فرح أنطون: حياته – أدبه – مقتطفات من آثاره
تصانيف
ويمكن الاستدلال على تقديس الأشجار بمسألة النار، فإن الأقدمين كانوا يحترمون النار ويقدسون أنواعها، فقد ورد عن الرومانيين أنهم كانوا يضعون النور المقدس في الهياكل، ويقيمون عليه العذارى حارسات، ويسمونهن الفستال. وورد عن أهل المكسيك قبل اكتشاف الإسبانيين بلادهم أنهم كانوا يقيمون في كل سنة حفلة عظيمة على جبل فيه أشجار كثيرة من اليو كساستين، فيأتي كاهنهم بأضخم رجل من أسرى الحرب الذين لديهم ويلقيه تحت الشجرة، ثم يضع على صدره شيئا مثقوبا ويأتي بغصن شجرة، ثم يأخذ بحكه في ذلك الثقب حكا عنيفا شديدا متتابعا، حتى تظهر النار ويلتهب العود بشدة الاحتكاك، فيشق حينئذ صدر الأسير ويستخرج قلبه؛ ليكون هدية للنار المقدسة الجديدة. ويكون الشعب مجتمعا في سفح الجبل، فعندما تظهر له النار الجديدة يتعالى هتافه وصراخه؛ لأنه يتخذها في كل عام علامة لعدم انطفاء الحياة في هذا العالم .
وقد ورد في كتب الفيدا الهندية أن احترام النار أمر مقدس، وله عند البراهمة حفلة عظيمة، ولا سيما النار المقدسة التي يضرمونها باحتكاك غصنين يؤخذان من شجرة معلومة. ويقول الفيدا: ضع رباطا في أحد الغصنين كما يوضع اللجام في رقبة الجواد. هذا هو الذي يعيد الحياة. ثم جئ بسيدة النسل وحك الغصنين لتوليد «أنيي»؛ وهي النار. إن أنيي كامن في الغصن كما يكمن الجنين في جوف أمه.
وقد عثرنا على تفسير بديع للذبائح التي كان يذبحها الهنود وغيرهم من الأقدمين ويستخرجون أحشاءها، فإنهم كانوا يرمزون بالحيوانات المذبوحة إلى مبدأ الحياة العظيم، فيقولون إن غيوم السماء هي البقر التي في أحشائها النار، ومتى اضطرمت النار وانفجرت في الغيوم بشكل صاعقة اتخذت شكل الماء، ثم نزل الماء مطرا إلى الأرض فتحول إلى عصير النبات، ثم متى جف العصير ويبس النبات بقيت النار فيه، وهي موجودة في كل حي لأنها مبدأ الحياة. ومن أغرب الغرائب أن يكون العلم الحديث قد توصل إلى شبه هذه النتيجة، فإنه يقول إن كل جرثومة حية تفرز الحرارة ولا تبرد إلا متى عدمت الحياة.
فالنتيجة التي تظهر من كل ما تقدم عن تقديس النار بسيطة، وهي أنه إذا كانت النار مقدسة؛ فالأشياء التي تتخذ لإضرامها يجب أن تكون مقدسة. وهكذا قدست الأشجار. والغريب أن النار المقدسة - التي مر ذكرها - عند المكسيكيين والهنود إنما كانت تستخرج بأغصان من النباتات الحلمية، والأشجار التي يبرز من جذعها جذور إلى الأرض، على طريقة التينة الهندية. وهذا مما يزيد الأقوال السابقة ثبوتا. (7) عبادة الأشجار لمنفعتها
وفي استطاعتنا أن نضع في جملة أسباب تقديس الأشجار: انتفاع الإنسان بها؛ فإن من أثمار بعض الأشجار ما يعصر منه شراب طيب مسكر؛ كشراب «الصومه» الهندي الذي يقدسه الهنود، ثم إن الإنسان الأول كان يقتات من أثمار الشجر فقط، فكان عليه بحكم الطبع أن يكرم مادة رزقه. ومعلوم أن من الأشجار ما هو مثمر كثير الإقبال، وما هو عاقر لا يثمر أو قلما يثمر؛ فبديهي أن الإنسان الأول قد انتبه إلى ذلك وأكرم المثمرة وأهمل العاقرة. وإنما يصح هذا القول بالخصوص على أشجار آسيا التي كانت جبالها وأوديتها تغص بها في الزمن القديم، وكلها مثمرة تكفي البشر. وقد أثبت الباحثون أن في أذهان البشر في كل البلاد المتوحشة والمتمدنة ذكرى وطن قديم، فيه خضرة دائمة، وجنات لا يجف لها ماء ولا يفنى لها ثمر، فاستنتجوا من ذلك أن الإنسان إنما يذكر بذلك جنات آسيا التي كان يعيش فيها في بدء أمره، ومنها هاجر بعد ذلك إلى البلاد القاصية، وبعضهم يسمي تلك الجنات عدنا. (8) الشجرة المدافعة والتي تخلق الحيوان
ومن الأشجار المقدسة شجرة تعرف باسم «سكروبيا» كان لها شأن عظيم في أميركا الجنوبية، وليس ذلك فقط لأن أهل تلك البلاد كانوا يستخرجون النار منها بحك عود في ثقب يكون في جذعها، بل لأنها كانت ذات مزية أخرى عظيمة.
ذلك أن النمل - كما هو معلوم - يكون خطرا شديدا على النبات في الأقاليم الحارة، لهجومه عليه جيوشا جيوشا وقطعه أوراقه؛ مما يوقف نموه وينتهي بإيباسه. وهكذا كان شأن النمل في أميركا الجنوبية مع أشجارها، إلا مع شجرة «سكروبيا»؛ فقد كانت هذه الشجرة وطنا دائما لنوع من الحشرات يشبه النمل، ولكنه عدو لدود له، فإذا صعد النمل إلى السكروبيا ليؤذيها هاجمته الحشرات الصغيرة التي فيها، وحدث بين الفريقين قتال ينتهي دائما بانغلاب النمل وارتداده، فكأن تلك الحشرات حراس للشجرة.
ثم إن الغريب في أمر هذه الشجرة سوى ما ذكر أنها تجازي هذه الحشرات عن دفاعها عنها أحسن جزاء، فإنه يتولد على أطراف غصونها العليا حويوينات أو هنات نباتية صغيرة، تتخذها تلك الحشرات طعاما لها، فكأن الشجرة تهيئ لها الطعام جزاء عن دفاعها عنها. وقد أعجب علماء النبات بهذا الاتفاق بين الشجرة والحشرات.
ومعلوم أن الإنسان الطبيعي الأول كان شديد الملاحظة لما حوله؛ إذ لم يكن لديه شيء يشغله عنه كما لديه الآن في الاجتماع، فلا بد أن يكون قد انتبه إلى هذا الاتفاق، ولا بد أنه يكون حين انتباهه إليه قد حكم بأن الشجرة تخلق من تلقاء نفسها هذه الحشرات للدفاع عنها، فهي إذا مباركة؛ إذ لو لم تكن كذلك لما كانت لها هذه المزية العجيبة. وهكذا قدسها وعبدها.
ثم إنه يوجد أمثلة أخرى على الأشجار التي كان يعتقد الأقدمون أنها تخلق حيوانات، فإن السائح نورنفور شاهد في سياحته في الشرق في القرن الثالث عشر طريقة كان يتخذها اليونان لزيادة نماء ثمار التين عندهم. وذلك أنه كان يوجد لديهم نوعان من التين: التين الجيد، والتين الرديء البري، فكانوا يقطفون التين الرديء في شهري حزيران وتموز، ثم يربطون ثماره بخيوط ويعلقونها في التينة الجيدة فتعطي ثمارا كثيرة، وربما تجاوز حاصل التينة 280 ليبرة، على حين أنهم إذا لم يضعوا التين الرديء عليها مربوطا بالخيط؛ فإن التينة لا تأتي بربع هذه الكمية.
صفحة غير معروفة