بالصين،
9
أو تلك الأعمال اليابانية المبكرة التي أسعدني الحظ بمشاهدة بضعة نماذج رائعة منها (ولا سيما قطعتا بوديساتفا خشبيتان) في معرض شبردز بوش عام 1910م، وسواء دنونا من الوطن وتأملنا الفن البيزنطي البدائي للقرن السادس وتطوراته البدائية بين البرابرة الغربيين، أو التفتنا إلى أصقاع أبعد وتأملنا ذلك الفن الغامض والمهيب الذي ازدهر في أمريكا الوسطى والجنوبية قبل مجيء الرجل الأبيض؛ ففي كل حالة من هذه الحالات سوف نلاحظ ثلاث خصائص عامة: غياب التمثيل، وغياب الاختيال التكنيكي، وحضور الشكل الجليل التأثير. وليس من العسير أن نكتشف الارتباط الوثيق بين هذه الخصائص الثلاث؛ فالدلالة الشكلية تخسر نفسها إذا هي انشغلت بالتمثيل الدقيق والبراعة المتباهية.
من الطبيعي أن يقال إنه إذا كان التمثيل في الفن البدائي قليلا والدجل أقل، فمرد ذلك إلى أن البدائيين لا يمتلكون القدرة على اقتناص الشبه والقيام بوثبات فكرية، إلا أن هذا المراء في غير محله. لا شك أن هناك وجها من الصواب في هذا القول، غير أنني لو كنت ذلك الناقد الذي تتكئ مكانته إلى قدرته على اختلاب العامة بظاهر المعرفة لتوخيت الحذر في الإلحاح على هذا الرأي أكثر مما يفعل أمثال هؤلاء النقاد في عموم الأحوال، فافتراض أن الأساتذة البيزنطيين كانوا يفتقرون إلى المهارة أو كان متعذرا عليهم خلق إيهام لو أنهم أرادوا ذلك. يبدو أنه افتراض ينطوي على جهل بالواقعية المدهشة الحذق التي تسم الأعمال الرديئة لذلك العصر والمتفق على رداءتها، بل أخشى أنه في الأغلب الأعم ينبغي أن تعزى إساءة التمثيل لدى البدائيين إلى ما يطلق عليه النقاد «التحريف المقصود»
willful distortion ، ومهما يكن من أمر فالوجه أن البدائيين، سواء لغياب المهارة أو غياب القصد، لم يخلقوا إيهاما
illusion
ولم يتباهوا بالإتمام المحكم للعمل، بل كانوا يركزون طاقاتهم على المطلب الوحيد المنشود؛ خلق الشكل، هكذا أبدعوا لنا أرفع الأعمال الفنية التي بين أيدينا.
أود ألا يتصور أحد أن التمثيل شيء سيئ في ذاته؛ فليس هناك ما يحول دون أن يكون شكل واقعي ما، وهو منتظم في مكانه كجزء من التصميم، مضاهيا في الدلالة لآخر تجريدي، ولكن إذا كان لشكل تمثيلي قيمة فبوصفه شكلا لا بوصفه تمثيلا؛ فالعنصر التمثيلي في العمل الفني قد يضر وقد لا يضر، ولكنه دائما خارج عن الموضوع؛ ذلك أننا لكي ندرك عملا من أعمال الفن لا نحتاج إلى أن نأتي معنا بشيء من الحياة، أو بمعرفة بأفكارها وشئونها أو بإلف بانفعالاتها؛ فالفن ينتشلنا من عالم الدأب البشري إلى عالم الوجد الإستطيقي، ونحن في اللحظة الإستطيقية تنقطع أسبابنا بالاهتمامات البشرية، وتتوقف تطلعاتنا وذكرياتنا؛ إذ يشيل بنا الفن فوق تيار الحياة.
إن عالم الرياضيات البحتة المستغرق في دراساته يعرف حالة ذهنية اعتبرها شبيهة بذلك إن لم تكن مطابقة؛ فهو يشعر إزاء تأملاته بانفعال لا ينجم عن أي علاقة مدركة بينها وبين حياة البشر، بل ينبع - غير بشري أو فوق بشري - من قلب علم مجرد، وربما يذهب بي الظن أحيانا إلى أن مدركي الفن ومدركي الحلول الرياضية قد يكونون أكثر قربا وأوثق صلة حتى من ذلك، فأتساءل: قبل أن يأخذنا انفعال إستطيقي تجاه تجمع من الأشكال، ترانا ندرك بالفكر صواب هذا التجمع وضرورته؟ فإن صح ذلك فهو حري أن يفسر واقعة أننا إذ نمر سراعا خلال غرفة فنحن نميز جودة إحدى اللوحات رغم أننا لا نستطيع أن نقول إنها أثارت فينا انفعالا كبيرا، فيبدو أننا نكون قد تبينا بالفكر صواب الأشكال باللوحة دون أن نتريث لنركز انتباهنا ونقبض على دلالتها الانفعالية كيفما كانت، فإذا كان الأمر كذلك فإن لنا أن نتساءل ما إذا كانت الأشكال ذاتها هي ما أدى إلى الانفعال الإستطيقي أم إدراكنا لصواب الأشكال وضرورتها. ولكني لا أظن أني بحاجة إلى أن أطيل الوقوف هنا لاستقصاء هذه المسألة، لقد كنت بصدد البحث عن سبب انفعالنا بتجمعات معينة من الأشكال، وما كنت لأستدرج إلى مسالك أخرى لو أنني تساءلت بدلا من ذلك: لماذا تدرك تجمعات معينة كصواب وضرورة، ولماذا يطربنا إدراكنا لصوابها وضرورتها؟ والجواب عندي هو هذا: إن الفيلسوف المستغرق؛ وذلك الذي يتأمل عملا من أعمال الفن، كلاهما يستوطن عالما ذا دلالة كثيفة وخاصة، دلالة لا شأن لها بدلالة الحياة، في هذا العالم لا محل لانفعالات الحياة، إنه عالم له انفعالاته الخاصة به وحده.
لكي ندرك عملا من أعمال الفن لا نحتاج إلى أن نأتي معنا بشيء عدا إحساس بالشكل واللون ومعرفة بالمكان ذي الأبعاد الثلاثة. إنني أسلم بأن ذلك الجانب الأخير من المعرفة ضروري لإدراك كثير من الأعمال العظيمة؛ ذلك أن الكثير من الأشكال الأكثر تأثيرا بين كل ما أبدع من فن على الإطلاق إنما يتمثل في ثلاثة أبعاد. إن رؤية مكعب أو شبه معين كشكل مسطح من شأنها أن تخفض من دلالته، كما أن الإحساس بالمكان ذي الأبعاد الثلاثة هو أمر ضروري للإدراك الكامل لمعظم الأشكال المعمارية. إن الصور التي تفقد دلالتها إذا شهدناها كنماذج مسطحة هي صور بالغة التأثير فينا؛ لأننا نراها في الحقيقة على هيئة مستويات (مسطحات) مرتبطة فيما بينها، فإذا كان لتمثيل المكان الثلاثي الأبعاد أن يسمى تمثيلا
صفحة غير معروفة