فرح أنطون: حياته – أدبه – مقتطفات من آثاره
تصانيف
كلنا نبحث في داء الشرقيين ودوائه، وكل واحد منا يشخص العلة من وجه، ويصف لها الدواء الذي يراه، فبعضهم يقول: داؤنا السياسة، وغيره يقول: داؤنا الرئاسة، وآخر يقول: داؤنا انحطاط التجارة والصناعة والزراعة، وعدم وجود قوة سياسية تحميها في داخل الأمة وفي خارجها، وغيرهم يقول: إن داءنا تعدد عناصرنا ومذاهبنا واستحكام الانقسام والبغض في نفوسنا، وآخر يقول: لا، بل داؤنا تربية مدارسنا، فإن دروسها وتربيتها لا تنطبق على حاجاتنا وأخلاقنا، وآخر يقول: لا، بل داؤنا منازعة الأجانب لنا الرزق والسيادة في بلادنا منازعة تحول دون إصلاح شئوننا.
على أن المتأمل البصير الذي ألف النظر في أخلاق الأمم ومعرفة الأسباب التي ترفعها وتحطها، يرى بعد إعمال الفكرة في جميع الوجوه التي تقدمت أن هنالك سببا فوق جميع تلك الأسباب. ولا مشاحة في أن تلك الأسباب أسباب حقيقية للانحطاط، ولكنها في الحقيقة أسباب فرعية؛ أي مسببات لا أسباب. وأما السبب الذي أشرنا إليه هنا، فهو الأصل الذي تتفرع منه جميع بلايا المشرق، وهو: عدم وجود الشخصيات الراقية بين أبنائه.
قد يمكن أن ترتفع الأسباب السياسية والدينية، قد يمكن أن تروج التجارة والصناعة والزراعة، قد يمكن أن تتحد عناصر الأمة ومذاهبها بتأثير يد قوية تحسن إدارة أزمة الأحكام، قد يمكن أن تعود أوروبا إلى رشدها، فتنظر إلى بلاد الشرق نظرها إلى أمم تريد لها الحياة لا إلى مستعمرات. كل ذلك قد يمكن أن يقع بأعجوبة أو بغير أعجوبة، ولكن وقوعه وحده لا ينيل الشرقيين ما يتمنونه من صيرورة أممهم أمما عزيزة راقية، بل يقيمون حينئذ على دورانهم في دائرة الانحطاط التي كانوا يدورون فيها حين كانوا أذلاء ضعفاء فقراء، تراهم يركضون ويجدون ويجمعون المال أكداسا إلى أكداس، فتخالهم صاعدين مرتقين، والحقيقة أنهم ما زالوا يدورون ضمن تلك الدائرة. إنهم كانوا من قبل فقراء منحطين، فأصبحوا بعد رواج أعمالهم أغنياء منحطين، وربما زادهم الغنى انحطاطا؛ لأن الثروة تبطر صاحبها إذا لم يكن أهلا لها، فضلا عن أنها تسهل له من إتيان الكبائر والصغائر ما كان عاجزا عنه قبل الوصول إليها.
بعدما تقدم تتضح لنا الأسباب في وجود مسائل نشكو ونعجب منها جميعا، فإننا نعلم بعده لماذا لا نعتبر أممنا أمما مجموعة بجامعة يحترمها الجميع ويخدمها الجميع، بل نعتبرها أفرادا متفرقين، ولكل واحد منهم مصلحة خاصة يسعى إليها، ولماذا يبتسم أكثرنا مزدرين ضاحكين حين يسمعون كلمة «المصلحة العمومية». نعلم لماذا الذين أصبحوا منا قادرين على النفع بثروتهم التي حصلوها بطرق مختلفة ليس لهم هم إلا التمتع بها بوقاحة وبله، دون أن يعملوا شيئا نافعا للأمة التي خرجوا منها وتحمل كل أثقالهم. نعلم لماذا حكامنا ورؤساؤنا، مدنيا ودينيا، متى ولوا شأنا عموميا؛ استخدموه لجر النفع إلى أنفسهم؛ لاعتبارهم الرعية بقرة حلوبا. نعلم لماذا نرى الأقوال عندنا كلها سامية جميلة، والآداب الاجتماعية والسياسية في أرقى مظاهرها في الظاهر، ولكن الأفعال والبواطن مما يضحك ويبكي. نعلم لماذا لا نقدر على الاجتماع والتعاون؛ ففقدنا بذلك أعظم القوات والعوامل في رفع الأمم؛ كإنشاء الجمعيات المختلفة للعلم والأدب والزراعة والصناعة والتجارة التي عليها مدار الارتقاء في هذا العصر، وبدونها لا يقدر الفرد أن يصنع شيئا عظيما، أو يحصل حقا ضائعا، حتى قال بعضهم في أوروبا: إن جمعيات العملة والزراعة والتجارة والصناعة هي التي تسوق اليوم السياسة والساسة في سبيل الارتقاء بقضيب من حديد.
فالدعوة إلى إيجاد شخصيات راقية في الشرق وتسهيل السبيل لها هي خير ما يخدم به الشرق وأبناؤه. وهذه الشخصيات الراقية توجد إما في الهيئة الحاكمة، وحينئذ ترقى الأمة وتوجد فيها شخصيات راقية طوعا أو كرها، وإما في الهيئة المحكومة، فتلزم الهيئة الحاكمة سبل الرشاد والسداد طوعا أو كرها. وارتقاء كل أمة إنما يقاس بعدد الشخصيات الراقية التي فيها، وهي نتيجة تهذيب النفس والعقل، وثمرة اختمار المبادئ الكريمة فيهما، وتأثير الوسط الذي يعيشان فيه جيلا بعد جيل. وما الإصلاح الاجتماعي الذي يدوي صداه في آذان الناس في هذا العصر إلا هذا الإصلاح.
على أن مقدمة رواية كهذه المقدمة لا تحتمل هذا البحث، وليس هو من مواضيعها، وإنما جر الكلام إليه ما قصدناه من بيان المبدأ الأول الذي يحتاج الشرق إليه، وبدونه لا تقوم له قائمة؛ لأنه يبني على غير أساس. فأنفع المطالعات لأبناء الشرق ما كان موضوعه الإصلاح الاجتماعي الذي تقدم ذكره، الذي أهم أغراضه ومراميه إيجاد شخصيات راقية.
الأمر الثاني:
أي أنواع الروايات توصلنا إلى الفائدة التي تقدم ذكرها في مقدمة الكلام؟ وهذا هو موضوع هذه المقدمة الحقيقي.
إن في الطبيعة البشرية عادة مألوفة، وهي: جر الإنسان الحبل لصوبه، كما يقول العوام، فكل إنسان يدعو إلى مبدئه ومذهبه، ويقبح رأي غيره، وأحيانا يكون هذا التقبيح مضحكا، وأحيانا يكون مقبولا، وإنما يكون مضحكا متى كان المقبح لا يرى إلا بعين واحدة، فإما أن يجهل ما في رأي غيره من الصواب، وإما أن يتجاهله لترويج بضاعة ، أو لاعتقاده حقيقة أنه غير صواب. ومذهب «الجامعة» ومبادئها في رواياتها وغير رواياتها معروفة عند قرائها، فلا حاجة إلى بسطها لتبيان فضل الروايات الاجتماعية عندها على سائر الروايات. ولكنا مع هذا لا نجر الحبل كثيرا لصوبنا؛ لكراهتنا هذا الخطأ الذي قد يقع فيه غيرنا.
إن الروايات التي تنشر الآن في اللغة العربية بعضها موضوع للفكاهة والخلاعة. وهذا النوع لا ننظر فيه؛ لأنه لا يستحق نظرا، وبعضها معرب، والقصد منه إبراز أحاسن الروايات الإفرنجية، وهو نادر جدا، وقلما يكون مستوفيا شروط تلك الروايات، وبعضها تاريخي. وهذا النوع التاريخي قسمان: فقسم منه يتضمن تاريخ الأمم الأوروبية، وقسم يتضمن تاريخ بعض أمم المشرق. أما القسم الأول فلا يستحق النظر أيضا؛ لأننا في غنى عن تاريخ أمم أوروبا، ومن يبرز منه شيئا عنده فلا يبرزه إلا للفكاهة، وأما القسم الثاني: وهو تاريخ بعض أمم المشرق، فالكلام فيه حسن؛ لأنه يوقف أهل ذلك التاريخ على تاريخهم، ولكن يتوجه على الروايات التاريخية أربعة اعتراضات:
صفحة غير معروفة