غير أن استنباط نظريات مفيدة، حتى لو توافرت المعطيات الدقيقة ، يتطلب قدرا معينا من العمل الذهني، ومن عثرة الحظ أن قوة الفكر ورهافة الحس ليستا متلازمتين بالضرورة. لي صديق وهبه الله ذكاء نافذا كالحفار، وهو على اهتمامه بالإستطيقا لم يحدث له في عمره الذي يقرب الأربعين أن اقترف انفعالا إستطيقيا. إن مثله وقد عدم الملكة التي يميز بها بين العمل الفني والمنشار اليدوي، عرضة لأن يشيد هرما من الحجج السديدة تأييدا لفرضية أن المنشار اليدوي هو عمل فني، ومن شأن هذا القصور أن يسلب تفكيره الواضح والحاذق كثيرا من جدواه؛ فمن المبادئ المسلم بها دائما أن المنطق السديد لا يشفع لنتائج تستند إلى مقدمات معروفة البطلان، ولكن رب ضارة نافعة: فهذا التبلد، على نحسه إذ يمنع صديقي أن يتخير أساسا سليما لحجته، لا يزال رءوفا به إذ يعمي عليه خلف نتائجه فيما يتركه مزهوا غاية الزهو بجدله اللوذعي، إن من ينطلق في فكره الإستطيقي من فرضية أن سير إدفين لاندسير هو أبرع مصور شهدته الأرض، لن يستشعر قلقا في نظرية إستطيقية تستوي له يكون جوتو
Giotto
بمقتضاها هو أسوأ مصور؛ ومن ثم فحين خلص صديقي بمنطقية تامة إلى نتيجة مفادها أن العمل الفني يجب أن يكون صغيرا أو مستديرا أو ناعما، أو أن عليك لكي تقدر لوحة تقديرا تاما أن تخطو أمامها برشاقة أو تديرها كالخذروف حين خلص صديقي إلى ذلك لم يكن بوسعه أن يحدس لماذا أسأله هل ذهب مؤخرا إلى كمبردج (وهو مكان يلم به أحيانا).
1
وهناك من الجهة الأخرى أناس يستجيبون للأعمال الفنية استجابة فورية ناجحة، ورغم أنهم في تقديري أسعد حظا من ذوي الفكر الكبير مع الحساسية القليلة، فهم كثيرا ما يكونون عاجزين بنفس الدرجة عن الإفضاء بكلام مفيد في الإستطيقا؛ ذلك أن أفكارهم ليست دائما واضحة بما فيه الكفاية، وبينما هم يملكون المعطيات التي ينبغي أن يقوم عليها أي نسق إستطيقي، إلا أنهم بعامة تعوزهم القدرة على استخلاص استدلالات صائبة من المعطيات الصحيحة. إن مثلهم، بعد إذ تلقوا من الأعمال الفنية انفعالات إستطيقية، في وضع يدعو إلى تلمس الصفة المشتركة التي تجمع بين كل الأشياء التي حركت مشاعرهم، غير أنهم في الحقيقة لا يفعلون شيئا من هذا، وأنا لا ألومهم؛ فلماذا يكرثون أنفسهم بفحص مشاعرهم وهم ليسوا متضلعين في الفكر؟ لماذا يتعين عليهم أن يجوسوا لتصيد خصلة مشتركة بين جميع الأشياء التي حركت مشاعرهم ما دام بإمكانهم أن يتلبثوا حيال السحر السائغ والعجيب في كل شيء منها كيفما يأتي؟ ومن ثم فإذا كتب هؤلاء نقدا وأسموه إستطيقا، وإذا تصوروا أنهم يتحدثون عن «الفن» بينما هم يتحدثون عن أعمال فنية بعينها، أو حتى عن تكنيك التصوير،
2
وإذا وجدوا في غمرة حبهم لأعمال معينة أن النظر في الفن في جملته أمر مضجر - فربما يكونون قد ظفروا بالنصيب الأوفر، إذا لم يكن هؤلاء مشغوفين بمعرفة طبيعة انفعالهم ولا بمعرفة الميزة المشتركة لجميع الأشياء التي تحركهم، فإن قلبي معهم، وحيث إن ما يقولونه كثيرا ما يكون أخاذا وموحيا، فلهم إعجابي أيضا، كل ما أبتغيه ألا يفترض أحد أن ما يكتبونه ويقولونه هو إستطيقا، إنه نقد، أو مجرد حديث «في الشغل».
إن نقطة البدء في كل نسق إستطيقي ينبغي أن تكون هي الخبرة الشخصية بانفعال خاص، ونحن نطلق على الأشياء التي تثير هذا الانفعال اسم «الأعمال الفنية»
works of art ، ويتفق كل ذي حس مرهف من الناس على أن هناك انفعالا خاصا تثيره الأعمال الفنية، ولست أعني بطبيعة الحال أن كل الأعمال الفنية تثير نفس الانفعال؛ إذ، على العكس، يولد كل عمل من أعمال الفن انفعالا مختلفا، غير أنه من الممكن إدراك أن هذه الانفعالات جميعا هي من نفس الصنف، وعلى أية حال فالرأي الأرجح حتى هذا الحد هو في صفي، إن هناك صنفا معينا من الانفعال تثيره الأعمال الفنية البصرية، وهو انفعال يثيره كل نوع من الفن البصري: الصور وأعمال النحت والمباني والجرار وأعمال الحفر والنسيج، وأعتقد أن هذا شيء لا يماري فيه أي شخص لديه القدرة على أن يحس هذا الانفعال، ويطلق على هذا الانفعال «الانفعال الإستطيقي»
aesthetic emotion ، ولو أمكننا أن نكتشف صفة ما مشتركة ومميزة لجميع الأشياء التي تثير هذا الانفعال نكون قد ظفرنا بحل لما أعتبره المشكلة المركزية في الإستطيقا؛ أي نكون قد وقفنا على الصفة الجوهرية في العمل الفني، تلك الصفة التي تميز الأعمال الفنية عن جميع الفئات الأخرى من الموضوعات.
صفحة غير معروفة