أما الاتجاه الثاني: فهو متطرف أيضا، إذ ينادي بأن استيعابنا للثقافة الأوروبية سيؤثر على تكويننا النفسي ويطبعه بطابع أجنبي، بحيث إننا حين نكتب سنجد أنفسنا مضطرين رغما عنا إلى المضي في نفس الطريق الذي مضى فيه الأوروبيون. وهو أيضا اتجاه خاطئ، ومعناه أن نغلق على أنفسنا الأبواب ونحاول أن نبدأ من البداية حتى ننتج الفن المصري الخالص المنقى من كل شائبة أجنبية.
وكلا الاتجاهين خاطئ، فنسيان أنفسنا يماثل تماما الوعي بأنفسنا وعيا مبالغا فيه، بحيث يجعلنا نبتعد عن كل ما أنتجه الآخرون باعتبار أنه ليس من إنتاجنا ولا يمت بصلة إلينا. وهذا الرأي الأخير يثير مشكلة كبرى أيضا لا بد من التعرض لها هنا، فأي شعب في الدنيا لا يمكن أن ينغلق على نفسه تماما وينعزل عن المجتمعات الأخرى. إن الشعوب كالأفراد ليست كتلا حديدية صماء، منفصلة لا يمكن أن يحدث بينها وبين أي كتلة أخرى مماثلة اتصال أو تجاوب، بل إنه حتى الكتل توجد لديها خاصية انجذابها لبعضها البعض. الشعوب كالأفراد في حالة تفاعل مستمر لا يتوقف أبدا، تؤثر في غيرها وتتأثر، وتلتقط من بين عادات هذا الشعب أو ذاك ما يتمشى مع ذوقها ووجدانها. إنها مجموعات هائلة الضخامة من البشر تحيا فوق أرض واحدة، تتزاور وتتفاعل وتتبادل ألوان المعرفة والثقافة، ومن المستحيل أن تتوقف عجلة التبادل أو التفاعل تلك.
لا يمكن إذن أن نعزل أنفسنا عن التيارات المسرحية في العالم، وعن أدب المسرح وتراثه، وأيضا لا يمكن أن يستمر هذا التفاعل من جانب واحد بحيث نظل نحن الآخرين المقلدين والعائشين عالة على شعوب سبقتنا في الحضارة.
ولا يبقى حينئذ سوى حل وحيد، هو أن نفتح أبوابنا على آخرها أمام الثقافات الأجنبية، وندرسها ونتعلمها، ولكننا لا نؤجل ما نستطيع أن نعمله نحن إلى أن تتم عملية الاستيعاب كلها، وإنما علينا أن ننفتح لنطلع على ثقافات غيرنا وفنونه ثم ننغلق وننسى هذه الثقافات تماما وتلك الفنون حين نريد أن نكتب لأنفسنا.
بهذه الطريقة وحدها نضمن مسايرتنا للعالم في أقصى وأحدث درجات تحرره، وفي ذات الوقت نضمن عدم إلغاء شخصيتنا الخاصة واليأس التام من فننا وثقافتنا. وأغرب شيء أن هذه الاتجاهات المتطرفة الخاطئة لا توجد في الحقل الثقافي الفني وحده، ولكنها موجودة أيضا في حقل آخر بعيد عن هذا كله، حقل الصناعة مثلا: إن خطة التصنيع تسير على نفس مبدأ الاعتماد الكامل على المصانع والمعدات الأوروبية، ومع أننا دائما نسمع أن هذا الاعتماد مؤقت جدا، بحيث إننا بدأنا منذ الآن في إجادة بعض مراحل التصنيع الأولى تمهيدا لتصنيع كل معداتنا بأنفسنا في المستقبل، مع هذا فإن أحدا لم يسأل نفسه: وحتى بفرض أننا صنعنا الآلات والمعدات هنا، فماذا تكون النتيجة الحتمية؟ النتيجة أننا سنظل أيضا تلامذة لأوروبا الصناعية، وستظل أوروبا تسبقنا بمراحل عديدة، ولن نتمكن يوما من الأيام أن نسبقها؛ إذ هي قد بدأت قبلنا بعشرات ومئات السنين، وأخضعت شكل معداتها وآلاتها لاحتياجاته الاجتماعية والاقتصادية والصناعية، ونحن نأخذ عنهم الصناعة كما ابتكروها هم وليس كما نحتاجها نحن، وسنظل نأخذها كما ابتكروها. أن ننتج «تراكتور» مصريا شيء جميل، ولكن سنظل بضع سنين إلى أن نستطيع إنتاجه، حيث تكون صناعة التراكتورات في أوروبا قد تطورت بأسرع مما نتصور، وأصبحت تكاليف إنتاج التراكتور هناك أقل بعشرات المرات من إنتاجنا هنا، وصناعته أكثر إتقانا. نفس ما يحدث في المسرح، فنحن مثلا إذا بدأنا إنتاج مسرح اللامعقول الآن على نسق ما يحدث في فرنسا، فإنه بعد عشر سنوات يكون هذا اللون من المسرح قد تطور إلى درجة غير معقولة، بينما نحن كالتلامذة لا نزال في مرحلة القراءة الرشيدة.
لهذا كان من رأي الكثيرين، فوق استيراد المصانع الأوروبية وإقامتها، أن نعنى في نفس الوقت بصناعتنا المحلية التي ننفرد بها ونطورها ونضخم إنتاجها إلى أن تصبح سلعة خاصة بنا تقف على أقدامها في السوق العالمي. لو أننا اتجهنا لتصنيع القطن وحشدنا له كل طاقتنا الصناعية، لو أننا استطعنا أن نحيل إنتاج السجاجيد والأكلمة إلى صناعة ضخمة، لو استطعنا أن نبتكر في صناعة «الحصر» والأسبتة وكل تلك الصناعات التي نتميز بها وننفرد، حينئذ كنا نستطيع أن نتحدث عن صناعة مصرية خالصة نابعة منا ومن ظروفنا ووحيدة من نوعها في العالم وفريدة.
التفاعل بيننا وبين أوروبا إذن تفاعل واجب ومحتم، وليس بيننا وبينها فقط، بل وبين آسيا وأفريقيا وأمريكا وبقية دول العالم، ولكن المشكلة الخطيرة هي أنه يجب أن يكون تفاعلا، أي يعتمد على الأخذ والعطاء والتأثير والتأثر؛ لأن الأخذ فقط والتأثر فقط لا يقودان في النهاية إلا لانعدام شخصيتنا.
لا بد أن تكون لنا إذن شخصيتنا المستقلة في الأدب والفن والعلم وفي كل مجال، شخصية تنمو على طريقين أساسيين؛ أولا: تعميق جذورها في تراثنا وتاريخنا، وثانيا: فتح جميع النوافذ الحضارية عليها. إننا نعود ونؤكد ونقول إنه يجب أن تكون لنا شخصيتنا المستقلة، فإذا لم تكن موجودة فعلينا أن نوجدها.
تلك هي النقطة الأساسية التي دفعتني للكتابة عن المسرح باعتبار أننا لم نجد بعد شخصيتنا المستقلة في المسرح (بصرف النظر عن غياب تلك الشخصية في الموسيقى أو الرسم أو غيرهما، فحديثنا ينصب فقط على المسرح)، ولقد ذكرنا أن هناك مسرحا حاضرا وموجودا، وكان موجودا من زمن طويل، ولكن الأمر الذي يحتمل كثيرا من الشك هو أن يكون ذلك المسرح ممثلا لشخصيتنا المسرحية. وفي رأيي الشخصي أنه لا يمثلها، وأنها لم تخلق بعد، ودون خلقها وزرعها وإنباتها مجهود ضخم متواصل لا بد أن يحصل عبئه كل مهتم بشئون المسرح وكل صديق له.
ورغم هذا فهناك أشياء ستساعدنا كثيرا في مهمتنا، فقط علينا أن ننسى كل مفهوماتنا الأوروبية التي تعلمناها عن أرسطو وشيكسبير وموليير ونقاد المسرح الكبار، وبعين كاشفة وبأفق مفتوح نبحث عن الأشكال المسرحية في حياتنا، إذ تلك هي البذور أو اللبنات الأولى أو مادتنا الخام التي منها سنصوغ الجنين ونضع الأساس.
صفحة غير معروفة