ليس يعني ذلك أن الموضوع، بغض النظر عن عناصره، لا يمكن أن يكون جزءا من الشكل الدال؛ فهذا جائز وممكن وفي هذه الحالة علي كمدرك أن أختبر هذا العنصر أو هذه العناصر كجزء من الشكل لا كشيء مستقل عنه؛ ولهذا يشدد بل على أننا يجب ألا نجلب معنا إلى العمل الفني عندما نحاول إدراكه جماليا أي شيء من حياتنا أو اهتماماتنا العملية، أي يجب ألا نتذوق أو نقيم العمل الفني من وجهة نظر اهتماماتنا الشخصية أو اعتقاداتنا أو عواطفنا أو تحيزاتنا الثقافية، بل من وجهة نظر العمل نفسه وبناء على الصفات أو الكيفيات الكامنة في الشكل الدال؛ فالشكل الدال وحده هو أساس الخبرة الجمالية ومصدرها، وبعبارة أخرى، علينا أن نتذوق العمل الفني موضوعيا، من ذاته ولأجل ذاته، هذه المقولة هي أساس ما يسمى عادة «النزاهة الجمالية»
aesthetic disinterestedness .
تقودنا هذه النقطة الأخيرة إلى ناحية هامة في نظرية بل؛ فلقد قال: إن موضوع الانفعال الجمالي هو الشكل الدال، لا التمثيل الذي قد يكون مضمون هذا الشكل، هذه المقولة تستلزم تمييزا بين إدراك التمثيل كموضوع له أبعاد نفسية أو معرفية أو أخلاقية أو سياسية أو ثقافية من ناحية، وإدراك الشكل الدال من ناحية أخرى، إن إدراك التمثيل يقترح انفعالا معينا فينا أثناء الخبرة الجمالية، ويعتمد هذا الاقتراح على مدى ونوعية المضمون، قد يكون المضمون معرفيا أو أخلاقيا وقد يهمني، وفي هذه الحالة أتفاعل معه بصورة شخصية خاصة تتناسب مع شخصيتي الثقافية وقدراتها العقلية والشعورية، والنقطة المهمة هنا هي أن إدراك التمثيل يصرفني عن البعد الفني للعمل ويجرني إلى ذاتي الشخصية ... إلى اهتماماتي الذاتية، يصبح العمل مصدر خبرة ذاتية، يصبح وسيلة إلى غاية لا غاية بذاته، أما إدراك الشكل الدال فلا يقترح انفعالا ذاتيا؛ لأن موضوعه هو الشكل الدال بذاته، ومعنى الشكل الدال كامن في الشكل ذاته.
وعندما نقول: إن الشكل الدال هو موضوع الانفعال الجمالي فنحن نعني أن هذا الموضوع يشكل بنية الانفعال عامة؛ إذ لا يمكن للانفعال أن يوجد بدون موضوع، وطبيعة هذا الانفعال تعتمد على طبيعة الموضوع، في هذه الحالة يكون موضوع الانفعال الجمالي هو الشكل الدال، أي الصفة الجمالية الكامنة في الشكل، ولا يمكن لهذه الصفة أن ترد إلى شعور باللذة أو إلى أية حالة نفسية أخرى أيا كان نوعها أو أهميتها؛ لأن هذا الرد يصرفنا عن العمل الفني ذاته، وبهذه الحالة تفقد التجربة صفتها الجمالية وتصبح تجربة نفسية أو عقلية، ومثلما قال جورج إدوارد مور
G. E. Moore
في «مبادئ الأخلاق» بخصوص «الخير» فإن الصفة الجمالية بسيطة ونحن ندركها بصورة مباشرة أثناء التجربة الجمالية؛ ولهذا السبب أكد بل على ضرورة تنمية «الذوق الجمالي» كشرط ضروري ليس فقط للتجربة الجمالية، ولكن أيضا للتنظير الجمالي في طبيعة الفن.
يبدو واضحا مما سبق أن هناك علاقة سببية بين الشكل الدال والانفعال الجمالي، وعندما نسأل بل: ما هو الانفعال الجمالي؟ يقول إنه الانفعال الذي يثيره الشكل الدال. وعندما نسأله: ما هو الشكل الدال؟ يقول إنه الشكل الذي يثير الانفعال الجمالي! وبذلك يقترف بل في تعريف هذين المصطلحين «مصادرة على المطلوب الأول»؛ لأننا لا نعرف إن كان الشكل الدال هو في الواقع سبب الانفعال الجمالي، ولكي نعرف إن كان هو السبب فلا بد من أن نؤكد سببيته بدون الإشارة إلى الانفعال الجمالي؛ أي يجب أن نبرهن على أن الشكل الدال هو فعلا سبب الانفعال الجمالي من غير إحالة (إشارة) إلى هذا الانفعال؛ ولهذا السبب ذهب بعض النقاد إلى أن بل لم يعطنا معيارا للتمييز بين الشكل والشكل الدال؛ لأن بإمكاننا أن نسأل: كيف نميز بين الشكل والشكل الدال؟ فمن المؤكد أن ليس كل شكل هو شكل دال. نعم؛ كل شكل دال هو شكل ولكن ليس كل شكل هو شكل دال، وعندما نقول: إن الشكل الدال هو الشكل الذي يثير الانفعال الجمالي فإننا لا نستطيع أن نكذب أو نصدق هذا القول؛ لأن بل لم يعطنا معيارا للتمييز بين الشكل العادي والشكل الدال.
ومن جهة ثانية، يؤكد بل أنه ينبغي للخبرة الجمالية أن تكون نزيهة؛ فالإدراك الجمالي هو إدراك للقيمة الجمالية الكامنة في الشكل الدال للعمل الفني وتذوق هذه القيمة من أجل ذاتها دون مزج هذا الإدراك بأي عنصر ذاتي أو شخصي، وكما رأينا فإن موضوع الخبرة الجمالية هو الشكل الدال فقط، وعندما ينحرف الإدراك الجمالي نحو التمثيل فإنه يفقد صفته الجمالية. من الواضح أن هذه المقولة تفصل بين الذات الشخصية وملكة الذوق الجمالي؛ فالذات الشخصية هنا تتراجع والذات الجمالية تفعل، ولكن هل هذا الانفصال ممكن؟ ترى هل يمكن لأي إنسان أن يقصي ذاته الشخصية أو العملية، أو يحجبها، أثناء الخبرة الجمالية؟ وبالتالي، هل يمكن للشكل الدال أن يحمل أي معنى إذا لم يمثل شرحه ولو بصورة غير مباشرة من الواقع الطبيعي أو الإنساني؟ ليس بوسعي الآن أن أمكث طويلا عند هذه الأسئلة الصعبة، ولكني سأكتفي ببضع ملاحظات:
أولا:
لا يمكن فصل الشكل الدال للعمل الفني عن مضمونه أو عن التمثيل، ولا يمكن إدراك الواحد بدون الآخر؛ لأنني أدرك دلالة الشكل من خلال التمثيل، وبمعنى أدق، الشكل الدال هو التمثيل، ولنلق نظرة أخرى على الموناليزا، ما هو الشكل الدال في هذه اللوحة؟ إنه نمط تشكيل الألوان والخطوط، والشيء الناجم عن هذا التشكيل هو التمثيل، وهذا التمثيل هو صورة المرأة المسماة «موناليزا»، فهل بإمكاني أن أشير إلى الشكل الدال هنا بدون الإشارة إلى التمثيل؟ إن هذا التمثيل هو الذي يعبر عن الصفات الجمالية والإنسانية التي تحدثت عنها سابقا، فهل يمكن لهذه اللوحة أن تكون شكلا دلاليا بدون هذه القدرة التعبيرية؟
صفحة غير معروفة