لماذا لم يساعده أحد أو يفعل شيئا من أجله؟
قلت: دعيه. الأفضل ألا تتدخلي في ذلك الأمر. - ولكن هذا غير إنساني. لقد تدربت على عمل الممرضات وسوف أقدم له المساعدة.
قلت: دعيه. لا تقتربي منه. - لماذا؟
كانت شديدة الاضطراب وفي حالة تقترب من الهستيريا.
قلت: لأنه ميت.
وحين جاءت الشرطة احتجزت كل شخص هناك لمدة ثلاث ساعات. وبدأت بأن اشتمت فوهات كل المسدسات، فبهذه الطريقة يمكن أن يعثروا على المسدس الذي تم إطلاقه حديثا. وبعد ما يقرب من أربعين مسدسا، يبدو أنهم ضجروا من العملية، وعلى كل حال كان كل ما يمكن أن يشموه هو رائحة المعاطف الجلدية المبللة. ثم جلسوا إلى مائدة خلف المرحوم حامل رشاشة الماء مباشرة، وهو يرقد على الأرض كأنه رسم كاريكاتوري من الشمع الرمادي، بيدين شمعيتين ووجه شمعي رمادي، وجعلوا يفحصون أوراق الحاضرين.
ومع تمزق قميص رجل رشاشة الماء يمكنك أن ترى أنه لا يرتدي فانلة داخلية، وكان حذاؤه متهرئا. كان يبدو ضئيل الحجم مثيرا للشفقة؛ إذ هو ممدد على الأرض. ويجب عليك أن تخطو فوقه كي تذهب إلى المائدة التي جلس إليها اثنان من الشرطة في ملابس مدنية يفحصان أوراق هوية كل شخص. وفقد الزوج أوراقه وعثر عليها مرات عديدة من فرط عصبيته. كان لديه تصريح مرور، ولكنه نسي في أي جيب وضعه، واستمر يبحث عنه وهو ينضح عرقا إلى أن عثر عليه. ثم وضعه في جيب آخر وطفق يبحث عنه مرة أخرى.\ وكان ينضح بالعرق الغزير وهو يقوم بذلك؛ مما جعل شعره يتجعد ووجهه يحمر. وكان يبدو الآن كما لو كان يجب أن يرتدي، لا ربطة عنق مدرسية قديمة فحسب، بل وأيضا إحدى تلك القبعات الصغيرة التي يرتديها صبية المدارس في إنجلترا. أنت قد سمعت كيف تزيد الأحداث الناس هرما. حسنا لقد جعله إطلاق النار هذا يبدو أصغر من سنه بعشر سنوات.
وبينما كنا ننتظر، قلت للفتاة القوية إنني أعتقد أن الأمر كله يصلح أن يكون قصة جيدة وإنني سوف أكتبها يوما ما، فالطريقة التي انتظم بها الرجال الستة في صف واحد وخرجوا سريعا من ذلك الباب شيء رائع. وصدمها ما قلت، فأجابت بأنه لا يمكنني أن أكتب القصة؛ لأنها ستكون ضارة بقضية الجمهورية الإسبانية. فقلت إنني قضيت وقتا طويلا في إسبانيا، وإنهم كانوا يقومون بالكثير من إطلاق النار قديما فيما حول مدينة بلنسية أيام حكم الملكية، وإنه قبل الجمهورية بمئات السنين كان الناس يقطعون أجساد بعضهم البعض بسكاكين كبيرة تدعى «نافاخاس» في إقليم الأندلس، وإنني إذا شاهدت إطلاق نار فكاهيا في بار تشيكوتي خلال الحرب فبوسعي أن أكتب عنه كما لو أنه حدث في نيويورك أو شيكاغو أو كي وست أو مرسيليا، فهو لا علاقة له بالسياسة على الإطلاق. قالت إنه يجب علي ألا أفعل ذلك. وربما يقول كثير من الناس الآخرين مثل قولها أيضا. ومع ذلك، كان الألماني يعتقد فيما يبدو أنها قصة جيدة، وأعطيته آخر سيجارة من نوع «الجمل» كانت معي. حسنا، فعلى كل حال، أخيرا وبعد حوالي ثلاث ساعات قالت الشرطة إن بوسعنا الخروج.
وقد شعروا بالقلق من أجلي في فندق فلوريدا؛ لأنه في تلك الأيام، مع الغارات، إذا توجهت عائدا إلى بيتك على قدميك ولم تصل بعد موعد إغلاق الحانات في السابعة والنصف مساء يشعر الناس بالقلق. وكنت فرحا بالعودة، وحكيت القصة ونحن نطهو طعام العشاء على موقد كهربائي، ولاقت نجاحا كبيرا.
حسنا. كان المطر قد توقف بالليل، وجاء الغد يوم شتاء مبكر، باردا وساطعا وجميلا؛ وفي الساعة الثانية عشرة وخمس وأربعين دقيقة دفعت الباب الدوار في تشيكوتي من أجل قليل من «الجين» بالمياه المعدنية قبل الغداء. كان هناك عدد قليل جدا من الناس في تلك الساعة، وجاء لمائدتي نادلان ومدير المحل. كانوا جميعا يبتسمون.
سألت: هل قبضوا على القاتل؟
قال المدير: لا تلقي نكاتا في هذا الوقت المبكر. هل رأيته يقتل؟
قلت له: أجل.
قال: «وأنا أيضا، كنت هناك حين حدث ذلك .» وأشار إلى مائدة في أحد الأركان .. «لقد وضع المسدس على صدر الرجل مباشرة حين أطلق النار.» - إلى متى احتجزوا الناس هنا؟ - أوه. بعد الثانية من هذا الصباح.
قال نادل: «لم يجيئوا من أجل «اللحم».» مستخدما الكلمة الإسبانية العامية التي تعني الجثة، وهي نفس الكلمة المكتوبة في قائمة الطعام لتشير إلى شرائح اللحم البارد .. «إلا في الحادية عشرة هذا الصباح فحسب.»
قال المدير: ولكنك لم تعرف الأمر بعد.
قال نادل: كلا، إنه لا يعرف.
قال النادل الآخر: إنه شيء غريب للغاية.
قال المدير: ومحزن أيضا. وهز رأسه.
قال النادل: أجل. محزن وغريب. محزن جدا. - أخبرني.
قال المدير: إنه شيء غريب جدا. - أخبرني. هيا، أخبرني.
وانحنى المدير فوق المائدة في حذر شديد.
قال: أتعرف .. كان يضع في رشاشته ماء الكولونيا. يا للرجل المسكين.
قال النادل: لم يكن الأمر مزحة خالية من الذوق، أترى؟
قال المدير: كان الأمر في الواقع مجرد إشاعة المرح. لم يكن لأحد أن يشعر بالغضب. يا للرجل المسكين.
قلت: فهمت. كان يريد تسلية الجميع فحسب.
قال المدير: أجل. كان الأمر في الواقع مجرد سوء تفاهم مؤسف. - وماذا عن رشاشة الماء؟
أخذتها الشرطة. لقد أرسلوها إلى أسرته.
قلت: أتصور أنهم سيسرون بالحصول عليها.
قال المدير: أجل. بالطبع. فرشاشة الماء نافعة دائما. - ومن كان هو؟ - صانع خزانات خشبية. - متزوج؟ - أجل، كانت زوجته هنا مع الشرطة هذا الصباح. - وماذا قالت؟ - ارتمت إلى جواره وصاحت: بدرو. ماذا فعلوا بك يا بدرو؟ من فعل بك هذا يا بدرو؟ أوه، بدرو.
وقال النادل: ثم اضطرت الشرطة إلى إبعادها؛ لأنها لم تستطع السيطرة على نفسها.
قال المدير: يبدو أنه كان يعاني مرضا في صدره. لقد حارب في الأيام الأولى للحركة. قالوا إنه قد حارب في الجبال، ولكنه كان من ضعف الصدر بحيث إنه لم يتمكن من الاستمرار.
وقلت مرجحا: وفي أصيل أمس توجه إلى وسط المدينة كي يشيع المرح في النفوس.
قال المدير: كلا. أترى، إنه لأمر شديد الغرابة. كل شيء غريب جدا. علمت هذا من الشرطة التي تتميز بكفاءة عالية إذا أتيح لها الوقت المناسب. لقد استجوبوا رفاقه في المحل الذي يعمل به. وقد عرفوا المحل من بطاقة عضويته النقابية التي كانت في جيبه. وقد اشترى رشاشة الماء ومياه الكولونيا بالأمس لاستخدامهما كمزحة يقوم بها في أحد الأفراح. وقد أعلن عن نيته تلك. واشتراهما من محل عبر الشارع. هناك بطاقة على زجاجة الكولونيا بها العنوان. كانت الزجاجة في دورة مياه البار. وهناك كان يملأ الرشاشة بماء الكولونيا. ولا بد أنه قد دخل هنا عندما بدأ المطر يهطل.
قال نادل: إني أتذكره حين دخل. - وفي هذا الجو المرح، ومع الغناء، انتابه المرح هو أيضا.
قلت: كان مرحا زيادة عن اللزوم. كان كأنما يطفو في المكان.
وتمسك المدير بالمنطق الإسباني الذي لا يلين.
قال: إن ذلك هو المرح الذي ينتج عن الشراب مع ضعف الصدر.
قلت: إني لا أحب هذه الحكاية على الإطلاق.
قال المدير: اسمع. إنها شديدة الغرابة. إن مرحه قد اصطدم بجدية الحرب مثل الفراشة.
قلت: أوه، تماما مثل فراشة. مثل فراشة.
قال المدير: إني لا أمزح. أترى؟ مثل فراشة تلتقي بدبابة.
وقد أفعمه ذلك بالسرور. كان يخطو داخل الميتافيزيقا الإسبانية الحقيقية.
قال: خذ شرابا على حساب المحل. يجب عليك أن تكتب قصة عن ذلك.
وتذكرت رجل رشاشة الماء بيديه الشمعيتين الرماديتين ووجهه الشمعي الرمادي، وذراعاه مبسوطتان على اتساعهما وساقه مثنية وكان يبدو أشبه بالفراشة شيئا ما. ليس كثيرا. بيد أنه لم يكن يبدو إنسانا أيضا. كان يذكرني أكثر بعصفور ميت.
قلت: سآخذ كوبا من الجين مع مياه الصودا شويبس.
قال المدير: يجب أن تكتب قصة عن هذا الموضوع. هاك، هاك الفرصة.
قلت: الفرصة. انظر. قالت لي فتاة إنجليزية ليلة أمس: إنني يجب ألا أكتب عنه. وهو سيكون شيئا سيئا جدا للقضية.
قال المدير: يا للهراء. إنه شيء مشوق ومهم، المرح الذي أسيء فهمه حين يتقابل مع الجدية المميتة الموجودة هنا دائما. في رأيي أنه من أغرب الأشياء التي رأيتها من زمن وأكثرها تشويقا. يجب أن تكتبه.
قلت: وهو كذلك. بالتأكيد. أعنده أولاد؟
قال: كلا. سألت الشرطة، ولكن يجب أن تكتبه وأن تسميه الفراشة والدبابة.
قلت: وهو كذلك بالتأكيد. ولكني لا أحب العنوان كثيرا.
قال المدير: العنوان جميل. إنه أدب صرف.
قلت: وهو كذلك. بالتأكيد. سأسميه كذلك. الفراشة والدبابة.
وجلست هناك في ذلك الصباح المشرق البهيج، والمكان يعبق بالنظافة والهواء المتجدد والكنس، والمدير الذي كان صديقا قديما لي ويغمره السرور الآن بالأدب الذي نصنعه سويا. وأخذت جرعة من الجين وماء الصودا، ونظرت عبر النافذة تحيط بها أكياس الرمل. ومرت بخاطري صورة الزوجة راكعة هناك تقول: بدرو .. بدرو .. من فعل ذلك بك يا بدرو؟ ومر بخاطري أن الشرطة لن يمكنها أبدا أن تخبرها حتى لو كان لديها اسم الرجل الذي ضغط على الزناد.
قطة تحت المطر
لم يكن في الفندق من أمريكي سوى رجل وزوجته، ولم يكونا يعرفان أي شخص يصادفانه على السلالم في طريقهما من الحجرة وإليها. كانت حجرتهما في الطابق الثاني وتطل على البحر ... وكانت تطل أيضا على الحديقة العامة وعلى النصب التذكاري المقام لذكرى الحرب. كانت الحديقة العامة تغص بالنخيلات الضخام وبالمقاعد الخضراء. وحين يكون الجو صافيا، كان يفد إليها باستمرار أحد الفنانين حاملا معه لوحة الرسم. وكان الفنانون يحبون طريقة نمو النخيل، والألوان الناصعة للفندق المواجه للحدائق وللبحر. وكان الإيطاليون يفدون من أقصى البقاع لمشاهدة النصب التذكاري، وكان مصنوعا من البرونز ويلتمع حين تهطل عليه الأمطار. أخذت السماء تمطر، وطفق ماؤها يقطر من على أفنان النخيل، وتكونت بحيرات صغيرة من الماء على الممرات المغطاة بالحصباء. وتدفقت موجات البحر في خيط طويل تحت الأمطار، ثم انحسرت ثانية على الشاطئ لتعود مرة أخرى متدفقة في خيط طويل تحت الأمطار. وانقضت السيارات من حول النصب التذكاري في الميدان. وعبر الميدان، وقف نادل في ممر المقهى، يتطلع أمامه إلى الميدان المقفر.
ووقفت الزوجة الأمريكية تتطلع إلى الخارج من النافذة. وهناك، وتحت نافذتها تماما، كانت ثمة قطة تقعي تحت مائدة خضراء تقطر بمياه المطر. وكانت القطة تحاول أن تلملم نفسها حتى لا يصيبها رذاذ الماء.
قالت المرأة الأمريكية: سأهبط إلى أسفل لأحضر هذه القطيطة.
فتطوع زوجها قائلا وهو يرقد على الفراش: سأقوم أنا بهذه المهمة . - كلا. سأحضرها أنا بنفسي، تلك القطيطة المسكينة في الخارج تحاول أن تتقي الأمطار تحت المائدة.
وواصل الزوج قراءته وهو راقد يرتكز على زوج من الحشايا في نهاية الفراش. قال: حاذري أن يصيبك البلل.
وهبطت الزوجة إلى الطابق السفلي، ووقف صاحب الفندق وانحنى لها حين مرت أمام غرفته. كان مكتبه في الطرف الأقصى من الغرفة. كان رجلا مسنا بالغ الطول.
قالت الزوجة بالإيطالية: إن المطر يهطل.
وكانت معجبة بصاحب الفندق. - أجل، أجل يا سنيورا. إن الجو سيئ للغاية.
ووقف خلف مكتبه في الطرف الأقصى من الغرفة المعتمة. كانت الزوجة معجبة به. معجبة بالطريقة الصارمة الجادة التي يتلقى بها أي شكوى من النزلاء، معجبة بهيبته، معجبة بطريقة خدمته لها، معجبة بالطريقة التي كان يشعر بها بمكانته كصاحب الفندق، معجبة بوجهه العجوز الثقيل ويديه الكبيرتين.
وفتحت الباب وهي ممتلئة إعجابا به ونظرت إلى الخارج. كان المطر يهطل بشدة. وكان ثمة رجل يرتدي قبعة من المطاط يعبر الميدان المقفر متجها إلى المقهى. لا بد أن القطة في الناحية اليمنى. وربما تستطيع أن تتجه إليها محتمية بأفاريز السطح. وإذ كانت تقف في المدخل أحست بمظلة تنفتح إلى جوارها. كانت خادمة غرفتها. وقالت لها بالإيطالية وهي تبتسم: «يجب ألا تبلك مياه الأمطار.» لا بد أن صاحب الفندق قد بعث بها خلفها. وسارت على طول الممر المغطى بالحصباء والخادمة تمسك بالمظلة فوقها حتى وصلت إلى أسفل نافذة غرفتها. وعثرت هناك على المائدة، يلتمع سطحها الأخضر مغسولا بمياه الأمطار، ولكن القطة لم تكن موجودة تحتها. وغمرتها فجأة موجة من خيبة الأمل. وتطلعت إليها الخادمة، وقالت بالإيطالية: هل ضاع منك شيء يا سنيورا؟
فقالت الزوجة الأمريكية: لقد كانت هنا قطة. - قطة؟
فقالت بالإيطالية: أجل، القطة.
فضحكت الخادمة وقالت: قطة، قطة تحت المطر؟ - أجل، تحت المائدة. أوه، لقد أردت أن أحصل عليها . أردت أن أحصل على قطيطة.
واربد وجه الخادمة حين كانت الزوجة تتحدث بالإنجليزية، وقالت: هيا يا سنيورا، لا بد أن نعود إلى الداخل. سوف تصيبك مياه الأمطار.
فقالت الزوجة الأمريكية: أظن ذلك.
وعادا مرة أخرى عبر الممر المغطى بالحصباء ودخلا من الباب، وبقيت الخادمة في الخارج لتغلق المظلة. وحين مرت الزوجة الأمريكية بغرفة صاحب الفندق انحنى لها الرجل من وراء مكتبه وأحست الزوجة بشيء ضئيل ومحكم في داخلها. لقد جعلها صاحب الفندق تشعر بشدة ضآلتها وأهميتها الحقيقية في ذات الوقت. وشعرت شعورا وقتيا بأهميتها القصوى. وصعدت السلالم، وفتحت باب الغرفة. وكان زوجها «جورج» راقدا على الفراش .. يقرأ.
وسألها وهو يضع الكتاب جانبا: هل حصلت على القطة؟ - لقد اختفت؟
فقال وهو يرفع عينيه من القراءة: إني لأعجب أين ذهبت!
وجلست هي على الفراش إلى جواره.
قالت: لقد كنت أرغب جدا فيها. لا أعرف لماذا أريدها بهذه الطريقة؟ لقد أردت تلك القطيطة المسكينة. لم يكن مناسبا ترك مثل هذه القطيطة المسكينة هناك تحت المطر.
وواصل «جورج» قراءته.
وسارت الزوجة عبر الغرفة وجلست أمام التسريحة تتطلع إلى نفسها في مرآة اليد. ودرست صورة وجهها الجانبي، الجانب الأيمن أولا ثم الجانب الأيسر. ثم درست خلفية رأسها ثم عنقها.
قالت وهي تنظر مرة أخرى إلى جانب وجهها: ألا تظن أنه من الأفضل أن أطيل شعري قليلا؟
ونظر «جورج» إليها ورأى عنقها من الخلف وقد بدا واضحا كأنه عنق صبي: إني أحبه هكذا.
فقالت: لقد مللت ذلك. مللت أن أبدو وكأنني صبي صغير.
واعتدل «جورج» في رقدته على الفراش، ولم يكن قد أزاح عنها بصره منذ أن بدأت تتحدث. وقال: إنك تبدين لطيفة جميلة رائعة.
ووضعت المرآة على التسريحة وسارت إلى النافذة ونظرت منها. كان الظلام قد بدأ ينسدل.
قالت: أريد أن أسدل شعري على ظهري مسترسلا ناعما، وأجعل منه ضفيرة كبيرة أستطيع أن أتحسسها، وأريد أن يكون لي قطيطة أجلسها على حجري وتهر حين أربت على ظهرها.
فقال «جورج» من على الفراش: ماذا؟ - وأريد أن آكل على مائدة بملاعقي الفضية الخاصة وأريد شموعا على المائدة. وأريد أن نكون في فصل الربيع، وأريد أن أنسق شعري أمام مرآة، وأريد قطيطة وأريد بعض الملابس الجديدة .
فقال «جورج» وهو يعاود القراءة: أوه، اصمتي وخذي شيئا فاقرئيه.
وكانت زوجته تتطلع من النافذة. وكان الظلام قد لف الآن كل شيء وما زال المطر يتساقط فوق النخيل.
قالت: على كل حال، أريد قطة. أريد قطة. أريد قطة الآن. فإذا لم يكن باستطاعتي أن أطيل شعري أو أن أحصل على أي متعة أخرى، فباستطاعتي الحصول على قطة.
ولم يكن «جورج» ينصت إليها. كان يقرأ في كتابه. وتطلعت زوجته خارج النافذة حيث بدأ الضوء يسطع على الميدان.
ودق أحدهم على الباب.
قال «جورج»: ادخل! ورفع عينيه من الكتاب.
وعلى عتبة الغرفة كانت الخادمة تقف ممسكة بقطة كبيرة مصنوعة من البلاستيك وهي تضمها إليها في إحكام وتحملها على صدرها.
وقالت: عفوا يا سيدي، لقد طلب مني صاحب الفندق أن أحضر هذه القطة للسنيورا.
التحول
قال الرجل: حسنا. وماذا نفعل الآن؟
قالت الفتاة: كلا. لا أستطيع. - تريدين أن تقولي إنك لا ترغبين؟
قالت: لا أستطيع. لا أريد أن أقول شيئا آخر. - بلى. تريدين أن تقولي إنك لا ترغبين.
قالت الفتاة: كما تحب. - إن ذلك ليس هو ما أحب. كم أود أن أكون قد فعلت ما أحب.
قالت الفتاة: لقد فعلت ما تحب لفترة طويلة.
كان الوقت مبكرا، ولم يكن في المقهى إلا البارمان وهذان الاثنان يجلسان معا إلى مائدة في الركن. كان الصيف في نهايته وكان كلاهما قد لوحته الشمس فكان مظهرهما مختلفا عن أهل باريس. وارتدت الفتاة حلة من التويد، وبدا جلدها ذا سمرة ذهبية ناعمة، وشعرها الأشقر قصيرا ينبت في جمال بعيدا عن جبهتها. ونظر الرجل إليها.
قال: سوف أقتلها.
قالت الفتاة: أرجو ألا تفعل.
كانت يداها رقيقتين جدا وتطلع الرجل إليهما. كانتا نحيلتين سمراوين غاية في الجمال. - سأفعل. أقسم بالله أن أفعل ذلك. - لن يجعلك ذلك سعيدا. - ألم يكن بوسعك أن تفعلي شيئا آخر؟ ألم يكن بوسعك الوقوع في مشكلة مختلفة؟
قالت الفتاة: لا أعتقد ذلك فيما يبدو. ماذا ستفعل بشأن هذا الأمر؟ - لقد قلت لك. - لا. أقصد عن جد .
قال: لا أعرف.
ونظرت إليه ومدت يدها نحوه. قالت «فيل»،
1
أيها العزيز المسكين.
ونظر إلى يديها ولكنه لم يلمس يدها بيده.
قال: كلا، شكرا. - هل يجدي أن أقول لك إني آسفة؟ - كلا. - ولا إذا شرحت لك كيف حدث الأمر؟ - أفضل ألا أعرف. - إني أحبك جدا. - أجل. وهذا هو ما يبرهن على ذلك.
قالت: إني آسفة .. آسفة إذا كنت لا تتفهم الأمر. - أنا فاهم. وهذه هي المشكلة. أنا فاهم.
قالت: أنت فاهم. إن ذلك يجعل الأمر أكثر سوءا بالطبع.
قال: بالتأكيد. إني سأفهم طوال الوقت. كل يوم وكل ليلة. خصوصا كل ليلة. لا تشكي في ذلك.
قالت: إني آسفة. - لو أنه كان رجلا ... - لا تقل هذا. لن يكون رجلا. أنت تعرف ذلك. ألا تثق في؟
قال: هذا غريب. أثق فيك؟ هذا غريب حقا.
قالت: إني آسفة. هذا كل ما أقوله فيما يبدو، ولكن حين يفهم الواحد منا الآخر فلا فائدة من التظاهر بخلاف ذلك.
قال: كلا. أعتقد ذلك. - سوف أعود إذا أردت ذلك. - لا. لا أريدك.
ومرت برهة لم يقولا فيها شيئا.
سألت الفتاة: أنت لا تصدق أني أحبك؟
قال الرجل: دعينا من الهراء. - ألا تصدق حقا أني أحبك؟ - لماذا لا تبرهنين على ذلك؟ - إنك لم تكن كذلك من قبل. إنك لم تطلب مني أبدا أن أبرهن على أي شيء. إن هذا أمر غريب مهذب. - إنك فتاة غريبة. - أنت لست غريبا. إنك رجل رائع وإن قلبي يتألم أن أذهب وأتركك. - عليك أن تذهبي، بالطبع.
قالت: أجل. إني مضطرة لذلك، وأنت تعرف هذا.
ولم يقل شيئا. ونظرت إليه ومدت يدها نحوه مرة ثانية. كان البارمان يقف في الطرف الأقصى من البار. كان وجهه أبيض وكذلك سترته. كان يعرف الاثنين ويعتقد أنهما زوج من الشباب الوسيم. وقد شاهد أكثر من رجل وامرأة من الشباب الوسيم يفترقان، ثم يقيم كل منهما علاقة أخرى ثم يفترقان ثانية. أما النادل فلم يكن يفكر في ذلك، بل كان يفكر في حصان. ففي خلال نصف ساعة سيكون بوسعه أن يرسل أحد الأشخاص إلى الناحية الأخرى من الطريق كيما يرى إذا كان الحصان الذي راهن عليه قد فاز في السباق.
سألت الفتاة: ألا يمكنك أن تكون طيبا وتدعني أذهب؟ - وماذا تظنين أنني سأفعل؟
ودخل شخصان من الباب وجلسا إلى البار. وتلقى البارمان طلبهما قائلا: أجل يا سيدي.
وسألت الفتاة: ألا يمكنك أن تغفر لي إذا علمت كيف كان الأمر؟ - كلا. - ألا تعتقد أن ما فعلنا ومررنا به يمكن أن يغير أفكارك؟
قال الشاب بمرارة: «الخطيئة وحش ذو سحنة مخيفة، ويجب على المرء أن يراه كي يدرك حقيقته. وحينئذ ... لا أعرف ماذا ولا كيف ... نقبله بعدها. إني عاجز عن إتمام المثل.» ولم يستطع أن يتذكر الاقتباس.
قالت: لا تقل خطيئة. إن ذلك ليس من الأدب في شيء.
قال: انحراف خلقي.
وقال أحد الزبونين للبارمان: جيمس. إنك تبدو في أحسن حال.
قال البارمان: وأنت أيضا تبدو في أحسن حال.
قال الزبون الآخر: عزيزي جيمس. لقد زاد وزنك يا جيمس.
قال البارمان: إن ذلك فظيع. زيادة وزني.
قال الزبون الأول: لا تنس أن تضيف البراندي.
قال البارمان: كلا يا سيدي. فلتثق بي.
ونظر الاثنان الجالسان إلى البار إلى الاثنين الجالسين إلى المائدة، ثم نظرا مرة أخرى إلى البارمان. كانت جهة البارمان هي الجهة المريحة لهما.
قالت الفتاة: أفضل ألا تستخدم كلمات كهذه. ليست هناك ضرورة لأن تستخدم كلمة كهذه. - ماذا تريدينني أن أسمي أمرا كهذا؟ - لست مضطرا إلى تسميته. لست مضطرا إلى وصفه بأي اسم. - إن هذا هو اسمه.
قالت: كلا. إننا مجبولون من أشياء كثيرة متنوعة. إنك قد عرفت ذلك. لقد استفدت منه بما فيه الكفاية. - لست مضطرة لأن تقولي ذلك ثانية. - لأن ذلك يفسر لك الأمر.
قال: وهو كذلك. وهو كذلك. - تعني أن الأمر ليس كذلك. أعرف. إنه ليس كذلك. ولكني سأعود . قلت لك إنني سأعود. سوف أعود من فوري. - كلا. لن تعودي. - سأعود. - كلا، لن تعودي. لن تعودي لي. - سترى.
قال: أجل. إن هذا هو أسوأ شيء. فبإمكانك أن تعودي. - بالطبع سوف أعود. - اذهبي إذن. - حقا؟
لم تكن تصدقه، ولكن صوتها كان سعيدا. - اذهبي.
بدا صوته غريبا في أذنيه. كان يتطلع إليها، إلى الطريقة الذي يتحرك بها فمها وانحناءة عظام وجنتها، إلى عينيها، وإلى كيفية نمو شعرها على جبهتها وإلى طرف أذنها وإلى عنقها.
قالت: كلا. أوه، إنك لطيف جدا. إنك شديد اللطف معي. - وحين تعودين قولي لي كل شيء عن الأمر.
وبدا صوته غريبا جدا. لم يتعرف عليه. ونظرت إليه. كان ينتوي شيئا.
سألت بجدية: أتريدني أن أذهب؟
قال بجدية: أجل. على الفور.
كان صوته مختلفا، وكان فمه شديد الجفاف.
قال: الآن.
ووقفت وخرجت بسرعة، ولم تنظر خلفها إليه. وراقبها تذهب. ولم يعد يبدو بمظهر الرجل الذي كانه قبل أن يخبرها أن تذهب. ونهض من المائدة، تناول ورقتي الحساب وتوجه بهما إلى البار.
قال للبارمان: إنني رجل مختلف يا جيمس. إنك ترى أمامك رجلا مختلفا تماما.
قال جيمس: ماذا يا سيدي؟
قال الرجل الأسمر: الخطيئة شيء غريب جدا يا جيمس.
وتطلع عبر الباب. ورآها تسير في الطريق. وحين نظر إلى الزجاج، رأى أن منظره قد تغير تماما بالفعل. وتحرك الرجلان اللذان عند البار كيما يفسحا له مكانا.
قال جيمس: إنك على حق تماما في ذلك يا سيدي.
وتحرك الرجلان أكثر حتى يمكن للشاب أن يجلس براحته. وشاهد الشاب نفسه في المرآة التي خلف البار.
قال: لقد قلت إني رجل مختلف يا جيمس.
وحين نظر إلى المرآة، رأى أن ذلك صحيح تماما.
قال جيمس: إنك تبدو في أحسن حال يا سيدي. لا بد أنك قضيت صيفا جميلا جدا.
المخيم الهندي
كان ثمة قارب آخر مربوطا إلى ضفة البحيرة. ووقف الهنديان ينتظران.
ودلف «نك» ووالده إلى مؤخرة القارب، ودفعه الهنديان، وقفز أحدهما إليه كي يجدف. وجلس العم «جورج» في مؤخرة قارب المخيم . ودفع الهندي الشاب قارب المخيم وقفز إليه كي يجدف بالعم جورج.
وانطلق القاربان في الظلمة. وسمع «نك» ضربات مجداف القارب الآخر على مسافة أمامهم في وسط الضباب. كان الهنديان يجدفان بضربات متقطعة سريعة. واستلقى نك على ظهره وذراع والده تطوقه. كان الجو باردا فوق صفحة المياه. وكان الهندي الذي يجدف بهما يبذل قصارى جهده، غير أن القارب الآخر كان يبتعد عنهما رويدا رويدا إلى الأمام وسط الضباب.
تساءل «نك»: إلى أين أنت ذاهب يا أبي؟ - إلى المخيم الهندي. هناك امرأة هندية اشتد بها المرض.
قال «نك»: آه.
وعبر الخليج، وجدوا القارب الآخر راسيا. وكان العم جورج يدخن سيجارا في الظلمة. وجذب الهندي الشاب القارب فوق الشاطئ. وأعطى العم جورج كلا الهنديين سيجارا.
وساروا مصعدين من الشاطئ خلال مرج بلله الندى، مقتفين أثر الهندي الشاب الذي كان يحمل قنديلا. ثم دلفوا إلى الغاب، وساروا في ممر أفضى بهم إلى طريق قطع الأشجار الذي يتشعب إلى التلال. وكان السير أيسر في طريق قطع الأشجار؛ إذ إن الأخشاب كانت مقطوعة على جانبي الطريق. وتوقف الهندي الشاب وأطفأ قنديله، ثم غذوا السير جميعا مرة ثانية.
وبلغوا منعطفا، وظهر أمامهم كلب ينبح. وتبدت لهم أنوار الأكواخ التي يعيش فيها الهنود الذين يعملون في قطع لحاء الأشجار. واندفع نحوهم المزيد من الكلاب، وهش بها الهنديان مرة أخرى نحو الأكواخ. وفي أقرب كوخ للطريق كان ثمة نور يلتمع في النافذة. وكانت امرأة عجوز تقف عند مدخل الباب تحمل مصباحا.
وفي الداخل، كانت هناك امرأة هندية شابة ترقد على سرير خشبي من دورين. كانت تجاهد لولادة طفلها طوال يومين، وكانت جميع النسوة العجائز في المعسكر يساعدنها. أما الرجال فقد ابتعدوا ناحية الطريق وجلسوا يدخنون في الظلمة بعيدا عن الضوضاء التي يحدثها صراخ المرأة. وكانت تصرخ حين تبع «نك» والهنديان الوالد والعم جورج إلى داخل الكوخ. كانت المرأة ترقد في اللوح السفلي من السرير، ضخمة الجثة تحت اللحاف.
وكان رأسها مائلا نحو جهة واحدة. وكان زوجها يرقد على اللوح العلوي. كان قد جرح قدمه جرحا بليغا بالبلطة منذ عدة أيام. وكان يدخن غليونا، وعبقت الحجرة برائحة كريهة.
وأمر والد «نك» بإحضار بعض الماء ووضعه على الموقد. وبينما كان الماء يسخن بادل «نك» الحديث. قال: هذه المرأة على وشك أن تلد.
قال نك: أعرف.
قال والده: إنك لا تعرف. استمع لي. إن ما تمر به الآن هو حالة الطلق. إن الطفل يريد أن يولد وهي تريد له أن يولد. إن هذا هو ما يحدث حين تصرخ.
قال نك: فهمت.
وحينئذ صرخت المرأة.
تساءل «نك»: آه يا أبي. ألا يمكنك أن تعطيها شيئا يجعلها تكف عن الصراخ؟
قال والده: كلا. ليس لدي أي مخدر. ولكن صرخاتها ليست بذات أهمية. إني لا أسمعها، إنها ليست بذات أهمية.
واستدار الزوج في مرقده باللوح الأعلى تجاه الحائط. وأشارت المرأة الموجودة بالمطبخ للطبيب بأن الماء قد سخن. وذهب والد «نك» إلى المطبخ وصب حوالي نصف الماء من الغلاية الكبيرة إلى طست صغير. ووضع في الماء الباقي بالغلاية عدة أشياء أخرجها من صرة معه.
قال: يجب ترك هذه الأشياء حتى تغلي. ثم طفق يحك يديه في طست الماء الساخن بقطعة صابون أحضرها من المخيم. وراقب «نك» يدي والده تحكان بعضهما بقطعة الصابون. وتكلم والده وهو يغسل يده بكل دقة وعناية: أتعرف يا نك ... من المفروض أن يولد الأطفال ورأسهم في المقدمة. ولكن لا يحدث هذا أحيانا. وحين يكون الأمر خلاف العادة، فإنهم يسببون المتاعب لكل شخص، ربما تعين علي أن أجري عملية لهذه المرأة، سنعرف بعد هنيهة.
وحين رضي عن نظافة يديه، دلف إلى الداخل وتهيأ للعمل.
قال: اكشف هذا الغطاء يا جورج، أفضل ألا ألمسه بيدي.
وبعد ذلك، حين بدأ يجري العملية، أمسك العم جورج وثلاث رجال من الهنود بالمرأة حتى لا تتحرك. وقد عضت العم جورج في ذراعه. وقال العم جورج: «عليك اللعنة أيتها الكلبة!» وضحك الهندي الشاب الذي جدف قارب العم جورج لذلك الحادث. وحمل «نك» الطست لوالده. واستغرق كل ذلك وقتا طويلا .
وجذب الوالد الطفل إلى أعلى ولطمه كيما يجعله يتنفس، ثم ناوله للمرأة العجوز.
قال: انظر يا «نك»، إنه ولد. ما رأيك وأنت تعمل الآن مساعدا للطبيب؟
قال نك : حسن. وكان يشيح ببصره كيما لا يرى ما كان والده يقوم به.
قال الوالد: «هكذا، هذا ينهي الأمر.» ووضع شيئا في الطست.
ولم ينظر «نك» إلى ذلك الشيء.
قال والده: الآن علي أن أخيط بضع غرزات. لك أن ترى هذا يا «نك» أو لا تراه، حسبما تريد. سوف أخيط الجرح الذي فتحته.
ولم ينظر «نك». كان حب الاستطلاع قد فارقه منذ مدة طويلة.
وفرغ والده من عمله ونهض واقفا. ونهض العم جورج والهنود الثلاثة. وأخرج «نك» الطست إلى المطبخ. وتطلع العم جورج إلى ذراعه، وابتسم الهندي الشاب وهو يتذكر ما حدث.
وقال الطبيب: سوف أضع لك مطهرا على الجرح يا جورج.
انحنى فوق المرأة الهندية. كانت هادئة الآن، وقد انغلقت عيناها. كان يبدو عليها الشحوب الشديد. ولم تكن تعرف ماذا حدث للطفل أو أي شيء.
قال الطبيب وهو ينهض: سوف أحضر مرة أخرى في الصباح. يجب أن تكون ممرضة مستشفى «سان إجناس» هنا عند الظهيرة، وسوف تحضر معها كل ما نحتاج.
كان يشعر بالغبطة وبالرغبة في الكلام، كشعور لاعبي كرة القدم في غرفة الملابس بعد المباراة.
قال: «هذا خبر جدير بالصحيفة الطبية يا جورج. طبيب يجري عملية قيصرية بمطواة، ويخيط الجرح بخيوط أمعاء رفيعة طولها تسعة أقدام.»
وكان العم جورج يقف مستندا إلى الحائط وهو يتطلع إلى جرحه. قال: «أوه، إنك رجل عظيم، وهو كذلك.»
قال الطبيب: يجب أن نلقي نظرة على الأب الفخور. إن الآباء عادة هم أكثر من يعانون في مثل هذه الظروف. يجب أن أعترف بأنه قد تحمل كل شيء في هدوء.
وكشفت الملاءة عن رأس الأب الهندي. وعادت إليه يده مبللة. وصعد على حافة اللوح الأسفل من السرير وهو يحمل المصباح في إحدى يديه، ونظر أمامه. كان الهندي يرقد ووجهه إلى الحائط. كان عنقه مقطوعا من الأذن للأذن . وسال الدم منه مكونا بحيرة عند جسده الذي أغرق مضجعه. وكان رأسه مرتكزا على ذراعه اليسرى. وكان موسى الحلاقة يرقد مفتوحا وسط الملاءة وحده إلى أعلى.
قال الطبيب : خذ «نك» خارج الكوخ يا جورج.
ولم تكن ثمة حاجة إلى ذلك. كان «نك»، وقد وقف عند باب الكوخ، يرى بوضوح اللوح الأعلى من السرير حين أمال والده رأس الهندي جانبا والمصباح في يده.
كان الصباح قد بدأ يطلع حين سار «نك» ووالده عائدين على طول طريق قطع الأشجار في طريقهما إلى البحيرة.
قال والده وقد راح عنه كل ما انتابه من نشوة عقب نجاح العملية: «إنني جد آسف لإحضارك معي يا «نك». لقد كان موقفا صعبا، لم يكن من الواجب أن أجعلك تشهده.»
وتساءل «نك»: هل تمر النساء دائما بمثل هذه المحنة حين يلدن؟ - كلا. لقد كانت هذه حالة استثنائية للغاية. - ولماذا قتل الزوج نفسه يا أبي؟! - لا أدري يا «نك». أظن أنه لم يتحمل هذا الموقف. - هل يقتل كثير من الرجال أنفسهم يا أبي؟ - ليس كثيرا جدا يا «نك». - وماذا عن النساء؟ - نادرا. - ألا يقتلن أنفسهن أبدا؟ - أوه، أجل. أحيانا. - أبي؟ - ماذا يا «نك»؟ - أين ذهب العم جورج؟ - إنه سيعود سليما معافى. - هل الموت صعب يا أبي؟ - كلا. أعتقد أنه سهل جدا يا «نك». إن الأمر يختلف باختلاف الظروف.
وجلسا في القارب، «نك» في المؤخرة، ووالده يقوم بالتجديف. وكانت الشمس تبزغ من وراء التلال. وقفزت سمكة فأحدثت دائرة في المياه. ومرر «نك» يده في مياه البحيرة، وشعر بها دافئة في برودة الصباح الحادة.
وفي خضم الصباح الباكر فوق البحيرة، إذ نك جالس في مؤخرة القارب ووالده يجدف به، شعر شعورا أكيدا بأنه لن يموت أبدا.
الطبيب وزوجة الطبيب
جاء «ديك بولتون» من المعسكر الهندي كيما يقطع كتل الخشب لوالد «نك». وأحضر معه ابنه «إدي» وهنديا آخر اسمه «بيلي تيبشو». جاءوا عبر البوابة الخلفية من الغابة. كان «إدي» يحمل منشار القطع العريض، يهتز فوق كتفه ويصدر صوتا موسيقيا حينما يسير. وحمل «بيلي تيبشو» خطافين معقوفين كبيرين. وكان مع ديك ثلاث بلطات تحت ذراعه.
استدار وأغلق البوابة. وسار الآخران في المقدمة تجاه شاطئ البحيرة حيث كانت كتل الخشب مطمورة في الرمال.
كانت كتل الخشب قد تسربت من الحاجز الكبير حيث تتجمع كتل الأخشاب كلها إلى أن تجرها الباخرة «ماجيك» إلى الطاحونة. ولكن تلك الكتل تسربت إلى الشاطئ، وإذا لم يحدث شيء سيحضر ملاحو الباخرة إن عاجلا أو آجلا في قارب ويشاهدون الأخشاب المتسربة فيقومون بدفع سيخ حديدي ذي حلقة في نهاية كل كتلة خشبية ويجرونها إلى البحيرة حيث يصنعون منها حاجزا جديدا. ولكن المشرفين على الأخشاب قد لا يهتمون بها؛ لأن كتلا قليلة من الخشب لا تساوي أجر البحارة الذين سيجمعونها. وإذا لم يحضر أحد لجمعها فهي تبقى حتى تمتلئ بالماء وتتعفن على الشاطئ.
وكان والد «نك» يفترض أن هذا هو الذي يحدث، وقد استأجر الهنود كي يحضروا من المعسكر ويقطعوا الكتل الخشبية بالمنشار العريض، ثم يشقوها بالوتد حتى تصبح قطعا خشبية تصلح لمدفأة المنزل. وسار «ديك بولتون» عبر الكوخ إلى البحيرة. كانت هناك أربع كتل ضخمة من خشب الزان. وعلق إدي المنشار من قبضته في فرع شجرة. ووضع ديك البلطات الثلاث على المرسى الصغير. كان ديك مخلطا، وكان كثير من المزارعين فيما حول البحيرة يعتقدون أنه رجل أبيض. كان كسولا جدا، ولكنه يبدي همة في العمل حالما يبدأ. تناول حفنة من التبغ من جيبه، وأخذ يمضغها، وتكلم بلغة «الأوجيبواي» الهندية إلى إدي وبيلي تيبشو.
وغرز أطراف الخطافين المعقوفين في إحدى الكتل الخشبية وحركاها كيما يستخرجاها من الرمال. كانا يضعان بكل ثقلهما على قصبتي الخطافين. وتحركت الكتلة الخشبية بين الرمال. واستدار ديك بولتون إلى والد «نك».
قال: حسنا يا دوك. لقد سرقت مجموعة جيدة من الأخشاب.
قال الطبيب: لا تكلمني بهذه الطريقة. إنها قطع جرفها التيار.
كان إدي وبيلي قد حركا كتلة الخشب من الرمال المبتلة ودحرجاها ناحية الماء.
وصاح ديك بولتون: ضعاها جيدا في المياه.
وتساءل الطبيب: لماذا تفعل ذلك؟
قال ديك: كيما أغسلها. أغسلها من الرمال من أجل المنشار. وأريد أن أعرف من هو صاحبها.
وأصبحت كتلة الخشب في مياه البحيرة. وانحنى إدي وبيلي تيبشو على خطافيهما وهما ينضحان عرقا. وركع ديك على الرمال وتطلع إلى علامة المطرقة في الخشب في نهاية الكتلة.
قال وهو يقف وينفض الرمال من ركبة بنطاله: إنها تخص شركة «هوايت آند ماكنللي».
وشعر الطبيب بالضيق.
قال باقتضاب: إذن يحسن بك ألا تقوم بنشرها.
قال ديك: لا تغضب يا دوك. لا تغضب. لا يهمني ممن تكون قد سرقتها. هذا لا يعنيني.
قال الطبيب وقد احمر وجهه: إذا كنت تعتقد أن كتل الخشب مسروقة فاتركها وخذ أدواتك وعد إلى المعسكر.
قال ديك: «لا تترك العمل في منتصفه.» وبصق مضغة تبغ فوق كتلة الخشب، فانزلقت فوقعت متفسخة في المياه. «أنت تعرف مثلي تماما أنها مسروقة.» - حسنا. إذا كنت تظن أن الأخشاب مسروقة، خذ متاعك واغرب عن هنا. - هيه يا دوك ... - خذ متاعك واغرب عن هنا. - اسمع يا دوك. - إذا ناديتني ثانية باسم دوك فسوف أحطم أسنانك. - أوه، كلا، إنك لن تفعل ذلك يا دوك.
وتطلع ديك بولتون إلى الطبيب. كان ديك رجلا ضخما. وكان يعرف أنه ضخم. كان يحب الدخول في معارك. كان سعيدا. وانحنى إدي وبيلي تيبشو على خطافيهما وتطلعا إلى الطبيب. ومضغ الطبيب طرف لحيته تحت شفته ونظر إلى ديك بولتون. ثم استدار وسار فوق التل تجاه كوخه. كان بوسعهم أن يروا من منظر ظهره كيف هو غاضب. وشاهده الجميع يصعد في التل ويدخل إلى الكوخ.
وقال ديك شيئا بلغة الأوجيبواي. وضحك إدي ولكن بيلي تيبشو بدا جادا للغاية. لم يكن يعرف الإنجليزية ولكنه كان ينضح بالعرق طوال فترة الشجار. كان سمينا ذا شارب قليل الشعر مثل الصينيين. والتقط الخطافين. وحمل ديك البلطات وأنزل إدي المنشار من على فرع الشجرة. وانطلقوا سائرين عبر الكوخ خارجين من البوابة الخلفية إلى الغابة. وترك ديك البوابة مفتوحة. وعاد بيلي تيبشو وأغلقها ثم اختفوا داخل الغابة.
وفي الكوخ كان الطبيب جالسا على سريره في غرفته، ورأى كومة من المجلات الطبية على الأرض بجوار المكتب. كانت ما تزال في أغلفتها لم يفضها أحد. وضايقه ذلك.
وتساءلت زوجة الطبيب من الحجرة التي كانت ترقد فيها وقد أسدلت ستائرها: ألن تعود إلى العمل يا عزيزي؟ - كلا. - أحدث شيء؟ - تشاجرت مع ديك بولتون.
قالت الزوجة: أوه. أرجو ألا تكون قد فقدت أعصابك يا هنري.
قال الطبيب: كلا.
قالت الزوجة: «تذكر .. إن من يتحكم في أعصابه أعظم ممن يغزو بلدا.» كانت من أتباع كنيسة السينتولوجي. وكان الكتاب المقدس، ونسختها من مجلة العلم والصحة، ومجلة «كوارترلي» على المنضدة بجوار سريرها في الغرفة المظلمة.
ولم يرد زوجها. كان يجلس على فراشه الآن، ينظف بندقية. وجذب خزان البندقية المليء بالطلقات الصفراء الثقيلة وأخرجها. وتناثرت على الفراش.
ونادت زوجته: هنري. وصمتت برهة .. هنري.
قال الطبيب: نعم. - إنك لم تقل لبولتون شيئا يسبب غضبه. أفعلت ذلك؟
قال الطبيب: كلا. - لماذا تشاجرتما يا عزيزي؟ - لا شيء. - قل لي يا هنري. أرجو ألا تخفي عني شيئا. لماذا تشاجرتما؟ - حسنا. إن ديك بولتون مدين لي بالكثير من المال لعلاجي زوجته من الالتهاب الرئوي. وأظن أنه أراد افتعال شجار معي حتى لا يضطر إلى العمل مقابل ما يدين لي به.
وصمتت زوجته. ومسح الطبيب بندقيته بعناية بخرقة من القماش. ووضع الطلقات ثانية في خزان البندقية. وجلس والبندقية على ركبتيه. كان شغوفا جدا بها. وسمع صوت زوجته آتيا من الغرفة المظلمة: عزيزي. إني لا أظن .. لا أظن أحدا بقادر على أن يفعل شيئا كهذا.
قال الطبيب: لا تظنين؟ - كلا. لا أستطيع أن أظن أن أي شخص بوسعه أن يفعل ذلك عن قصد.
ونهض الطبيب ووضع البندقية في ركن خلف دولاب الملابس.
قالت زوجته: هل ستخرج يا عزيزي؟
قال الطبيب: أظن أنني سأذهب لأتمشى قليلا.
قالت زوجته: إذا رأيت «نك» يا عزيزي، هل لك أن تخبره أن والدته تريد أن تراه.
وخرج الطبيب إلى شرفة المنزل. وانغلق الباب الأمامي وراءه بعنف. وسمع زوجته تشهق حين انغلق الباب.
قال عبر نافذتها المغطاة بالستائر: آسف.
قالت: لا عليك يا عزيزي.
وسار في الجو الحار خارجا من البوابة على طول الممر إلى غابة أشجار الشوكران. كان الجو رطيبا في الغابة حتى في هذا اليوم الحار. ووجد «نك» جالسا مسندا ظهره إلى شجرة وهو يقرأ.
قال الطبيب: والدتك تريدك أن تذهب وتراها.
قال «نك»: أريد أن أذهب معك.
وتطلع والده إليه.
قال والده: حسنا. تعال إذن. أعطني الكتاب. سأضعه في جيبي.
قال «نك»: إني أعرف مكان السناجب السوداء يا أبي.
قال والده: حسنا. هيا بنا إلى هناك.
حاضرة الدنيا
تزخر مدريد بفتيان يحملون اسم «باكو»، وهو تصغير اسم «فرانسيسكو». وثمة مزحة إسبانية تحكي أن أبا نزل في مدريد ونشر إعلانا في الأعمدة الخاصة بجريدة «الليبرال» يقول: «إلى باكو، قابلني في فندق مونتانا ظهر يوم الثلاثاء. غفرت لك كل شيء.» وبعدها، تطلب الأمر استدعاء فرقة من قوات الشرطة لتفريق الثمانمائة شاب الذين حضروا استجابة للإعلان. أما «باكو» بطل قصتنا هذه، الذي يعمل ساقيا في خان «اللواركا»، فلم يكن له أب ليغفر له، كما أنه لم يرتكب ما يغفره له الأب. له أختان تكبرانه سنا، تعمل كلتاهما خادمة بالخان، وقد عثرتا على هذا العمل بفضل إحدى خادمات الخان السابقات التي أتت من نفس بلدة الأختين، وأثبتت جدارتها وأمانتها فأكسبت بذلك بلدتها وأهل بلدتها سمعة طيبة. وقد دفعت الأختان ثمن تذكرة السفر لشقيقهما إلى مدريد، ومهدتا له سبيل العمل ساقيا تحت التمرين. كان «باكو» من قرية من أعمال مقاطعة «إكستريمادورا»، تسودها أحوال معيشة بدائية للغاية، ومنها ندرة الطعام، والجهل بوسائل الراحة الحديثة، وكان العمل فيها شاقا منذ بدأ يعي ما حوله من أشياء.
كان فتى حسن البنية، ذا شعر فاحم السواد متموج إلى حد ما، وبشرة تحسده عليها أختاه، وابتسامة دائمة صافية. كان نشيطا يؤدي عمله بمهارة، ودودا تجاه أختيه اللتين تتسمان بمظاهر الجمال والصراحة، وقد أحب مدريد التي بدت له كعادته مكانا قصي المنال. وأحب عمله الذي بدا له غاية في الجمال والرومانسية، وهو يباشره تحت الأضواء البراقة في ملابسه البيضاء الخاصة بالسهرة، والطعام الوفير في المطبخ.
كان هناك ما يقرب من ثمانية نزلاء إلى اثني عشر نزيلا قد اعتادوا الإقامة في الخان والأكل في صالة الطعام، ولكن «باكو» - وهو أصغر ثلاثة سقاة يخدمون على الموائد - لم يكن يشعر شعورا حقيقيا بأحد من الموجودين سوى مصارعي الثيران.
وكان عدد من مصارعي الثيران من الدرجة الثانية يعيشون في ذلك الخان؛ لأن موقعه في «شارع خيرونيمو» كان مناسبا، والطعام فيه ممتازا، وأجر المبيت والأكل رخيصا. ومن المفيد لمصارع الثيران الحفاظ على المظاهر، إذا لم يكن مظهر الثراء فليكن مظهر الاحترام على الأقل؛ لأنه في إسبانيا تعلو قيمة النسق والهيبة على قيمة الشجاعة في نظر الناس، ولذلك كان المصارعون ينزلون في «اللواركا» حتى ينتهي آخر قرش يملكونه. وليس هناك ما يثبت أن أي مصارع للثيران قد ترك «اللواركا» إلى أي خان أفضل أو أكثر منه بذخا؛ لأنه لا يمكن لمصارع ثيران من الدرجة الثانية أن يرتقي إلى الدرجة الأولى، أما النزول إلى مستوى أقل من «اللواركا» فكان مألوفا كثير الوقوع، فقد كان بوسع أي امرئ - ما دام يعمل في أي شيء كان - أن ينزل في «اللواركا». ولم تكن فاتورة الحساب تقدم إلى النزيل ما لم يطلبها، إلى أن تدرك مديرة الخان أن الحالة ميئوس منها.
في ذلك الوقت، كان بالخان ثلاثة مصارعين، واثنان من فرسان المصارعة البارعين، وراشق سهام ممتاز. وكان «اللواركا» مكانا باذخا بالنسبة لفرسان المصارعة وراشقي السهام الوافدين من «إشبيلية» يبحثون عن سكن مع أسرهم خلال فصل الربيع، إلا أن أجرهم كان كبيرا، ولهم عمل ثابت مع مصارعين مثقلين بعقود عمل كثيرة خلال الموسم القادم. ولا شك أن دخل كل من هؤلاء الثلاثة «الملازمين» سيفوق دخل أي من المصارعين الثلاثة الآخرين. كان مصارع من المصارعين الثلاثة مريضا ويحاول إخفاء مرضه، والآخر قد ولت أيام شهرته القصيرة ككل شيء مستحدث، وكان ثالثهم جبانا.
وكان الجبان شجاعا يوما ما إلى درجة غير عادية وماهرا للغاية ، إلى أن أصابه قرن ثور قاس عنيف بجرح في أسفل بطنه في بداية موسمه الأول كمصارع كامل الأهلية، وكان لا يزال عالقا به بعض عاداته التي تعود إلى أيام نجاحه. كان مرحا إلى حد التطرف، يضحك دوما بسبب وبلا سبب. وكان في أيام نجاحه مدمنا على تدبير المقالب لأصدقائه، ولكنه ترك تلك العادة الآن، فمن المؤكد أنه لم يعد يشعر بميل إليها. وكان هذا المصارع ذا وجه ذكي صريح، وكانت تصرفاته يشوبها شيء من الادعاء.
وكان المصارع المريض حريصا على إخفاء ما يدل على مرضه، ويحرص على أن يتذوق كل صنف من أصناف الطعام التي تقدم على المائدة. وكانت لديه مجموعة كبيرة من المناديل يغسلها ويكويها بنفسه في حجرته. وقد بدأ أخيرا في بيع حلل المصارعة التي يحوزها، فباع واحدة منها بثمن بخس قبل عيد الميلاد، وثانية في الأسبوع الأول من أبريل. كانت حللا باذخة، طالما اعتنى بها. وكانت لديه واحدة أخرى باقية. وقبل أن يصيبه المرض، كان عمله يبشر بالخير كمصارع، حتى ولو من ناحية الإثارة. ورغم أنه لا يعرف القراءة، فقد كان يحتفظ بقصاصات صحف تقول عنه أنه خلال ظهوره لأول مرة في مدريد كان أحسن من المصارع الشهير «بلمونتي». كان يتناول طعامه وحيدا على مائدة صغيرة، ولا يكاد يرفع عينيه إلى ما أمامه.
وكان المصارع الذي كانت طريقته حدثا - يوما ما - قصيرا جدا، أسمر اللون، بالغ الرزانة. وكان يتناول طعامه أيضا على مائدة منفصلة، ونادرا ما يبتسم، ولا يضحك أبدا. كان من «بلد الوليد» حيث يسود الناس الجد. وكان مصارعا ماهرا، غير أن طريقته قد أصبحت قديمة حتى قبل أن ينجح في اجتذاب حب الجمهور عن طريق مزاياه من الشجاعة والقدرة والرصانة، ولم يعد وجود اسمه في الإعلانات الآن يجتذب أي امرئ إلى حلبة المصارعة. وكان الشيء الجديد فيه أنه قصير جدا حتى إنه لا يكاد يرى ما وراء كاهل الثور. غير أنه كان هناك عدد آخر من المصارعين قصار القامة، ولم ينجح هو في فرض نفسه على مزاج الجمهور.
أما فارسا المصارعة، فكان أحدهما نحيفا ذا وجه كوجه الصقر، رمادي الشعر، خفيف البنية، ذا ذراعين وساقين في صلابة الحديد، يرتدي أحذية رعاة، ويشرب حتى الثمالة كل مساء، محدقا في كل امرأة في الخان في وجد وهيام. أما الآخر فكان ضخما، أسمر الوجه، وسيم الشكل، ذا شعر أسود كالهنود ويدين كبيرتين. كان كل منهما فارس مصارعة عظيما، رغم ما قيل عن الأول من فقدانه الكثير من قدرته بسبب الشراب والتبذل، وما قيل عن الثاني أنه صعب المراس ميال إلى الشجار، حتى لا يكاد يستمر في العمل مع أي مصارع أكثر من فصل واحد في الموسم كله.
وكان راشق السهام رجلا في أواسط العمر، سنجابي اللون، سريع الحركة رغم تقدمه في العمر، وكان يبدو إذ يجلس إلى المائدة رجل أعمال على شيء من يسر الحال. وكانت قدماه لا تزالان صالحتين للعمل في هذا الموسم، وكان من الذكاء والخبرة بمكان حتى إن باستطاعته أن يعمل بانتظام حين تذهب السنون بصلابتهما. ولن يكون ثمة فرق حين تذهب سرعة قدميه عن الآن سوى أنه سيكون خائفا على الدوام، بينما هو الآن هادئ واثق من نفسه في الحلبة وفي خارجها.
وفي هذه الليلة، كان الجميع قد غادروا غرفة الطعام ما عدا الفارس ذا وجه الصقر الذي يفرط في الشراب، ودلال الساعات ذا الوجه الذي ينم عن مكان نشأته، والذي يعمل متنقلا في مهرجانات إسبانيا وأعيادها، وكان يفرط في الشراب هو الآخر، وقسين من جليقية جلسا إلى مائدة في الزاوية يشربان في سعة، إن لم يكن في إفراط. وفي ذلك الزمان، كان النبيذ داخلا في حساب الإقامة في «اللواركا». وكان الساقيان قد جلبا لتوهما زجاجات جديدة من «الفالدبينياس» إلى مائدة الدلال، ثم إلى مائدة الفارس، وأخيرا إلى مائدة القسين.
وقف السقاة الثلاثة في نهاية الحجرة، وكانت القاعدة المتبعة في ذلك الخان أن يبقوا في الخدمة حتى ينهض الزبائن من الموائد التي تدخل خدمتها في نطاق عمل كل منهم، غير أن ذلك الذي كان يقوم على مائدة القسين كان مرتبطا بموعد لحضور اجتماع نقابة «الفوضويين»، ووافق «باكو» على أن يحل محله في خدمة تلك المائدة.
وفي الطابق العلوي، كان المصارع المريض يرقد وحيدا على فراشه ووجهه إلى أسفل. وجلس المصارع الذي لم يعد حدثا ينظر من النافذة مستعدا للخروج إلى المقهى، بينما كانت أخت «باكو» الكبرى في حجرة المصارع الثالث الجبان، وكان يحاول إقناعها بالقيام بشيء ترفضه وهي تضحك. كان يقول لها: «هيا أيتها المتوحشة الصغيرة.»
وقالت الأخت: كلا، لماذا أفعل ذلك؟ - من أجلي. - لقد أكلت وتريد الآن أن تحلي بي. - مرة واحدة، ما الضرر في ذلك؟ - دعني، قلت لك دعني. - إنه أمر بسيط للغاية. - قلت لك دعني.
وفي أسفل، في حجرة الطعام، قال الساقي الطويل الذي فات موعد انتهائه من العمل: «انظر إلى هذه الخنازير السوداء وهي تشرب.»
فقال الساقي الثاني: ليس هكذا يصح الحديث. إنهم زبائن لطاف لا يفرطون في الشراب.
فقال الطويل: هذه طريقة حسنة للحديث بالنسبة لي، فهنا توجد لعنتا إسبانيا الاثنتان: المصارعون والقسس.
وقال الثاني: ولكن ليس الموضوع موضوع مصارع معين أو قس معين بالذات.
فقال الساقي الطويل: أبدا لا يمكنك أن تهاجم الطبقة إلا عن طريق الفرد. من الضروري أن تقتل المصارعين الأفراد والقسس الأفراد جميعهم، وعندئذ لن يوجد أحد منهم.
وقال الساقي الآخر: وفر هذا إلى حين الاجتماع.
قال الساقي الطويل: انظر إلى وحشية مدريد، الساعة الآن الحادية عشرة والنصف، ولا يزال هؤلاء يعبون الشراب.
فقال الساقي الآخر: إنهم لم يبدءوا الأكل إلا في العاشرة، وكما تعرف .. هناك أصناف كثيرة من الطعام، وهذا النبيذ رخيص الثمن، وقد دفعوا ثمنه. إنه ليس شديد المفعول. وتساءل الساقي الطويل: كيف يمكن أن ينجح تضامن للعمال وهناك أغنياء مثلك!
فقال الساقي الآخر الذي كان يناهز الخمسين: لقد عملت طوال عمري، ويجب علي أن أعمل ما تبقى لي من العمر. إني لا أشكو من العمل، فالعمل هو الشيء الطبيعي. - أجل، ولكن الافتقار إلى العمل يقتل المرء.
فقال الساقي الآخر: لقد عملت على الدوام. اذهب إلى اجتماعك، فلا ضرورة هناك لبقائك.
فقال الساقي الطويل: إنك زميل طيب، ولكنك تفتقر إلى الإيمان بعقيدة.
فقال الساقي العجوز: من الأفضل الافتقار إلى ذلك عن الافتقار إلى العمل. اذهب إلى اجتماعك.
ولم يقل «باكو» شيئا، بل إنه لم يكن يفهم السياسة، غير أنه كان يسره دائما أن يستمع إلى الساقي الطويل وهو يتحدث عن ضرورة قتل جميع القسس ورجال الشرطة. كان الساقي الطويل يمثل له رمز الثورة، والثورة أيضا فكرة رومانسية، وكان هو نفسه يرغب في أن يكون كاثوليكيا صالحا ثائرا، وأن يكون لديه عمل منتظم مثل هذا، على شرط أن يكون مصارعا للثيران في نفس الوقت.
قال باكو: اذهب إلى الاجتماع يا «إجناثيو»، سوف أتولى عنك عملك.
فقال الساقي العجوز: سنتولى عنك نحن الاثنان.
فقال باكو: يكفي واحد فقط، اذهب إلى الاجتماع.
فقال الساقي الطويل: سأذهب إذن، وشكرا.
وفي هذا الوقت، في الطابق الأعلى، كانت أخت باكو قد نجحت في الإفلات من قبضة مصارع الثيران في مهارة تشبه مهارة المصارعين في الإفلات من طوق خصومهم، وقالت في غضب هذه المرة: هذه سمة الناس الجائعين. مصارع ثيران فاشل، مثقل بالخوف. إذا كان لديك الكثير من الجرأة، استعملها في حلبة المصارعة. - هذه طريقة العاهرات في الحديث. - العاهرة أيضا امرأة. ولكني لست بعاهرة. - ستكونينها. - لن يكون ذلك على يدي.
فقال المصارع: اتركيني وحدي.
وكان قد شعر الآن بعد أن صدته الفتاة ورغبت عنه بجبنه وخوفه العاريين يعودان إليه.
فقالت الأخت: أتركك؟ ومن لم يتركك؟ ألا تريدني أن أرتب الفراش؟ إني أتقاضى أجرا على ذلك.
قال المصارع وقد تغضن وجهه العريض الوسيم في تجهم هو أشبه بالبكاء: اتركيني أيتها العاهرة، أيتها العاهرة الصغيرة القذرة.
فقالت إذ هي تغلق الباب خلفها: أيها المصارع، يا مصارعي!
وفي داخل الحجرة، جلس المصارع على الفراش، ولا يزال يعلو وجهه ذلك التجهم الذي كان يحيله في الحلبة إلى ابتسام دائم يخيف النظارة الأماميين ممن يدركون حقيقة ما يشاهدون. وكان يردد لنفسه بصوت مسموع: «وهذا ... وهذا ... وهذا.» كان بوسعه أن يتذكر أيام نجاحه، ولم يكن قد مضى عليها سوى ثلاث سنوات. كان بوسعه أن يتذكر حلة المصارعة الثقيلة الموشاة بالذهب على كتفيه، في ذلك الأصيل القائظ من شهر مايو، حين كان صوته في الحلبة يختلف عن صوته إذ هو يجلس في المقهى، وكيف كان يصوب النصل المشرع الطرف المرهف إلى ذلك المكان الذي يسوده الغبار في أعلى كتف الثور، على كتلة العضلات السوداء ذات الزغب فوق القرنين العريضين مقوضي الأشجار، ذوي الطرفين المتشققين اللذين يهبطان إلى أسفل إذ هو يهم بقتل الثور، وكيف يغوص السيف في جسمه في سهولة مثل كومة من الزبد اليابس، وراحة يده تدفع مقبض السيف، وذراعه اليسرى تلتوي إلى أسفل، وكتفه اليسرى إلى الأمام، مرتكزا بثقله على ساقه اليسرى. أما تلك المرة فلم يكن ثقله على ساقه، كان ثقله على أسفل بطنه. وحين رفع الثور رأسه غاص القرن في جسده وتأرجح عليه مرتين قبل أن يجروه بعيدا. والآن إذا ما تأهب لقتل الثور في الحلبة - ونادرا ما يفعل - لم يكن في استطاعته أن ينظر إلى قرنيه، لكن ... أنى لأية عاهرة أن تدرك معاناته قبل أن يقدم على المصارعة؟ وما هي تجارب هؤلاء الذين يسخرون منه؟ أنهم جميعا عاهرات، ويدركون كيف يستغلون ذلك.
وفي أسفل، في حجرة الطعام، جلس الفارس ينظر إلى القسين. لو كانت هناك سيدات في الحجرة لتطلع إليهن، أما حين لا يكون هناك نساء فإنه يتسلى بالحملقة في أي أجنبي، إنجليزي مثلا. ولما لم يكن هناك سيدات ولا أجانب في الحجرة آنذاك، فقد أخذ يحملق في متعة ووقاحة في القسين. وبينما هو مشغول بالحملقة، نهض الدلال ذو الوجه المتميز وطوى منشفته وخرج تاركا نصف النبيذ في الزجاجة الأخيرة التي طلبها. ولو أنه كان قد دفع حسابه في الخان لكان قد أفرغ الزجاجة.
ولم يرد القسان على نظرات الفارس بمثلها. كان أحدهما يقول: «منذ عشرة أيام وأنا هنا أحاول مقابلته، وكل يوم أجلس في غرفة الاستقبال ثم لا يقابلني.» - ماذا يمكن أن نفعل! - لا شيء ... ماذا يمكن أن يفعل؟ لا يمكن معارضة السلطات. - لقد مكثت هنا أسبوعين دون فائدة. إنني أنتظر ولن يقابلني أحد. - إننا من أقاصي الريف. ماذا يهم مدريد من شأن جليقية؟ إن مقاطعتنا فقيرة. - وهكذا بدأت أفهم حقيقة ما قام به أخونا «باسيليو». - ما زلت لا أثق ثقة حقيقية في أمانة «باسيليو». - إن مدريد هي المكان الذي يتعلم المرء فيه كيف يفهم. مدريد تقتل إسبانيا. - لو أنهم يقابلون المرء ثم يرفضون. - كلا، يجب أن يهدموك ويبلوك بالانتظار. - حسن .. سنرى. يمكنني الانتظار مع الآخرين.
وفي هذه اللحظة، نهض الفارس منتصبا، وتوجه إلى مائدة القسين وتوقف عندها، برأسه الأسمر ووجهه الشبيه بالصقر، يحملق فيهما ويبتسم ...
وقال قس منهما لزميله: إنه مصارع ثيران.
فقال الفارس: «ومصارع بارع». ثم خرج من غرفة الطعام في حلته السمراء، أنيق الخاصرة، مقوس الساقين، يرتدي سراويل ضيقة فوق حذائه الريفي عالي الكعبين الذي يدق على الأرض إذ يترنح في انتظام رتيب وهو يبتسم لنفسه. كان يعيش في عالم من الكفاءة الذاتية، عالم صغير، محكم، مهني، من الاحتفال كل ليلة بالمشروبات الروحية، ومن الوقاحة. والآن أشعل سيجارا وأمال قبعته على زاوية من رأسه ومضى عبر القاعة إلى المقهى ...
وغادر القسان الغرفة توا بعد الفارس، في عجلة، شاعرين بأنهما آخر من بقي في حجرة الطعام. ولم يعد هناك في الحجرة غير «باكو» والساقي متوسط العمر. ونظفا الموائد وحملا الزجاجات إلى المطبخ.
وكان الغلام المكلف بغسل الأطباق في المطبخ يكبر باكو بثلاثة أعوام، وكان مفعما بالسخرية والشعور بالمرارة.
وقال الساقي متوسط العمر وهو يصب كوبا من نبيذ «الفالدبينياس» للغلام: خذ هذا.
وقال الغلام وهو يتناول الكوب: بكل سرور.
وقال الساقي: وأنت يا باكو؟
فقال باكو: شكرا لك ...
وشرب ثلاثتهم.
وقال الساقي متوسط العمر: سأذهب الآن.
وقالا له: مع السلامة.
وذهب. وبقيا وحدهما. وتناول «باكو» منشفة كان أحد القسين قد استعملها، ووقف منتصبا، ثابت الكعبين، وأرخى المنشفة إلى أسفل، ولوح بذراعيه ورأسه يتابع الحركة في اهتزاز يماثل حركة مصارعة الثيران البطيئة، وتحول، وتقدم بقدمه اليمنى قليلا، وأجرى هجوما ثانيا سيطر به إلى حد ما على الثور الخيالي، وهجم لثالث مرة في بطء ودقة وخفة تامة، ثم جمع المنشفة إلى وسطه ودار بعجزيه بعيدا عن الثور في نصف حركة أخرى.
وكان غاسل الأطباق، ويسمى «إنريكي»، يراقبه في انتقاد واستهزاء.
قال له: كيف حال الثور؟
قال باكو: شجاع للغاية .. انظر!
وانتصب بقامته الهيفاء، وأجرى أربع حركات هجومية أخرى بالغة الإحكام، في خفة ورشاقة ودقة.
وقال إنريكي وهو مرتد ميدعته، مرتكزا على الحوض المعدني وممسكا بكوب نبيذه: وما حال الثور؟
وقال باكو: ما زالت فيه بقية ...
فقال إنريكي: إنك تملؤني سقما. - لماذا؟ - انظر؟
وأزاح «إنريكي» ميدعته، ثم أشاح للثور الخيالي، وقام بأربع حركات مصارعة كاملة مسترخية على طريقة الغجر، وأنهاها بدورة جعلت الميدعة تلتوي على شكل قوس حاد قريبا من أنف الثور إذ هو يمضي بعيدا عنه.
قال: انظر إلى هذا، ومع ذلك فأنا أغسل الأطباق. - لماذا؟
فقال إنريكي: الخوف .. الخوف .. نفس الخوف الذي تشعر به في الحلبة مع الثور الحقيقي.
قال «باكو»: كلا، أنا لا أخاف.
فقال «إنريكي»: كاذب. الكل يخاف. ولكن المصارع يستطيع أن يتحكم في خوفه حتى يتمكن من السيطرة على الثور. لقد ذهبت إلى مصارعة للهواه وشعرت بخوف شديد حتى إنني لم أستطع منع نفسي من الفرار، ونظر الجميع إلى المسألة باعتبارها شيئا طريفا. وعلى ذلك ستخاف أنت أيضا. ولولا الخوف لتحول كل ماسح أحذية في إسبانيا إلى مصارع للثيران. إنك من الريف وستخاف أكثر مما أخاف أنا.
قال باكو: كلا.
لقد مارس المصارعة كثيرا في خياله، وشاهد القرون مرات عديدة، وفم الثور المبلل، وأذنيه تختلجان، ثم تهبط رأسه إلى أسفل ويشرع في الهجوم، وتدق حوافره على الأرض، ويمر به الثور الهائج بينما هو يهز الوشاح. ويهاجمه ثانية حين يهزه مرة أخرى، وأخرى، وأخرى، وأخرى، إلى أن ينتهي بثني الثور حوله في نصف حركة عظيمة، ويسير متثنيا وقد علقت بعض شعرات الثور بوشي حلته الذهبية من فرط قربه منه ، والثور واقف كأنما قد نام نوما مغناطيسيا، والجمهور يهتف مصفقا ... كلا، إنه لن يخاف. ربما يخاف الآخرون، أجل ... ولكن ... هو، إنه يعلم أنه لن يخاف. وحتى لو حدث وشعر بالخوف فقد كان يعلم أنه يستطيع القيام بها على أي حال. إنه واثق من نفسه. قال: «لن أخاف ...»
وقال «إنريكي» مرة أخرى: «كاذب.» ثم أضاف: «لماذا لا نجرب؟» - كيف؟
قال إنريكي: انظر، إنك تحسب حساب الثور ولكنك تغفل عن القرون، للثور قوة عظيمة في قرونه تلك التي تعمل على السكين، فهي تطعن كالحربة، وتقتل كالهراوة، انظر ...
وفتح درج مائدة وتناول منه سكيني لحم وأضاف قائلا: سوف أربط هذين السكينين إلى قدمي أحد المقاعد، ثم أمثل دور الثور معك حاملا المقعد، بالسكينين كالقرنين، في مقدمة رأسي. فإذا نجحت في محاورة هذين فإنك عندئذ تعني شيئا.
فقال «باكو»: أعرني ميدعتك، سوف نقوم بذلك المشهد في حجرة الطعام.
فقال إنريكي فجأة دونما مرارة: كلا، لا تفعل ذلك يا باكو.
قال «باكو»: بلى، إنني لست خائفا. - ستشعر بالخوف حين ترى السكينين يندفعان نحوك.
قال باكو: سنرى، أعطني الميدعة.
وفي هذه الأثناء، حين كان «إنريكي» يربط سكيني اللحم ثقيلي النصل، مرهفي الحد، إلى قدمي المقعد في إحكام بمنشفتين مستعملتين حول النصف الأسفل من كل سكين، يلفهما بإحكام ويعقد عليهما، كانت أختا «باكو»، الخادمتان، في طريقهما إلى السينما لمشاهدة «جريتا جاربو» في فيلم «آنا كريستي». وكان واحد من القسين يجلس في ملابسه الداخلية يقرأ في كتاب الصلوات، والآخر يرتدي قميص نوم ويتلو صلواته على المسبحة، بينما ذهب جميع المصارعين ما عدا ذلك المريض إلى مقهى «فورنوس» حيث كان الفارس الضخم الأسود الشعر يلعب البلياردو، والمصارع الرزين القصير القامة يجلس إلى مائدة مزدحمة وأمامه القهوة واللبن، ومعه راشق السهام متوسط العمر، وعمال جادون آخرون.
وكان الفارس الأشيب الرأس الذي يفرط في الشراب جالسا وأمامه كأس من نبيذ «كاتلاس»، يحملق في سرور في المائدة التي جلس إليها المصارع الذي تخلت عنه شجاعته مع مصارع آخر نبذ السيف ليعود راشقا للسهام، ومعهما اثنتان من العاهرات تبدو عليهما مظاهر التعب.
ووقف الدلال على جانب الطريق يتحدث مع بعض الأصدقاء، وكان الساقي طويل القامة في اجتماع نقابة الفوضويين ينتظر فرصة للحديث. وجلس الساقي متوسط العمر في شرفة مقهى «ألفاريث» يشرب زجاجة صغيرة من البيرة. وكانت المرأة التي تملك خان «اللواركا» نائمة في فراشها، ترقد فيه على ظهرها والوسادة تحت قدميها: ضخمة، سمينة، شريفة نظيفة، سهلة التعامل، في غاية التدين، ولم تفتها تلاوة الصلاة كل يوم لزوجها الذي مات منذ عشرين عاما. وكان المصارع المريض في غرفته، وحيدا، يرقد على فراشه ووجهه إلى أسفل، وقد أسند منديلا إلى فمه.
والآن، في حجرة الطعام الخالية، ربط «إنريكي» العقدة الأخيرة في المنشفتين اللتين طوقتا السكينين إلى قدمي المقعد، ثم رفع المقعد، ووجه الأرجل وعليها السكينان إلى الأمام، وأمسك بالمقعد فوق رأسه، وطرفا السكينين متوجهان إلى الأمام مباشرة، واحد من كل جانب من رأسه، كقرني الثور تماما.
قال: إنهما ثقيلان، انظر يا باكو ... إنهما خطيران جدا ... لا تفعل ذلك. كان ينضح عرقا.
ووقف «باكو» في مواجهته، ممسكا بالميدعة ناشرا إياها وقد أمسك بثنية منها في كل يد، وإبهاماه إلى أعلى، والأصبع الأول إلى أسفل، ناشرا إياها ليجذب انتباه الثور.
قال: اهجم مباشرة، در كالثور، اهجم مرات عديدة كما تريد.
وسأل إنريكي: ولكن، متى ستعرف المرة التي يجب أن تصد فيها الهجوم؟ من الأفضل تحديدها بثلاث مرات ثم تقوم بنصف دورة بعدها.
قال باكو: حسن، ولكن اهجم مباشرة ... ها ... أيها الثور! تعال، تعال أيها الثور الصغير.
وأقبل «إنريكي» نحوه وقد خفض رأسه إلى أسفل، وهز باكو الميدعة بمحاذاة نصل السكين حين مر بالقرب من بطنه، اجتازه كأنه بالنسبة له قرن حقيقي، أبيض الطرف، أسود، ثقيل. وحين مر به «إنريكي» ودار ليهجم ثانية عليه، كان ثورا حار الدماء هو الذي يهاجمه، فدار كالقط وأتاه ثانية وهو يهز الوشاح في بطء، ودار الثور وهاجم مرة أخرى، وتقدم «باكو» بقدمه بوصتين وهو يراقب النصل المشرع، ولكن السكين لم يمر، بل انحرف وغاص في جسده كما لو كان زق خمر. وتفجر انبثاق حار مبخر فوق كتلة النصل الداخلية وحولها، وهتف إنريكي: آه، آه، دعني أخرجه.
وانزلق «باكو» إلى الأمام على المقعد وهو لا يزال ممسكا بالميدعة، الوشاح، وإنريكي يجذب المقعد بينما السكين يتقلب في جسده، في جسده، في «باكو» ...
وأخرج السكين. وجلس على الأرض في وسط البحيرة الدافئة التي تتسع.
وقال إنريكي: ضع المنشفة على الجرح ... أمسكها جيدا ... سأجري في طلب الطبيب ... يجب أن تمسك النزيف.
قال باكو: «كان يجب أن يكون هناك قدح مطاطي.» كان قد رأى ذلك يستخدم في الحلبة في مثل هذه الحالات.
قال إنريكي وهو يبكي: سأعود حالا. ما أردت سوى أن أريك خطورة ذلك.
قال باكو وصوته يبدو آتيا من بعيد: «لا عليك ... ولكن، أحضر الطبيب.»
في الحلبة يرفعونك ويحملونك ويجرون بك إلى غرفة العمليات، فإذا نزفت شرايين الفخذ آخر قطراتها من الدماء قبل أن تبلغها فإنهم يستدعون القسيس.
قال «باكو» وهو يمسك المنشفة في إحكام حول أسفل بطنه: أخطر أحد القسس. لم يكن بإمكانه أن يصدق أن هذا حدث له.
ولكن «إنريكي» جرى عبر شارع «سان خيرونيمو» إلى محطة الإسعاف الأولية التي تعمل ليل نهار، وظل «باكو» وحده. جلس في البداية، ثم تكوم مقعيا، ثم تمدد على الأرض، حتى انتهى كل شيء، شاعرا أن حياته تتسلل منه كما تتسرب المياه القذرة من حوض استحمام حين تنزع سدادته. كان فزعا، يشعر بالخور، وحاول أن يتلو صلاة التوبة، تذكر بدايتها ولكن قبل أن يقول بأسرع ما يمكنه: آه يا إلهي، إنني آسف أشد الأسف لأنني أخطأت في حقك يا من تستحق حبي، وإنني أعزم عزما قويا ... شعر بالإغماء ينتابه. وكان يرقد ووجهه ناحية الأرض، وانتهى الأمر بمنتهى السرعة، إن شريان الفخذ المقطوع ينزف دمه بأسرع ما يتصور أحد.
وحين كان طبيب مركز الإسعافات الأولية يصعد الدرج مصطحبا رجل الشرطة الذي أمسك بذراع «إنريكي»، كانت أختا «باكو» لا تزالان في دار السينما في «الجران فيا» حيث شعرتا بخيبة أمل شديدة من فيلم «جريتا جاربو» الذي ظهرت فيه نجمة السينما العظيمة في بيئة حقيرة بائسة، في حين كانتا معتادتين رؤيتها محاطة بالأبهة والعظمة. واستاء الجمهور من الفيلم إلى درجة بالغة، وأعلن احتجاجه بالصفير ودق الأقدام على الأرض، أما نزلاء الخان الآخرون فكانوا تقريبا يفعلون ما كانوا يقومون به حين وقعت الحادثة ما عدا أن القسين كانا قد انتهيا من صلواتهما واستعدا للنوم، وأن الفارس الأشيب قد انتقل بشرابه ليجلس مع العاهرتين المنهكتين، وبعد فترة وجيزة، خرج من المقهى مع إحداهما، وهي تلك التي كان المصارع الجبان يدفع لهما ثمن ما تشرب.
ولم يعرف الفتى «باكو» شيئا عن ذلك، ولا عما سوف يفعل كل هؤلاء الناس في اليوم التالي وفي الأيام التالية. لم يكن لديه أية فكرة عن طريقة معيشتهم ولا كيف انتهوا. بل لم يكن يدرك أنهم انتهوا. لقد مات مليئا بالآمال، كما يقول المثل الإسباني. ولم تنفسح أمامه الحياة ليفقد أيا من تلك الآمال، ولا كيما يكمل في النهاية أسفه عليها.
بل لم يكن أمامه متسع من الوقت كيما يخيب أمله في فيلم «جريتا جاربو» الذي خيب أمل مدريد كلها لمدة أسبوع.
يوم انتظار
دلف إلى الحجرة كيما يغلق النوافذ، بينما كنا ما نزال في الفراش ورأيته تبدو عليه علائم المرض. كان يرتجف ممتقع الوجه ويمشي ببطء كما لو أنه يتعب عندما يسير. - ما الأمر يا شاتز؟ - أشعر بصداع. - يحسن بك أن تعود إلى الفراش. - كلا. إني على ما يرام. - اذهب إلى الفراش. سأراك بعد أن أرتدي ملابسي.
ولكن حين هبطت إلى أسفل وجدته مرتديا ملابسه وجالسا إلى جوار نيران المدفأة، يبدو عليه وهو صبي في التاسعة علائم المرض الشديد والبؤس. وحين وضعت يدي على جبهته أدركت أنه يعاني من الحمى.
قلت: اذهب إلى فراشك. إنك مريض.
قال: إني على ما يرام.
وحين حضر الطبيب، قاس درجة حرارته.
سألته: كم؟ - مائة واثنتان.
وفي الطابق السفلي، ترك الطبيب ثلاثة أنواع من الأدوية في كبسولات مختلفة اللون مع تعليمات بكيفية تناولها. أحد الأدوية لخفض الحمى، وآخر مطهر للمعدة، والثالث لعلاج الحموضة. وشرح قائلا: إن جراثيم الإنفلونزا لا يمكن لها أن توجد إلا في وسط حالة من حالات الحموضة . وبدا أنه يعرف كل شيء عن الإنفلونزا وقال: إن الأمر لا يدعو للقلق إذا لم تتجاوز الحمى درجة مائة وأربع. كان وباء خفيفا للإنفلونزا فلا خطر منه إذا أنت تجنبت الإصابة بالالتهاب الرئوي.
وحين عدت إلى الحجرة كتبت درجة حرارة الصبي ووضعت مذكرة بالوقت الذي يجب أن أعطيه الأدوية المختلفة. - هل تريدني أن أقرأ لك؟
قال الصبي: حسنا. إذا رغبت في ذلك.
كان وجهه شديد البياض وكانت تحت عينيه هالات سوداء. ومكث لا يتحرك في فراشه، وبدا قصيا عما يحدث من حوله.
وقرأت له بصوت عال من «كتاب القراصنة» تأليف «هوارد بابل»، ولكني كنت أرى أنه لا يتابع ما أقرأ.
وسألته: كيف حالك الآن يا شاتز.
قال: نفس الشيء، حتى الآن.
جلست عند قاعدة السرير أقرأ لنفسي وأنا أنتظر موعد إعطائه الدواء التالي. كان من الطبيعي أن يكون مستغرقا في النوم، ولكن حين نظرت إليه وجدته يتطلع إلى قاعدة السرير ويبدو غريبا جدا. - لماذا لا تحاول أن تنام؟ سوف أوقظك حين يحين موعد الدواء. - أفضل أن أبقى مستيقظا.
وقال لي بعد برهة: لست مضطرا أن تبقى معي هنا يا بابا، إذا كان ذلك يضايقك. - إن ذلك لا يضايقني. - كلا، أعني أنه ليس عليك أن تبقى إذا كان يضايقك.
وجال بخاطري أنه ربما كان يشعر بشيء من الدوار، وبعد أن أعطيته الكبسولة المقررة في الحادية عشرة خرجت برهة.
كان يوما باردا ساطعا، والأرض مغطاة بثلج ذائب تجمد حتى بدا كما لو أن الأشجار العارية والشجيرات والأجمات والحشائش كلها والأرض العارية قد وشحت بالثلج. واصطحبت الكلب الآيلندي الصغير في نزهة قصيرة عبر الطريق على السطح الزجاجي، وتعثر الكلب الأحمر وتلوى بينما سقطت أنا مرتين، بشدة، ومرة منهما سقطت بندقيتي وانزلقت بعيدا فوق الجليد.
وإثرنا مجموعة من طيور السماني كانت أسفل هضبة صلصالية مرتفعة تغطيها الشجيرات، واصطدت اثنين منها حين اختفيا عن الأنظار فوق قمة المنحدر. وهبطت بعض الطيور فوق فروع الشجر، بيد أن معظمها انتشر بين أكوام الشجيرات، وكان من الضروري أن أقفز فوق آكام الشجيرات المغطاة بالثلج عدة مرات قبل أن أجعلها تطير من مكامنها. وحين تخرج وأنا في مكاني فوق الأكمات الثلجية المهتزة يكون من الصعب أن أطلق النار في هذا الوضع؛ واصطدت اثنين وأخطأت خمسة، وقفلت عائدا سعيدا بأن عثرت على مجموعة الطيور تلك بالقرب من المنزل، وسعيدا بوجود الكثير منها ما تزال كي أصطادها يوما آخر.
وفي المنزل، قالوا لي: إن الصبي رفض أن يدخل غرفته أي شخص. كان يقول لهم: لا يمكنكم الدخول. يجب ألا أنقل إليكم مرضي.
وصعدت إليه ووجدته في نفس الوضع الذي تركته عليه تماما، ممتقع الوجه، ولكن كانت وجنتاه متوهجة بفعل الحمى، وما يزال يحدق كما يحدق سابقا في اتجاه قاعدة السرير.
وقست حرارته. - كم درجة؟
قلت: حوالي المائة.
كانت حرارته مائة درجة واثنتين وأربعة أعشار.
قال: كانت مائة واثنتين. - من قال ذلك؟ - الطبيب.
قلت: إن حرارتك على ما يرام. ليس هناك ما يدعو للقلق.
قال: إني لا أشعر بالقلق. ولكني لا أستطيع أن أمنع نفسي عن التفكير.
قلت: لا تفكر. خذ الأمور ببساطة.
قال وهو يتطلع أمامه: إنني آخذها ببساطة.
كان من الواضح أنه كان يخفي شيئا يعتمل بداخله. - خذ هذا مع بعض الماء. - هل تعتقد أنه سيكون له أي فائدة؟ - بالطبع.
وجلست وفتحت كتاب القرصان وبدأت في القراءة، ولكني لاحظت أنه لا يتابعني؛ لذلك توقفت.
سأل: متى تعتقد أنني سوف أموت؟ - ماذا؟ - كم من الوقت سيمر قبل أن أموت؟ - إنك لن تموت. ما الذي دهاك؟ - أوه، أجل. لقد سمعته يقول مائة درجة واثنتين. - لا أحد يموت من حمى درجتها مائة واثنتان. إن هذا قول سخيف. - إني أعرف أنهم يموتون. لقد أخبرني الأولاد في المدرسة في فرنسا أنه لا يمكن لأحد أن يعيش بدرجة حرارة أربعة وأربعين. وأنا عندي مائة واثنتان.
قلت: يا لك من مسكين يا شاتز. أي شاتز العزيز المسكين .. إن الأمر يماثل الأميال والكيلومترات. إنك لن تموت. إن مقياس الحرارة مختلف، هناك في ذلك المقياس الفرنسي تكون درجة الحرارة العادية سبعة وثلاثين. وفي مقياسنا ثمانية وتسعون. - هل أنت متأكد؟
قلت: طبعا. إن الأمر يماثل الأميال والكيلومترات. أتعرف .. مثل كم كيلومترا يكون حين نقطع سبعين ميلا بالسيارة.
قال: أوه.
ولكن نظرته إلى قاعدة السرير استرخت نوعا ما. واسترخى توتره الداخلي أيضا في نهاية الأمر. وفي اليوم التالي كان هادئا للغاية، ويبكي بسهولة لأمور صغيرة ليست لها أي أهمية.
تلال كالأفيال البيضاء
كانت التلال عبر وادي نهر «إبرو» عالية بيضاء، ولم يكن في هذا الجانب من ظلال ولا أشجار. كانت المحطة تقع في الشمس بين خطين من القضبان. وأمام جانب المحطة مباشرة ترتسم الظلال الدافئة للمبنى والستائر التي صنعت من خرزات «البامبو» وعلقت على باب البار المفتوح؛ كيما تذود عنه الذباب. وجلس الأمريكي والفتاة التي معه إلى مائدة في الظل خارج المبنى. كان الجو حارا، وسيأتي القطار السريع من «برشلونة» بعد أربعين دقيقة. ويقف القطار عند هذه المحطة دقيقتين ثم يواصل سيره إلى مدريد.
سألت الفتاة: «ماذا نشرب؟» وكانت قد خلعت قبعتها ووضعتها على المائدة.
قال الرجل: إن الحر لعين. - فلنشرب بيرة.
فصاح الرجل عبر الستارة: «اتنين بيرة.»
وسألت امرأة من عند الباب: كبيرة؟ - أجل. اتنين بيرة كبيرة.
وأحضرت المرأة زجاجتي بيرة وطبقين من الفلين. ووضعت طبقي الفلين وزجاجتي البيرة على المائدة ونظرت إلى الرجل والفتاة. كانت الفتاة تشخص ببصرها إلى صف التلال. كانت تبدو بيضاء تحت وهج الشمس، والبلدة سمراء جافة.
قالت: إنها تبدو مثل الأفيال البيضاء. - إني لم أر أبدا أفيالا بيضاء.
وشرب الرجل زجاجته. - كلا. لم تكن لتراها.
فقال الرجل: كان يمكن أن أراها. إنك لم تثبتي شيئا بقولك لم تكن لتراها.
ونظرت الفتاة إلى الستارة المصنوعة من الخرز.
قالت: هناك شيء مكتوب عليها .. ماذا يعني؟ - «أنيس دل تورو». إنه اسم مشروب. - هل نتذوقه؟
ونادى الرجل بإنجليزية عبر الستارة. وخرجت المرأة من البار. - نريد كأسين من «أنيس دل تورو». - بالماء. - أتريدينه بالماء؟
فقالت الفتاة: لا أعرف. أهو أفضل بالماء؟ - أجل.
فسألت المرأة: أتريدهما بالماء؟ - أجل بالماء.
قالت الفتاة وهي تضع كأسها: إن مذاقه كحولي. - هكذا كل المشروبات.
قالت الفتاة: أجل كل شيء مذاقه كحولي خاصة الأشياء التي انتظرتها طويلا، مثل «الأبسنت». - أوه، دعينا من هذا.
فقالت الفتاة: أنت الذي بدأت، لقد كنت ألهو، كنت أستمتع بوقتي. - إذن، فلنحاول الاستمتاع بوقتنا. - موافقة. كنت أحاول. قلت إن الجبال تشبه الأفيال البيضاء. ألم يكن تعبيرا جميلا؟ - كان جميلا. - ورغبت في تجربة ذلك الشراب الجديد. هذا كل ما نفعل، أليس كذلك؟ ننظر إلى الأشياء ونجرب المشروبات الجديدة. - أظن ذلك.
وتطلعت الفتاة إلى التلال.
قالت: إنها تلال جميلة. إنها لا تشبه الأفيال البيضاء حقا، إنما عنيت لون جلدها عبر الأشجار. - أ نطلب مشروبا آخر؟ - حسن.
وانصفقت الرياح الدافئة فطوحت بالستارة الخرزية على جانب المائدة.
قال الرجل: البيرة لذيذة ومثلجة.
فقالت الفتاة: إنها لذيذة.
قال الرجل: إنها مجرد عملية بسيطة صغيرة يا «جيج». إنها ليست عملية على الإطلاق.
ونظرت الفتاة إلى الأرض التي تقوم عليها أرجل المائدة. - أعرف أنها لا تخيفك يا «جيج». إنها لا شيء في الحقيقة. مجرد السماح للهواء بالدخول.
ولم تنطق الفتاة بحرف. - سأذهب معك وأبقى معك طوال الوقت. سوف يدخلون الهواء ثم يسير كل شيء سيرا طبيعيا. - وماذا سنفعل بعد ذلك؟ - سنصبح على ما يرام، مثلما كنا من قبل. - وماذا يجعلك تظن ذلك الظن؟ - إن هذا هو الشيء الوحيد الذي يضايقنا. إنه الشيء الوحيد الذي أشقانا.
ونظرت الفتاة إلى ستارة الخرز ومدت يدها وأمسكت بخيطين من خيوطها. - وهل تعتقد أننا سنصبح آنذاك على ما يرام وسعداء؟ - أعرف أننا سنكون كذلك. لا تخافي. أعرف كثيرا من الناس فعلوا ذلك.
فقالت الفتاة: وأنا أيضا. ولقد أصبحوا سعداء تماما بعدها.
فقال الرجل: حسن. إنني لن أرغمك على ذلك إن لم تكوني راغبة فيه. لن أضطرك لهذا لو لم تكوني ترغبينه. ولكني أعلم أن العملية بسيطة تماما. - وهل تريد ذلك حقا؟ - أعتقد أن ذلك هو أفضل ما يمكن عمله. ولكني لا أريدك أن تفعليها لو لم تكوني راغبة حقا في ذلك. - ولو أنني فعلتها ستكون سعيدا وتعود الحياة إلى مجاريها وستحبني؟ - إني أحبك الآن. أنت تعلمين أنني أحبك. - أعرف. ولكن لو أنني فعلتها فسوف تشعر بالسرور إذا قلت شيئا مثل الأفيال البيضاء مرة أخرى، ولسوف يعجبك ذلك؟ - سوف يعجبني. إني معجب به الآن، ولكني عاجز عن التفكير فيه. إنك تعلمين حالتي حين أكون قلقا. - ألن تقلق أبدا لو أنني فعلتها؟ - لن أقلق على ذلك. لأنها بسيطة جدا. - إذن سأفعلها. لأنني لا تهمني نفسي. - ماذا تعنين؟ - إنني لا تهمني نفسي. - حسن. أنا أهتم بك. - آه، أجل. ولكن لا تهمني نفسي. وسأفعلها، وسيكون كل شيء على ما يرام. - أريدك ألا تفعليها إن أنت رغبت في ذلك.
ونهضت الفتاة وسارت حتى نهاية المحطة. وعلى الجانب الآخر، كانت هناك حقول القمح وأشجار تقوم على ضفتي نهر «الإبرو»، وثمة جبال على البعد القصي خلف النهر. وتحركت ظلال سحابة فوق حقل القمح، وشاهدت الفتاة النهر من خلال الأشجار.
قالت: سيكون بإمكاننا أن نحصل على كل هذا. سيكون بإمكاننا أن نحصل على كل شيء ونجعل الأمر أكثر استحالة يوما عن يوم. - ماذا تقولين؟ - أقول سيكون بإمكاننا أن نحصل على كل شيء. - أجل يمكننا الحصول على كل شيء. - كلا، ليس بإمكاننا ذلك. - بإمكاننا أن نحصل على الدنيا كلها. - كلا. - بإمكاننا أن نذهب إلى أي مكان. - كلا، لا نستطيع ذلك. لم تعد دنيانا بعد. - إنها دنيانا. - كلا. وإذا أخذوها منك مرة، فإنك لا تستعيدها أبدا بعد ذلك. - ولكنهم لم يأخذوها. - سننتظر ونرى.
قال: تعالي إلى الظل. يجب ألا تفكري بهذه الطريقة.
فقالت الفتاة: إني لا أفكر في شيء. إني أعرف الأشياء ليس إلا. - لا أريدك أن تفعلي شيئا لا ترغبين فيه.
قالت: ولا هذا أيضا. إني أعرف. هل نتناول مزيدا من البيرة؟ - حسن. ولكن يجب أن تدركي.
فقالت الفتاة: إني أدرك. ألا يمكن أن نكف عن الحديث؟
وجلسا إلى المائدة، ونظرت الفتاة إلى التلال على الجانب الجاف من الوادي. ونظر الرجل إليها وإلى المائدة.
قال: يجب أن تدركي أنني لا أريدك أن تفعليها إن لم تكوني تريدين ذلك. إنني على استعداد تام لتحمل الأمر لو أنه يعني أي شيء بالنسبة لك. - ألا يعني أي شيء بالنسبة لك؟ يمكننا أن نتحمل. - بالطبع يعنيني. ولكني لا أريد أحدا سواك. لا أريد أحدا آخر، وإني أعلم أنها عملية بسيطة للغاية. - أجل أنت تعلم أنها بسيطة للغاية. - إنه مجرد شيء تقولينه، ولكني أعلم تماما. - هل لك أن تسدي لي معروفا الآن؟ - إني أفعل أي شيء من أجلك. - أرجوك أرجوك أرجوك أرجوك أرجوك أرجوك أن تكف عن الكلام.
ولم يقل شيئا بل نظر إلى الحقائب المسندة إلى جدار المحطة. كانت عليها بطاقات الفنادق التي قضيا فيها لياليهما.
قال: ولكني لا أريدك أن تفعليها. لا يهمني أي شيء.
قالت الفتاة: سأصرخ.
وأقبلت المرأة من بين ستارة الخرز ومعها زجاجتان أخريان من البيرة، ووضعتهما على طبقين من الفلين الندي.
قالت المرأة: سيصل القطار في خلال خمس دقائق.
فسألت الفتاة: ماذا قالت؟ - إن القطار سيصل في خلال خمس دقائق.
وابتسمت الفتاة للمرأة في بهاء شاكرة لها.
قال الرجل: يحسن أن أحمل الحقائب إلى الجانب الآخر من المحطة.
وابتسمت له، ثم قالت: حسن. وتعال بعدها لنشرب البيرة.
والتقط الحقيبتين الثقيلتين وحملهما حول المحطة إلى الجانب الآخر. ونظر على طول الطريق ولكنه لم ير أي قطار قادم. وعاد وسار عبر غرفة البار حيث كان بها المسافرون المنتظرون يشربون. وشرب كأسا من «الأنيس» على البار وتطلع إلى الناس. كانوا جميعا ينتظرون القطار في وقار. وخرج عن طريق الستارة الخرز. وكانت الفتاة تجلس إلى المائدة تبتسم له.
سألها: هل تشعرين بتحسن؟
قالت: إني على ما يرام. لا شيء بي. إني على ما يرام.
قصة أفريقية
كان ينتظر بزوغ القمر وأحس بشعر «كيبو» ينتصب تحت يده إذ هو يربت عليه كي يبقى هادئا. وتطلع كلاهما وأنصتا والقمر يبزغ ويلقي ظليهما على الأرض. كانت ذراعه الآن حول رقبة الكلب وكان يحس به يرتجف. كان كل صوت في الليل قد توقف. ولم يسمعا الفيل ولم يره «ديفيد» إلى أن أدار الكلب رأسه وبدا كأنه يقع في حجره. وعندها غطاهما ظل الفيل وعبر دون أن يصدر صوتا على الإطلاق وشما رائحته في الريح الخفيفة التي جاءت من ناحية الجبل. كانت رائحة نفاذة وإن كانت عتيقة.
وحين مر الفيل رأى ديفيد أن نابه العاجي طويل جدا حتى إنه بدا وكأنه يلامس الأرض.
وانتظرا. بيد أنه لم يظهر أي فيل آخر. ثم بدأ ديفيد والكلب يجريان تحت ضوء القمر. وبقي الكلب وراءه على مقربة منه، وحين توقف ديفيد ألصق الكلب خطمه في خلفية ركبته.
وكان على ديفيد أن يرى الفيل ثانية. ولقياه عند حافة الغابة. كان يرتحل تجاه الجبل ويتحرك في بطء عبر نسمة الليل الرتيبة. واقترب ديفيد منه بما يكفي لأن يراه يحتجز ضوء القمر مرة ثانية وأن يشم رائحة العتاقة الحريفة، ولكنه لم يتمكن من رؤية نابه اليمين. كان يخشى أن يقترب أكثر مع الكلب، فعاد معه مع هبوب الريح، ودفع به إلى جذع شجرة وحاول أن يجعله يتفهم الأمر. واعتقد أن الكلب سيبقى في مكانه، وقد بقي فعلا، ولكن حين تحرك ديفيد ناحية كتلة الفيل شعر بالخطم المبلل خلف ركبته مرة أخرى.
وتبع الاثنان الفيل إلى أن وصل إلى بقعة خالية من الأشجار. وتوقف هناك يحرك أذنيه الهائلتي الحجم. كانت كتلته لا تلقي أي ظل، فلا بد أن ضوء القمر يسقط عموديا عليه. ووصل ديفيد خلفه وأغلق فكي الكلب بيده في رفق، ثم تقدم بخفة دون أن يتنفس إلى يمين الفيل، مع هبات نسمة الليل يشعر بها على خده، يتبعها ولا يدعها أبدا تقف بينه وبين كتلة الفيل إلى أن استطاع أن يرى رأس الفيل والأذنين الكبيرتين تتحركان. كان ناب اليمين سميكا كفخذه هو، ومقوسا يكاد يلامس الأرض.
وتحرك هو وكيبو إلى الخلف والريح تهب على رقبته الآن، واقتفيا الأثر للعودة خارج الغابة إلى المنطقة المكشوفة. كان الكلب يتقدمه الآن، وتوقف حيث كان ديفيد قد ترك حربتي صيد مغروستين على حافة الطريق قبل أن يتتبعا الفيل. ورفع الحربتين على كتفه في جرابهما الجلدي المضفر، ومعه حربته الأثيرة التي أبقاها في يده طوال الوقت، وتبعا الطريق المؤدي إلى الشامبا.
1
كان القمر قد أصبح في كبد السماء الآن، وتعجب من عدم وجود أي صوت للطبول يصدر من المزرعة. كان الأمر غريبا؛ إذ كان والده في المزرعة وليس هناك صوت لأي طبول.
وشعر ديفيد بالتعب حالما عاد إلى ذلك الطريق مرة ثانية مع والده ومع «جمعة». كان قد شعر لمدة طويلة أنه أكثر انتباها وأفضل حالا من الرجلين اللذين معه، ولا يصبر على خطواتهما البطيئة والتوقفات المنتظمة التي يقوم بها والده كل ساعة. كان بوسعه أن يسير قدما بسرعة أكبر من جمعة ومن والده، ولكن حين بدأ يشعر بالتعب كانا هما على نفس وضعهما السابق، وعند الظهيرة لم يأخذا سوى راحة الخمس دقائق المعتادة. ورأى أن جمعة يزيد من سرعة خطوته قليلا. ربما لم يكن ذلك صحيحا. ربما بدت له خطوته أسرع قليلا ليس إلا، ولكن روث الفيل كان أكثر طزاجة الآن، مع أنه لم يكن دافئ الملمس. وأعطاه جمعة البندقية ليحملها بعد أن وصلوا إلى آخر كومة روث، ولكن بعد ساعة نظر إليه وأخذ منه البندقية مرة أخرى. كانوا يصعدون في السير عبر منحدر من الجبل، ولكن الطريق كان يهبط الآن، ومن خلال فجوة في الغابة رأى أمامه الأرض الوعرة.
قال والده: هنا يبدأ الجانب الصعب يا ديفي.
وعند ذلك أدرك أنه كان يجب عليهما أن يعيداه إلى المزرعة بعد أن أوضح لهما الطريق. كان جمعة يعرف ذلك منذ وقت طويل، ووالده يعرفه الآن، ولكن لا يمكن عمل أي شيء بشأنه. كانت غلطة أخرى يرتكبها، وليس أمامه شيء يفعله الآن سوى المقامرة أن يكون حظه سعيدا.
وتطلع ديفيد من أعلى على الدائرة المستوية الكبيرة لأثر قدم الفيل، ورأى المكان الذي انضغطت فيه النباتات، وحيث كان ساق عشب بري مقطوع يذبل. والتقطه جمعة ونظر إلى الشمس. وناول جمعة العشب المقطوع لوالد ديفيد، ولفه والده حول أصابعه. ولاحظ ديفيد الأزهار البيضاء مائلة تذوي. ولكنها لم تذبل تحت الشمس ولا نفضت عنها نواراتها.
قال والده: لا بد أنه مريع. هيا بنا.
وعند أواخر الأصيل كانوا ما يزالون يقتفون الأثر خلال الأرض الوعرة. كان النعاس يسيطر على ديفيد الآن منذ وقت طويل، وحين تطلع إلى الرجلين عرف أن الشعور بالنوم هو عدوه الحقيقي، وتتبع خطاهما وحاول أن يتحرك نافضا عنه النعاس الذي يصيبه بالخمول. وتناوب الرجلان اقتفاء أثر الطريق كل ساعة، وكان الذي في الخلف ينظر وراءه إلى ديفيد في فترات منتظمة؛ ليتحقق أنه معهم. وحين أقاما مخيما في العراء بعد أن حل الظلام في الغابة استغرق في النوم حالما جالسا، وصحا على منظر جمعة يحمل حذاءه ويتحسس قدميه العاريتين بحثا عما فيهما من تقرحات. كان والده قد بسط معطفه فوق ديفيد وجلس إلى جواره، ومعه قطعة من اللحم المطبوخ البارد وقطعتان من البسكويت، وقدم له شايا باردا في زجاجة مياه.
قال والده: يجب أن تأكل يا دافي. قدماك في حالة جيدة. إنهما عفيتان مثل قدمي جمعة. كل هذا ببطء واشرب بعض الشاي ثم عد إلى النوم مرة ثانية. ليست عندنا أي مشكلة. - إني آسف لأن النوم كان يغالبني. - لقد اصطدت ورحلت أنت وكيبو الليلة الماضية، فكيف لا تكون نعسانا؟ بوسعك أخذ مزيد من اللحم إذا رغبت. - أنا لست جائعا. - حسنا. لدينا ما يكفي لثلاثة أيام. وسوف نصل إلى الماء ثانية غدا. كثير من الجداول تهبط عبر الجبل. - إلى أين ذهب الفيل؟ - يعتقد جمعة أنه يعرف. - أليس ذلك بالأمر السيئ؟ - ليس الأمر بالغ السوء يا ديفي.
قال ديفيد: سأعود إلى النوم. إني لا أحتاج إلى معطفك.
قال والده: أنا وجمعة على ما يرام. إني أشعر بالدفء حين أنام.
كان ديفيد قد نام بالفعل حتى قبل أن يقول له والده ليلة طيبة. ثم استيقظ مرة حين سقط ضوء القمر على وجهه، وجال بخاطره منظر الفيل وهو يتحرك بأذنيه الكبيرتين حين كان واقفا في الغابة ورأسه يميل إلى أسفل بفعل ثقل نابيه. واعتقد ديفيد عندها في الليل أن الشعور بالخواء الذي انتابه حين تذكر الفيل يرجع إلى أنه استيقظ جائعا. ولكن ذلك لم يكن هو السبب، وعرف ذلك خلال الأيام الثلاثة التالية.
كان اليوم التالي بالغ السوء؛ لأنه عرف قبل الظهيرة بكثير أن الحاجة إلى النوم ليست هي الشيء الوحيد الذي يميز الصبي عن الرجل. كان هو أكثر نشاطا منهما خلال الساعات الثلاث الأولى، وطلب من جمعة أن يحمل البندقية عيار 303، ولكن جمعة هز رأسه. لم يبتسم، وكان دائما أفضل أصدقاء ديفيد وعلمه كيف يصطاد. وجال بخاطر ديفيد: إنه قدمها لي بالأمس، وأنا اليوم في حالة أفضل مما كنت عليه بالأمس. كذلك كانت حالته هو أيضا، ولكن ما إن حانت الساعة العاشرة حتى عرف أن اليوم سيكون سيئا مثل الأمس أو أكثر سوءا.
كان من الحمق أن يظن أنه يستطيع أن يقتفي الأثر مع والده، مثلما يظن أنه يستطيع أن يتشاجر معه. وعرف أيضا أن الأمر لا يعود إلى كونهما رجلين كبيرين فحسب، فهما صيادان محترفان. وعرف الآن أن هذا هو السبب في أن جمعة لا يسرف في أي شيء يفعله، حتى لو كان ابتسامة. كانا يعرفان كل شيء قام به الفيل، وأوضحا الدليل على ذلك كل منهما للآخر دون أن يتكلما، وحين يصبح اقتفاء الأثر صعبا كان والده دائما يترك لجمعة اتخاذ القرار. وحين توقفوا ليملئوا زجاجات المياه من جدول قال والده: «تحمل هذا اليوم فقط يا ديفي.» وحين خلفوا الأرض الوعرة وراءهم وصعدوا نحو الغابة توجهت آثار الفيل تجاه اليمين في مسار فيل آخر، ورأى والده وجمعة يتحادثان، وحين أدركهما وجد جمعة ينظر خلفه إلى الطريق الذي اتخذوه، ثم يتطلع بعيدا أمامه نحو مجموعة من التلال الصخرية وسط طريق جاف، وبدا كأنه يبحث عن وجهته من قمم ثلاثة تلال بعيدة زرقاء وراء الأفق.
وشرح الوالد: «جمعة يعرف الآن أين يذهب. كان يظن أنه قد عرف قبل ذلك ولكنه وقع على هذا الطريق (ونظر خلفه إلى الطريق الذي قطعوه طوال اليوم)، الطريق الذي يسير فيه الآن جيد جدا ولكن علينا أن نرتقبه صعودا.»
وصعدوا إلى أن حل الظلام، وعندها أقاموا مخيما آخر في الظلام. واصطاد ديفيد طائرين بنبلته
2
من بين سرب صغير عبر الطريق قبل غروب الشمس مباشرة. كانت الطيور قد سارت على الطريق القديم الذي سلكه الفيل كيما تنفض الغبار عنها، تمشي بأناقة وثقل، وحينما قصفت الحصاة إحداها وبدأ الطائر يرف ويضرب بجناحيه متلاطما، وجرى طائر آخر إليه ينقره، وضع ديفيد حصاة أخرى وجذبها إلى آخرها ثم أطلقها نحو أضلاع الطائر الثاني. وحين جرى لكي يضع يده فوقه طارت بقية الطيور الأخرى بعيدا. وكان جمعة ينظر خلفه وابتسم هذه المرة، والتقط ديفيد الطائرين دافئين سمينين ذوي ريش أملس، وضرب رأسيهما على مقبض سكين صيده. وبعدها قال والده حيث كانوا قد أقاموا مخيمهم لليل: إني لم أر أبدا هذا النوع من الطيور في مثل هذه الأعالي. لقد أحسنت بحصولك على زوج منها.
وطبخ جمعة الطائرين بعد أن رشقهما في عصا فوق نيران جمرات صغيرة. وشرب والده ويسكي بالماء من قدح غطاء قنينته، ورقدا يرقبان جمعة وهو يطبخ. وبعد ذلك أعطى جمعة لكل واحد منهما صدر طائر وبه القلب، وأكل هو عنق الطائرين وظهريهما وأرجلهما.
قال والده: إن ذلك عظيم الفائدة يا ديفي. إن لدينا زادا طيبا جدا الآن.
وسأل ديفيد: كم نبعد عنه الآن؟
قال والده: إننا قريبون جدا. إن ذلك يعتمد على ما إذا كان يرتحل حين يظهر القمر أم لا. هذا يعني ساعة أخرى هذا المساء وساعتين منذ رأيته أنت. - لماذا يعتقد جمعة أنه يعرف طريقه؟ - لقد جرحه وقتل صديقه على مقربة من هنا. - ومتى حدث ذلك؟ - يقول إن ذلك حدث منذ خمس سنوات. هذا يعني أي وقت. يقول حين كنت أنت طفلا. - وهل أصبح الفيل وحيدا منذ ذلك الوقت؟ - إنه يقول ذلك. هو لم يره بعد ذلك. سمع عنه فحسب. - ماذا يقول عن حجمه؟ - يقارب المائتين. أكبر من أي شيء رأيته. يقول إنه لا يوجد إلا فيل واحد أكبر منه، وهو من نفس هذه المنطقة أيضا.
قال ديفيد: يحسن بي أن أنام. أرجو أن أشعر بتحسن غدا.
قال والده: لقد كنت عظيما اليوم. إني جد فخور بك. وجمعة أيضا.
وفي الليل استيقظ حين سطع القمر، وكان على يقين بأنهما لم يكونا فخورين به إلا لمهارته في اصطياد الطائرين. لقد عثر على الفيل ليلا وتتبعه؛ كيما يرى أن لديه نابيه الاثنين ثم عاد باحثا عن الرجلين ليدلهما على الطريق. وعلم ديفيد أنهما فخوران بذلك. ولكن ما إن بدأت الرحلة القاتلة، أصبح بلا فائدة لهما، ويمثل خطرا على نجاحهما مثلما كان كيبو بالنسبة له حين اقترب من الفيل خلال ظلمة الليل، وعرف أن كلا من الرجلين يندم بشدة لأنهما لم يحملاه على العودة حين كان الوقت مناسبا لذلك. كان نابا الفيل يزنان مائتي رطل للواحد منهما. ومنذ أن نما هذان النابان فوق حجمهما الطبيعي أصبح الفيل هدفا للصيد، وسوف يقتله ثلاثتهم الآن من أجلهما.
كان ديفيد واثقا أنهما سيقتلان الفيل الآن؛ لأنه - أي ديفيد - قد تحمل اليوم بطوله وتحامل بعد أن دمره السير بحلول الظهيرة. ولذلك فمن المحتمل أنهما كانا فخورين به أن قام بذلك. بيد أنه لم يسهم بشيء مفيد في عملية الصيد، وكان من الأفضل لهما بكثير ألا يكون معهما. وقد تمنى مرات كثيرة خلال اليوم ألا يكون قد خان الفيل، وعند الأصيل تذكر أنه تمنى ألا يكون قد رآه قط. وأدرك وهو مستيقظ تحت ضوء القمر أن ذلك غير صحيح.
وفي اليوم التالي كانوا يقتفون آثار الفيل على طريق قديم للأفيال يابس التربة يشق الغابة. كان يبدو كما لو أن الأفيال قد رحلت عبره منذ أن بردت الحمم من على الجبل، وبدأت الأشجار تنمو عاليا بالقرب منه.
كان جمعة واثقا من نفسه وبدءوا يتحركون بسرعة. كان والده وجمعة يبدوان على ثقة من نفسيهما ، والسير على طريق الأفيال سهلا حتى إن جمعة أعطاه البندقية ليحملها حين وصلوا إلى المكان الذي لا ينفذ الضوء إليه في الغابة. وعندئذ فقدوا الأثر من جراء أكوام تبخر من روث طازج، وآثار أقدام مسطحة دائرية لقطيع من الأفيال سارت في ذلك الطريق من الغابة الكثيفة التي تقع على يسار الأثر. وأخذ جمعة البندقية من ديفيد في غضب. وعند الظهر وصلوا عند القطيع ومن حوله، ورأوا الكتل الرمادية عبر الأشجار وحركات الآذان الضخمة والزلومات تبحث ملتفة وغير ملتفة، وسمعوا صوت الأغصان تتحطم، وانكسار الأشجار، ودمدمة بطون الأفيال، وصوت الروث وهو يسقط على الأرض.
ووجدوا أخيرا طريق الفيل العجوز. وحين انحرف الأثر إلى طريق أصغر نظر جمعة إلى والد ديفيد مبتسما فظهرت أسنانه المصفوفة، ونغض والده رأسه وظهرا كأنما يتشاطران سرا قذرا، تماما كما ظهرا حين وجدهما تلك الليلة في المزرعة.
ولم يطل بهما الأمر أن عثرا على السر. كان موجودا في الغابة على اليمين قليلا، وهدتهما إليه آثار الفيل العجوز. كانت جمجمة عالية تصل إلى صدر ديفيد، بيضاء من الشمس والمطر. كان بها غور عميق في الجبهة، ثمة فلق يجري بين محجري العين الفارغين الأبيضين وينتثر في ثقوب مكسورة فارغة مكان النابين اللذين جرى قطعهما.
وأشار جمعة إلى المكان الذي توقف فيه الفيل الضخم، بينما كان ينظر إلى الجمجمة وإلى المكان الذي دفعتها إليه زلومة الفيل على مبعدة قليلة من البقعة التي كانت بها سابقا، وحيث لمس ناباه الأرض بجوار الجمجمة. وبين لديفيد الثقب الوحيد في الغور العميق في العظام البيضاء للجبهة ثم الثقوب الأربعة المتجاورة في العظمة المحيطة بثقب الأذن. وابتسم لديفيد ولوالده، وأخرج طلقة بندقية من جيبه وأرسى طرفها في ثقب عظمة الجبهة.
قال والده: لقد جرح جمعة الفيل الكبير في هذا المكان. كان أحد جنود الفيل صاحب هذه الجمجمة. صديقه في الواقع؛ لأنه كان هو الآخر فيلا كبيرا. وقد هاجم جمعة فأوقع به ثم أنهى عليه بطلقة في الأذن.
وكان جمعة يشير إلى العظام المتناثرة وكيف مشى الفيل الضخم بينها. كان جمعة ووالده مسرورين جدا بما وجداه.
سأل ديفيد والده: كم من الوقت تظن أنه ظل مع صديقه الفيل الآخر؟
قال والده: ليست عندي أي فكرة. اسأل جمعة. - اسأله أنت من فضلك.
وتحادث والده مع جمعة، ونظر جمعة إليه وضحك. وأخبره والده: ربما بمقدار أربعة أضعاف عمرك. إنه لا يعرف، أو لا يهتم بالأمر.
وجال في خاطر ديفيد: أنا أهتم بذلك الأمر. فقد رأيته في ضوء القمر وكان وحده، ولكني كنت مع كيبو. وكيبو كان معي. ولم يكن الفيل يقوم بأي ضرر، وها نحن الآن نتعقبه بعد أن جاء ليرى صديقه الميت، وسوف نقتله هو الآن. إنها غلطتي. لقد خنته.
والآن، حدد جمعة أثر الطريق وأشار لوالده وانطلقا.
وجال بخاطر ديفيد: لا حاجة لوالدي أن يقتل أفيالا كيما يعيش. لم يكن بوسع جمعة أن يعثر على الفيل لو أنني لم أره. لقد أتيحت له الفرصة لصيده ولكنه لم يفعل إلا أن أصابه بجروح وقتل صديقه. وجدناه أنا وكيبو ولم يكن من الواجب علي أن أخبرهما، بل أن أحتفظ بسره ويكون لي وحدي دائما وأدعهما سكارى من شرب البيرة في المزرعة. كان جمعة ثملا إلى حد لم تستطع معه إيقاظه. وسوف أحتفظ بكل شيء سرا على الدوام. لن أقول لهما أي شيء بعد ذلك أبدا. لو قتلا الفيل فإن جمعة سوف ينفق نصيبه من ثمن العاج على الشراب، أو يبتاع لنفسه زوجة أخرى. لماذا لم تساعد الفيل حين كان ذلك بإمكانك؟ كل ما كان عليك أن تفعله هو ألا تذهب معهما في اليوم الثاني. كلا، لم يكن هذا ليمنعهما. كان جمعة سيستمر. كان يجب عليك ألا تخبرهما أبدا، أبدا. حاول أن تتذكر ذلك. لا تقل لأي شخص أي شيء أبدا. لا تقل لأي شخص أي شيء مرة أخرى أبدا.
وانتظر والده إلى أن لحق بهما، وقال برقة بالغة: لقد استراح هنا. إنه لا يسير كما كان قبلا. سوف نلحق به في أي وقت الآن.
قال ديفيد بهدوء شديد : اللعنة على صيد الأفيال.
قال له والده وهو ينظر إليه ببرود: احذر أن تفسد الأمر.
جال بخاطر ديفيد: إن الأمر مؤكد. إنه ليس غبيا. إنه يعلم كل شيء الآن ولن يثق به ثانية. هذا حسن. لا أريده أن يثق بي؛ لأنني لن أخبره ولا أي شخص آخر أي شيء أبدا مرة ثانية، أي شيء مرة ثانية أبدا. أبدا أبدا مطلقا.
وفي الصباح كان عند المنحدر الأقصى من الجبل مرة أخرى. ولم يكن الفيل بعد مرتحلا كما كان سابقا، بل كان يتحرك بلا هدف الآن، ويتغذى أحيانا، وكان ديفيد يعلم أنهم يقتربون منه.
وحاول أن يتذكر كيف كان شعوره. لم يكن يكن الحب للفيل بعد، لا بد أن يتذكر ذلك. كان ينتابه شجن فحسب نتيجة تعبه، وهو ما جعله يتعاطف مع حالة كبر السن. فعن طريق صغره في السن تعلم كيف يكون الأمر عند التقدم في العمر.
وأحس بالوحدة دون كيبو وتفكر كيف أن قيام جمعة بقتل صديق الفيل قد جعله يكره جمعة وجعل الفيل أخا له. وعرف عندها كم كان مهما بالنسبة له أن رأى الفيل في ضوء القمر وتبعه، واقترب منه كثيرا حتى إنه رأى نابيه الهائلين. ولكنه لم يعرف أنه لن يكون هناك شيء جميل كهذا بعد ذلك أبدا. كان يعرف الآن أنهما سيقتلان الفيل وأنه ليس بوسعه القيام بأي شيء بشأن هذا الأمر. لقد خان الفيل حين عاد إلى المزرعة وأخبرهما بوجوده. وجال بخاطره: إنهما ليقتلاني ويقتلان كيبو لو كان لنا عاج. وعرف أن ذلك غير صحيح.
ربما سيعثر الفيل على مكان مولده وهما سيقتلانه هناك. كان هذا ما ينقص كي يجعلا الأمر كاملا! كانا يفضلان أن يقتلاه في المكان الذي قتلا فيه صديقه. كان ذلك ليملؤهما نشوة. كان ذلك ليفعمهما سرورا. قاتلا الصديق الملعونان.
كانا قد تحركا الآن نحو الحافة ذات الستار الكثيف، وكان الفيل قريبا. كان بوسع ديفيد أن يشمه، وكلهم يمكنهم سماعه يسقط فروع الأشجار، وصوتها وهي تتكسر. ووضع الوالد يده على كتف ديفيد كي يوقفه في المؤخرة ويجعله ينتظر في الخارج، ثم تناول حفنة كبيرة من الرماد من الكيس الذي في جيبه ونثرها في الهواء. وانحرف الرماد قليلا في اتجاههما حين سقط، وأشار والده برأسه إلى جمعة، وانحنى كيما يتبعه داخل الساتر الكثيف. وتطلع ديفيد إلى ظهريهما ومؤخرتيهما تدخل وتغيب عن الأنظار.
كان ديفيد واقفا لا يتحرك، واستمع إلى الفيل وهو يأكل. كان بوسعه أن يشمه بقوة تماثل القوة التي شمه بها ليلة ضوء القمر، حين كان قريبا منه ورأى نابيه الرائعين. ثم ساد الصمت وهو واقف هناك ولم يعد بوسعه أن يشم الفيل. ثم سمع عويلا وأصوات حطام وطلقة من البندقية عيار 303، ثم طلقة والده الثنائية الثقيلة عيار 450، ثم تواصل التحطيم والتهشيم متباعدا بطريقة تدريجية، وذهب هو إلى حيث كانا، ووجد جمعة مرتاعا ينزف من جبهته والدم يغطي وجهه، ووالده غاضب شاحب اللون.
قال والده: «لقد أصبناه في الرئة والمعدة.» وأضاف: «ستجده راقدا أو ساكنا، أرجو ذلك.»
ووجده ساكنا، يعاني في يأس لدرجة لا يتمكن معها من الحركة. كان قد اصطدم بالساتر الكثيف الذي كان يأكل فيه، وعبر طريقا في الغابة المفتوحة، وجرى ديفيد ووالده على طول الطريق الملطخ بالدماء الغزيرة. كان الفيل قد توجه إلى الغابة الكثيفة ورآه ديفيد أمامهما يقف رماديا هائلا مستندا إلى جذع إحدى الأشجار. ولم يكن بوسع ديفيد أن يرى سوى ذيله، وبعدها تقدم والده وتبعه ديفيد ووصلا إلى جوار الفيل الذي بدا كأنه سفينة، ورأى ديفيد الدماء تسيل من جنباته وتخر إلى أسفل، ثم رفع والده البندقية وأطلق النار، وأدار الفيل رأسه، وناباه الهائلان يتحركان بثقل وبطء ونظر إليهما. وحين أطلق والده الشحنة الثانية بدا الفيل كأنه يترنح كالشجرة الساقطة وهوى على الأرض تجاههما. ولكنه لم يكن ميتا. كان قد استكن وها هو الآن يرقد على الأرض مكسور الكتف. لم يتحرك، ولكن عينه كانت حية ونظر إلى ديفيد. كانت رموشه طويلة جدا، وكانت عينه أكثر شيء حي رآه ديفيد في حياته.
قال والده: أطلق عليه النار في ثقب أذنه من بندقية 303، هيا.
قال ديفيد: افعل أنت ذلك.
وجاء جمعة يعرج تغطيه الدماء، وجلد جبهته ساقط على عينه اليسرى، وعظمة أنفه مكشوفة، وإحدى أذنيه ممزقة ، وتناول البندقية من ديفيد دون أن يتكلم ودفع فوهتها داخل ثقب الأذن تقريبا وأطلق النار مرتين وهو يهز المتراس ويدفع به إلى الداخل في غضب. وانفتحت عين الفيل على اتساعها عند الطلقة الأولى، ثم بدأت تلمع كالزجاج، وانبثق الدم من الأذن وانسال في خطين ظاهرين على الجلد الرمادي المتغضن. كان لون الدم مختلفا، وجال بخاطر ديفيد: يجب أن أتذكر هذا. وتذكره دوما ولكن لم يجد ذلك نفعا له قط. والآن، كانت كل هيبة الفيل وجلاله وكل جماله قد ذهبت عنه وأصبح مجرد كومة مغضنة ضخمة.
قال والده: حسنا. لقد أوقعنا به يا ديفي، بفضلك. والآن يجب أن أوقد بعض النيران حتى أتمكن من تضميد جراح جمعة. هيا، تعال هنا يا «همبتي دمبتي»
3
الدامي. بإمكان العاج أن ينتظر.
وذهب إليه جمعة مبتسما، ومعه ذيل الفيل الذي كان خاليا من أي شعر على الإطلاق. وحكيا مزحة بذيئة، ثم بدأ والده يتحدث بالسواحيلية في سرعة. كم يبعد مكان المياه عنهم؟ أين يتعين الذهاب لجلب أناس لحمل النابين من هنا؟ كيف حالك أيها الخنزير العجوز اللعين التافه؟ ماذا انكسر من جسدك؟
وقال والده بعد أن عرف إجابة تلك الأسئلة: سوف نعود أنت وأنا لإحضار الحقائب من حيث تركناها. بإمكان جمعة أن يحضر الأخشاب ويوقد النار. إن معداتي الطبية موجودة في حقيبتي. علينا إحضار الحقائب قبل حلول الظلام. لن تتعفن جراحه. إنها ليست من مخالب الفيل. هيا بنا.
وذلك المساء، حين جلس ديفيد بجوار النيران وتطلع إلى جمعة بوجهه المليء بالغرز وأضلاعه المحطمة، تساءل ما إذا كان الفيل قد تعرف عليه حين حاول قتله. وخامره أمل أن يكون الأمر كذلك. لقد أصبح الفيل بطله الآن، كما كان والده لفترة طويلة من قبل. وجال بخاطره: لم أكن أصدق أن بإمكانه أن يفعل ذلك بعد أن شاخ وناله التعب . كان يمكنه أن يقتل جمعة أيضا. ولكنه لم ينظر لي نظرة من ينوي قتلي، بل نظر لي نظرة حزينة، نفس الحزن الذي كنت أشعر به. لقد زار صديقه القديم في اليوم نفسه الذي مات فيه.
وتذكر ديفيد كيف أن الفيل قد فقد هيبته كلها حالما توقفت عينه عن الحياة، وكيف أنه حين عاد هو ووالده بالحقائب كان جسد الفيل قد بدأ ينتفخ بالفعل رغم برودة المساء. لم يعد هناك فيل حقيقي. مجرد الجسم الميت المنتفخ المتغضن الرمادي والنابين الهائلين ذوي اللونين البني والأصفر اللذين قتلاه من أجلهما. كان النابان ملطخين بالدماء الجافة، وكشط ديفيد قطعة من هذه الدماء بظفر إبهامه كأنها قطعة جافة من شمع الأختام، ووضعها في جيب قميصه. كان هذا كل ما أخذه من الفيل عدا بداية إدراكه لمعنى الوحدة.
وبعد المجزرة، حاول والده أن يتحدث معه تلك الليلة إلى جوار النيران، قال: إنك تعلم يا ديفي أنه كان قاتلا. يقول جمعة إنه لا أحد يعلم كم قتل من الناس. - كان كلهم يحاولون قتله، أليس كذلك؟
قال والده: بالطبع. مع ما لديه من زوج النياب! - إذن كيف يمكن اعتباره قاتلا؟
قال والده: كما تحب. إني آسف لأن الأمور مختلطة عليك بالنسبة له.
قال ديفيد: أود لو أنه كان قد قتل جمعة.
قال والده: أعتقد أنك بذلك تحمل الأمور أكثر مما يجب. إن جمعة صديقك. - لم يعد صديقي. - لا ضرورة لأن تقول له ذلك.
قال ديفيد: إنه يعرف.
قال والده: أعتقد أنك تسيء الحكم عليه.
وتركا الموضوع عند ذلك الحد.
وبعد ذلك، عادوا أخيرا سالمين مع النابين بعد كل ما حدث من أشياء، وكان النابان مستندين إلى جدار البيت المصنوع من العصي والطين، مستندين هناك يتلامس طرفاهما؛ النابان طويلان وسميكان لدرجة لا يصدقها أي شخص، حتى ولو لمسهما بيده، ولا يستطيع أحد، ولا حتى والده، أن يصل إلى المنحنى حيث يلتويان ليلتقي طرفاهما؛ هناك حيث أصبح جمعة ووالده وهو أبطالا، وأصبح كيبو كلب بطل، وأصبح الرجال الذين حملوا النابين أبطالا؛ أبطالا نصف سكارى، أو سيصبحون سكارى. وقال والده: هل تريد أن نتصالح يا ديفي؟ قال: وهو كذلك، لأنه عرف أن هذا هو بداية سياسة عدم البوح بما يعرف قط، التي قرر أن يتبعها.
قال والده: إني سعيد جدا لذلك. إن هذا أبسط وأفضل كثيرا.
وظلا جالسين على المقاعد الواطئة تحت ظلال شجرة التين، والنابان يستندان إلى حائط الكوخ، وشربا البيرة من أقداح الفلين قدمتها لهما فتاة شابة وأخوها الأصغر، خادم الأبطال، إذ هما جالسين وسط الغبار إلى جوار كلب البطل البطولي الذي يمسك ديكا عجوزا جرى ترفيعه حديثا لدرجة الديك المفضل للبطل. وجلسا هناك يحتسيان البيرة بينما بدأت الطبلة الكبيرة تقرع دقاتها والرقص يتخذ مساره على إيقاعها.
مكان نظيف حسن الإضاءة
كان الوقت متأخرا، وقد غادر الجميع الحانة ما عدا رجلا عجوزا جلس في ظل شجرة تعكس أضواء الكهرباء. كان الطريق متربا أثناء النهار، أما في الليل فقد أزال الندى الغبار، وأحب العجوز أن يبقى حتى هذا الوقت المتأخر؛ لأن الهدوء كان يعم كل شيء. وكان النادلان داخل الحانة يدركان أن العجوز قد ثمل إلى حد ما. ورغم أنه كان زبونا طيبا فقد كانا يعلمان أنه إذا ثمل تماما فسوف يخرج دون أن يدفع الحساب؛ لذلك فقد ظلا يراقبانه ...
قال أحدهما للآخر: لقد حاول الانتحار في الأسبوع الماضي. - لماذا؟ - كان يائسا! - من لا شيء! - كيف عرفت أنه لا شيء؟ - لأنه يملك مالا كثيرا.
وجلسا معا إلى مائدة مجاورة بالقرب من باب الحانة. ونظرا إلى الصالة حيث الموائد خالية عدا تلك التي يجلس إليها العجوز في ظل أوراق الشجرة التي تميل ببطء مع النسيم ...
ودق العجوز بكوبه على الطبق، وذهب إليه النادل الشاب: ماذا تريد؟
ونظر إليه العجوز وقال: مزيدا من البراندي!
وقال النادل الشاب: أخشى عليك أن تثمل.
فنظر إليه العجوز نظرة استنكار، فدار النادل على عقبيه ليحمل إليه ما يريد. وفي طريق عودته قال لزميله المسن: إنه سيبقى طول الليل وأنا أشعر بالنعاس ... إنني لا أذهب لفراشي قبل الثالثة صباحا ... كان يحسن به أن يقتل نفسه في الأسبوع الماضي.
وتناول النادل زجاجة من البراندي وبطاقة حساب أخرى من مائدة الصراف في داخل الحانة، وخرج بهما إلى مائدة العجوز، ووضع البطاقة ثم ملأ الكوب بالبراندي، وقال للعجوز الأصم: كان يحسن بك أن تقتل نفسك في الأسبوع الماضي.
وأشار الرجل العجوز بأصبعه وقال: مزيدا!
فأفرغ النادل مزيدا من البراندي حتى سال من القدح وسقط على بطاقات الحساب.
قال العجوز: شكرا.
وأعاد النادل الشاب الزجاجة إلى داخل الحانة وجلس مرة أخرى إلى المائدة مع زميله المسن وقال له: إنه الآن قد ثمل.
فأجابه: إنه ثمل كل ليلة. - لماذا حاول أن يقتل نفسه؟ - من أين لي أن أعلم. - وكيف فعل ذلك؟ - حاول أن يشنق نفسه بحبل. - ومن أنقذه؟ - ابنة أخيه. - ولماذا أنقذوه؟ - خوفا على حياته. - كم يملك من المال؟ - الكثير. - لا بد أنه قد قارب الثمانين من عمره. - أعتقد أنه في الثمانين. - إني أتمنى لو عاد إلى بيته الآن. إني لا أذهب إلى فراشي قبل الثالثة صباحا كل يوم، ويا لها من ساعة يأوي فيها الإنسان لفراشه! - إنه يبقى هنا لأنه يحب ذلك. - إنه وحيد، أما أنا فلي زوجة تنتظرني. - وهو أيضا كانت له زوجة يوما ما. - إن الزوجة ليست بذات فائدة له الآن. - من أدراك، قد يكون أفضل حالا لو كانت معه زوجة. - إن ابنة أخيه تعنى بحاله. - أعرف ذلك. لقد قلت لك إنها هي التي أنقذته. - أنا لا أتمنى أن أكون في مثل سنه، إن الكبر في السن شيء مزعج. - ليس دائما، فهذا العجوز رجل نظيف ويشرب دون أن يريق النبيذ حتى وهو ثمل، انظر إليه! - لا أريد أن أنظر إليه. كم أتمنى أن يعود إلى منزله! - إنه لا يلقي بالا للذين يعملون.
ونظر العجوز من فوق قدحه عبر الصالة المستديرة، ثم إلى النادلين، ونادى مشيرا إلى قدحه: مزيدا من البراندي!
وذهب إليه النادل الشاب المتلهف على العودة وقال له: خلاص! لا مزيد الليلة ... سنغلق!
وقال العجوز: كوبا آخر! - كلا ... خلاص!
ومسح النادل طرف المائدة بمنشفة وهو يهز رأسه، فنهض العجوز ببطء وعد بطاقات الحساب التي أمامه، ثم أخرج حافظة نقود جلدية من جيبه ودفع ثمن المشروبات، تاركا نصف «بيزيتة» كبقشيش. ونظر إليه النادل وهو يسير في الطريق ... رجل بالغ الهرم يسير مترنحا وإن يكن بوقار.
وسأل النادل المسن زميله وهما يغلقان مصاريع النوافذ: لماذا لم تدعه يبقى ويشرب ... إنها لم تكد تبلغ الثانية والنصف؟ - أريد أن آوي إلى فراشي. - وماذا في ساعة أخرى؟ - إنها أهم عندي عنها لديه. - إن ساعة زمن هي ساعة زمن! - إنك تتحدث كرجل عجوز أنت الآخر ... إن باستطاعته أن يشتري زجاجة يشربها في منزله. - إن ذلك مختلف. - نعم إن ذلك مختلف .. معك حق. - وأنت؟ ألا تخشى أن تعود لبيتك قبل ساعتك المعتادة؟ - أتحاول إهانتي؟ - كلا أيها الرجل، إنما أنا أمزح فقط.
وقال النادل المتعجل وهو ينهض بعد أن فرغ من إغلاق المصاريع المعدنية: «كلا، إني واثق من نفسي، إن كلي ثقة!»
قال النادل العجوز: إن لديك الشباب، والثقة، والعمل، أنت تملك كل شيء. - وماذا ينقصك أنت؟ - كل شيء إلا العمل. - إن لديك كل ما لدي. - كلا. لم أثق في شيء قط ... ثم إنني لست شابا. - هيا، فلنكف عن هذا الهراء ولنغلق المحل.
فقال النادل العجوز: أنا من الذين يحبون البقاء في الحانة حتى وقت متأخر، مع أولئك الذين لا يرغبون في العودة إلى الفراش، مع أولئك الذين يحتاجون للنور في الليل. - أما أنا فأريد العودة إلى منزلي وفراشي. - إننا على طرفي نقيض ... إنها ليست مسألة شباب وثقة فقط، مع أن هذه الأشياء جميلة. إني أبطئ في الإغلاق كل ليلة، فربما كان هناك أحد في حاجة إلى القهوة. - يا رجل، هناك حانات كثيرة تظل مفتوحة طوال الليل. - إنك لا تفهمني! هذه حانة نظيفة تشرح الصدر، إنها حسنة الإضاءة، والضوء شيء جميل!
قال النادل الشاب: سعدت مساء.
وبعد أن أطفأ النور، واصل النادل الآخر الحديث مع نفسه: «إن النور هو المهم طبعا، ولكن يلزم أيضا أن يكون المكان نظيفا بهيجا، الموسيقى غير ضرورية، لا حاجة للموسيقى بكل تأكيد، كما أن المرء لا يستطيع الشراب في إحدى الحانات مع الاحتفاظ بوقاره، رغم أن تلك الأماكن هي التي تبقى مفتوحة في مثل هذه الساعات ... مم يخاف؟ لم يكن خوفا أو خشية، بل هي لا شيئية يعرفها تمام المعرفة ... إن الأمر كله لا شيء، والإنسان أيضا لا شيء، إن الأمر كله كذلك، ولا يحتاج إلا إلى النور وبعض النظافة والترتيب. إن بعض الناس يعيشون في اللاشيء دون أن يشعروا أبدا بحقيقته ... أما هو فإنه كان يعلم أنه لا شيء ثم لا شيء، ولا شيء ثم لا شيء. لا شيئا الذي في اللاشيء، لا شيء اسمك، لا شيء ملكوتك، لتكن مشيئتك لا شيء في لا شيء، كما هي في اللاشيء، أعطنا هذا اللاشيء، لا شيئنا اليومي ... ولا تشيئنا في اللاشيء، بل نجنا من اللاشيء من أجل لا شيء! ... سلاما أيها اللاشيء المليء باللاشيء ... لا شيء معك.»
وابتسم الرجل، ووقف أمام إحدى الحانات في الطريق، حيث كانت ثمة آلة لصنع القهوة تعمل بضغط البخار. وسأله البارمان: ماذا تطلب؟
وأجابه: لا شيء!
فقال البارمان: مجنون آخر!
فقال النادل المسن: كأسا صغيرا ...
وصب له البارمان كأسا، وقال النادل: النور ساطع جدا، ولكن البار غير مصقول!
فنظر إليه البارمان دون أن يجيبه ...
كان الوقت متأخرا لتبادل مثل هذا الحديث ...
وسأله البارمان: أتريد شيئا آخر؟
فقال النادل: كلا، شكرا! ثم خرج.
كان يكره البارات والحانات، غير أن حانة نظيفة حسنة الإضاءة .. شيء مختلف تماما. والآن، بدون مزيد من التفكير سيعود إلى حجرته الموحشة، ويرقد على الفراش، ويستغرق في النوم أخيرا مع تباشير صباح جديد.
وقال لنفسه: على كل حال، قد تكون هذه إحدى حالات الأرق التي تصيب الكثيرين.
ثلوج كليمنجارو
كليمنجارو جبل تغطيه الثلوج، ارتفاعه 1971 قدما، ويقال إنه أعلى جبل في أفريقيا. وقمته الغربية تسمى «ماسي نجاج نجاج»، بيت الله. وإلى جوار القمة الغربية ثمة جثة فهد جافة متجمدة. ولم يفسر أحد ما كان الفهد ينشد في تلك الأعالي. •••
قال: الشيء المدهش أن الجرح غير مؤلم. وبذلك يعرف المرء متى يبدأ العفن. - أحقا؟ - بالتأكيد. ورغم ذلك فإني آسف للغاية على الرائحة. إنها لا بد تضايقك. - لا تقل هذا أرجوك. أرجوك.
قال: انظري إلى هذه الطيور. أهو المنظر أو الرائحة ما يجعلها تأتي على هذا النحو؟
كانت المحفة التي يرقد عليها الرجل تقع في الظل العريض الذي تلقيه شجرة «ميموزا»، وإذ كان يتطلع عبر الظل إلى وهج السهل، كان ثمة ثلاثة طيور ضخمة جالسة القرفصاء في بذاءة، بينما حفنة أخرى منها تحوم في السماء، ملقية ظلالا وهي تهرع في مرورها.
قال: لقد جاءت منذ أن انكسرت الشاحنة. واليوم هو أول مرة يهبط أي منها إلى الأرض. لقد راقبت طريقة طيرانها بدقة في البداية، فلربما احتجت إلى استخدام ذلك في قصة أكتبها. ولكن هذا يبدو مضحكا الآن.
قالت: أود لو لم تفعل.
قال: إني أتكلم لا غير. إني أشعر بتحسن حين أتكلم. ولكني لا أود أن أضايقك.
قالت: أنت تعرف أن ذلك لا يضايقني، إنما قد أصبحت عصبية للغاية لعدم استطاعتي عمل أي شيء. أعتقد أن علينا أن نيسر الأمور قدر استطاعتنا إلى أن تأتي الطائرة. - أو إلى ألا تأتي! - أرجوك قل لي ماذا بوسعي أن أفعل. لا بد أن هناك شيئا أستطيع أن أقوم به. - بإمكانك أن تبتري الساق وقد يوقف ذلك التعفن، رغم أنني أشك في ذلك. أو بإمكانك أن تطلقي علي النار. إنك ماهرة في الرماية الآن. لقد علمتك الرماية، أليس كذلك؟ - أرجوك ألا تتحدث هذا. أليس بإمكاني أن أقرأ لك؟ - تقرئين ماذا؟ - أي شيء في حقيبة الكتب التي لم تقرأها بعد.
قال: لا أستطيع أن أنصت إلى قراءتك. الكلام هو أسهل شيء. إننا نتعارك وهذا يجعل الوقت يمر. - إني لا أتعارك. إنني لا أريد أبدا أن أتعارك. دعنا لا نتعارك بعد الآن أبدا. مهما كنا عصبيين. ربما عادوا اليوم بشاحنة أخرى. وربما تأتي الطائرة.
قال الرجل: لا أريد أن أتحرك. لا معنى هناك لأن أتحرك الآن إلا كيما أسهل عليك الأمور. - إن هذا جبن. - ألا تدعين رجلا يموت بأقصى قدر ممكن من الراحة دون أن تشتميه؟ ما فائدة شتائمك لي الآن؟ - إنك لن تموت. - لا تكوني حمقاء. إنني أموت الآن. اسألي هؤلاء الملاعين. وتطلع إلى حيث جلست الطيور الضخمة القذرة ورءوسها العارية مدفونة في ريشها المقوس. وهبط طائر رابع وطفق يجري بسرعة ثم اتجه ببطء ناحية الطيور الثلاثة الأخرى. - إنها دائما تكون حيث توجد مخيمات. إنها لا تكاد تلحظ. لا يمكن أن تموت إذا لم تستسلم. - أين قرأت هذا؟ إنك لحمقاء سخيفة. - بإمكانك التفكير في شخص آخر.
قال: بحق الله، إن هذه هي مهنتي.
وعندها اضطجع وهدأ بعض الشيء، وتطلع عبر الوميض الحار للسهل إلى طرف الأجمة. كان هناك بعض العصافير الصغيرة بدت منمنمة بيضاء مقابل اصفرار السهل، وشاهد على البعد قطيعا من الحمر الوحشية، بيضاء مقابل خضرة الأجمة. كان هذا مخيما لطيفا مقاما تحت أشجار ضخمة في مواجهة أحد التلال، به مياه جارية، وبالقرب منه عين ماء كادت تجف حيث تطير منها كل صباح طيور الطيهوج.
سألت: ألا تود أن أقرأ لك؟ إن هناك نسمة تهب.
كانت تجلس على مقعد من الخيش إلى جانب محفته. - كلا شكرا. - ربما حضرت الشاحنة. - أنا لا تهمني الشاحنة في شيء. - إنها تهمني أنا. - إنك تهتمين بأشياء كثيرة جدا لا تهمني في شيء. - ليس كثيرا جدا يا هاري. - ما رأيك في شراب؟ - من المفروض أن الشراب ضار بك. إن دليل «بلاك» الطبي يقول بضرورة تجنب المشروبات الروحية. يجب ألا تشرب.
فصاح: مولو!
1 - أجل يا «بوانا».
2
قالت: يجب ألا تفعل ذلك. هذا ما كنت أعنيه بالاستسلام. إنه يذكر أن ذلك ضار بصحتك. إني أعرف أن ذلك ضار بك.
قال: كلا. إن ذلك مفيد لي.
وجال في فكره أن الآن قد انتهى كل شيء. الآن لن تكون أمامه فرصة أبدا كيما ينهي الكتاب الذي بدأه. هكذا انتهى الأمر بعراك حول شراب. ومنذ نخرت الغنغرينة في ساقه اليمنى لم يعد يشعر بألم، وذهب الخوف بذهاب الألم، وكل ما يشعر به الآن تعب شديد وغضب من أن يكون هذا هو نهاية الأمر. ذلك أنه لم يعد يشعر بكثير حب استطلاع والنهاية آتية. لقد تسلطت عليه سنين كثيرة، ولكن لم تعد الآن تعني شيئا في حد ذاتها. كان غريبا أن يتخلص من هذه الفكرة المستحوذة بسهولة من شعوره بالتعب.
والآن لن يستطيع أبدا أن يكتب الأشياء التي ادخر كتابتها حتى يعلم عنها ما فيه الكفاية كيما يكتبها بحذق. حسن، وهو لن يفشل كذلك في محاولة كتابتها. ربما لم يكن في مستطاعك أبدا كتابتها، ولهذا أرجأت الأمر وأخرت البداية. حسن، إنه لن يعرف الآن أبدا.
قالت المرأة: أتمنى لو لم نكن قد جئنا هنا. كانت تنظر إليه وهو يحمل الكأس وتعض على شفتيها ... «إنك لم تكن لتصاب بشيء من هذا في باريس. كنت تقول دائما إنك تحب باريس. كان بوسعنا البقاء في باريس أو الذهاب إلى أي مكان. كنت مستعدة للذهاب إلى أي مكان. قلت إنني كنت مستعدة للذهاب إلى أي مكان تريد. لو كنت تريد الاصطياد كان بوسعنا الذهاب إلى هنغاريا حيث نكون مرتاحين.»
قال: «أموالك اللعينة!»
قالت: هذا ليس عدلا. لقد كانت دائما أموالك بقدر ما هي أموالي، لقد تركت كل شيء وذهبت إلى حيث تريد أن تذهب وفعلت ما تريد أن تفعل. ولكني أتمنى لو لم نكن قد جئنا هنا. - لقد قلت إنك تحبين ذلك. - كنت أحبه حينما كنت أنت على ما يرام. ولكني أكرهه الآن. إنني لا أفهم لماذا يجب أن يحدث هذا لساقك؟ ماذا فعلنا كيما نستحق أن يحدث هذا لنا؟ - أظن أن ما فعلت هو أنني نسيت أن أضع اليود على المكان الذي حككته أول مرة. ثم لم ألتفت إليه بعد ذلك لأنني لا أصاب أبدا بالعدوى. وبعدئذ، حين تعقدت الأمور، ربما كان استعمال محلول الفنيك الخفيف ذاك، حين نفدت جميع المطهرات الأخرى، هو الذي شل الأوعية الدموية الدقيقة وبدأ الغنغرينة. ونظر إليها ثم قال: ماذا غير ذلك ؟! - إني لا أعني ذلك. - لو أننا استخدمنا ميكانيكيا ماهرا بدلا من السائق غير المدرب، لكان قد فحص الزيت ولما كان قد حرق أبدا محمل الكريات في الشاحنة. - إني لا أعني ذلك. - لو أنك لم تهجري أهلك، أهل مقاطعات «أولد وستبري» و«ساراتوجا» و«بالم بيتش» الملاعين كيما تحبيني ...؟ - لقد أحببتك. هذا ليس عدلا. إنني أحبك الآن. سوف أحبك دائما. ألا تحبني؟
قال الرجل: «كلا. لا أظن ذلك. إنني لم أحبك أبدا.» - ماذا تقول يا هاري؟ لقد جننت. - كلا. ليس لدي عقل حتى أجن!
قالت: لا تشرب هذا. أرجوك يا حبيبي ألا تشرب هذا. يجب أن نبذل كل ما في وسعنا.
قال: افعلي أنت ذلك. أنا متعب.
والآن، في خياله، رأى محطة سكك حديدية في «كاراجاتش» وكان واقفا فيها ومعه صرة أمتعته. وكان النور الأمامي للقطار يقطع الظلمة الآن، وهو يغادر منطقة «تراس» بعد الانسحاب. كان ذلك أحد الأشياء التي ادخرها ليكتب عنها بعد ذلك. في الصباح عند الإفطار إذ يتطلع من النافذة ويرى الثلج على الجبال في بلغاريا وسكرتيرة «نانسن» تسأل الرجل العجوز إذا كان ذلك ثلجا، فينظر العجوز ويقول لا، ليس هذا ثلجا، الوقت مبكر لنزول الثلج. والسكرتيرة تردد على مسامع الفتيات الأخريات: كلا، أترين، إنه ليس ثلجا، وهن جميعا يصحن: إنه ليس ثلجا، لقد كنا مخطئات. ولكن الحقيقة هي أنه كان ثلجا، وقد بعثهن ذلك الضابط العجوز يخضن فيه حين عقد اتفاقية تبادل السكان. ولقد كان ثلجا ما وطئنه هناك إلى أن متن جميعا ذلك الشتاء.
ولقد كان ثلجا أيضا ذلك الذي هطل طيلة أسبوع عيد الميلاد تلك السنة هناك في «جاروتال»، تلك السنة كانوا يقيمون في منزل قاطع الأشجار، وفيه الموقد الصيني المربع الكبير الذي احتل نصف الحجرة، وكانوا ينامون على حشايا من ورق أشجار الزان، في ذلك الوقت الذي جاء فيه الجندي الهارب وقدماه داميتان على الثلج. قال إن الشرطة تطارده، فأعطوه جوارب من الصوف وشغلوا رجال الدرك بالتحدث إليهم إلى أن انمحت آثار الأقدام بفعل الرياح.
وفي «شرونر»، يوم عيد الميلاد، كان الثلج باهرا لدرجة تؤذي العين، حين ينظر المرء من الحانة ويرى الناس تعود إلى بيوتها من الكنيسة. كان ذلك حيث صعدوا في الطريق الذي مهدته الزحافات ذات اللون الأصفر على طول النهر وتلال أشجار الصنوبر الشديدة الانحدار، وأدوات الانزلاق على الجليد فوق أكتافهم، وحيث جروا ذلك الجري الشديد عبر الطريق الجليدي عند منزل «مادلنر»، والثلج منبسط كالكعكة يحيط بها الصقيع، والندف تهبط خفيفة كالبودرة. واستعان في ذهنه الاندفاع الصامت الناتج عن السرعة إذ يهبط المرء كالطائر وهو ينزلق على الجليد.
كان الثلج قد احتجزهم طوال أسبوع في منزل «مادلنر» ذلك الوقت عندما هبت العاصفة، فأخذوا يلعبون الورق وسط الدخان على ضوء القنديل، وكانت الرهانات تزداد كلما زادت خسارة الهر «لنت». وأخيرا خسر كل شيء، كل شيء؛ نقود مدرسة الانزلاق على الجليد وكل مكسب الموسم، ثم خسر رأسماله نفسه. وكان باستطاعته أن يراه بأنفه الطويل يلتقط الورق ثم يفتح لعبة «عمياء». كان يوجد دائما ألعاب قمار وقتها. وحين لا يكون هناك ثلج، نقامر، وحين يكون هناك ثلج أكثر من اللازم نقامر. وفكر في الوقت الذي قضاه يقامر على طول حياته.
ولكنه لم يكتب سطرا عن ذلك، ولا عن يوم عيد الميلاد ذاك البارد الباهر، والجبال تتراءى عبر السهل حين طار جونسون عبر الخطوط ليقذف بالقنابل القطار الذي يقل الضباط النمساويين الحاصلين على إجازة، ويحصدهم بمدافعه حين انتثروا يجرون.
وتذكر إذ جاء جونسون بعد ذلك إلى حجرة الطعام وأخذ يحكي القصة وكيف ساد الصمت بعد ذلك، ثم أحدهم يصيح: أيها الوغد القاتل اللعين!
وكان هؤلاء النمساويون الذين قتلوهم آنذاك هم نفس النمساويين الذين شاركهم الانزلاق على الجليد بعد ذلك. كان «هانز» - الذي انزلق معه طوال تلك السنة - ضابطا في قوات القيصر، وحين ذهبا معا لصيد الأرانب البرية هناك عند التل الصغير وراء طاحونة نشر الخشب، تحدثا عن القتال في «باسوبيو»، وعن الهجوم على «برتيكا» و«أسالون»، وهو لم يكتب بعد حرفا عن ذلك. ولا عن «مونتي كورنو» ولا عن «سيتي كومون» ولا عن «أرسبيدو».
كم شتاء عاشه في نزلي «فوراك» و«آرل»؟ أربعة شتاءات. ثم تذكر الرجل الذي كان يعرض ثعلبا للبيع حين كان يسير مع زوجته في بستان «بلودنز»، يستهدفان شراء هدايا هذه المرة، وطعم الكريز من شراب «الكيرش» المعتق، والاندفاع المنفلت لمسرى بودرة الثلج على قشرة الأرض، وهي تغني «هاي هو!» إذ المرء يجري آخر مسافة نحو الثلج المصمت، ثم يجري قاطعا البستان في ثلاث دورات، ويخرج عبر الحفرة وعلى الطريق الجليدي وراء النزل. ثم يحل المرء أربطته ويخلع عنه زحافتي الانزلاق ويسندها إلى حائط النزل الخشبي، بينما يتبدى ضوء المصباح من النافذة. وفي الداخل، في وسط الدفء الداخن الذي يعبق برائحة النبيذ الطازج، كان ثمة من يعزف على الأوكورديون.
وسأل المرأة التي كانت تجلس إلى جواره في مقعد من الخيش، الآن، في أفريقيا: أين نزلنا في باريس؟ - في فندق «كريون». أنت تعرف ذلك. - ولماذا تظنين أنني أعرف ذلك؟! - إننا ننزل دائما هناك. - كلا. ليس دائما. - هناك وفي «بافيلون هنري الرابع» في سان جرمان. لقد قلت إنك تحب ذلك الفندق.
فقال «هاري»: الحب كومة قاذورات. وأنا هو الديك الذي يقف فوقها كيما يصيح.
قالت: هل من الضروري إذا تعين عليك أن ترحل أن تقتل كل شيء تخلفه وراءك؟ أعني، أيتعين عليك أن تأخذ معك كل شيء؟ عليك أن تقتل جوادك وزوجتك وتحرق سرجك ودرعك؟
قال: أجل. إن نقودك اللعينة كانت درعي. طيري ودرعي. - لا تقل هذا. - وهو كذلك. سأكف عن قول ذلك. لا أريد أن أجرح شعورك. - لقد جاء ذلك متأخرا شيئا ما. - وهو كذلك إذن. سوف أمضي في جرح شعورك. إنه يزيد من تسليتي. إن الشيء الوحيد الذي أحببت حقا أن أفعله معك لا يمكنني أن أفعله الآن. - كلا، هذا ليس صحيحا. لقد كنت تحب أشياء كثيرة، وقد نفذت كل ما كنت تريدني أن أفعل. - أوه، بحق الله كفي عن هذا الشقاق.
ونظر إليها فرآها تبكي.
قال: اسمعي. هل تظنين أنني أحب ذلك؟ إنني لا أعرف لماذا أفعل ذلك؟ أظن أنه شبيه بمحاولة القتل كيما يستمر المرء على قيد الحياة. لقد كنت على ما يرام حين بدأنا الحديث. إني لم أقصد أن أبدأ هذا الشقاق، والآن ها أنا أبدو أحمق كالبلهاء، وأشد ما أكون قسوة معك. لا تلقي بالا يا عزيزتي إلى ما أقول. إني أحبك حقا. إنك تعرفين أنني أحبك. إنني لم أحب أحدا قط كما أحببتك.
وانزلق إلى الكذبة المعهودة التي يلجأ إليها لينال أغراضه. - إنك طيب معي.
قال: أيتها اللعينة. أيتها اللعينة الثرية. ذلك شعر. إني أفيض شعرا الآن. سقما وشعرا. شعرا سقيما. - كف عن ذلك يا «هاري». لماذا يتعين عليك أن تتحول إلى شيطان الآن؟!
قال الرجل: إني لا أحب أن أخلف أي شيء. لا أحب أن أخلف شيئا ورائي. •••
كان الليل قد انسدل الآن وكان قد نام قليلا.
كانت الشمس قد غابت وراء التل، وثمة ظل يحوم عبر السهل وصغار الحيوانات تأكل بالقرب من المخيم، رءوس سريعة محنية وذيول متحركة. وراقبها وهي تقيم فاصلا بينه وبين الأجمة الآن. ولم تعد الطيور تنتظر على الأرض، بل كانت كلها تجثم في ثقل على إحدى الأشجار. كان هناك المزيد منها. وكان خادمه الصبي يجلس إلى جوار محفته.
قال الصبي بإنجليزيته الركيكة: ذهبت «ممصاحب»
3
لتصطاد. هل «بوانا» يريد شيئا؟ - كلا.
كانت قد ذهبت لتصطاد قطعة من اللحم، ولما كانت تعلم مدى شغفه بمراقبة مشهد الصيد فقد ذهبت بعيدا كيما لا تسبب ضوضاء في ذلك الجانب من السهل على مرمى أبصاره. وجال في خاطره أنها دائما ترعى مشاعره، في أي شيء تعرفه أو تكون قد قرأته أو سمعته.
لم تكن غلطتها أنه حين عرفها كان قد استنفد بالفعل. كيف يتأتى لامرأة أن تعرف أنك لا تعني شيئا مما قلت، وأنك لم تقل ما قلت إلا بدافع العادة وكيما تحقق راحتك! وحين لم يعد يعني ما يقول، لاقت أكاذيبه نجاحا بين النساء أكثر مما كان يلاقي حين كان يخبرهن بالحقيقة.
لم يكن الأمر بكذب أكثر منه عدم وجود حق يقال. لقد عاش حياته وانتهى ثم عاد يحياها من جديد مع أناس مختلفين ومزيد من المال، في أفضل ما عهده من الأماكن ، وفي أماكن جديدة عليه أيضا.
كنت تتحاشى التفكير وكان كل شيء رائعا، كنت مزودا بباطن قوي، حتى إنك لم تتمزق شعاعا مثلهم، مثل ما حدث لمعظمهم، واتخذت موقفا بألا تعير العمل الذي تعودت أن تعمل اهتماما الآن حين لم يعد بإمكانك أن تقوم به. غير أنك قلت في داخليتك إنك ستكتب عن هؤلاء الناس، عن المتخمين بالثروات، وإنك لست منهم في واقع الأمر، بل جاسوس في بلدهم، وإنك سوف تتركهم وتكتب عنهم، حتى يكتب عنهم أخيرا واحد يعرف حقيقة ما يكتب عنه. ولكنه لم يكتب ذلك إطلاقا؛ لأن كل يوم من عدم الكتابة، من الراحة والنعيم، من طريقة العيش التي يحتقرها، يضعف من قدرته ويوهن من إرادته على العمل، حتى إنه - في النهاية - لم يكتب أبدا. إن معارفه قد ازدادوا راحة حين لم يعد يكتب. وأفريقيا هي المكان الذي شعر فيه بأشد سعادة في أحسن أوقات حياته؛ لذلك فقد ذهب إلى هناك كيما يبدأ من جديد. ولقد رتب أمر هذه الرحلة بأقل قدر من وسائل الراحة. لم يكن هناك من صعوبات، ولكن لم يكن هناك أي ترف. وظن أن بوسعة العودة إلى الكتابة بالتمرين على هذه الصورة. ظن أن بوسعه - على نحو ما - أن يزيل الصدأ الذي ران على روحه، كما يفعل الملاكم حين يذهب إلى الجبال ليعمل ويتمرن كيما يحرق الشحم من جسده.
كانت تحب ذلك منه. قالت إنها تحب ذلك. كانت تحب أي شيء مثير، أي شيء يتضمن تغييرا في الصورة، حيث أناس جدد وحيث الأمور سارة. وقد شعر متوهما بعودة قوة الإرادة الدافعة له على العمل. أما وأن الأمور قد انتهت إلى هذا، وكان يعلم أنها النهاية، فعليه ألا يتحول إلى ذلك الثعبان الذي يعض نفسه لأن ظهره قد انكسر. لم يكن ذلك ذنب هذه المرأة. لو لم تكن هي لكانت أخرى. لو أنه عاش على أكذوبة فيجب أن يحاول أن يموت عليها.
وسمع طلقة فيما وراء التل.
كانت بارعة في الصيد، هذه اللعينة الثرية الطيبة، هذه التي رعت موهبته في حنان، وهي التي دمرتها في نفس الوقت. هراء .. لقد دمر موهبته بيده. لماذا يتعين عليه إلقاء اللوم على هذه المرأة لرعايتها إياه حق الرعاية؟ لقد دمر موهبته بعدم استعمالها، بخيانة نفسه وبخيانة معتقداته، بالإفراط في الشراب حتى انثلمت أطراف مداركه، بالكسل، بالخمول، بالعنجهية، بالكبرياء والهوى، بكل الوسائل. ما هذا السرد؟ كتالوج كتب قديمة؟ وما هي موهبته على أية حال؟ إنها موهبة أي نعم ولكنه - بدلا من أن يستخدمها - تاجر فيها. إنها لم تتمثل أبدا فيما أنجزه، بل فيما يستطيع إنجازه. ولقد اختار أن يكسب عيشه عن طريق آخر غير القلم والورق. وكان من الغريب أيضا - أليس كذلك - أنه كلما كان يقع في حب امرأة جديدة يكون لديها مال أكثر مما لدى المرأة السابقة عليها. بيد أنه حين لم يعد يشعر بالحب، حين أصبح كذوبا فحسب، كما يحدث الآن مع هذه المرأة التي لديها أكبر قدر من المال، التي لديها المال كله، والتي كان لديها زوج وأولاد، والتي كان لها عشاق لم ترض عنهم، والتي أحبته حبا صادقا بوصفه كاتبا وإنسانا وصديقا، وبوصفه من ثمين المقتنيات، من الغريب أنه حين لم يكن يحبها على الإطلاق كان كذوبا في ادعائه الحب، استطاع أن يعطي مقابل النقود أكثر مما كان يعطي عادة بدافع الحب الحقيقي.
وجال في خاطره أنه لا بد أننا قد خلقنا مهيئين لما نفعل، والمرء مع ذلك يكسب عيشه من مواهبه. لقد باع حيويته، بشكل أو بآخر، طوال حياته، وعندما لا يكون لعواطفه شأن بعلاقاته فإنه يوجه اهتماما أكبر للمال. لقد اكتشف ذلك، ولكن ليس بوسعه الآن أن يكتب عنه. كلا، إنه لن يكتب عن ذلك الأمر، رغم أنه يستحق.
ثم تجيء هي في الصورة الآن - في أفريقيا - تسير عبر الفضاء المكشوف تجاه المخيم. كانت ترتدي ملابس الصيد وتحمل بندقيتها. وكان كل من الصبيين يحمل مدفعا رشاشا، ويسيران خلفها. وجال بفكره أنها لا تزال امرأة جميلة، وجسمها لطيف، وكانت ذات موهبة عظيمة في أمور الحب والغرام . لم تكن بالحسناء، ولكنه يحب وجهها، كما أنها تقرأ بشراهة، وتحب ركوب الخيل والصيد، وهي بالتأكيد تفرط في الشراب. كان زوجها قد مات وهي لا تزال على درجة من الشباب، فكرست نفسها وقتا ما لولديها الفتيين، اللذين لم يكونا بحاجة إليها ويشعران بالحرج وهي معهما، ولممتلكاتها من الخيول، وللكتب، ولزجاجات الشراب. وكانت تحب أن تقرأ في المساء قبل تناول العشاء، وتشرب الويسكي بالصودا وهي تقرأ. وحين يحل وقت العشاء تكون قد ثملت إلى حد ما، أما بعد زجاجة من النبيذ مع الطعام فإنها تكون ثملة بما يكفي للذهاب إلى النوم.
كان ذلك قبل مرحلة العشق. فبعد أن اتخذت عشاقا لم تعد تفرط في الشراب؛ لأنها لم تعد مضطرة إلى الشرب كيما تنام. ولكن عشاقها كانوا يبعثون فيها الملل. لقد كانت زوجة لرجل لم يثر فيها مللا على الإطلاق، ولكن هؤلاء الناس أضجروها إلى حد بعيد.
ثم حدث أن قتل أحد ولديها في حادث طائرة، ولما مضى وقت على ذلك لم تعد بحاجة إلى عشاق، وكان عليها أن تولد من جديد؛ لأن الشراب لم يعد يخفف من آلامها، وتملكها رعب فجائي من الوحدة. ولكنها كانت تريد إلى جوارها شخصا تحترمه.
وبدأ الأمر بسيطا للغاية. كانت تحب ما يكتب، وكانت دائما تحسده على الحياة التي يحياها. كانت تعتقد أنه يفعل ما يريد تماما. ولقد كانت الخطوات التي حازته عن طريقها، والطريقة التي وقعت بها أخيرا في غرامه جزءا من سلسلة منتظمة أقامت بها لنفسها حياة جديدة، بينما باع هو ما تبقى له من حياة سابقة.
لقد باعها مقابل الأمان، ومقابل الرفاهية أيضا، لا سبيل إلى إنكار ذلك. ومقابل ماذا أيضا؟ إنه لا يعرف. إنها كانت لتجلب له أي شيء يريد، كان يعرف ذلك. ولقد كانت امرأة لطيفة، ولعينة في نفس الوقت. وقد كان يفضل حبها على حب أي واحدة أخرى، هي لأنها أغنى، لأنها لطيفة جدا وحساسة، ولأنها لم تثر عليه مطلقا. والآن، فإن هذه الحياة الجديدة التي شيدتها لنفسها تؤذن بالنهاية ؛ لأنه لم يستخدم صبغة اليود منذ أسبوعين حين دخلت شوكة إلى ركبته بينما هم يهرعون لتصوير قطيع من ذكور الظباء تقف رافعة الرأس، تحدق أمامها وخياشمها تطالع الهواء، وآذانها ترهف السمع استرقاقا لأول ضوضاء ترسل بها مهطعة داخل الغابة. وقد سقط أيضا على الأرض قبل أن ينجح في التقاط الصورة.
ها هي قد حضرت الآن.
وأدار رأسه على المحفة كيما ينظر إليها. قال: أهلا.
فقالت له: لقد اصطدت كبشا. سوف أحضر لك مرقا دسما، وسوف أجعلهم يعدون لك بطاطس مهروسة. كيف حالك الآن؟ - أفضل بكثير. - أليس هذا رائعا؟ كنت على يقين من ذلك. لقد كنت نائما حين خرجت. - لقد نمت نوما عميقا. هل توغلت كثيرا في الغابة؟ - كلا. وراء التل لا غير. لقد اصطدت الكبش بطلقة في الصميم. - إنك بارعة في التصويب. - إني أحب الصيد. لقد أحببت أفريقيا. لو أنك كنت على ما يرام لكانت هذه الرحلة أفضل رحلاتي. إنك لا تعلم أي متعة أحس بها بالصيد معك. لقد أحببت هذا البلد. - إني أحبه أيضا. - يا حبيبي! إنك لا تعلم كم هو رائع أن أرى حالك يتحسن! إني لا أحتمل غضبك. عدني أنك لن تكلمني غاضبا كما فعلت سابقا!
قال: أجل. إني لا أذكر ما قلت. - إنك لست مضطرا إلى تدميري. ما أنا إلا امرأة في منتصف العمر تحبك وتريد أن تفعل ما تحب. لقد سبق لي أن دمرت مرتين أو ثلاث مرات. إنك لن تريد دماري مرة أخرى.
قال: إني أود أن أدمرك مرات عدة غراما وهياما. - أجل. هذا هو الدمار الحسن. هذه هي الطريقة التي خلقنا كي ندمر بها. ستكون الطائرة هنا غدا. - كيف تعرفين؟ - إني متأكدة من ذلك. لا مفر من وصولها. ولقد جهز الأولاد الأخشاب والحشائش لتمييز مكان الهبوط. لقد ذهبت إلى هناك ورأيت المهبط مرة أخرى اليوم . هناك متسع من المكان للهبوط، وقد جهزنا العلامات على الجانبين. - ما الذي يجعلك تعتقدين أنها ستصل غدا؟ - إني متأكدة من ذلك. لقد حان موعد وصولها منذ فترة. وعندئذ سوف يعالجون ساقك، ثم يتهيأ لنا أن ندمر نفسينا غراما. ولن نعود إلى ذلك الحديث المرعب. - هل لنا في كأس؟ لقد غربت الشمس. - أتظن أن ذلك مناسب؟ - إني أتناول كأسا الآن. - إذن، سنشرب معا. وهتفت باللغة المحلية: يا غلام، اثنين ويسكي بالصودا.
وقال لها: يحسن بك ارتداء حذاء الرقبة الواقي من الناموس. - سأنتظر حتى أستحم ...
وشربا معا بينما الظلمة تتكاثف. وقبل أن ينسدل الظلام ولا يعود هناك ما يكفي من الضوء للصيد، عبر ضبع الخلاء أمامهما في طريقه للدوران حول التل.
قال الرجل: هذا اللعين يمر من هنا كل ليلة. كل ليلة طوال أسبوعين. - إنه ذلك الذي يصيح في الليل. لا يهمني ذلك. رغم أنه حيوان قذر.
وكان باستطاعته، إذ هما يشربان معا وليس ثمة من ألم سوى عناء الاضطجاع في وضع واحد، وإذ الصبية يوقدون نارا تتقافز ظلالها على المخيمات، أن يشعر بعودة التوافق إلى هذه الحياة المتمثلة في الاستسلام اللذيذ. إنها طيبة جدا معه. وكان هو قاسيا وظالما تجاهها هذا الأصيل. إنها امرأة ممتازة. رائعة حقا. وعندئذ خطر له أنه سوف يموت.
جاءه هذا الخاطر مندفعا، ليس كاندفاع المياه أو الرياح، بل على صورة فراغ فجائي يعبق بالشر، والشيء الغريب أن الضبع كان يواكب حافة ذلك الخاطر.
سألته: ما الأمر يا «هاري»؟
قال: لا شيء. يحسن بك أن تتحولي إلى الجانب الآخر. ناحية الريح. - هل بدل الغلام أغطية الفراش؟ - أجل. إنني أستخدم حامض البوريك الآن. - وكيف تشعر؟ - مهزوز شيئا ما.
قالت: سوف أذهب الآن لأستحم. وبعد ذلك سآكل معك ثم ندخل محفتك إلى الخيمة.
قال لنفسه إنهما أحسنا صنعا بالكف عن الشجار. إنه لم يتشاجر أبدا لمدة طويلة مع هذه المرأة، بينما كان يتشاجر مع النساء اللائي أحبهن حبا صادقا، شجارات طويلة لدرجة مات معها كل شيء جميل بينه وبينهن . لقد أحب أكثر من اللازم، وطلب أكثر من اللازم، وضيع كل شيء.
وفكر في ذلك الوقت عندما كان وحيدا في مدينة القسطنطينية، بعد أن تشاجر في باريس ورحل . وتردد أولا على العاهرات، وحين انتهى من ذلك ولم ينجح في قتل شعوره بالوحدة بل زادها سوءا، كتب إليها، الأولى التي هجرته، خطابا يخبرها فيه كيف أنه لم ينجح أبدا في قتل حبها في قلبه ... وكيف أنه ظن ذات مرة أنه يراها خارج فندق «الريجنس» فكاد أن يغمى عليه وشعر بالدوار، وكيف أنه يتتبع أي امرأة تشبهها في أي شيء، على طول البوليفار، خائفا أن يكتشف أنها ليست هي، خائفا أن يفقد الشعور الذي يهبه له هذا الظن، وكيف أن أي امرأة عرفها جعلته يفتقدها أكثر وأكثر، وكيف أنه لا يهم أي شيء فعلته؛ لأنه يعرف أنه لا يستطيع أبدا مداواة نفسه من غرامها. وكتب هذا الخطاب في النادي، في هدوء واتزان، وبعثه إلى نيويورك طالبا منها أن تراسله على عنوان مكتب عمله في باريس. بدا له هذا آمنا. وفكر في تلك الليلة التي اشتد فيها شوقه إليها على نحو ملأ نفسه بالفراغ والغثيان، فطفق يدور أمام محل «مكسيم»، ثم تعرف على فتاة أخذها معه للعشاء. وبعد ذلك ذهبا معا يرقصان، وكانت لا تجيد الرقص، فتركها ليرقص مع أرمينية حسناء احتضنته بذراعيها. وأخذها من جندي بريطاني بعد عراك معه. وطلب منه الجندي أن يذهب معه إلى الخارج، وتعاركا في الشارع على البلاط وسط الظلام. وضربه مرتين، بشدة، على جانب الفك، ولما لم يسقط عرف من فوره أن المعركة ستكون طويلة. وضربه الجندي في بطنه، ثم إلى جوار عينه. وتطوح واقعا، وهجم عليه الجندي ومزق ردن معطفه، ولكنه لكم الجندي مرتين وراء أذنه ثم طوحه بعيدا عنه مهمشا إياه بقبضته اليمنى. وحين سقط الجندي عنه، ارتطمت رأسه بأحجار الطريق، أما هو فجرى سريعا بالفتاة لأنهما سمعا الشرطة الحربية في الطريق إليهم. ودلفا إلى عربة أجرة وذهبا إلى فندق «هيسا» على ضفاف البوسفور حيث أمضيا ليلتهما. وتركها وحدها عند مطلع النهار، وتوجه إلى «بيرا بالاس» بعين سوداء وهو يحمل معطفه على ذراعه لأن أحد ردفيه قد تمزق.
ورحل في نفس تلك الليلة إلى الأناضول. وتذكر كيف كان القطار خلال الرحلة يخترق حقول الخشخاش التي يزرعونها للحصول على الأفيون، والشعور الغريب الذي يبعثه المنظر في النفس، وكيف تبدو جميع المسافات خاطئة، ثم تذكر الهجوم الذي شنوه مع ضباط القسطنطينية الذين وصلوا حديثا، والذين لم يكونوا يعرفون شيئا قط، وكيف أطلقت المدفعية النيران على القوات، والمراقب البريطاني وهو يبكي كالطفل.
كان ذلك هو يوم شاهد لأول مرة رجالا موتى يرتدون تنورات الباليه البيضاء وأحذية مقلوبة عليها كريات صوفية. وكان الأتراك يتقدمون باطراد وبثقل، وشاهد الرجال ذوي التنورات يجرون، والضباط يطلقون عليهم النار ثم يجرون هم أنفسهم، وجرى هو والمراقب البريطاني أيضا حتى آلمته رئتيه وامتلأ فمه بطعم المرارة. وتوقفا وراء بعض الصخور، وخلفهم كان الأتراك يتقدمون بثقلهم المعهود. وشهد بعد ذلك الأشياء التي لم يكن بقدرته أن يفكر فيها، وشهد بعدها أيضا أشياء أسوأ بكثير. ولذلك فإنه حين عاد إلى باريس تلك المرة لم يستطع أن يحكي عن تلك الأيام أو أن يتحمل ذكرها. وهناك، حين كان يمر أمام المقهى كان يرى ذلك الشاعر الأمريكي جالسا وأمامه كوم من الأطباق، وعلى وجهه البطاطسي ترتسم نظرة غباء، يتحدث عن حركة الدادائية مع روماني يقول إن اسمه «تريستان تزارا» يرتدي دائما مونوكلا ويشكو الصداع. ثم هناك في الشقة مع زوجته التي عاد إليه حبها مرة أخرى، وانتهى كل الشجار، وانتهى كل الغضب، سعيدا بعودته إلى بيته، ومكتبه يرسل له بريده إلى الشقة. وهكذا، يوما ما، وصل الخطاب الذي يرد على الرسالة التي سبق أن بعثها إلى صديقته، على صحفة ذات صباح، وحين رأى الخط تجمد جسده كله وحاول أن يدس الخطاب تحت خطاب آخر. ولكن زوجته صاحت به: ممن هذا الخطاب يا عزيزي؟ وكان هذا نهاية بداية ذلك الموضوع.
عادت إلى ذهنه الأوقات الجميلة معهن جميعا، والمشاجرات. كن دائما يختزن أحسن الأماكن كيما يبدأن فيها الشجار. ولماذا كن يتشاجرن حينما يكون هو في أفضل حالاته؟ إنه لم يكتب أبدا عن ذلك؛ لأنه في البداية لم يكن يريد أن يسبب ألما لأي منهن، وكذلك لأنه كان هناك، فيما يبدو، موضوعات كثيرة أخرى يكتب عنها. ولكنه كان يعتقد أنه سوف يكتب أيضا عن تلك الموضوعات الأخرى يوما ما. كان هناك الكثير مما يصلح للكتابة. لقد رأى العالم وهو يمر بنقطة تحول، لا الأحداث فحسب، رغم أنه رأى الكثير من الأحداث وراقب الناس فيها، ولكنه كان يرى أيضا التحول الدقيق ويستطيع أن يتذكر كيف كان حال الناس في أوقات مختلفة. لقد عاش ذلك ورصده ومن واجبه أن يكتب عنه، ولكنه الآن لن يفعل ذلك أبدا.
قالت: كيف حالك الآن؟ كانت قد خرجت من الخيمة بعد أن استحمت. - على ما يرام. - أيمكنك أن تأكل الآن؟
ورأى الصبي خلفها يحمل المنضدة الصغيرة والصبي الآخر يحمل الأطباق.
قال: أريد أن أكتب. - يجب أن تتناول بعض المرق كيما يشد أزرك.
قال: سوف أموت الليلة. لا حاجة بي إلى شد أزري.
قالت: لا تبالغ في الأمور يا هاري أرجوك. - لماذا لا تستخدمين أنفك؟ لقد تعفن نصف فخذي الآن. لماذا بحق الجحيم أتناول المرق؟ يا غلام أحضر لي ويسكي بالصودا.
فقالت برفق: أرجوك أن تتناول المرق. - حاضر.
وكان المرق ساخنا جدا، وتعين عليه أن يمسك بالفنجان إلى أن يبرد بما فيه الكفاية ثم دفعه إلى جوفه دون أن يتذوقه.
قال: إنك امرأة لطيفة. لا تلقي بالا لما أقول.
ونظرت إليه بوجهها الحبيب المعروف الذي طالما ظهر في المجلات النسائية الشهيرة، والذي لم يتدهور إلا قليلا من جراء الشراب، ومن جراء السهر، إلا أن تلك المجلات لم تظهر محاسنها الخفية، ولا يديها الرقيقتين الصغيرتين. وإذ نظر ورأى ابتسامتها اللطيفة المعهودة، شعر بالموت يأتي ثانية. وفي هذه المرة لم يكن في عجلة من أمره. كان نفخة هواء كالريح الذي يمايل الشمعة ويطيل شعلتها. - يمكنهم أن يحضروا شبكة النوم فيما بعد ويعلقوها من الأشجار ويوقدوا النيران. إني لن أدخل إلى الخيمة هذه الليلة. لا يستحق الأمر عناء الانتقال. إنها ليلة صافية. ولن يسقط المطر.
إذن ... فهكذا تموت، وسط همسات لا تسمعها. حسن، لن يكون هناك مزيد من الشجار. إن بوسعه أن يعد بذلك. إنه لن يفسد الآن التجربة الوحيدة التي لم يمر بها أبدا من قبل. قد ينجح في ذلك. إنه قد أفسد كل شيء. ولكن ... ربما ينجح هذه المرة. - هل يمكنك أن تكتبي ما أمليه؟
قالت: إنني لم أتعلم ذلك من قبل. - لا عليك.
ليس هناك متسع من الوقت طبعا، ولو أن الأمر يبدو واضحا لدرجة قد يمكنك معها أن تضعه كله في فقرة واحدة إذا أمكنك أن تجيد صياغتها.
كان هناك بيت من كتل الأخشاب ملطخ هنا وهناك بالمونة البيضاء قائم على تل أعلى البحيرة. وكان ثمة جرس مقام على عمود خشبي إلى جوار الباب لدعوة الناس إلى تناول الطعام. وخلف المنزل تقع الحقول، وخلف الحقول الأشجار التي يؤخذ منها الخشب. وثمة صف من شجر الحور اللومباردي يمتد من المنزل حتى المدفأة. وأشجار حول أخرى على طول النتوء البحري. وثمة طريق يصل إلى التلال على طول حافة الأشجار، وكان يقطف الفراولة البرية من ذلك الطريق. ثم حدث أن احترق ذلك البيت الخشبي، واحترقت كل البنادق التي كانت معلقة على الرفوف المصنوعة من أقدام الغزلان فوق المدفأة المكشوفة، وبعد ذلك أصبحت مواسير البنادق - والرصاص ذائب في خزاناتها وكعوبها محترقة تماما - ملقاة على كومة الرماد الذي كان يستخدم كقلوي لصناعة الصابون في الغلايات الحديدية الكبيرة، وسألت جدك إذا كان يمكنك أخذها لتلعب بها فقال: كلا. أترى، أنها كانت لا تزال بنادقه، ولم يشتر أي بنادق أخرى غيرها، كما أنه لم يعد يصطاد بعدها أبدا. وأعيد بناء المنزل في نفس موقعه من العروق الخشبية هذه المرة، وطلي باللون الأبيض، ومن شرفته يرى المرء أشجار الحور ووراءها البحيرة، ولكن لم تكن هناك بنادق أخرى بعد ذلك. وأضحت خزانات البنادق التي كانت معلقة على أقدام الغزلان على الحائط في المنزل الخشبي القديم راقدة هناك على كومة الرماد ولم يلمسها أحد قط.
وبعد الحرب، في الغابة السوداء، قمنا باستئجار غدير يزخر بأسماك الأطروط. وكان ثمة طريقان للوصول إليه، أولهما من الوادي عند «ترايبورج» إلى طريق جانبي يصعد في الجبال، مرورا بكثير من المزارع الصغيرة ذات البيوت التي يشتهر بها الريف الألماني، إلى أن يفضي إلى الغدير، حيث يبدأ صيدنا. والطريق الثاني يمر من حافة الغابة إلى أعلى التلال من خلال غابات الصنوبر، خروجا إلى حافة المرج إلى الجسر. وكانت هناك أشجار سندر على طول الغدير، الذي لم يكن كبيرا بل كان ضيقا، صافيا، جاريا، مكونا بحيرات في الأمكنة التي ضربت فيها جذور الأشجار. وكان موسم الصيد طيبا بالنسبة لصاحب الفندق في «ترايبورج». كان كل شيء بهيجا، وكنا جميعا أصدقاء حميمين. وفي العام التالي جاء التضخم ولم يكف المال الذي ربحه صاحب الفندق في العام الذي قبله لشراء التجهيزات اللازمة لفتح الفندق فشنق نفسه.
بإمكانك أن تملي هذا ولكن ليس بإمكانك أن تملي مشاهد ميدان «كونتر سكارب»، في باريس، حيث بائعو الأزهار يصبغون أزهارهم في الطريق وتسيل الصبغة على الرصيف عند رأس خط الأوتوبيس، والشيوخ والعجائز سكارى على الدوام بالنبيذ وبالبراندي الرديء، والأطفال سائلة أنوفهم في البرد، ورائحة العرق النتن والفاقة والسكر في مقهى «أما تيرز»، والعاهرات في مرقص «ميزيت» الذي كان يقيمان أعلاه. وبوابة المبنى التي احتفت بجندي الحرس الجمهوري في شقتها، وخلع عنه خوذته ذات الريش المصنوع من شعر الجياد ووضعها على الكرسي. ونزيلة الحجرة التي تقع في آخر الصالة، التي يعمل زوجها في سباق الدراجات، وفرحتها ذلك الصباح في محل الألبان حين فتحت صحيفة «الأوتو» ووجدت أنه قد حاز المرتبة الثالثة في سباق «باريس-تور»، أول سباق كبير يشترك فيه، وتورد وجهها وضحكت ثم صعدت إلى الطابق العلوي تصيح وهي تمسك الصحيفة الرياضية الصفراء في يدها. وزوج السيدة التي تدير مرقص ميزيت، ويعمل سائقا للتاكسي، وحين كان يتعين عليه هو، «هاري»، اللحاق بطائرة الصباح الباكر، طرق عليه الزوج الباب لإيقاظه وشرب كلاهما كأسا من النبيذ الأبيض عند حوض البار قبل أن ينطلقا إلى المطار. كان يعرف كل جيرانه في ذلك الحي آنذاك، لأنهم كانوا جميعهم فقراء.
وكان قاطنو ذلك الميدان ينقسمون إلى فئتين: السكارى، والرياضيون. فالسكارى يقتلون فاقتهم عن طريق الشراب، والرياضيون يستهلكونها في الرياضة. كانوا سلالة أهل «كوميون باريس»، ولم يكن صعبا عليهم معرفة أين ينحازون في السياسة. كانوا يعرفون من أغتال آباءهم وأقاربهم وإخوانهم وأصدقاءهم حين جاءت قوات «فرساي» واحتلت المدينة بعد «الكوميون» وأعدمت كل شخص وجدته متورم اليدين أو يرتدي قلنسوة، أو يحمل أية علامة أخرى تنم عن أنه عامل وفي هذه الفاقة، وفي ذلك الحي المجاور لجزارة «شفالين» وبقالة النبيذ، قام بكتابة خطة كل ما سوف يكتبه بعد ذلك. لم يكن هناك مكان في باريس أحبه مثل هذا المكان: الأشجار المنبسطة في غير نظام، البيوت البيضاء العتيقة المكسوة بالجص والمطلي أسفلها باللون البني، والصف الأخضر الطويل من الأوتوبيسات في ذلك الميدان، وصبغة الأزهار الأرجوانية على الرصيف، والانحدار المفاجئ للتل عند شارع «الكاردينال ليموان» نحو نهر «السين»، وفي الناحية الأخرى العالم الضيق المزدحم لشارع «موفتار». وذلك الطريق الذي يفضي إلى «البانثيون» والآخر الذي كان يقطعه دوما بالدراجة - الوحيد المغطى بالأسفلت في ذلك الحي، الذي ينبسط ممهدا تحت عجلات الكاوتشوك - بمنازله الطويلة الضيقة والفندق الرخيص العالي الذي مات فيه الشاعر «بول فرلين». كانت الشقة التي يعيشان فيها لا تحتوي إلا على غرفتين فقط، وكانت لديه غرفة في الطابق العلوي من ذلك الفندق يدفع فيها ستين فرنكا في الشهر، حيث كان يكتب، وبوسعه أن يرى منها أسطح باريس ومداخنها وكل تلالها.
أما في الشقة فلا يمكنك سوى رؤية الغابة ومحل بائع الفحم. وكان يبيع النبيذ أيضا، النبيذ الرديء ... ورأس الحصان الذهبي خارج جزارة «شيفالين» حيث اللحوم حمراء وذهبية معلقة في الفترينة المكشوفة، ومحل البقالة المطلي بالأخضر حيث كانوا يشترون نبيذهم، نبيذ جيد ورخيص. وما بقي بعد ذلك فهو الجدران المطلية بالجص ونوافذ الجيران. الجيران الذين يفتحون نوافذهم ويأخذون في الهمهمة حين يستلقي أحدهم سكرانا بالليل يئن ويتوجع في تلك الحالة من الثمالة الفرنسية المشهورة التي كانوا يحاولون قبل ذلك أن يجعلوك تعتقد أنها لا توجد أبدا. يهمهمون: «أين رجل الشرطة؟ حين لا نريده يكون دائما واقفا هناك. إنه ينام في أحد الفنادق. اتصلوا بقسم الشرطة.» إلى أن يلقي أحدهم جردل ماء من إحدى النوافذ فيتوقف الأنين. «ما هذا؟ ماء؟ هذا عظيم!» وتغلق النوافذ «وماري»، الخادمة، تحتج على يوم العمل ذي الثماني ساعات بدلا من التسع ساعات فتقول: «إذا كان الزوج يعمل حتى السادسة مساء، فإنه لا يثمل إلا قليلا عند عودته إلى المنزل ولا يضيع نقودا كثيرة. أما إذا عمل حتى الخامسة مساء فقط فإنه سيشرب كل ليلة ولن يتبقى معه أية نقود. إن الزوجة هي التي ستعاني حقيقة من تقصير ساعات العمل.»
وكانت المرأة تسأله الآن، هنا، في أفريقيا: هل تحب أن تتناول مزيدا من المرق؟ - كلا، وشكرا جزيلا. إنه لذيذ للغاية. - حاول أن تشرب قليلا. - إني أفضل تناول بعض الويسكي بالصودا. - إنه ليس مناسبا لصحتك. - كلا، إنه ضار بي. لقد كتب «كول بورتر» كلمات الأغنية وموسيقاها، إنك ستجنين بي غراما. - إنك تعرف أنني أحب أن أدعك تشرب كما يحلو لك. - أوه، أجل، إلا أنه ضار بي.
وجال في فكره: حين تذهب، سأفعل ما يحلو لي، لا كل ما يحلو لي بل كل ما هو موجود. آه ... لقد كان متعبا. متعبا جدا. سوف ينام بعض الوقت. ورقد ساكنا، ولم يكن الموت موجودا. لا بد أنه ذهب إلى مكان آخر. إنه يتجول اثنين اثنين، بالدراجات، وفي صمت شديد، فوق الأرصفة.
كلا، إنه لم يكتب أبدا عن باريس. ليس باريس التي يحبها. ولكن ... ماذا عن بقية الأشياء التي لم يكتب عنها أبدا؟ ماذا عن المزرعة، واللون الرمادي الفضي لشجرة «المريمية»، والمياه الرقراقة السريعة في قنوات الري، واخضرار البرسيم القاتم، ويمضي الطريق صعدا في التلال. والماشية في الصيف خجولة كالغزلان والثغاء، والضوضاء المنتظمة ، والكتلة البطيئة التحرك تثير غبارا والقطيع يهبط في الخريف. وخلف الجبال، ووضوح القمة الحاد على ضوء الماء، والهبوط ركوبا بمحاذاة خط القطار في ضوء القمر الباهر عبر الوادي . وتذكر الآن الهبوط عبر الأشجار في وسط الظلمة ممسكا بذيل الحصان حين لم يكن باستطاعته الرؤية، وكل القصص التي انتوى أن يكتبها.
عن الصبي الشغال نصف المعتوه الذي تركوه في المزرعة ذلك الوقت وقالوا له أن يحرس التبن، وذلك الوغد العجوز من «فوركس» الذي ضرب الصبي عندما حاول منعه من سرقة بعض العلف. ورفض الصبي وقول العجوز إنه سيضربه ثانية. وأحضر الصبي بندقية من المطبخ وأطلق عليه النار حين حاول الدخول إلى المخزن. وحين عادوا إلى المزرعة كان قد مضى أسبوع على العجوز وهو ميت، وقد تجمد جسده في حظيرة المواشي، والكلاب قد أكلت أجزاء من جثته. وجمعت أنت ما تبقى، ملفوفا في ملاءة ووضعته على زحافة وربطته عليها بالحبال وجعلت الصبي يساعدك في جرها، واصطحبتموها أنتما الاثنان وقطعتما الطريق على زلاجات الجليد ستين ميلا إلى المدينة لتسليم الصبي، وهو لم تكن لديه فكرة أنهم سيقبضون عليه. يظن أنه قد أدى واجبه وأنك صديقه وأنهم سيكافئونه على ما فعل. وهو قد ساعد على جر جثة العجوز حتى يعرف كل شخص كيف كان العجوز شريرا وكيف أنه حاول سرقة بعض العلف الذي لا يخصه، وحين وضع الضابط القيود في يدي الصبي لم يصدق عينيه، ثم أخذ في البكاء. هذه قصة ادخرها كيما يكتبها. كان يعرف عشرين قصة جيدة على الأقل من تلك الأيام. ولكنه لم يكتب أبدا واحدة منها. لماذا؟
قال: قولي لهم أنت لماذا؟ - لماذا ماذا يا عزيزي؟ - لماذا لا شيء.
إنها لم تكن تفرط في الشراب، الآن، منذ أن استولت عليه. ولكنه إن عاش فلن يكتب عنها أبدا، إنه متأكد الآن من ذلك. ولا عن أي منهن. فالثريات مضجرات ويفرطن في الشراب، أو هن يدمن لعب الطاولة. إنهن مضجرات ويكررن أنفسهن. وتذكر «جوليان» المسكين ورعبه الرومانسي من الأثرياء وكيف أنه بدأ مرة قصة بقوله: «إن المفرطين في الثراء يختلفون عني وعنك.» وكيف أن أحدهم قال لجوليان: «أجل، فإنهم يملكون نقودا أكثر.» ولكن هذا لم يرق لجوليان. كان يعتقد أنهم جنس خاص فاتن، وحين اكتشف أنهم ليسوا كذلك حطمه ذلك الاكتشاف مثلما حطمه أي شيء آخر.
لقد كان يحتقر أولئك الذين يتحطمون. ليس على المرء أن يحب الأمور لأنه يفهمها. لقد آمن أن بإمكانه أن يقهر أي شيء، لأنه ما من شيء أصابه بالأذى لو أنه لم يكن يهتم به. حسن. الآن لن يهتم بالموت. إنه الشيء الوحيد الذي أحس بالخشية منه دائما هو الألم. إن بوسعه احتمال الألم ككل رجل آخر، إلا إذا استمر مدة طويلة وأضناه، ولكن هنا، كان ثمة شيء يؤلمه أشد الألم، وعندما أحس به يحطمه تحطيما، توقف الألم.
وتذكر منذ زمان طويل حين أصيب «ويليامسون»، ضابط المدفعية، بقنبلة يدوية ألقاها أحد أفراد دورية ألمانية، حين كان آتيا عبر الأسلاك الشائكة، وتضرع للجميع وهو يصرخ أن يقتلوه كان رجلا بدينا، عظيم الشجاعة، وضابطا ماهرا، رغم أنه يدمن التهويل في الأمور. ولكنه في تلك الليلة أصيب وهو بين الأسلاك الشائكة، وشعلة من النار تضيئه، وأمعاؤه مدلاة على الأسلاك، ولذلك فإنهم كي يحملوه اضطروا إلى قص الأسلاك حتى يخلصوه منها. وصاح بي: أطلق النار علي يا «هاري». بحق المسيح اقتلني. وكانوا قد تناقشوا مرة بأن الله لا يمكن أن ينزل بأحد مصيبة إلا في حدود احتماله، وكانت نظرية أحدهم أن تفسير ذلك هو أنه أحيانا يصيب الألم الشديد صاحبه بالإغماء بطريقة آلية فلا يشعر بشيء بعد ذلك. ولكنه دائما كان يتذكر «ويليامسون» في تلك الليلة؛ إذ إنه لم يصب بالإغماء، إلى أن أعطاه كل ما لديه من أقراص المورفين التي ادخرها لنفسه، وحتى حينذاك فإنها لم تؤد مفعولها على نحو فوري.
وحتى ما يحدث الآن، ما يمر به، كان هينا جدا. وإذا لم يتدهور الحال مع مرور الوقت فلا ثمة داع للقلق. عدا أنه كان يفضل رفقة أفضل. وفكر برهة في الرفقة التي يود أن تكون معه. وجال بخاطره: كلا، إذا كان كل ما تقوم به تنجزه في مدة طويلة جدا، وفي وقت متأخر جدا، فلا يمكن لك أن تتوقع أن يكون الناس ما زالوا في انتظارك. لقد رحل الناس جميعا، انتهى الحفل، وأنت الآن وحدك مع مضيفتك، وجال في خاطره: إنني أحس بالملل وأنا أموت كما أحسست دائما مع كل شيء آخر.
قال بصوت مرتفع: إنه شيء ممل. - ماذا يا عزيزي؟ - أي شيء يستغرق المرء وقتا طويلا في أدائه.
وتطلع إلى وجهها الذي يقوم بينه وبين النيران. كانت تضطجع إلى الوراء في المقعد وضوء النيران يلتمع على وجهها ذي القسمات اللطيفة، وكان بوسعه أن يرى أنها غافية. وسمع الضبع يطلق أصواتا فيما وراء مجال النيران مباشرة.
قال: لقد كنت أكتب، ولكني تعبت. - هل تعتقد أن بوسعك أن تنام؟ - بالتأكيد. لماذا لا تأوين إلى فراشك؟ - أحب أن أجلس هنا معك.
سألها: هل تحسين بأي شيء غريب؟ - كلا. إنني نعسانة ليس إلا.
قال: أما أنا فأشعر بشيء غريب.
كان قد شعر لتوه بالموت يأتي مرة أخرى.
قال لها: أتعلمين، إن الشيء الذي لم أفقده أبدا هو حب الاستطلاع. - إنك لم تفقد أي شيء مطلقا. إنك أكثر من عرفت كمالا.
قال: يا إلهي ... ما أقل ما تعرف النساء! ما هذا؟ حدسك؟
ذلك أنه في تلك اللحظة حضر الموت وأرسى رأسه على قدم المحفة. وكان بوسعه أن يشم أنفاسه.
وتحرك فوقه الآن، ولكنه لم يعد له أي شكل بعد. كان يشغل حيزا وحسب. - قولي له أن يرحل.
ولكنه لم يرحل، بل اقترب منه.
قال له: إن أنفاسك تحرقني، أنت أيها اللعين.
واقترب منه أكثر فأكثر، ولم يستطع الآن أن يتحدث إليه، وحين أدرك أنه لا يستطيع الكلام اقترب منه أكثر، وحاول الآن أن يزيحه عنه دون أن يتحدث، ولكنه تحرك فجثم عليه حتى أصبح كل ثقله على صدره، وإذ هو جاثم عليه وهو لا يستطيع الحركة أو الكلام، سمع المرأة تقول: «السيد نائم الآن. احملوا المحفة برفق وأدخلوها إلى الخيمة.»
ولم يستطع أن يتكلم كي يقول لها أن تجعله يرحل عنه، وكان الآن جاثما بثقل أكبر حتى إنه يمنعه عن التنفس . وحينئذ، وحين كان الصبيان يرفعان المحفة، استقام الحال فجأة وانزاح العبء الذي كان جاثما فوق صدره.
كان الوقت نهارا، والصباح قد طلع منذ فترة، وسمع صوت الطائرة. وظهرت صغيرة جدا ثم دارت دورة عريضة وجرى الصبية وأوقدوا النيران، مستخدمين الكيروسين، كوموا الحشائش كعلامات حتى أصبح هناك صفان كبيران في كل ناحية من المكان الممهد، وأطارتها نسمة الصباح نحو المخيم. ودارت الطائرة دورتين أخريين، خفيضة هذه المرة، ثم انسابت هابطة واستقامت وهبطت في سلاسة. ثم ها هو «كومبتون» العجوز يأتي ماشيا تجاهه مرتديا بنطالا عليه سترة من التويد وقبعة بنية من اللباد.
قال «كومبتون»: ما الأمر أيها الديك العجوز؟
قال له: ساق معطوبة. هل لك في بعض الفطور؟ - شكرا. سأتناول بعض الشاي فحسب. لن أتمكن من اصطحاب السيدة. ليس هناك مكان إلا لشخص واحد. إن شاحنتك في الطريق.
وانتحت الزوجة ب «كومبتون» جانبا وطفقت تتحدث إليه. وعاد «كومبتون» وقد زاد انشراحه.
قال: سندخلك إليها على ما يرام. وسوف أعود لاصطحاب السيدة. والآن فإني أخشى أنه يتعين علينا الوقوف في «أروشا» للتزود بالوقود. يحسن بنا أن نسرع. - والشاي؟ - لا يهم.
ورفع الصبية المحفة وحملوها حول الخيمات الخضراء وعبر الصخرة، وخرجوا بها إلى السهل وعلى طول صفوف العلامات، التي كانت الآن تشتعل متوهجة وقد التهمت النار كل الحشائش، والهواء يروح عليها، إلى أن وصلوا إلى الطائرة الصغيرة. وكان من الصعب إدخاله إليها، ولكن ما إن دخل حتى اضطجع على المقعد الجلدي، وبرزت الساق المعطوبة من أحد جانبي المقعد حيث يجلس «كومبتون» وأدار «كومبتون» المحرك ودلف إلى مكانه. ولوح مودعا زوجته والصبية. وإذ تحول الضجيج إلى الزفير المعهود، مالا جانبا «وكومبتون» يراقب الحفر التي تحفرها الخنازير البرية في الأرض، وزأرت الطائرة وارتجت على طول الممر بين النيران وارتفعت مع آخر رجة. وشاهدهم جميعا يقفون أسفل منه ، يلوحون بأذرعتهم، والمخيم إلى جوار التل، منبسط الآن، في حين تمتد آثار الحيوانات الآن في سلاسة حتى المستنقعات الجافة، وكان ثمة حياة جديدة لم يرها أبدا من قبل . والآن ... ظهور الحمر الوحشية المستديرة الصغيرة، والتياتل، نقاطا كبيرة الرأس تبدو وكأنها تتسلق إذ هي تتحرك في خطوط طويلة تجاه السهل، تتفرق الآن إذ الظل يرتفع في اتجاههما، فهي صغيرة الآن، وحركتها ليس بها أي ركض، والسهل منبسط على مشارف البصر، رمادي أصفر الآن، وأمامه ظهر «كومبتون» العجوز التويدي والقبعة البنية اللبادية. ثم أشرفا على أول التلال والتياتل تنساب مصعدة فوقها، ثم حلقا فوق جبال ذات أعماق.
وحينئذ، بدلا من الذهاب تجاه «أروشا»، انحرفا يسارا، فاستنتج أن في الوقود بقية، ورأى حين نظر تحته سحابة وردية اللون مليئة بالثقوب، تتحرك فوق الأرض، وفي الهواء، كندف الثلج التي تنذر بعاصفة جليدية، تأتي من لا مكان، وعرف أنها جحافل الجراد الذي يأتي من الجنوب. ثم أخذا يصعدان ويتجهان نحو الشرق فيما يبدو، ثم أظلم الجو ودخلا في عاصفة، والمطر كثيف فكأنما يطيران فوق شلال، ثم خرجا منها وأدار «كومبتون» رأسه وابتسم وأشار بيده. وهناك، أمامه، كان كل ما يستطيع أن يرى عريضا عرض الدنيا بحالها، عظيما، سامقا، ناصع البياض في الشمس إلى درجة لا تصدق، القمة الرباعية لجبل «كليمنجارو». وحينئذ عرف أنه ذاهب إلى ذلك المكان. •••
وعند ذاك فحسب توقف الضبع عن الخوار في الليل، وبدأ يصدر صوتا غريبا بشريا يقترب من البكاء. وسمعته المرأة وتحركت في قلق. ولم تستيقظ. ورأت نفسها في الحلم في بيتها في «لونج آيلاند» بولاية نيويورك، في الليلة التي تسبق ظهور ابنتها على المسرح لأول مرة. وبطريقة ما، كان والدها حاضرا، وكان جافا جدا معها. ثم تعالى ضجيج الضبع إلى درجة أيقظتها، وللحظة لم تدر أين هي وانتابها خوف شديد، ثم تناولت البطارية وسلطت ضوءها على المحفة الأخرى التي أدخلوها إلى الخيمة بعد أن استغرق «هاري» في النوم. كان بوسعها أن ترى هيئته تحت حاجز الناموسية، ولكن ساقه كانت بارزة على نحو ما ومعلقة على طرف المحفة. وكانت الضمادات قد سقطت كلها ولم يكن باستطاعتها أن تنظر إليها.
صاحت: يا غلام! يا غلا... يا غلا...
ثم قالت : «هاري»، «هاري»!
ثم ارتفع صوتها صائحا: «هاري»! آه يا «هاري»!
ولم يكن ثمة جواب. ولم يكن بوسعها أن تسمعه يتنفس.
وخارج الخيمة كان الضبع يطلق نفس الضجيج الغريب الذي أيقظها. ولكنها لم تسمعه لأن صوت دقات قلبها كان يعلو عليه.
الآن أرقد لأنام
في تلك الليلة رقدنا على الأرض في الغرفة وأنصت إلى دود القز وهو يأكل. كان دود القز يتغذى في رفوف مليئة بأوراق التوت ويمكنك سماعه طوال الليل وهو يأكل، وسماع صوته وهو يتحرك بين الأوراق. وأنا نفسي لم أرغب في النوم؛ لأني عشت فترة طويلة تسيطر علي فكرة أنني لو أغمضت عيني في الظلمة وتركت نفسي للنوم، ستخرج روحي من جسدي. وقد بقيت على تلك الحال وقتا طويلا منذ أن أصبت في انفجار بالليل وشعرت بروحي تخرج مني ثم تعود لي. وحاولت ألا أفكر في ذلك أبدا، ولكنها بدأت تخرج من يومها، في الليل، في نفس اللحظة التي أبدأ النوم فيها، ولا يمكنني الإبقاء عليها إلا بمجهود شاق للغاية. ولذلك في حين أعلم يقينا الآن أنها لم تكن تخرج حقيقة، ففي ذلك الصيف لم أكن على استعداد لأن أمر بتلك التجربة.
كانت عندي طرق مختلفة أشغل بها نفسي حين أرقد مستيقظا. كنت أفكر في غدير تعودت أن أصطاد فيه أسماك الطاروط عندما كنت صبيا؛ فأعود ثانية في ذهني إلى الصيد بكل تفاصيله على طول الغدير، أنظر تحت كل جذوع الأشجار، أتفحص كل منحنيات الضفة، أصطاد في المناطق العميقة والمسطحات الضحلة الصافية، أصيد أسماكا أحيانا، وأحيانا تهرب الأسماك مني. ثم أتوقف عن الصيد في الظهيرة كي أتناول غدائي، أجلس أحيانا على جذع شجرة عند الغدير، وأحيانا أخرى فوق ضفة عالية، أو تحت شجرة، وآكل دائما ببطء متأملا الغدير الذي يجري من تحتي وأنا آكل. وكثيرا ما ينفد طعم الصيد مني لأني لا أحمل معي سوى عشر ديدان داخل علبة تبغ. وحين استعملها كلها يتعين علي أن أبحث عن مزيد من الديدان، وأحيانا يكون صعبا أن أحفر في شاطئ الغدير حيث أشجار الدردار تحجب ضوء الشمس ولا توجد حشائش، بل التربة الرطبة العارية، وكثيرا لا أجد أي ديدان هناك. ومع ذلك، كنت دائما أجد نوعا ما من الطعم؛ وحدث مرة أنني لم أتمكن من العثور على أي طعم مما اضطرني إلى أن أقطع جزءا من السمكة التي اصطدتها كي استخدمه كطعم.
وكنت أعثر أحيانا على حشرات في مراعي المستنقع، في الحشائش أو تحت النباتات، فاستخدمها في الصيد. كانت هناك خنافس وحشرات لها أرجل مثل أعواد العشب، ويرقانات في كتل خشبية متعفنة، يرقانات بيضاء ذات رءوس صغيرة بنية اللون لا تستقر على خطاف السنارة وتضيع في ثنايا المياه الباردة، وقرادات الخشب تحت كتل الشجر المقطوع، حيث أعثر أحيانا على ديدان الصيد التي تسرع بالاختباء في التربة حالما أرفع كتلة الخشب عاليا.
وقد استخدمت في إحدى المرات عظاية سالامندر وجدته تحت جذع عتيق. كان السالامندر صغيرا جدا ومنمقا خفيف الحركة وذا لون جميل. كانت قدماه صغيرتين وحاول أن يثبت على الخطاف، وبعد تلك المرة الوحيدة لم أستخدم السالامندر كطعم أبدا، رغم أنني كنت أعثر على الكثير منه. كما أنني لم أستخدم صراصير الجداجد بسبب الطريقة التي تتحرك بها فوق الخطاف.
وأحيانا يكون الغدير يمر في وسط مرج فسيح، وفي حشائشه الجافة كنت أمسك بالجراد وأستخدمه طعما؛ وأحيانا أمسك بالجرادة وألقي بها في الغدير وأراقبها تطفو سابحة فوق الماء وتدور على سطحه حيث يقذفها التيار ثم تختفي حين تظهر سمكة طاروط فتبتلعها. وأحيانا كنت أصطاد في أربع أو خمس غدران مختلفة في الليلة الواحدة، بادئا من أقرب نقطة أستطيع تخيلها من منابعها ثم أصطاد على طول الغدير. وحين أنتهي بسرعة أكثر من اللازم ولا يمر الوقت في الليل، أكرر الصيد في الغدير نفسه مرة أخرى، بادئا من المصب في البحيرة وأصطاد عائدا إلى المنبع ، محاولا صيد كل الطاروط الذي لم أستطع صيده في المرة الأولى. وفي بعض الليالي كنت أخترع الغدران في خيالي، وكان بعضها شائقا جدا، وكان الأمر مثلما يكون المرء صاحيا ويحلم في نفس الوقت. وما زلت أذكر بعض تلك الغدران وأعتقد أنني اصطدت فيها، وأنها اختلطت بغدران حقيقية اصطدت فيها في الواقع. وخلعت عليها جميعا أسماء، وذهبت إليها بالقطار وأحيانا مشيت أميالا طوالا كيما أصل إليها.
ولكن في بعض الليالي لم أكن أستطيع الصيد، وفي تلك الليالي أبقى مستيقظا أتلو صلواتي مرارا وتكرارا، وأحاول أن أصلي من أجل كل الناس الذين عرفتهم وكان ذلك يستغرق وقتا طويلا، فإنك حين تحاول أن تتذكر كل الناس الذين عرفتهم، وتعود إلى أولئك الأشخاص الذين يمكنك أن تتذكرهم حسب المكان الذي كانوا فيه - والذي كان في حالتي غرفة السطوح في البيت الذي ولدت فيه - وكعكة زفاف والدي ووالدتي في صندوق من الصفيح معلق في عارض خشبي، وبرطمانات بها ثعابين وعينات أخرى من الحيوانات التي جمعها والدي حين كان صبيا وحفظها في الكحول، وترسب الكحول في البرطمانات حتى إن أظهر بعض الثعابين والحيوانات الأخرى أصبحت ظاهرة واستحالت إلى اللون الأبيض. ولو عدت بذاكرتك إلى تلك الأيام القصية لتذكرت عددا كبيرا من الناس، وإذا أنت صليت من أجلهم جميعا، فتتلوا: «السلام عليك يا ماري» و«أبانا الذي في السماوات» لكل واحد منهم فإن ذلك يستغرق وقتا طويلا، فيبزغ ضوء النهار في النهاية، وعندها تستطيع أن تنام، لو أنك كنت في مكان تستطيع النوم فيه في ضوء النهار.
وفي تلك الليالي، حاولت أن أتذكر كل شيء حدث لي، فأبدأ من قبل أن أذهب إلى الحرب وأعود بذاكرتي من شيء لآخر. ووجدت أنه ليس بوسعي أن أتذكر أبعد من غرفة السطوح تلك في منزل جدي. وعندما أبدأ من هناك وأسترسل مع ذكرياتي إلى أن أصل إلى الحرب.
وأتذكر أنه بعد وفاة جدي أننا انتقلنا من ذلك المنزل إلى منزل جديد صممته وابتنته والدتي. وحرقنا كثيرا من الأشياء التي لم نستطع نقلها في الفناء الخلفي، وأتذكر تلك البرطمانات التي في حجرة السطوح وهي تلقى في النيران، وكيف أنها أحدثت فرقعة من حرارة النار وتوهجت النيران من جراء الكحول الذي كان فيها، أتذكر الثعابين وهي تحترق في الفناء الخلفي. ولكن لم يكن هناك أناس في تلك الذكريات وإنما أشياء فحسب، ولم أستطع حتى أن أتذكر من هو الذي قام بحرق الأشياء، وأستمر في ذلك حتى أصل إلى الأشخاص فأتوقف وأصلي من أجلهم.
وأتذكر عن المنزل الجديد كيف أن والدتي كانت تنظف الأشياء على الدوام وترتبها. ومرة حين كان والدي غائبا في رحلة صيد قامت بعملية تنظيف شاملة في البدروم وأحرقت كل شيء لم يكن له لزوم هناك. وحين عاد والدي وهبط من مركبته الصغيرة وربط الحصان كانت النيران ما زالت مشتعلة في الطريق المجاور للمنزل. وخرجت لمقابلته. وناولني بندقيته ونظر إلى النار وتساءل: ما هذا؟
وقالت والدتي من الشرفة: إنني كنت أنظف البدروم يا عزيزي. كانت واقفة هناك لملاقاته وهي تبتسم. وتطلع والدي إلى النيران وركل شيئا بقدمه. ثم انحنى والتقط شيئا من وسط الرماد. قال لي: أحضر جاروفا يا نك. وذهبت إلى البدروم وأحضرت جاروفا، ونبش والدي الرماد بعناية كبيرة. وأخرج من بين الرماد بلطات حجرية وسكاكين سلخ من الحجر وأدوات لصنع رءوس السهام، والكثير من رءوس السهام. كانت كلها مسودة متكسرة بفعل النيران. وأخرجها والدي كلها بالجاروف بعناية شديدة وبسطها على الحشائش بجوار الطريق. وكانت بندقيته في جرابها الجلدي، وحقيبتا صيده على الحشائش حيث تركها حين هبط من مركبته.
قال: خذ البندقية والحقيبتين إلى المنزل يا نك، وأحضر لي صحيفة. وكانت والدتي قد دلفت إلى داخل المنزل. وتناولت البندقية وكانت ثقيلة الحمل تضرب في ساقي وحقيبتي الصيد، واتجهت بها إلى المنزل. قال والدي: خذ كل واحدة على حدة. لا تحاول أن تحمل الكثير مرة واحدة. فوضعت حقيبتي الصيد وأخذت البندقية إلى المنزل وأحضرت صحيفة من كوم الصحف المتراكمة في مكتب والدي. وفرد والدي كل القطع الحجرية المسودة المكسورة على الصحيفة ثم لفهم فيها. قال: لقد تهشمت أفضل رءوس السهام. ودلف إلى المنزل بحمولته بينما مكثت أنا بالخارج على الحشائش مع حقيبتي الصيد. وبعد برهة حملتهما إلى داخل المنزل. وحين أتذكر ذلك، لم يكن هناك سوى شخصين، ولهذا فإني أصلي من أجلهما.
ومع ذلك فهناك بعض الليالي التي لا أتمكن فيها حتى أن أتذكر صلواتي. كان بوسعي أن أصل فقط إلى جملة «كما في السماء كذلك على الأرض»، ثم يتعين علي أن أعود ثانية من البداية، ولكني لا أتمكن مطلقا من تجاوز تلك العبارة. وعند ذاك أضطر إلى الاعتراف بأنني لا أتذكر وأترك صلواتي تلك الليلة وأحاول شيئا آخر. وهكذا، في بعض الليالي أحاول أن أتذكر جميع الحيوانات الموجودة في العالم بأسمائها ثم الطيور ثم الأسماك ثم البلاد والمدن ثم أنواع الطعام وأسماء جميع الطرق التي يمكن أن أتذكرها في شيكاغو، وحين لا أستطيع أن أتذكر أي شيء على الإطلاق بعد ذلك أعمد إلى الإصغاء. ولا أتذكر أي ليلة لم يكن بوسعي أن أسمع أشياء فيها. ولو كنت أستطيع الحصول على ضوء لما كنت أخاف أن أنام، لأنني أعرف أن روحي لن تخرج مني إلا في حالة الظلام. ولذلك كان من الطبيعي أن أكون في كثير من الليالي في مكان أستطيع فيه الحصول على ضوء، وعندها أنام؛ لأنني أكون دائما تقريبا متعبا، وكثيرا ما أكون نعسانا للغاية. وإنني متأكد أيضا أنني قد نمت مرات كثيرة دون أن أشعر، ولكني لم أنم مطلقا مع علمي بأنني سوف أنام. وفي تلك الليلة كنت أستمع إلى صوت دود القز. كان بوسعك سماع دود القز وهو يأكل بكل وضوح في الليل، وأنا أرقد وعيناي مفتوحتان أستمع له.
وكان هناك شخص واحد آخر معي في الحجرة وكان مستيقظا كذلك. واستمعت إليه وهو مستيقظ لمدة طويلة. لم يكن باستطاعته أن يرقد ساكنا في هدوء كما أفعل أنا؛ لأنه ربما لم يتعود مثلي على أن يكون مستيقظا. كنا راقدين على بطانيات مفروشة فوق أكوام من القش، وحين يتحرك كان القش يصدر صوتا، بيد أن دود القز لم يكن يفزع من أي ضوضاء تصدر عنا واستمر يأكل بانتظام. كانت هناك أيضا ضوضاء الليل على مبعدة سبعة كيلومترات وراء خطوط القتال في الخارج، ولكنها كانت مختلفة عن الضوضاء الخفيفة داخل الحجرة في الظلام. كان الرجل الآخر في الحجرة يحاول الرقاد في هدوء. ثم تحرك ثانية. وتحركت أنا أيضا حتى يعلم أنني مستيقظ. كان قد عاش عشر سنوات في شيكاغو. وقد تم تجنيده عام 1914م حين عاد إلى إيطاليا لزيارة أسرته، وخصصوه كي يكون جندي مراسلة لي لأنه يتحدث الإنجليزية. وسمعته ينصت، ولذلك تحركت ثانية وسط بطاطيني.
سألني: ألا تستطيع النوم يا سيدي الملازم؟ - كلا. - ولا أنا أيضا. - ما الأمر؟ - لا أعرف. لا أستطيع النوم. - أتشعر أنك على ما يرام؟ - بالتأكيد. إني على ما يرام. فقط لا أستطيع النوم.
سألته: هل تريد أن نتحدث برهة؟ - بالتأكيد. ماذا يمكنك أن تتحدث عنه في ذلك المكان اللعين؟
قلت: هذا المكان حسن جدا.
قال: بالتأكيد. إنه على ما يرام.
قلت: احك لي عن حياتك في شيكاغو.
قال: أوه. لقد حدثتك عن كل ذلك من قبل. - قل لي كيف تزوجت؟ - لقد قلت لك ذلك أيضا. - هل كان الخطاب الذي تلقيته يوم الاثنين منها؟ - بالتأكيد. إنها تكتب لي دائما. إنها تكسب مالا كثيرا من ذلك المكان. - سيكون لك مكان جميل حين تعود. - بالتأكيد. إنها تديره ببراعة. وهي تكسب مالا وفيرا. - سألته: ألا تظن أننا سنوقظهم بحديثنا؟
قال: كلا: لا يمكنهم سماعنا. وعلى كل حال، إنهم ينامون كالخنازير. أنا لست كذلك. أنا عصبي.
قلت: تحدث بهدوء. أتريد أن تدخن؟
ودخنا بمهارة رغم الظلام. - إنك لا تدخن كثيرا يا سيدي الملازم. - كلا. إنني على وشك الإقلاع عن التدخين.
قال: حسنا. إن التدخين لا يعود عليك بأي نفع، وأعتقد أنك بذلك لن تفتقده. هل سمعت أبدا عن رجل كفيف لا يريد أن يدخن لأنه لا يستطيع أن يرى الدخان وهو يخرج؟ - لا أصدق ذلك.
قال: أنا أرى أنه كلام فارغ أيضا. لقد سمعت ذلك في جهة ما. تعرف كيف يسمع المرء الأشياء.
وصمت كلانا. وأنصت إلى دود القز.
سأل: هل تسمع ديدان القز تلك اللعينة. بوسع المرء سماعها وهي تمضغ.
قلت: هذا غريب. - قل لي يا سيدي الملازم، هل هناك شيء حقا يمنعك من النوم؟ إني لا أراك تنام أبدا. إنك لم تنم أي ليلة منذ أن كنت معك.
قلت: لا أعرف يا جون. إني مررت بفترة بالغة السوء في مطلع هذا الربيع، وهو ما يزعجني عند حلول الليل.
قال: مثلي تماما. كان يجب علي ألا اشترك في هذه الحرب. إني شديد العصبية. - ربما تتحسن حالتك. - قل لي يا سيدي الملازم، لماذا اشتركت في هذه الحرب على أية حال؟ - لا أعرف يا جون. كنت أرغب في ذلك حينذاك.
قال: ترغب؟ يا له من سبب رائع!
قلت: علينا ألا نتحدث بصوت مرتفع.
قال: إنهم ينامون كالخنازير. وعلى كل حال هم لا يفهمون اللغة الإنجليزية. إنهم لا يفقهون شيئا. ماذا تنوي أن تفعل بعد أن تنتهي الحرب وتعود إلى الولايات المتحدة؟ - سألتحق بعمل في صحيفة. - في شيكاغو؟ - ربما. - هل قرأت مرة ما يكتب هذا الرجل «برسبين»؟ إن زوجتي تقطع لي مقالاته وتبعث بها لي. - بالتأكيد. - هل قابلته يوما؟ - كلا، ولكني رأيته. - كم أود أن أقابل هذا الرجل. إنه كاتب ممتاز. زوجتي لا تعرف الإنجليزية ولكنها تشتري الصحيفة، كما تعودت وأنا في المنزل، وتقطع لي المقالات وصفحة الرياضة وتبعث بها لي. - كيف حال بناتك؟ - إنهن على ما يرام. إحدى البنات في الصف الرابع الآن. أتعرف يا سيدي الملازم، لو لم يكن عندي أطفال لما كنت الآن جندي المراسلة لك. كانوا سيبقون علي في الجبهة طول الوقت. - إني سعيد أن لك أطفالا. - وأنا أيضا. إنهن بنات طيبات، ولكني أريد صبيا. ثلاث بنات وما من صبي. إن هذا شيء محزن. - لم لا تحاول أن تنام؟ - كلا. لا أستطيع أن أنام الآن. إني مستيقظ تماما الآن يا سيدي الملازم. ولكني قلق عليك لأنك لا تنام. - سأكون على ما يرام يا جون. - تصور شاب مثلك ولا ينام! - سأكون على ما يرام. إنما الأمر يحتاج وقتا. - يجب أن نكون على ما يرام. لا يستطيع أحد أن يستمر دونما نوم. أهناك أي شيء يسبب لك قلقا؟ أيشغل فكرك شيء ما؟ - كلا يا جون. لا أظن ذلك. - عليك أن تتزوج يا سيدي الملازم. عندها لن تقلق على شيء. - لا أعرف. - عليك أن تتزوج. لماذا لا تنتقي لنفسك فتاة إيطالية حسنة ذات مال وفير؟ إنك تستطيع الحصول على من تريد. أنت شاب وقد حصلت على أوسمة جيدة، وذو مظهر حسن وقد جرحت مرتين. - إني لا أحسن التحدث باللغة الإيطالية. - إنك تتكلمها جيدا. وليذهب الكلام إلى الجحيم. ليس عليك أن تتحدث معهن. تزوجهن. - سوف أفكر في الأمر. - أنت تعرف بعض الفتيات، أليس كذلك؟ - بالتأكيد. - حسنا، تزوج إذن من أغنى واحدة فيهن. ستكون أي واحدة زوجة صالحة لك بسبب الطريقة التي ينشأن بها هنا. - سوف أفكر في ذلك. - لا تفكر في ذلك يا سيدي الملازم، افعل ذلك. - وهو كذلك. - الرجل يجب أن يتزوج. لن تندم مطلقا على ذلك. كل رجل يجب أن يكون متزوجا.
قلت: وهو كذلك. هيا نحاول أن ننام قليلا. - وهو كذلك يا سيدي الملازم. سأحاول مرة أخرى. ولكن تذكر ما قلته لك.
قلت: سأتذكره. والآن هيا ننم قليلا يا جون.
قال: وهو كذلك. أرجو أن تنام يا سيدي الملازم.
وسمعته يلتف ببطانيته فوق القش ثم أصبح هادئا جدا، وأنصت إليه وهو يتنفس على نحو منتظم. ثم بدأ شخيره. وقد سمعت شخيره لمدة طويلة ثم توقفت عن الإنصات وأنصت إلى دود القز وهو يأكل. كان يأكل بانتظام وهو يتحرك بين أوراق التوت. كان عندي شيء جديد أفكر فيه ورقدت في الظلام وعيناي مفتوحتان وفكرت في جميع الفتيات اللاتي عرفتهن وكيف كان يمكن أن يصبحن زوجات. كان موضوعا شائقا جدا للتفكير، وقد تفوق فترة على التفكير في صيد سمك الطاروط وتداخل مع صلواتي. بيد أنني في النهاية عدت إلى موضوع صيد السمك، لأنني وجدت أن بإمكاني أن أتذكر جميع الغدران، وهناك دائما شيء جديد عنها، في حين أن الفتيات - بعد أن أفكر فيهن وقتا ما - تشحب ذكراهن ولا أستطيع استعادتهن في ذهني، وانتهى الأمر إلى أن اختلطت صورتهن وأصبحن متشابهات إلى حد ما، وتركت التفكير فيهن كلية تقريبا. بيد أني واصلت صلواتي، وصليت كثيرا من أجل جون خلال الليالي التالية، وقد تم سحب فرقته من الخدمة العاملة قبل هجوم أكتوبر. وكنت سعيدا بأنه لم يكن هناك، لأنه كان سيصبح مصدر قلق كبير لي. وقد جاء إلى المستشفى في ميلانو ليزورني بعد ذلك بعدة شهور، وكان محبطا للغاية لأني لم أتزوج حتى الآن، كان يستعد للعودة إلى أمريكا وكان على ثقة تامة من موضوع الزواج وأن الزواج يمكن أن يصلح كل شيء.
عشرة هنود
بعد أحد احتفالات عيد الرابع من يوليو، مر «نك» بتسعة هنود سكارى على قارعة الطريق، وكان عائدا من المدينة إلى منزله في وقت متأخر مع «جو جارنر» وأسرته في العربة الكبيرة. ويذكر «نك» أنهم كانوا تسعة أشخاص، لأن «جو جارنر» جذب أعنة الجياد وكان يقود العربة في الغسق وقفز إلى الأرض على الطريق، وجذب أحد الهنود من أمام مسار العجلات. وكان الهندي نائما وقد دس وجهه في الرمال. وجذبه «جو» بعيدا إلى ناحية الشجيرات وعاد ثانية إلى مكان القيادة في العربة. قال «جو»: هذا يجعل عددهم تسعة. ما بين هذه المنطقة وطرف المدينة.
قالت مسز «جارنر»: يا لهؤلاء الهنود!
وكان «نك» يجلس في المقعد الخلفي مع ولدي جارنر. كان يتطلع من مكانه في المقعد الخلفي ليرى الهندي مقعيا حيث جذبه «جو» بعيدا عن الطريق.
تساءل «كارل»: هل هو «بيللي تابلشو»؟ - كلا. - إن سرواله كبير يشبه سروال «بيللي». - كل الهنود يرتدون سراويل متشابهة.
قال «فرانك» الابن الثاني لجو جارنر: لم أره بالمرة. لقد هبط بابا إلى الطريق وعاد ثانية قبل أن أرى أي شيء. ظننت أنه ذهب يقتل ثعبانا.
قال «جو جارنر»: يبدو لي أن كثيرا من الهنود سيقتلون ثعابين الليلة.
وقالت مسز جارنر: يا لهؤلاء الهنود!
وساروا في طريقهم. والتوى خط السير عند الطريق الرئيسي وسار مصعدا وسط التلال. وكان الحمل ثقيلا على الجياد. فنزل الأولاد وساروا على أقدامهم. كان الطريق رمليا. وتطلع «نك» من على قمة التل إلى مبنى المدرسة. وشاهد أنوار مدينة «بتوسكي»، كما رأى أنوار مرفأ «سبرنجز» عبر خليج «ترافيرس» الصغير. وعادوا مرة أخرى إلى العربة.
قال «جو جارنر»: ينبغي لهم أن ينثروا بعض الحصباء على هذا الطريق.
وسارت العربة على طول الطريق وسط الغابات. وجلس «جو» ومسز «جارنر» متجاورين في المقعد الأمامي. وجلس «نك» بين الصبيين. وخرج بهم الطريق إلى الخلاء. - هنا بالضبط داس بابا الثعبان بالعربة. - كلا، بعد ذلك.
فقال جو، دون أن يدير رأسه: إن المكان الذي حدثت فيه تلك الواقعة ليس هو المهم، فبوسع المرء أن يدوس ثعبانا في أي مكان.
فقال «نك»: لقد رأيت ذئبين في الليلة الماضية. - أين؟ - هناك عند البحيرة. كانا يبحثان عن الأسماك الميتة على طول الشاطئ.
فقال كارل: ربما كانا مجرد قطين. - بل كانا ذئبين. وأعتقد أنني أعرف منظر الذئاب.
فقال كارل: هذا أكيد، فأنت تعرف فتاة هندية.
فقالت مسز جارنر: لا تقل هذا يا كارل. - حسن. إنهن يتساوين في رائحتهن.
فضحك جو جارنر.
قالت مسز جارنر: كف عن الضحك يا جو. لا أريد لكارل أن ينطق بمثل هذا الكلام.
فسأل جو: هل تعرف فتاة هندية حقا يا «نك»؟ - كلا.
فقال فرانك: بل يعرف يا بابا أن اسمها «برودنس ميتشل». - كلا. - إنه يراها كل يوم. - كلا.
وشعر «نك» وهو يجلس بين الصبيين وسط الظلام بالخواء والسعادة في داخلية نفسه؛ لأنهم يحاولون استثارته حول موضوع «برودنس ميتشل».
قال: إنها ليست فتاتي.
قال كارل: ماذا يقول! إنني أراهما معا كل يوم.
قالت الأم: إن كارل لا يستطيع أن يعرف أي فتاة ولا حتى هندية.
وحافظ كارل على هدوئه.
قال فرانك: إن كارل لا يستطيع التعامل مع الفتيات. - اخرس!
قال جو جارنر: لا عليك يا كارل، فالفتيات لا يعثرن على الشبان بسهولة هكذا. انظر إلى والدك.
فقالت مسز جو وهي تدنو من جو مع اهتزازات العربة: أجل هذا ما تقوله. حسن، لقد عرفت الكثير من الفتيات في زمانك. - أراهن أن بابا لم يصادق أبدا فتاة هندية.
فقال جو: لا تظنن ذلك! من الأفضل أن تسعى للإبقاء على «برودنس» يا «نك».
وهمست زوجته ببضع كلمات ضحك لها جو.
تساءل فرانك: علام تضحك؟
فحذرته زوجته قائلة: إياك أن تقول يا جارنر.
وضحك جو ثانية.
قال جو جارنر: فليبق «نك» على «برودنس»، فإن عندي أنا فتاة رائعة.
فقالت مسز جارنر: هكذا يكون الكلام.
كانت الجياد تشق طريقها بصعوبة في الرمال. وفرقع جو بسوطه في الظلام صائحا: هيا، إلى الأمام. سيتعين عليكم أن تجروا حملا أكبر من هذا غدا.
وركضوا هبوطا على طول التل، والعربة ترتج. ونزل الجميع عند البيت. وفتحت مسز جارنر الباب ودلفت إلى الداخل، ثم ظهرت ثانية وفي يدها مصباح. وأنزل «كارل» و«نك» الحاجيات من على ظهر العربة. وجلس «فرانك» في المقعد الأمامي ليقود العربة إلى المخزن ويحل وثاق الجياد. وصعد «نك» الدرجات وفتح باب المطبخ. وكانت مسز جارنر تشعل النيران في الموقد. والتفتت بعد أن صبت الغاز على الأخشاب.
قال «نك»: مع السلامة يا مسز جارنر. شكرا على توصيلكم إياي. - أوه، عفوا يا «نك». - لقد أمضيت وقتا رائعا. - إننا نستمتع بصحبتك. ألا تبقى قليلا لتناول بعض العشاء؟ - من الأفضل أن أرحل. أظن أن والدي في انتظاري الآن. - حسنا. هيا إذن. من فضلك أرسل لي «كارل» من الخارج. - حسنا. - مساء الخير يا «نك». - مساء الخير يا مسز جارنر.
وخرج نك من العربة واتجه إلى المخزن. وكان جو وفرانك يحلبان الأبقار. قال نك: «مساء الخير. لقد كان وقتا رائعا.»
فصاح جو جارنر: مساء الخير يا «نك». ألن تبقى لتناول الطعام؟ - كلا. لا أستطيع. هل لك أن تقول لكارل إن والدته تريده؟ - حسنا. مع السلامة يا «نك».
وسار «نك» عاري القدمين على الممر خارج المروج التي تقع خلف المخزن. كان الممر صقيلا والندى رطبا تحت قدميه العاريتين. وارتقى سورا عند نهاية المروج وهبط أخدودا وقدماه مبللتان من طين المستنقعات، ثم ارتقى طريقا في غابة من أشجار الخوخ الجافة إلى أن شاهد أنوار الكوخ. وصعد على السور واستدار إلى الدهليز الأمامي. ورأى والده من خلال النافذة يجلس إلى المائدة، يقرأ في ضوء المصباح الكبير. وفتح «نك» الباب ودلف إلى الداخل.
قال والده: حسنا يا نك، هل قضيت يوما طيبا؟ - لقد أمضيت وقتا رائعا يا أبي. لقد كان احتفالا عظيما بالرابع من يوليو. - هل أنت جائع! - بالطبع. - ماذا فعلت بحذائك؟ - لقد تركته في العربة عند أسرة جارنر. - تعال إلى المطبخ معي.
وسار والد «نك» في المقدمة ومعه المصباح. وتوقف ورفع غطاء صندوق المثلجات. ودلف «نك» إلى المطبخ. وأحضر والده قطعة من الدجاج البارد على طبق، وإبريق من اللبن، ووضعهما على المائدة أمام «نك»، وأنزل المصباح.
قال: هناك فطيرة أخرى. هل يناسبك هذا؟ - عظيم!
وجلس والده على مقعد إلى جوار المائدة التي يغطيها المفرش المشمع. وكان ظله يترامى ضخما على جدار المطبخ. - من ربح في مباريات الكرة؟ - فريق «بتوسكي». خمسة لثلاثة.
وجلس والده يرقبه وهو يأكل، وملأ كوبه من إبريق اللبن.
وشرب «نك» ومسح فمه في المنشفة. ومد والده يده إلى الرف ليحضر الفطيرة وقطع جزءا كبيرا ل «نك». كانت فطيرة فراولة. - وماذا فعلت أنت يا أبي؟ - لقد ذهبت للصيد هذا الصباح. - وماذا اصطدت؟ - أسماكا صغيرة ليس إلا.
وجلس الوالد يرقب نك وهو يأكل الفطيرة.
وتساءل نك: وماذا فعلت بعد الظهر؟ - ذهبت للنزهة عند المخيم الهندي. - وهل رأيت أحدا هناك؟ - كان الهنود جميعا في المدينة يعبون الخمر ... - ألم تر أحدا على الإطلاق؟ - رأيت صديقتك «برودنس». - وأين كانت؟ - كانت في الغابة مع «فرانك» و«شبيرن». قابلتهم مصادفة. كانوا يلهون.
ولم يكن والده ينظر ناحيته. - ماذا كانوا يفعلون؟ - لم أنتظر لأرى. - قل لي ماذا كانوا يفعلون؟
قال والده: لا أعرف. لقد سمعتهم يتحادثون ليس إلا ... - وكيف عرفت أنهم هم؟ - لقد رأيتهم. - ظننت أنك قلت إنك لم ترهم؟ - أوه، بل رأيتهم.
فسأل نك: ومن كان معها؟ - «فرانك» و«شبيرن». - وهل كانوا ... هل كانوا ... - هل كانوا ماذا؟ - هل كانوا سعداء؟ - أعتقد ذلك.
ونهض والده من على المائدة وخرج من خلال ستارة الباب إلى المطبخ. وحين عاد مرة أخرى كان «نك» يحدق في طبقه. كان يبكي.
وتناول والده السكين ليقطع الفطيرة: هل لك في مزيد منها؟
قال «نك». لا. - يحسن بك أن تأخذ قطعة أخرى. - كلا، لا أريد مزيدا.
ونظف والده المائدة.
سأل «نك»: وفي أي منطقة من الغابة كانوا؟ - خلف المخيم.
وحدق نك في طبقه.
وقال والده: من الأفضل أن تأوي إلى الفراش يا نك. - حسنا.
وتوجه «نك» إلى غرفته، وخلع ملابسه ودلف إلى فراشه. وسمع والده يجول هنا وهناك في غرفة المعيشة. ورقد «نك» على الفراش فترة طويلة ووجهه مدفون في الوسادة. ونسي بعد برهة كل فكرة عن «برودنس»، واستغرق آخر الأمر في النوم. وحين استيقظ في الليل سمع صوت الرياح تعصف وسط أحراج الشوكران خارج الكوخ، وموجات البحيرة تتكسر على الشاطئ، ثم استغرق في النوم مرة أخرى. وفي الصباح كانت الرياح تعصف والأمواج تتدافع على الشاطئ. وبقي مستيقظا فترة طويلة قبل أن يتذكر أن قلبه قد تحطم.
وجال في خاطره: إن قلبي قد تحطم. إذا كان ذلك هو شعوري فلا بد أن قلبي قد تحطم.
وبعد برهة، سمع والده يطفئ المصباح ويتجه إلى غرفته. وسمع الرياح تعصف وسط الأشجار في الخارج، وشعر بها تدلف باردة خلال ستارة الباب. ورقد فترة طويلة ووجهه مدفون في الوسادة، ونسي ...
الأسد الطيب
يحكى أن أسدا كان يعيش في أفريقيا مع غيره من الأسود. كانت الأسود الأخرى أسودا شريرة، وفي كل يوم تلتهم حمر الوحش والحيوانات البرية وكل أنواع الوعول. وأحيانا كانت الأسود الشريرة تأكل الآدميين أيضا. كانت تأكل السواحيليين والأمبولوس
1
والواندوروبو،
2
وكانت تحب خاصة أكل التجار الهنود. كانت تلك الأسود تجد التجار الهنود سمانا ولذيذين.
بيد أن ذلك الأسد، الذي نحبه لأنه طيب جدا، كان لديه جناحان على ظهره . وبسبب هذين الجناحين، كانت بقية الأسود الأخرى تسخر منه.
كانوا يقولون: انظروا إليه بهذين الجناحين على ظهره. ثم ينفجرون ضحكا عليه.
وكانوا يقولون: انظروا ماذا يأكل. لأن الأسد الطيب لم يكن يأكل إلا المكرونة والجمبري لأنه كان شديد الطيبة.
وكانت الأسود الشريرة تنفجر ضاحكة ثم تأكل تاجرا هنديا آخر بينما زوجاتهم تشربن دماءه، ويتلمظن بألسنتهن: لاب لاب لاب، مثل القطط الكبيرة، ولا يتوقفن إلا كي يزمجرن بالضحك أو يزأرن ضاحكات من الأسد الطيب والسخرية من جناحيه. كانوا أسودا غاية في السوء والشر حقا.
ولكن الأسد الطيب كان يجلس طاويا جناحيه ويسأل بأدب إن كان يستطيع الحصول على كوكتيل الجين أو قهوة أمريكية، وكان يشرب ذلك دائما بدلا من دماء التجار الهنود. وفي يوم رفض أن يأكل ثمانية أغنام أفريقية، وأكل فحسب بعض الإسباجيتي وشرب كوبا من عصير الطماطم.
وقد أثار هذا غضبا شديدا للأسود الشريرة، وقالت إحدى اللبؤات - وكانت أكثرهم شرا ولا تستطيع أبدا إزالة دماء التجار الهنود من على شواربها حتى لو حكت وجهها في الحشائش: من تكون أنت حتى تظن أنك أفضل بكثير منا؟ من أين أتيت أيها الأسد الذي يأكل المكرونة؟ ماذا تفعل هنا على أية حال؟ وزمجرت في وجهه وزأروا جميعا ولكن دون أي ضحكات. - إن أبي يعيش في مدينة يقف فيها تحت ساعة البرج ويتطلع تحته إلى آلاف الحمائم، وكلها من أتباعه. وحين تطير الحمائم تثير من الضوضاء ما يماثل هدير النهر. وفي مدينة أبي من القصور ما يفوق كل قصور أفريقيا، وهناك أربع جياد ضخمة من البرونز تقف في مواجهته، وكل واحد منها يرفع إحدى ساقيه خوفا من أبي.
قالت اللبؤة الشريرة وهي تلعق شواربها: إن والدك كان كلبا صغيرا.
وقال واحد من الأسود الشريرة: إنك كاذب. لا توجد مثل تلك المدينة.
وقال أسد شرير آخر: ناولني قطعة من لحم تاجر هندي، فلحم الماشية طازج زيادة عن اللزوم.
قالت اللبؤة الأشد شرا: إنك كاذب حقير وابن جرو ليس إلا. وأعتقد الآن أني سأقتلك وآكلك كلك بجناحيك.
وشعر الأسد الطيب بالفزع الشديد من كلام اللبؤة؛ لأنه كان يرى عينيها الصفراوين وذيلها يعلو وينخفض والدم يحيط بشواربها، وهو يشم زفيرها الكريه؛ لأنها لم تكن تنظف أسنانها قط بالفرشاة. وكذلك كان تحت مخالبها نتف قديمة من لحم تاجر هندي.
قال الأسد الطيب: لا تقتليني. إن أبي أسد نبيل والجميع يحترمونه، وكل ما قلته عنه صحيح.
وعند ذاك قفزت اللبؤة الشريرة نحوه، ولكنه ارتفع عن الأرض بجناحيه ودار حول الأسود الشريرة دورة واحدة، وكلهم يزأر وينظر إليه. ونظر إليهم من عل وجال بخاطره: كم هم متوحشون هؤلاء الأسود.
ودار حولهم مرة أخرى كي يجعلهم يزأرون بقوة أشد، ثم انقض منخفضا كيما يرى عيني اللبؤة الشريرة التي قامت على ساقيها الخلفيتين حتى تحاول أن تمسه بمخالبها. قال: أديوس، فقد كان يتكلم الإسبانية بطلاقة بوصفه أسدا مثقفا. وناداهم قائلا بفرنسيته الرائعة: أوريفوار.
وزأروا جميعا وزمجروا بلهجة أسدية أفريقية.
ثم طار الأسد الطيب أعلى فأعلى واتخذ وجهته إلى مدينة فينيسيا، وهبط في الميدان الكبير واغتبط الجميع لرؤيته. وطار برهة وقبل أباه على كلا خديه، وشاهد الجياد ما تزال رافعة أقدامها، والكنيسة تبدو أكثر جمالا من فقاعة الصابون، والناقوس في مكانه والحمائم تتجه إلى أعشاشها لتمضية المساء.
قال أبوه: كيف حال أفريقيا؟
ورد الأسد الطيب: وحشية للغاية يا أبي.
قال أبوه: لدينا أنوار تضاء بالليل الآن هنا.
ورد الأسد الطيب بوداعة الابن: هذا ما أراه.
وأسر له أبوه: إنها تتعب عيني قليلا. إلى أين ستذهب الآن يا بني؟
قال الأسد الطيب: إلى بار هاري.
قال الأب: بلغ سلامي إلى «سيبرياني» وقل له إنني سأذهب إليه عما قريب كي أدفع فاتورة حسابي.
قال الأسد الطيب: أجل يا أبي. ثم هبط إلى الأرض بخفة وسار إلى بار هاري على مخالبه الأربعة.
وعند سيبرياني لم يكن أي شيء قد تغير. كان هناك جميع أصدقائه. ولكنه هو كان قد تغير نوعا ما نتيجة إقامته في أفريقيا.
وسأله السيد سيبرياني: كوكتيل الجين، سنيور بارون؟
ولكن الأسد الطيب كان قد قطع الطريق كله من أفريقيا، وقد غيرته أفريقيا.
سأل: أليس عندك ساندوتشات تاجر هندي؟ - كلا. ولكني أستطيع الحصول على بعضها لك. - وفي الوقت الذي سيستغرقه البحث عنها ، أعطني بعض المارتيني الجاف. وأضاف: مع جين جوردون.
قال سيبرياني: حسن جدا. حسن جدا.
وتطلع الأسد إلى وجوه الناس الطيبين من حوله، وعرف أنه في وطنه، ولكنه أيضا قد سافر. كان سعيدا جدا.
الثور الوفي
يحكى أنه كان هناك ثور ولم يكن اسمه فرديناند ولم يكن يهتم أبدا بالزهور. كان يحب القتال، وقاتل جميع الثيران الأخرى التي من سنه، أو في أي سن، وأصبح بطلا.
كان قرناه صلبين كالخشب، وطرفاهما حادين مثل نصل السهام. وكانت قاعدتهما تؤلماه حين يقاتل، ولكنه لم يأبه لذلك مطلقا. وكانت عضلات عنقه عالية تشكل كتلة هائلة تسمى بالإسبانية
morillo ، وهذه الكتلة ترتفع كالتل حين يكون مستعدا للقتال. كان دائما مستعدا للقتال وكان جسده أسود لامعا وعيناه صافيتين.
كان أي شيء يدفعه إلى القتال، وهو يقاتل بجدية شديدة، تماما كما يفعل بعض الأشخاص حين يأكلون أو يقرءون أو يذهبون إلى الكنيسة. وكل مرة يقاتل فيها يفعل ذلك بنية القتل، وكانت الثيران الأخرى لا تخافه لأنها من نسل جيد ولا تشعر بالخوف. غير أنهم لم يكونوا يرغبون في إثارته، ولا يرغبون أن يقاتلوه.
لم يكن مشاغبا ولا شريرا، بيد أنه كان يحب أن يقاتل، مثلما يحب أحدهم أن يغني أو أن يصبح ملكا أو رئيس جمهورية. لم يكن يفكر أبدا. كان القتال التزامه وواجبه وبهجته.
كان يقاتل فوق الأرض المرتفعة الصخرية. ويقاتل تحت أشجار البلوط الفلينية، ويقاتل في المروج الخصبة بجوار النهر. وكان يمشي خمسة عشر ميلا كل يوم من عند النهر إلى الأرض المرتفعة الصخرية ويقاتل أي ثور ينظر إليه. ومع ذلك، لم يكن يغضب أبدا.
ولكن ذلك ليس صحيحا على إطلاقه، فقد كان يصطخب غضبا في داخله. ولم يكن يعرف سبب ذلك لأنه لم يكن بوسعه أن يفكر. كان نبيلا للغاية وكان يحب القتال.
فماذا حدث له إذن؟ لقد عرف الرجل الذي يقتنيه - إذا كان لأي شخص أن يقتني هذا الثور - كم هو ثور عظيم، ولكنه مع ذلك كان قلقا؛ لأن هذا الثور كان يكلفه الكثير من المال لقتاله الثيران الأخرى. كان ثمن كل ثور يفوق الألف دولار، وبعد أن يقاتلوا الثور العظيم تصبح قيمتهم أقل من مائتي دولار فقط، وأحيانا أقل من ذلك.
لهذا فقد قرر الرجل - وكان رجلا حميدا - أن ينقل دماء ثوره العظيم إلى سلالة ثيران أخرى بدلا من إرساله إلى حلبة المصارعة الحقيقية ليقتل هناك، لذلك فقد انتقاه كي يهجن الأبقار.
بيد أن ذلك الثور كان ثورا غريبا. فحين أطلقوه أول مرة إلى المرعى مع الأبقار الولود، رأى بقرة شابة جميلة ورشيقة ذات عضلات حسنة وأكثر إشراقا وأجمل من كل الأبقار الأخرى. ولهذا، لما لم يكن بوسعه القتال، وقع في غرامها ولم يلتفت لأي من الأبقار الأخرى. كان يرغب أن يبقى معها وحسب، ولم تكن الأخريات تعني له أي شيء.
وكان الرجل الذي يمتلك مزرعة الثيران يأمل أن يتغير الثور، أو يتعلم، أو يصبح مختلفا عما كان عليه. ولكن الثور بقي على ما هو عليه يحب ما أحب ولا واحدة غيرها. كان يريد أن يظل معها وحسب، ولا تعني له الأخريات أي شيء بالمرة.
ولذلك، أرسله الرجل مع خمسة ثيران أخرى كي يقتل في حلبة المصارعة، فقد كان الثور على الأقل يجيد القتال، رغم أنه كان وفيا. وقد صارع على نحو رائع وأعجب الجميع به، وكان أكثر المعجبين به هو المصارع الذي قتله. ولكن سترة الرجل الذي قتله والذي يسمى «الماتادور» كانت مبللة تماما في النهاية، وكان فمه جافا للغاية.
قال الماتادور وهو يناول سيفه لمساعده: يا له من ثور شجاع.
وناول المساعد السيف مرفوع المقبض، بينما النصل يقطر دما من قلب الثور الشجاع الذي لم يعد لديه مشاكل من أي نوع بينما أربعة جياد تجره خارج الحلبة.
قال المساعد، الذي يعرف كل شيء: أجل إنه ثور كان على الماركيز دي فيامور أن يتخلص منه لأنه كان وفيا.
قال الماتادور: ربما كان علينا كلنا أن نكون أوفياء.
صفحة غير معروفة