فرح أنطون: حياته – أدبه – مقتطفات من آثاره
تصانيف
فهل يعرف القارئ من أين أخذنا هذه العبارة؟ لقد أخذناها من كلام للفيلسوف ابن رشد في تعريبه كلاما لأرسطو، وأصلها هكذا: هذه السياسات كلها المقصود بالسنن الموضوعة فيها إنما هو المدينة والكل لا الشخص. فانظر أيهما أقرب إلى أفهام القراء في هذا الزمان.
وليس المراد بذلك أن العبارة التي بسطناها أولا هي أبلغ من العبارة الثانية التي خطها قلم ابن رشد؛ كبير فلاسفة العرب وأمير البلغاء، ولكن المراد أنها أقرب إلى أفهام القراء في هذا الزمان. وقد قال الجاحظ: كما لا ينبغي أن يكون اللفظ عاميا ولا ساقطا سوقيا، فكذلك لا ينبغي أن يكون وحشيا، إلا أن يكون المتكلم به بدويا أعرابيا، فإن الوحشي من الكلام يفهمه الوحشي من الناس، كما يفهم السوقي رطانة السوقي. ومن ذلك يثبت أن الفهم هو شرط الجواز في استعمال المعاني والألفاظ.
ولكن قد يصيح هنا كثيرون من محبي اللغة ويقولون: إن ذلك يقتل ملكة البلاغة والفصاحة؛ لأنه يضيق دائرة اللغة، ويقضي على أساليبها الجميلة، وتعابيرها الأنيقة؛ إذ ماذا يحل بنا وبلغتنا إذا وجب علينا ألا نخاطب الناس إلا بما يفهمونه؟ فالجواب عن ذلك سهل جدا على المستر ويلمور، وهو قادر على أن يحجهم من كلام أئمة البلاغة أنفسهم، قال الإمام فخر الدين الرازي: اعلم أن الفصاحة خلوص الكلام من التعقيد، وأصلها من قولهم: أفصح اللبن: إذا ذهبت عنه الرغوة، وهي بالاصطلاح عبارة عن الألفاظ المبينة الظاهرة، المتبادرة إلى الفهم، والمأنوسة الاستعمال لمكان حسنها.
وقال أبو هلال العسكري: سميت البلاغة بلاغة لأنها تنهي المعنى إلى قلب السامع فيفهمه، والبلاغة مأخوذة من قولهم: بلغت الغاية: إذا انتهيت إليها وبلغتها غيري. وقال في الفصاحة: أما الفصاحة فقد قال قوم إنها من قولهم: أفصح فلان عما في نفسه إذا أظهره. والشاهد على أنها هي الإظهار قول العرب: أفصح الصبح: إذا أضاء. وقال في موضع آخر: يسمى الكلام الواحد فصيحا بليغا إذا كان واضح المعنى ، سهل اللفظ، وجيد السبك، غير مستكره فج، ولا متكلف وخم، ولا يمنعه من أحد الاسمين شيء لما فيه من إيضاح المعنى وتقويم الحروف.
وقال صاحب المثل السائر: إن الكلام الفصيح هو الظاهر البين، وأعني بالظاهر البين أن تكون ألفاظه مفهومة لا يحتاج في فهمها إلى استخراج من كتاب لغة. وإنما كانت بهذه الصفة لأنها تكون مألوفة الاستعمال.
هذا ما يعتقده في الفصاحة والبلاغة أئمة اللغة وكتابها. وإذا كان فهم السامع كلام المتكلم والقارئ كلام الكاتب هو الشرط في الفصاحة والبلاغة؛ فقد جاز أن يقال إن البلاغة والفصاحة عند الأمم تكونان بحسب أخلاقها وعاداتها وحاجاتها وأساليبها، فما يكون بلاغة وفصاحة في البدو لا يكون بلاغة وفصاحة في الحضر، وما يكون بليغا لدى العرب لا يكون بليغا لدى الإفرنج وبالعكس. فبناء على ذلك، يجب على المعلمين والكتاب ألا يتقيدوا بالماضي تقيد الأعمى، فإن الماضي إنما هو الطفولية، كما قال باكون، والإنسانية تتقدم صاعدة شيئا فشيئا في مراقي الزمن الأزلية، وهي جسم حي كل ما فيه نام: جسمه، ونفسه، ولغته، فإذا تقدمت النفس وارتقت وبقيت اللغة متأخرة جامدة صارت النفس خرساء لا تحسن التعبير عن حاجاتها.
فيؤخذ من ذلك كله أن المستر ويلمور مصيب في طلبه لغة جديدة غير لغة الطفولية، ولكن هذه اللغة الجديدة المطلوبة التي تقتضيها حالة العصر، ويوجب سير التمدن قيامها ليست اللغة العامية؛ لأن هذه لغة ساقطة، ولكنها لغة بين اللغة الفصحى القديمة التي لا يفهمها العامة والخاصة أيضا وبين العامية. وهذه اللغة الجديدة موجودة الآن، وهي لغة المجلات والجرائد التي تحسن اختيار ألفاظها وأساليبها، وتتقي الخطأ فيها، فما طلب إذا المستر ويلمور إلا شيئا موجودا.
نتج إذا أن اللغة الجديدة التي ستكون اللغة العربية في المستقبل هي تلك اللغة البسيطة السهلة التي لا يكون فيها لفظ غير مألوف الاستعمال، ولا تعبير من التعابير البدوية القديمة التي لا مسوغ لاستعمالها في زمن كهذا الزمان. هي تلك اللغة التي تغيب ألفاظها وراء عرائس المعاني كأنها زجاج شفاف يظهر باطنه مع ظاهره، أو نبع صافي الماء تعد في قعره درر الحصى واحدة واحدة. هي تلك اللغة التي يقرأ أبناؤها مقامات الزمخشري والحريري واليازجي ورسائل الخوارزمي والهمذاني، فيأسفون على الوقت والقوى التي أنفقوها في صف الألفاظ بعضها وراء بعض، ويضحكون من تلك الكلمات الغريبة والأساليب العجيبة كما ضحك أعرابي من بيت لأبي تمام تلي عليه فلم يفهمه وقال إنه ليس بعربي. هي تلك اللغة التي إذا مات رجل عظيم من أبنائها قال كاتبها في تأبينه: مات رجل عظيم، لا كسفت الشمس، وخسف البدر، ومادت الجبال، وغارت البحار، بل هي تلك اللغة التي كل كاتب وكل معلم من أبنائها يكتب في دفتره الخصوصي مقال الجاحظ: ليست الفصاحة بالتفصح؛ لأنه لا يزيد متزيد في كلامه إلا لنقص يجده في نفسه.
أساتذة المدارس وتلامذتها في أوقات العطلة الصيفية
قربنا من أيام العطلة المدرسية.
صفحة غير معروفة