فرح أنطون: حياته – أدبه – مقتطفات من آثاره
تصانيف
وبعد أن صرف شكسبير مدة في التمثيل جمع جوقا وتولى إدارته. أما الروايات التي كان يمثلها فكان بعضها من الروايات القديمة، يتصرف بها جريا مع ذوق العصر، وبعضها من تأليفه. ويقال: إن أول رواية ظهرت من قلمه كان ظهورها في عام 1591؛ أي بعد انقضاء 8 سنوات على فراره من وطنه. وقد قال شراح هذه الرواية إن شكسبير أظهر فيها من المعرفة بعادات الطبقات الاجتماعية يومئذ، والتلميح إلى بعض الحوادث العصرية اللندنية ما وجه الأنظار إليه، ودل على عظيم استعداده. نقول: فهل كانت تلك السنوات الثماني التي صرفها في لندن كافية لجعل ذلك الفتى الطائش، الذي لم يتلقن علما في المدرسة، في ذلك المقام من المعرفة والاستعداد؟
ومنذ هذا الحين بدأت شمس شهرة شكسبير تطلع في سماء الأدب، فصار له أصدقاء في البلاط، ورغبت الملكة إليصابات في حضور إحدى رواياته، فمثل في البلاط إحداها في ليلة عيد الميلاد من عام 1597، فأعجب الملكة هذا الجوق ووعدته بحمايتها، فازدادت بذلك شهرته انتشارا.
وكان المال يرد عليه مع الشهرة لكثرة مكاسبه من رواياته، فعاد شكسبير إلى وطنه سترتفورد، فوجد أحوال عائلته في اختلال تام، فتلافى تلك الحالة، وزاد على ذلك أن ابتاع أحسن قصر في المدينة سنة 1597، ثم أخذ يبتاع كثيرا من الأراضي ويؤجرها للفلاحين من أبناء وطنه، فضلا عما كان يقرضهم إياه من الأموال تحسينا لأحوالهم، ولكنه مع مساعدتهم على هذا الوجه كان شديد الوطأة عليهم فيما يختص باستيفاء أمواله، وكثير التفنن في طرق كسب المال؛ ولذلك يتخذ فلاسفة العمران شكسبير مثلا حينما يرومون بيان المزايا التي خصت بها الأمة الإنكليزية ، من حيث المعرفة بطرق الكسب والتزام هذه الطرق، فإنهم يقولون إن أسمى رجالهم فكرا لا يهملون الأمور المادية، ويطلبون الكسب من كل وجوهه المشروعة. أما الفرنسويون فإنهم يغارون من هذا القول؛ لأنهم مشهورون بعدم اعتدادهم بالمال، وتفضيلهم الشرف والمجد عليه؛ ولذلك يذكرون شاعرهم فيكتور هيغو كلما ذكر الإنكليز شكسبير؛ لأن فيكتور هيغو كان شبيها بشكسبير من حيث الجمع بين سمو الفكر والمعرفة بطرق الكسب.
وفي عام 1603، توفيت الملكة إليصابات التي كانت حامية لصاحب الترجمة، فلم يخسر صاحب الترجمة شيئا بوفاتها؛ لأن الملك شارل الأول شمله بعنايته وحمايته، فأبرز يومئذ شكسبير أفضل رواياته، وهي: «كما تريد»، و«هملت»، و«أوتلو»، و«مكبث»، و«الملك لير»، فبلغ بها شكسبير ما لم يبلغه في إنكلترا شاعر ولا مؤلف لا قبله ولا بعده. ولكن بعد هذه الروايات الجميلة خمد فكر المؤلف أو فرغت جعبته، فصار يكتب فصولا متقطعة. وفي عام 1611، أحس بحاجته إلى الراحة، فعاد إلى وطنه سترتفورد، فزوج ابنتيه سوسان وجوديت، وانصرف إلى إدانة الأموال وشراء الأراضي حتى أدركته الوفاة في 23 نيسان، أو 3 أيار من عام 1616 وعمره 52 عاما فقط، فدفن في كنيسة سترتفورد. ويقال إن وفاته كانت بسبب السكر، وهو حديث خرافة على الأصح.
أما عائلة شكسبير فقد انقرضت بعده؛ إذ مات كل أولاده وحفدته دون أن يتركوا عقبا، ولكن من ترك مؤلفات كمؤلفاته فإن اسمه لا ينقرض ما دام الإنسان إنسانا.
مؤلفات شكسبير ومواضيعها
وهذه المؤلفات كثيرة يضيق المقام دون ذكرها بالتفصيل، فنكتفي بالاختصار، فنقول إنه ظهرت بين عام 1591 وعام 1611؛ أي بين السابعة والعشرين من عمره والسابعة والأربعين، فيكون شكسبير قد اشتغل بعد سن الأربعين سبع سنوات فقط، ولا يخفى أن سن الأربعين هي السن التي تنضج فيها مواهب الإنسان، وتبلغ فيها قوى نفسه أشدها، فيظهر حينئذ بما خلقه الله من القوة.
وكانت أولى رواياته رواية «شقاء ضائع في الحب»، مثلها في عام 1591، وهي التي أشرنا إليها آنفا، وموضوعها غرامي هزلي انتقادي. وتلتها رواية «كريم فيلونه» في سنة 1591 أيضا، وقد أخذ موضوعها من رواية هزلية قديمة. وكذلك رواية «الخطأ». أما رواياته المحزنة (التراجيدية) فقد كانت أولاها رواية «روميو وجوليت»، وقد مثلها في عام 1592 بعد رواية الخطأ، فكان لها تأثير عظيم ولا سيما في السيدات؛ لما حوته من العواطف الرقيقة التي يتبادلها الحبيبان روميو وجوليت. وفي عام 1592 أيضا، وضع روايته التاريخية «هنري السادس»، ثم تلتها في عام 1593 رواية «ريشار الثالث»، التي وردت فيها العبارة المشهورة المذكورة بالتفصيل في روايات «نهضة الأسد»، وهي: «علي بجواد! علي بجواد، فإنني أهب مملكتي لمن يعطيني جوادا.» وفي عام 1594 أبرز روايته «طيطس أندرونيكوس»، وبعضهم يرى أن هذه الرواية لم تكن من قلمه. وفي عام 1594 كتب رواية «تاجر البندقية»، ومدارها على رجل إسرائيلي يقرض الأموال، ثم كتب رواية «الملك حنا» في عام 1594، ورواية «لوكريس». وكلتا الروايتين نتيجة دخول المبادئ اليونانية إلى إنكلترا في تلك الأيام. وفي عام 1591 و1594 مثل «الشذرات أو المقاطيع»، وهي رواية ودادية أظهر فيها فضل الصداقة على الحب. ومما قاله فيها عن لسان صديق يوبخ صديقه لأنه خطف عشيقته:
خذ كل حب لي أيها الصديق. نعم، خذه كله، وقل لي الآن: ماذا زاد على ما كان عندك؟ اعلم أن كل حب لي وكل خير لي ليس لي فيه شيء؛ لأنه لك من قبل أن تأخذه، وأنا أصفح لك عن سرقتك، أيها اللص اللطيف، وإن كنت قد سلبتني كل ما ملكت يداي.
ومما يجب ذكره هنا أن شكسبير كان يشير بهذا الكلام على ما يظهر إلى اللورد سوتنتون أو اللورد بمبروك؛ لأنهما فعلا تلك الفعلة. أما المرأة ذات العينين الدعجاوين التي ورد ذكرها في هذه الرواية فلم يعرف لها خبر.
صفحة غير معروفة