الإهداء
مقدمة
تصدير المؤلف
تصدير الطبعة الجديدة
1 - ما هو الفن؟
2 - الفن والحياة
3 - المنحدر المسيحي
4 - الحركة المعاصرة
5 - المستقبل
الإهداء
مقدمة
تصدير المؤلف
تصدير الطبعة الجديدة
1 - ما هو الفن؟
2 - الفن والحياة
3 - المنحدر المسيحي
4 - الحركة المعاصرة
5 - المستقبل
الفن
الفن
تأليف
كلايف بل
مراجعة وتقديم
ميشيل متياس
ترجمة
عادل مصطفى
الإهداء
إلى الأستاذ الكبير سعيد عقل دليلنا إلى عالم الشكل الدال وجناحنا إلى معارج الوجد.
د. عادل مصطفى
مقدمة
السؤال الأساسي الذي يعالجه بل
Bell
في هذا الكتاب هو: ما الصفة
quality
التي تميز العمل الفني عن الأعمال العادية والأشياء الطبيعية؟ إننا نشير إلى قطعة موسيقية لبيتهوفن، أو لوحة لسيزان، أو قصيدة لابن الرومي، أو رواية لنجيب محفوظ، أو تمثال لبرانكوزي، أو مسرحية لبرنارد شو، وأعمال أخرى مثل هذه - نشير إليها كأعمال فنية
works of art . ومن ناحية أخرى نحن نستخدم أو نتعامل مع الكثير من الأدوات التي تحيط بنا؛ كالبنايات، والسيارات، والأدوات المنزلية والصناعية والزراعية، بوصفها أعمالا «عملية». وفي العادة يتم «تذوق» الأعمال الفنية «جماليا» بينما يتم «استخدام» الأعمال العملية. إن كليهما يعتبر «عملا»؛ العمل الفني عمل، ولكن ليس كل عمل عملا فنيا، إن صورة والدي على الطاولة بقربي هي عمل، ولوحة «موناليزا» لليوناردو دافنشي هي أيضا عمل، الأولى عمل عادي، والثانية عمل فني، إذن ما «الصفة» التي تميز موناليزا كعمل فني؟
ظاهريا، تختلف الأعمال الفنية عن بعضها البعض، يبدو أن السيمفونية تختلف بجوهرها ووجودها الفيزيائي عن القصيدة أو المسرحية أو التمثال أو العمارة أو الفيلم السينمائي أو الحديقة، ويبدو أن جميع هذه الأشكال والأعمال التي تتضمنها تختلف عن بعضها البعض بجوهرها ووجودها الفيزيائي، ولكننا على الرغم من هذا الاختلاف نشير إليها جميعا بكلمة «فن» ونميزها عن الأشياء الطبيعية، والأدوات العادية التي نصنعها ونستعملها في تأمين حاجاتنا الإنسانية، فهل توجد صفة عامة مشتركة بين جميع هذه الأشكال والأعمال تشكل منها حقلا أو عالما يمكن تسميته «عالم الفن»؟ يرى «بل» أنه لو لم تكن هناك صفة مشتركة تشمل الأعمال الفنية جميعا لكان حديثنا عن «الأعمال الفنية» نوعا من الثرثرة . لا يمكن القول بأن هذه القطعة الموسيقية أو هذا التمثال ... إلخ هو فن ما لم توجد صفة مشتركة بين هذه الأعمال ترادف كلمة «فن»، وإن وجود هذه الصفة في العمل هو أساس الحكم: «هذا العمل عمل فني»، ولكن إذا كانت هناك صفة مشتركة، صفة تميز الأعمال الفنية عن الأعمال اللافنية، فما هي هذه الصفات؟ للإجابة عن هذا السؤال يأخذ «بل» الفن التشكيلي كنموذج في تحليل طبيعة الفن، ويرى أن هذا التحليل ينطبق مبدئيا إلى حد كبير على جميع الفنون الأخرى.
أولا: كيف تكتشف هذه الصفة؟ أو بأية طريقة أو منهج نستطيع اكتشاف هذه الصفة؟ يرى بل أن منهج اكتشاف هذه الصفة هو التجربة، وبالتحديد «التجربة الجمالية»، فليس بإمكاني أن أقول أو أحدد ما إذا كان عمل ما عملا فنيا إذا لم أختبره؛ أي إذا لم أدرك فيه حسيا تلك الصفة التي تميزه كعمل فني. هذه الخبرة هي مصدر معرفة الصفة الفنية، وهي أيضا أساس التنظير في طبيعة الفن عامة، ولا يمكن الحديث عن الفن؛ أي عن الصفة الجمالية أو الخبرة الجمالية أو الحكم الجمالي إن لم نتفاعل حسيا وخياليا مع الأعمال الفنية، ولكن الخبرة الجمالية هي دائما خبرة ذاتية؛ خبرة هذا المتذوق أو ذاك الناقد، أيعني ذلك أنه لا يمكن بناء نظرية تفسر وجود الصفة الجمالية وطبيعتها؟ في الحقيقة لا يمكن بناء نظرية جمالية إذا لم نفترض أن لهذه الصفة وجودا موضوعيا؛ أي إذا لم نفترض أنها توجد واقعيا في جميع الأعمال التي تشكل عالم الفن، يؤكد بل أن ذاتية الخبرة الجمالية ليست عائقا في بناء نظرية تفسر طبيعة الفن، ذلك أننا يمكن أن نختلف حول قيمة أو فقر بعض الأعمال الفنية، أو معظمها، روحيا واجتماعيا ونتفق رغم ذلك على كونها، أو عدم كونها، فنا، يمكن لشخصين مثلا أن يختلفا حول جمال أو بشاعة عمل ما ويتفقا رغم ذلك على كونه فنا، كون العمل فنا شيء، وكونه جميلا أو قبيحا، أو سيئا أو مضرا، شيء آخر، المهم بالنسبة للفيلسوف هو وجود (أو عدم وجود) الصفة الفنية في العمل وكيف نعرف بهذا الوجود.
نعرف أن عملا ما هو عمل فني إذا أثار فينا انفعالا خاصا يسميه بل «الانفعال الجمالي»
aesthetic emotion ، هذا الانفعال هو نوع من العاطفة نشعر به عندما ندرك أو نتذوق العمل الفني جماليا، أقول: «جماليا»؛
1
لأنه يمكن لي أن أدرك العمل الفني وأصف جميع نواحيه أو عناصره الحسية عاديا، كما أن العالم يصف الأشياء المادية لا جماليا، مثلا، عندما أقرأ «أنا كارنينا»
Anna Karenina
لتولستوي كحكاية فإنني لا أدركها جماليا، بل أختبرها في هذه الحالة كقصة، كتاريخ، لا كعمل فني. يشدد بل على أن الانفعال الجمالي ليس انفعالا جاهزا أو معطى أشعر به كلما اختبرت عملا فنيا، أو أن جميع الأعمال الفنية تثير فينا نفس الانفعال الجمالي عندما نختبر هذه الأعمال. كلا، إن الانفعال الجمالي هو نوع خاص من الانفعال؛ هو ذلك الانفعال الذي تثيره الأعمال الفنية بوصفها فنا؛ فالعمل الفني يمكن أن يثير فينا مشاعر وانفعالات مختلفة؛ أخلاقية، دينية، اجتماعية، سياسية، رومانسية، جنسية ... إلخ، ولكن الخاصة التي تميز العمل الفني كفن هي أنه يثير فينا انفعالا جماليا، يتميز هذا الانفعال عادة بالمتعة والانفتاح الخيالي والحدس المعرفي والنشوة، وبنفحة من الدفء الإنساني والأمل والعزة، وبمشاعر إنسانية أخرى يصعب علينا تسميتها، ويعتمد عمق وقوة وغنى الانفعال الجمالي على عمق وقوة وغنى الصفة الجمالية الكامنة في العمل الفني.
والآن ما هي هذه الصفة التي تثير الانفعال الجمالي؟ يقول: بل إنها «الشكل الدال»
significant form ، الشكل الدال هو الكيف الذي يميز الأعمال الفنية عن الأعمال العادية أو اللافنية، وهذا يعني أن العنصر المشترك بين جميع الأعمال الفنية التي تختلف عن بعضها البعض بالشكل والمادة هو امتلاك الشكل الدال. ماذا يعني بل ب «الشكل الدال»؟ إن ما يعنيه هو نمط، طريقة، أسلوب تنظيم العناصر الحسية للعمل الفني. كل عمل فني يمثل تشكيلا «فريدا»
unique ، إن طريقة هذا التشكيل الخاصة - وبإمكاننا القول المبدعة - هي التي تثير فينا الانفعال الجمالي، وعندما نتكلم عن الشكل الدال نعني جميع العناصر الحسية التي تدخل في تنظيم الشكل؛ الألوان والخطوط وعناصر اللمس والصوت والسمع والحركة، لا يمكن فصل هذه العناصر عن طريقة تشكيلها؛ فالعناصر الحسية جزء من الشكل كشكل؛ ولهذا يجوز لنا القول بأن الكيفيات الجمالية الكامنة في العمل الفني كالرقة والأناقة والمأساة والنعومة والجلالة والرعب والهيبة ... إلخ، توجد في العمل على مستوى الكمون وتنبثق من العلاقات الدينامية التي تكون الشكل الدال أثناء التجربة الجمالية.
كما نرى، يفصل بل بين الشكل الدال و«التمثيل»
representation ، ويشير التمثيل عادة إلى موضوع أو مضمون العمل الفني، الموناليزا، مثلا، تشكيل من الألوان والخطوط، ولكنها بالإضافة إلى ذلك موضوع، وهذا الموضوع يمثل وجه امرأة، والعنصر الذي يميز هذا العمل كفن ليس التمثيل بل الصورة الدالة أو الشكل الدال؛ أي نمط حبك الألوان والخطوط مع بعضها البعض، وهذا يعني أنني أختبر هذه اللوحة جماليا عندما أركز انتباهي الجمالي على الشكل، على طريقة الألوان والخطوط وتشابكها مع بعضها البعض، لا على التمثيل؛ أي على وجه المرأة وعما إذا كان رزينا أو تأمليا أو استهزائيا أو تهكميا أو لطيفا أو متواضعا أو واقعيا، وحتى الإشارة إليه تحبط إمكانية الخبرة الجمالية أو تصرف النظر عن البعد الجمالي للوحة. ليست اللوحة الفنية صورة تحاكي جانبا من الواقع الطبيعي أو الإنساني، ولو أن هدف الفنان محاكاة الواقع لكان من الأفضل له أن يستعمل آلة التصوير؛ فهي تعطي صورة أصدق للواقع من لوحة الفنان، الغاية من اللوحة الفنية إذن ليست محاكاة الواقع أو نقل رسالة سياسية أو دينية أو معرفية أو أخلاقية أو ثقافية معينة، ولكن كما يقول: بل في «الفرضية الميتافيزيقية» التعبير عن معنى إنساني معين؛ فالشكل الدال يعبر عن هذا المعنى، ومقدرته التعبيرية على هذا النحو هي التي تثير فينا أنواعا معينة من الانفعالات الجمالية، والفنان هو العقل الخبير في اكتشاف هذه الأنماط.
ومن ناحية أخرى، يرى بل أن العمل الفني موجود مستقل بذاته، عناصره متكاملة، ودلالته الشكلية تنجم عن هذا التكامل؛ ولهذا فعندما نركز انتباهنا على التمثيل فإن هذا التركيز يصرفنا عن البعد الجمالي للعمل، قد يكون سبب الاستمتاع بالموناليزا سببا معرفيا أو أخلاقيا أو نفسيا أو اجتماعيا أو تاريخيا أو تقنيا، ويعتقد بل أنه يمكن للعم الفني أن يرضينا في أي من هذه المجالات التجريبية، ولكن ها النوع من الرضا ليس جماليا.
ليس يعني ذلك أن الموضوع، بغض النظر عن عناصره، لا يمكن أن يكون جزءا من الشكل الدال؛ فهذا جائز وممكن وفي هذه الحالة علي كمدرك أن أختبر هذا العنصر أو هذه العناصر كجزء من الشكل لا كشيء مستقل عنه؛ ولهذا يشدد بل على أننا يجب ألا نجلب معنا إلى العمل الفني عندما نحاول إدراكه جماليا أي شيء من حياتنا أو اهتماماتنا العملية، أي يجب ألا نتذوق أو نقيم العمل الفني من وجهة نظر اهتماماتنا الشخصية أو اعتقاداتنا أو عواطفنا أو تحيزاتنا الثقافية، بل من وجهة نظر العمل نفسه وبناء على الصفات أو الكيفيات الكامنة في الشكل الدال؛ فالشكل الدال وحده هو أساس الخبرة الجمالية ومصدرها، وبعبارة أخرى، علينا أن نتذوق العمل الفني موضوعيا، من ذاته ولأجل ذاته، هذه المقولة هي أساس ما يسمى عادة «النزاهة الجمالية»
aesthetic disinterestedness .
تقودنا هذه النقطة الأخيرة إلى ناحية هامة في نظرية بل؛ فلقد قال: إن موضوع الانفعال الجمالي هو الشكل الدال، لا التمثيل الذي قد يكون مضمون هذا الشكل، هذه المقولة تستلزم تمييزا بين إدراك التمثيل كموضوع له أبعاد نفسية أو معرفية أو أخلاقية أو سياسية أو ثقافية من ناحية، وإدراك الشكل الدال من ناحية أخرى، إن إدراك التمثيل يقترح انفعالا معينا فينا أثناء الخبرة الجمالية، ويعتمد هذا الاقتراح على مدى ونوعية المضمون، قد يكون المضمون معرفيا أو أخلاقيا وقد يهمني، وفي هذه الحالة أتفاعل معه بصورة شخصية خاصة تتناسب مع شخصيتي الثقافية وقدراتها العقلية والشعورية، والنقطة المهمة هنا هي أن إدراك التمثيل يصرفني عن البعد الفني للعمل ويجرني إلى ذاتي الشخصية ... إلى اهتماماتي الذاتية، يصبح العمل مصدر خبرة ذاتية، يصبح وسيلة إلى غاية لا غاية بذاته، أما إدراك الشكل الدال فلا يقترح انفعالا ذاتيا؛ لأن موضوعه هو الشكل الدال بذاته، ومعنى الشكل الدال كامن في الشكل ذاته.
وعندما نقول: إن الشكل الدال هو موضوع الانفعال الجمالي فنحن نعني أن هذا الموضوع يشكل بنية الانفعال عامة؛ إذ لا يمكن للانفعال أن يوجد بدون موضوع، وطبيعة هذا الانفعال تعتمد على طبيعة الموضوع، في هذه الحالة يكون موضوع الانفعال الجمالي هو الشكل الدال، أي الصفة الجمالية الكامنة في الشكل، ولا يمكن لهذه الصفة أن ترد إلى شعور باللذة أو إلى أية حالة نفسية أخرى أيا كان نوعها أو أهميتها؛ لأن هذا الرد يصرفنا عن العمل الفني ذاته، وبهذه الحالة تفقد التجربة صفتها الجمالية وتصبح تجربة نفسية أو عقلية، ومثلما قال جورج إدوارد مور
G. E. Moore
في «مبادئ الأخلاق» بخصوص «الخير» فإن الصفة الجمالية بسيطة ونحن ندركها بصورة مباشرة أثناء التجربة الجمالية؛ ولهذا السبب أكد بل على ضرورة تنمية «الذوق الجمالي» كشرط ضروري ليس فقط للتجربة الجمالية، ولكن أيضا للتنظير الجمالي في طبيعة الفن.
يبدو واضحا مما سبق أن هناك علاقة سببية بين الشكل الدال والانفعال الجمالي، وعندما نسأل بل: ما هو الانفعال الجمالي؟ يقول إنه الانفعال الذي يثيره الشكل الدال. وعندما نسأله: ما هو الشكل الدال؟ يقول إنه الشكل الذي يثير الانفعال الجمالي! وبذلك يقترف بل في تعريف هذين المصطلحين «مصادرة على المطلوب الأول»؛ لأننا لا نعرف إن كان الشكل الدال هو في الواقع سبب الانفعال الجمالي، ولكي نعرف إن كان هو السبب فلا بد من أن نؤكد سببيته بدون الإشارة إلى الانفعال الجمالي؛ أي يجب أن نبرهن على أن الشكل الدال هو فعلا سبب الانفعال الجمالي من غير إحالة (إشارة) إلى هذا الانفعال؛ ولهذا السبب ذهب بعض النقاد إلى أن بل لم يعطنا معيارا للتمييز بين الشكل والشكل الدال؛ لأن بإمكاننا أن نسأل: كيف نميز بين الشكل والشكل الدال؟ فمن المؤكد أن ليس كل شكل هو شكل دال. نعم؛ كل شكل دال هو شكل ولكن ليس كل شكل هو شكل دال، وعندما نقول: إن الشكل الدال هو الشكل الذي يثير الانفعال الجمالي فإننا لا نستطيع أن نكذب أو نصدق هذا القول؛ لأن بل لم يعطنا معيارا للتمييز بين الشكل العادي والشكل الدال.
ومن جهة ثانية، يؤكد بل أنه ينبغي للخبرة الجمالية أن تكون نزيهة؛ فالإدراك الجمالي هو إدراك للقيمة الجمالية الكامنة في الشكل الدال للعمل الفني وتذوق هذه القيمة من أجل ذاتها دون مزج هذا الإدراك بأي عنصر ذاتي أو شخصي، وكما رأينا فإن موضوع الخبرة الجمالية هو الشكل الدال فقط، وعندما ينحرف الإدراك الجمالي نحو التمثيل فإنه يفقد صفته الجمالية. من الواضح أن هذه المقولة تفصل بين الذات الشخصية وملكة الذوق الجمالي؛ فالذات الشخصية هنا تتراجع والذات الجمالية تفعل، ولكن هل هذا الانفصال ممكن؟ ترى هل يمكن لأي إنسان أن يقصي ذاته الشخصية أو العملية، أو يحجبها، أثناء الخبرة الجمالية؟ وبالتالي، هل يمكن للشكل الدال أن يحمل أي معنى إذا لم يمثل شرحه ولو بصورة غير مباشرة من الواقع الطبيعي أو الإنساني؟ ليس بوسعي الآن أن أمكث طويلا عند هذه الأسئلة الصعبة، ولكني سأكتفي ببضع ملاحظات:
أولا:
لا يمكن فصل الشكل الدال للعمل الفني عن مضمونه أو عن التمثيل، ولا يمكن إدراك الواحد بدون الآخر؛ لأنني أدرك دلالة الشكل من خلال التمثيل، وبمعنى أدق، الشكل الدال هو التمثيل، ولنلق نظرة أخرى على الموناليزا، ما هو الشكل الدال في هذه اللوحة؟ إنه نمط تشكيل الألوان والخطوط، والشيء الناجم عن هذا التشكيل هو التمثيل، وهذا التمثيل هو صورة المرأة المسماة «موناليزا»، فهل بإمكاني أن أشير إلى الشكل الدال هنا بدون الإشارة إلى التمثيل؟ إن هذا التمثيل هو الذي يعبر عن الصفات الجمالية والإنسانية التي تحدثت عنها سابقا، فهل يمكن لهذه اللوحة أن تكون شكلا دلاليا بدون هذه القدرة التعبيرية؟
ثانيا:
من الصعب جدا إن لم يكن من المستحيل إبعاد الذات الشخصية عن الإدراك الجمالي؛ أي لا يمكن الكلام بطريقة محددة عن إدراك جمالي خالص يحدث بين ذات جمالية خالصة وصفة جمالية خالصة، وحتى لو افترضنا أنه يمكن الكلام عن ذات جمالية خالصة وإدراك جمالي خالص، فإن ذلك أمر غير مرغوب فيه؛ لأن العمل الذي لا يثيرني ولا يساعدني على النمو كإنسان هو عمل يمكن الاستغناء عنه، ومن ناحية أخرى، لا تستلزم النزاهة الجمالية بحكم الضرورة افتراض وجود ذات جمالية خالصة تقوم بإدراك جمالي خالص، كلا، إن ما تطلبه النزاهة الجمالية هو استعداد الفرد لأن يدرك أو يستوعب المضمون الجمالي الكامن في العمل الفني كما هو موجود في العمل، بدون أي نوع من التشويه.
ترى هل يمكن للفنان، بغض النظر عن نوعية وكمية ولائه أو التزامه بالتجريد، أن يتخلى عن تمثيل الواقع؟ كلا! الفنان ابن ثقافته، إنه يرى ويفهم ويؤول الواقع حوله كفرد، كإنسان عيني موجود في ثقافة معينة وفي زمان ومكان معين، إن روح هذه الثقافة تنبض في عروقه؛ ولذا فإن طريقة انتقائه لمادته الفنية وطريقة تشكيلها تعبران دائما عن هذه الروح الثقافية.
ثالثا:
إن نظرية بل الصورية
Formalism
التي تعتبر الشكل أو الصورة
form
الصفة المميزة للعمل الفني بوصفه عملا فنيا، ترتكز على افتراض ميتافيزيقي، وهذا الافتراض هو وجود ماهية
essence
مشتركة بين جميع الأعمال الفنية، وتفترض أن هذه الماهية هي الشكل الدال، وهذا الافتراض قد ساعد بل على تمييز الأعمال الفنية كصنف
class
بذاته وعلى عزل هذا الصنف عن الأعمال والأشياء الأخرى، وبهذه الطريقة أسس بل استقلالية الفن عامة والعمل الفني خاصة، ولكن السؤال الذي يجب طرحه هو: هل يمكن رسم خط دقيق يعزل أو يفصل الأعمال الفنية كصنف من الأعمال مستقلة عن ميدان الحياة الإنسانية الاجتماعية الواقعية؟ تاريخيا كان الفن مرتبطا بحياة الإنسان الدينية والسياسية والأخلاقية والاجتماعية والتربوية والثقافية عامة، لقد كان العمل الفني وما زال قوة تأنيسية
humanizing
تخاطب مختلف حاجيات الإنسان كإنسان؛ ولذا فإن النظرية التي تعتبر الشكل مبدأ التفسير الفني تقترف مغالطة الردية
reductionism ؛ لأنها ترد فنية العمل الفني إلى الشكل فقط وتعمل أبعاده ووظائفه الأخرى التي هي ضرورية جدا لتفهم هذه الصفة الفنية. إن ما أريد أن أؤكده هنا هو أننا لا نستطيع شرح أو تفسير البعد الفني إن لم نأخذ بعين الاعتبار مختلف الوظائف التي يقوم بها هذا العمل في حياة الإنسان.
ومن ناحية أخرى، عندما نقول إن الشكل الدال هو الذي يحدد الطبيعة الفنية فإننا بذلك نحبط أي إمكانية لتقييم جودة العمل الفني؛ ذلك أن كل عمل يمتلك شكلا دالا هو، بحسب نظرية بل، عمل فني، ولا تقر هذه النظرية بوجود أي جانب آخر في العمل الفني يمكن الارتكاز عليه في تقييم جودة العمل. إن هذا النقص في نظرية بل، والصورية بعامة، أدى إلى حد كبير إلى تطوير التعبيرية
Expressionism
في الربع الثاني من القرن العشرين.
ولا يسعني أن أختتم هذه المقدمة بدون أن أعبر عن مزيد شكري وإعجابي للجهد العلمي الذي بذله د. عادل مصطفى في ترجمة هذا الكتاب. يعد هذا الكتاب من أهم الأعمال الفلسفية التي كتبت في فلسفة الفن، ولا يمكن لأي مفكر، الآن أو في المستقبل، التنظير في طبيعة الفن بدون استيعاب سليم لنظرية بل، وحتى النظرية التعبيرية التي تلتها انطلقت من الحدس الأساسي لصورية بل وأخذته بعين الاعتبار. لقد نجح د. عادل، حسب اعتقادي، في ترجمة هذا الكتاب بصورة دقيقة وبلغة سلسة، ونقل المعنى بصدق وإخلاص للنص الأصلي.
د. ميشيل متياس
هذا الكتاب
«ثمة لحظات في الحياة هي غايات ليس بالكثير عليها أن يكون تاريخ البشرية بأسره وسيلة إليها.» «لم يكن هم سيزان الحقيقي في حياته هو أن يصنع لوحات، بل أن يصنع خلاصه.» «أعرف رجلا واسع الاطلاع ذكيا؛ رجلا لم تكن حياته الجافة أفضل من نزلة برد طويلة بالرأس، رجلا لم يدخر ذلك الممسوس فان جوخ جهدا لإنقاذه.»
كلايف بل ***
هذا الكتاب أنشودة في الفن صدح بها في أوائل القرن العشرين صوت من أعذب الأصوات الفلسفية وأعمقها، فوجد فيها أهل زمانه ترجمة صادقة لتلك الروح التي كانت آنذاك تدأب لكي تعي ذاتها، وتلوب لكي تقبض على هويتها، ووجدت فيها الأجيال التالية معنى لا يغيب صداه، وهديا لا تضل بعده في فهم طبيعة الفن وكنهه وحقيقته النهائية.
هذا كتاب كلاسيكي نقل النظرية النقدية في الفن من جاهلية القرن التاسع عشر إلى بصائر القرن العشرين، ولولا ما لحق بتعبير «ثورة كوبرنيقية» من ابتذال منذ وصف بها إمانويل كانت، بحق، ثورته الإبستمولوجية، لقلنا: إن هذا الكتاب يمثل ثورة كوبرنيقية في مجال الإستطيقا
aesthetics
1
بنقله محور الارتكاز في الفن من الترديد الأمين إلى الشكل الدال، ومن المحاكاة إلى الخلق.
كان كلايف بل
Clive Bell ، مؤلف هذا الكتاب، نجما متفردا بين جماعية «بلومزبري»
Bloomsbury
التي نبه شأنها في العشرينيات، ويعد، بجانب هربرت ريد وروجر فراي، عضوا في أوسع الجماعات تأثيرا في نظرية النقد الفني بالمملكة المتحدة، وكان «بل» فوق ذلك من «الأسلوبيين»
stylists
الرفيعي المستوى في النثر الإنجليزي، يعالج بكياسة وسخرية ماكرة مناقب ومثالب معاصريه من الفنانين، ومناقب ومثالب جميع الفنانين منذ العصر الحجري إلى اليوم.
لعل أهم إسهام لكلايف بل في نظريات الجمال والأسلوب الحديثة هو مفهومه عن «الشكل الدال»
Significant Form
الذي دفع به لأول مرة عام 1913م في هذا الكتاب الذي بين يديك، والذي تولت الفيلسوفة الأمريكية سوزان لانجر
Susanne Langer
إعادة تقييمه والتوسع فيه، فتخطى تأثيره مجال النظريات الفنية وصار حجر الأساس لقدر كبير من العمل الفلسفي، لقد نجح مفهوم «الشكل الدال» على سبيل المثال في تثوير دراسة الشكل والبناء الرمزيين في جميع الفنون، ولعب دورا هاما في تطوير المنطق والإبستمولوجيا المعاصرين.
يقدم هذا الكتاب خلاصة النظرية الشكلية في الفن، والتي أرى أنها أعمق النظريات الفنية وأقربها إلى الصواب وأشدها إمساكا بجوهر الفن لو أنها أخذت بمعناها الحقيقي وفهمت على وجهها الصحيح، وأرى تطرفها الظاهري تطرفا في الحق، وترياقا ناجعا يعدل ويعادل تطرفنا في الباطل وتخلفنا الفاجع في فهم معنى الفن ومقصده وجدواه.
الفرضية الإستطيقية: الشكل الدال
تبدأ الإستطيقا الشكلية من «واقعة»
fact
محددة، يقينية لا شك فيها، هي أننا (أو أن أصحاب الحساسية
sensibility
منا) ننفعل بإزاء أشياء معينة نطلق عليها «الأعمال الفنية»
works of art
انفعالا شديد الخصوصية والتميز نطلق عليه «الانفعال الإستطيقي»
aesthetic emotion ، ورغم أن هذا الانفعال هو خبرة ذاتية شخصية، إلا أن ارتباطه بموضوعات عينية من جهة، واتفاقنا الوثيق في حدوثه من جهة أخرى، يجعل منه شأنا واقعيا صلبا ويصبغه بصبغة موضوعية
2
صارمة.
إننا ننفعل حقا تجاه أشياء متباينة نطلق عليها أعمال «الفن»
Art
انفعالا غامرا عميقا «فريدا في نوعه»
sui generis
نعرفه جميعا ونعرف «ماذا يشبه أن يكون»
what it is like ، وكلنا إذ يتحدث عن «الفن» فهو يعكس بذلك تصنيفا ضمنيا مدمجا بذهنه يفرق به بين فئة «الأعمال الفنية» وجميع الفئات الأخرى، فما هو المبرر العقلي لهذا التصنيف؟ ما هي الصفة التي تجمع بين اللوحات والسيمفونيات والأواني والقصائد والمنحوتات والرقصات والتراجيديات والكاتدرائيات والمنسوجات، وتحملنا على أن ندرجها جميعا تحت مقولة «الفن»؟ ما هي «الخاصية الجوهرية»
essential property
التي بها يكون الشيء عملا فنيا وبدونها يكون أي شيء آخر؟ يقول كلايف بل بجسارة وحسم: إنها «الشكل الدال»
Significant Form ، ويعني به في الفنون البصرية تلك التجمعات والتضافرات من الخطوط والألوان، أو حبكة الخطوط والألوان، التي من شأنها أن تثير في المشاهد انفعالا إستطيقيا، وبوسعنا أن نعمم مفهوم «الشكل الدال» ليشمل جميع الفنون، فنقول إن الشكل الدال لعمل من أعمال الفن هو ذلك التنظيم الخاص الذي يتخذه «الوسيط»
medium
الحسي لذلك العمل، والذي من شأنه أن يثير في المتلقي (الذي يتمتع بالحساسية الفنية ويتخذ الموقف الإستطيقي) انفعالا إستطيقيا.
والحق أن الفنان في نهاية المطاف، وآخر الجدل: ليس هو الشخص العميق الفكر، ولا هو الشخص المشبوب الانفعال، ولا الثري التجارب، فكل هذه صفات توجد في أناس بعدد الحصى دون أن تتخايل في أحدهم بارقة فن واحدة، إنما الفنان هو ذلك الشخص الذي يفكر ويحس من خلال وسيط فني معين، وأيا ما كانت انفعالاته وأفكاره، ملتهبة أو باردة، عميقة أو سطحية، فإنها تتمثل لذهنه متجسدة في وسيطه الخاص، ويعلم كل مزاول للفن أن العملية الفنية في عامة الأحوال ليست حالة أو فكرة مجردة يبلغ إليها في مرحلة منفصلة ثم يحاول الاهتداء إلى ثوب فني يكسوها به في مرحلة ثانية، إنها ملتحمة بالوسيط منذ البداية، وكثيرا ما تكون العملية الفنية هي عملية تنمية لحن أو التوسع في تصميم بصري أو تعقب تركيبة لفظية ورؤية ما تسفر عنه.
3
الشكل الدال في مقابل المحاكاة والتمثيل
في كتابه البعيد الأثر «الشعر»
، عرف أرسطو التراجيديا بأنها «محاكاة»
mimesis
لشخصيات معينة أو أفعال بشرية معينة، فقد لاحظ أرسطو أن الناس يمتعها أن تقلد أو تشاهد تقليدات ناجحة، ومن الإنصاف للمعلم الأول أن نقول إن المحاكاة التي نادى بها هي محاكاة انتقائية خلاقة تعبر عن «الكلي» بحق في التجربة البشرية ولا تكتفي بالترديد الحرفي للمجرى المألوف للتجربة، غير أنه منذ دفع بنظريته أصبح عامة الجمهور يعتقدون أن مهمة الفن هي محاكاة الواقع وصنع نسخ طبق الأصل لما يجري بالحياة، ولا يزال العامة في كل مكان يثنون على الأعمال الفنية لأنها شبيهة بالحياة أو «واقعية» ولا يزالون يعتبرون الفن مرآة للطبيعة، ويرون أن اللوحات الفنية وسيلة «إيهام»
illusion
تخيل للناظر أنه يرى الطبيعة نفسها، وتبلغ ذروة الفن إذا عجز المشاهد عن أن يفرق بينها وبين الواقع.
ولكن إذا كان الفن تمثيلا أو نسخا للواقع، فأي نفع نناله من تمثيل ما هو ماثل؟ وأي جدوى تعود علينا من الحصول على «نسخ» ولدينا «الأصل» طوع يدنا؟ يقول أرسطو إن الناس تجد متعة في رؤية الشبيه؛ لأن في الاستدلال والتعرف على الأنموذج
model
متعة، غير أن بل والشكليين يرون أن متعة التعرف ليست متعة إستطيقية؛ فحين يكون اهتمام المتلقي منصرفا إلى التعلم أو الاستدلال أو التعرف، فإن إدراكه لا يقع على العمل الفني ككل، وإنما يقع على «موضوعه» فقط؛ أي على الشيء الذي يمثله العمل، حينئذ تكون صورة فوتوغرافية تافهة أوفى بالغرض من أي لوحة عظيمة، وبنفس القياس تكون الأعمال الوصفية التي لا هم لها إلا التمثيل الدقيق عبثا لا طائل منه و«إهدارا لساعات رجال ذوي اقتدار من الأجدى أن يستخدموا في أعمال أوسع نفعا»، إنما الفن عالم آخر مستقل نوعيا عن العالم الخارجي، ولا سبيل إلى رده إلى عالم الواقع، إنه عالم إنساني منبثق عن ذهن الإنسان ونشاطه الخالق، إنه إبداع بشري خالص غير ملزم بترديد الحقيقة الموضوعية أو نسخ الوجود الخارجي، وما كان لتمييز التشابه بين أشكال العمل الفني والأشكال المألوفة في الحياة أن يخلق انفعالا إستطيقيا، فليس غير «الشكل الدال» ما يقوى على ذلك، وليس هناك ما يمنع بطبيعة الحال أن تكون الأشكال الواقعية دالة إستطيقيا وأن يخلق منها الفنان عملا رائعا، غير أن ما يعنينا منها عندئذ هو قيمتها الإستطيقية لا قيمتها المعرفية، فبإمكان العنصر المعرفي أو التمثيلي في العمل الفني أن يكون مفيدا كوسيلة إلى إدراك العلاقات الشكلية وليس بأي طريقة أخرى.
لذا يؤكد بل على أن التذوق الفني الصحيح ينبغي أن يقع على الشكل، وهنا يكون العنصر التمثيلي عبئا على الإدراك الفني وحائلا بينه وبين دلالة الشكل، ولا يصبح العنصر التمثيلي مفيدا إلا إذا اقتصر دوره على أن يكون مفتاحا متروكا في العمل نفتح به - حين تعوزنا الخبرة الذوقية الكاملة - بابا خلفيا إلى عالم الشكل الدال، ولا يكون مفيدا ما لم يكن مدمجا ومستوعبا في الشكل، أما أن تستلفتنا «المشابهة» وتصرف انتباهنا عن العلاقات الشكلية، فنحن بنفس الدرجة نكون قد أدرنا ظهرنا لعالم الفن وطفقنا راجعين إلى عالم الحياة.
الفرضية الميتافيزيقية
لماذا تتأثر مشاعرنا كل هذا التأثر حيال الأشكال الدالة؟
لماذا نطرب كل هذا الطرب؟ ونجد كل هذا الوجد؟
يبدو ممكنا في رأي بل أن الشكل المبدع يهزنا بهذا العمق لأنه يعبر عن انفعال مبدعه ويوصل إلينا هذا الانفعال، فتجاه أي شيء إذن يشعر الفنان بذلك الانفعال الذي يفترض أنه يعبر عنه؟ يبدو من وجهة نظر بل أن الفنان في لحظات إلهامه يحس انفعالا تجاه الأشياء بوصفها «أشكالا خالصة»؛ أي بوصفها غايات في ذاتها، لا بوصفها وسائل ملفعة بالارتباطات؛ أي إن الفنان في لحظة الرؤية الإستطيقية يرى الأشياء مبرأة من كل ضروب الاهتمام السببي والطارئ، ومن كل ما يمكن أن تكون قد اكتسبته من طيلة صحبتها لبني البشر، ومن كل دلالة لها كوسيلة؛ ومن ثم يحس دلالتها كغاية في ذاتها.
وحين يتحدث بل عن دلالة الشيء بوصفه غاية في ذاته، فإنه يقترب كثيرا من مفهوم المثاليين عن «الشيء في ذاته» أو عن «الواقع النهائي»، ويكون جوابه عن سؤاله الميتافيزيقي «لماذا نطرب كل هذا الطرب لتجمعات معينة من الخطوط والألوان؟» هو: «لأن بقدرة الفنانين أن يعبروا بتجمعات الخطوط والألوان عن انفعال نحو الواقع يكشف عن نفسه من خلال الخط واللون.» ويترتب على ذلك أن «الشكل الدال» هو الشكل الذي نظفر من ورائه بحس بالواقع النهائي.
الشكل - المضمون
يظن بعض الناس ممن يلقون الكلام على عواهنه أن الشكلية تعني صدارة الشكل، أي شكل، على المضمون، ويتوهمون أن الشكلية هي التركيز على الزخرف والزينة والقوالب الخارجية دون اكتراث كبير بالمعنى والوظيفة، وهو تعسف لم يقل به أحد، وقلب للقضايا لا يرتكبه إلا مأفون، وليت النقاد وفلاسفة الفن قد تعارفوا على تسمية نظرية بل «الشكلية الدالة» بدلا من «الشكلية» فأراحوا واستراحوا؛ ذلك أن الشكل الذي ألح عليه بل هو الشكل الدال، و«الدلالة»
significance
مفهوم «قصدي»
intentional
بامتياز؛ فالشكل لا بد أن يدل على شيء ويشير إلى شيء ويقول شيئا، على أن يقول ويشير ويدل بالشكل وفي الشكل، ونقول بالشكل وفي الشكل لأن الشكل الدال، ببساطة، هو وحده ما يقوى على إحداث الانفعال الإستطيقي وغيره لا يحدث إلا انفعالات الحياة.
فليحمل العمل الفني من الحقائق ما وسعه أن يحمل، وينقل من المعارف ما شاء أن ينقل؛ فالمعرفة والحقيقة، ككل شيء آخر يعبر عن الفن، لا بد أن ترتبطا ارتباطا وثيقا بالقوام الحسي والعرض الشكلي للعمل. إن الفن لن ينافس العلم في مضماره، إنما تلح الشكلية على أن يكون الفن فنا - أي شكلا دالا - كيما يتسنى له أن يقبض على الحقيقة التي يعجز العلم عن القبض عليها.
هل الاهتمام بالشكل يأتي على حساب المضمون؟ كلا بل يأتي لحسابه، باعتبار نوعية المضمون الذي أوكلنا إلى الفن أن يحمله، الشكل هو كل شيء في العمل الفني، الشكل هو المضمون في حضوره الإستطيقي، والشكل الدال هو الشكل الصائب الذي تطابق مع انفعال مبدعه تجاه الواقع النهائي، والذي وجد فيه هذا المضمون الانفعالي جسدا للمثول الموضوعي ومنفذا إلى الذوات الأخرى، وآيته في ذلك أنه يثير في المتلقين انفعالا إستطيقيا مضاهيا لانفعال مبدعه، وهذا الانفعال الناجم هو معرفة ونشوة معا، هو كشف كبير ومتعة عالية في آن.
الشكل الدال حق متى جاء، ونحن نعرفه متى صادفناه ونعرف أنه حق، إنه هو ... يحمل آية صدقه (الوجد الإستطيقي) ويومئ إلى رصيده الأنطولوجي (الواقع النهائي)؛ ومن ثم فهو نقيض اللعب والتبطل، فأنت في كل الأحوال لكي تأتي بشكل دال فلا بد أن يكون لديك ما تقوله، الشكل الدال ليس زينة بل نقيض الزينة، وهو بالتأكيد تقشف وتبسيط وكفاف من التمثيل والتفصيل، وطرح للزائد ونبذ لكل ما ليس له دلالة، الشكل الدال ليس لهوا أو فراغا أو «عجة بلا بيض».
لقد تعرض مفهوم الشكل حقا لابتذال كثير وسوء فهم فادح، والتصقت به دلالات سلبية ليست منه وليس منها، وتقول عليه المتقولون وكأنه نقيض المضمون لا جسده، أو كأنه ضد التجديد لا شرطه وحاديه وروحه الحارس، ليس لمفهوم الشكل الدال علاقة بالصراع الأزلي بين الجموح والعقل، بين التلقائية والنظام، بين الجانب الديونيزي والجانب الأبولوني في الفن؛ ففي ذلك خلط بين الشكل الخارجي الآلي والشكل الداخلي العضوي، فليتمرد من شاء على القوالب القديمة المستهلكة، وليجدد ما شاء له تدفقه واندفاعه؛ فكل تجديد يحمل في ثناياه شكله الخاص، ولن يتسنى لأحد أن يتمرد على الأشكال القديمة إلا بأشكال جديدة، ولن يكون له أن يجدد في الشكل إلا بالشكل.
الفن خير
يقدم كلايف بل في فصل «الفن والأخلاق» تحليلا لمفهوم «الخير» يسترشد فيه بحدسية جورج مور
G. Moore
في كتابه الذائع الصيت «مبادئ علم الأخلاق»
، ويخلص منه إلى نتيجة مفادها أن الحالات الذهنية الخيرة هي وحدها خير كغاية في ذاتها، ويترتب على ذلك أن علينا لكي نبرر أي نشاط إنساني تبريرا أخلاقيا أن نتساءل: هل هذا النشاط هو وسيلة إلى حالات ذهنية خيرة؟ أما في حالة الفن فإن جوابنا سيكون فوريا وقائما على خبرة وجدانية حقيقية؛ فالفن ليس فقط وسيلة إلى حالات ذهنية خيرة، بل ربما يكون أقوى الوسائل التي في حوزتنا وأكثرها مباشرة، إنه أكثرها مباشرة؛ لأنه لا شيء أسرع منه تأثيرا في الذهن، وأكثرها قوة لأنه لا توجد حالة ذهنية أكثر امتيازا وشدة من حالة التأمل الإستطيقي، وأنت حين تعد أي شيء عملا فنيا فإنك تقيم حكما أخلاقيا خطيرا؛ لأنك بذلك تعده وسيلة مباشرة وفعالة إلى الخير بحيث لا يعوزنا أن نكرث أنفسنا بأي شيء من نتائجه المحتملة.
الفن والمجتمع
للفن آثار اجتماعية هائلة، فهو يغير شخصيتنا وتجربتنا في المجالات غير الإستطيقية للحياة، ويجعلنا أكثر حكمة وسموا، ويعمق رؤيتنا لذواتنا وذات الآخرين، إن للفن وجها موضوعيا أساسيا وبعدا «بينذاتيا»
intersubjective
يدخل في صميم ماهيته؛ فالمبدع والمتلقي «متضايفان»
correlatives
يأخذ كل منهما من الآخر حقيقته ومعناه، بل إن البشر جميعا في اللحظة الإستطيقية يغدون ذوبا من تضايف عام وامتزاج كلي.
إن الفن يطلعنا على دينامياتنا النفسية وديناميات الآخرين، ويعتقنا من مركزية الذات
egocentrism
ويؤهلنا للمواجدة
empathy ؛ أي القدرة على اتخاذ الإطار المرجعي للآخرين بسهولة ويسر، ومشاركتهم وجداناتهم مشاركة حقيقية مبرأة من إسقاطاتنا الخاصة، الفن هو أقدر صنوف النشاط البشري تعبيرا عن التواصل بين الأفراد وبين الأجيال وبين الأمم؛ لأن الوجد الإستطيقي لا يحده الزمان ولا ترده التخوم الجغرافية، إنه انعتاق من كل صنوف المركزية وانطلاق من كهوف التحيز والتعصب والتحزب، وأذان للأرواح بأن تنعطف وتأتلف وتتقاسم رحابة الوجود.
والفن بوظيفته المعرفية التي أشار إليها بل وسوزان لانجر وهربرت ريد وغيرهم يفتح لنا مغاليق العالم الوجداني، فإلى جانب العلم الذي يزيد من تمكننا الفكري والتصوري للعالم، فإن الفن يزيد من تمكننا الإدراكي والانفعالي؛ فبفضل كتاب من طراز شكسبير وبروست أمكننا أن نفطن إلى دقائق سيكولوجية ما كان لنا أن نراها، وبالتالي نحسها، لولا قدرتهم على اقتناصها والتعبير عنها، وبفضل مصورين من طراز سيزان ومانيه تعلمنا كيف ننظر إلى الأشياء ونلاحظ العالم، وكيف ننتشي بالتحامنا بالوجود والتقائنا بماهية الأشياء.
ولا يفوتنا في هذا المقام أن ننبه إلى أن التماس أي منفعة للفن من طريق آخر غير الدلالة الإستطيقية هو إبطال للفن ونفي لماهيته ذاتها؛ فالفن الدعاوي والإرشادي والتزييني ليس فنا، بل تناقض ذاتي ، شأنه شأن «النقطة الممتدة» أو «المربع المستدير»، والإصرار على توظيف الفن لخدمة أغراض حياتية مباشرة هو خسران لوظيفة الفن الحقيقية التي لا يقدر على الاضطلاع بها أي نشاط آخر، وتحميله في الوقت نفسه دورا تستطيع مرافق أخرى - كالإعلام والفكر والسياسة والجامعة ومراكز البحث - أن تقوم به على نحو أفضل.
قيمة القيم
يقولون ما فائدة نظرية علمية بلا تطبيق عملي فهي تئود الذهن ولا تريح الكاهل؟ وما فائدة نغمة لا تغمس لقمة ... وكلمة لا تدفع نقمة؟
وأزيدهم: وما فائدة تمسيدة حنان، في ميناء الحياة، على جبين مكدود لن أراه مرة ثانية؟
وأقول إن السؤال الصحيح لم يسأل: ما فائدة عمل طاحوني يبدأ من حيث ينتهي؟
وما فائدة لقمة لا يزال يجادلها الجوع؟
وسلامة هي حسبك من داء دفين، ما دمنا في الحياة زائرين غير مقيمين.
لا فائدة في العمل واللقمة والسلامة، ما لم تنته بنا سلاسلها إلى نهايات من معدن آخر ... نهايات تقوم في ذاتها قيمة.
الحق والجمال والخير ليست سلاسل بل نهايات.
ليست وسائل بل غايات.
إنها قيم.
إنها مطلقات.
بعد الوجد
يقول كلايف بل: «إن من قدر له أن يعرف الوجد ويتبدد في «أوه ... ألتيتودو»
O Altitudo
واحدة، لن يكون له أن يؤخذ بإثارات العمل الفارغة ويغالي في تقديرها، ومن وهب القدرة على أن يأوي إلى عالم الوجد سيعرف كيف يتعامل مع الوقائع الخارجية بحجمها، جدير ذلك الذي يختلف كل يوم إلى عالم الوجد أن يعود إلى عالم الشئون البشرية مسلحا لمواجهتها بشجاعة، وربما بشيء من الازدراء.»
وبعد فإن دخول العمل الفني ليس مثل خروجه.
ربما يكون دخولك تزجية للوقت.
أو دفعا للسأم أو محض صدفة.
غير أنك تخرج دائما من الرائعة الفنية بكيمياء مختلفة.
وخطوة مختلفة.
وطريق مختلف.
د. عادل مصطفى
تصدير المؤلف
في هذا الكتاب الصغير حاولت أن أنشئ نظرية مكتملة في الفن البصري، لقد قدمت فرضية يمكن بالإحالة إليها أن تختبر وجاهة (وإن لم يكن صواب) الأحكام الإستطيقية جميعا، وفي ضوئها يغدو تاريخ الفن من العصر الحجري إلى اليوم مفهوما، وبتبنيها نقدم دعما فكريا لقناعة عالمية، تقريبا، وموغلة في القدم، يطوي كل منا جوانحه على اعتقاد بأن هناك فرقا حقيقيا بين الأعمال الفنية وجميع الأشياء الأخرى، هذا الاعتقاد تبرره فرضيتي. إننا جميعا نشعر بأن الفن هام غاية الأهمية، وفرضيتي تقدم السبب في اعتباره كذلك، والحق أن الميزة الكبرى لفرضيتي هذه أنها تبدو مفسرة لما نعرف أنه حق، ومن يهمه اكتشاف السبب الذي يجعلنا نطلق على سجادة فارسية أو جدارية لبييرو دلا فرانشيسكا عملا فنيا، ونطلق على تمثال نصفي أو لوحة شعبية تعالج مشكلة عملا ساقطا؛ من يهمه اكتشاف ذلك فسوف يجد هنا ضالته، وسيجد أيضا أن الرواسم المألوفة في النقد، من مثل «رسم جيد»، «تصميم رائع»، «آلي»، «غير محسوس»، «غير منظم»، «حساس»، سيجد هذه المصطلحات قد أخذت ما تفتقر إليه أحيانا: معنى محددا، وباختصار فإن فرضيتي تعمل بنجاح، ذلك شيء غير معتاد، وبدت للبعض لا ناجعة فحسب بل صحيحة، تلك شبه أعجوبة.
ربما يؤسس المرء نظرية في خمسين أو ستين ألف كلمة تأسيسا كافيا، ولكنه لا يمكن أن يدعي أنه تأسيس مكتمل، إن كتابي تبسيط؛ فقد حاولت أن أجترح تعميما عن طبيعة الفن يتكشف أنه صحيح ومتسق وشامل في آن معا، لقد التمست نظرية يتعين أن تفسر خبرتي الإستطيقية كلها وتومئ إلى حل لكل مشكلة، ولكني لم أحاول أن أجيب بالتفصيل عن جميع الأسئلة التي طرحت نفسها، أو أن أقتفي أي واحد منها إلى أدق تفريعاته، إن علم الإستطيقا شأن معقد، وكذلك هو تاريخ الفن، وقد أملت أن أكتب فيهما شيئا بسيطا وصائبا، فرغم أني، مثلا، قد أشرت بوضوح شديد، بل بتكرار كثير، إلى ما أعتبره جوهريا في العمل الفني، فأنا لم أتناول العلاقة بين الجوهري وغير الجوهري بالإفاضة التي كان يسعني تناولها؛ فقد بقي الكثير الذي لم يقل عن عقل الفنان وطبيعة المشكلة الفنية، وبقي لمن هو فنان وسيكولوجي وخبير بالعجز الإنساني أن ينبئنا إلى أي مدى يكون غير الجوهري وسيلة ضرورية إلى الجوهري؛ أن ينبئنا ما إذا كان من السهل أو الصعب أو المستحيل على الفنان أن يدمر كل درجة في السلم الذي يرتقي عليه إلى النجوم.
الفصل الأول من كتابي يوجز مناقشات ومداولات وخيوطا طويلة من التأمل الغامض تظل جديرة، حين تتكثف إلى حجاج صلب، أن تملأ مجلدين ضخمين أو ثلاثة، ولعلي أكتب واحدا منها ذات يوم إذا كان نقادي مندفعين اندفاعا كافيا لاستفزازي، أما عن فصلي الثالث - مخطط تاريخ أربعة عشر قرنا - فمن نوافل القول: إنه تبسيط، وفيه استخدمت سلسلة من التعميمات التاريخية لكي أوضح نظريتي، وفيه، مرة أخرى، أعتقد في صحة نظريتي، وأقتنع بأن كل من سيتأمل تاريخ الفن في ضوئها سيجد ذلك التاريخ أكثر وضوحا من ذي قبل، وأنا أعترف في الوقت نفسه أن الفروق في الحقيقة أقل عنفا، أن التلال أقل تحدرا مما تبدو عليه في خريطة من هذا الصنف، وسيكون جميلا بدون شك لو أن هذا الفصل أيضا قد توسع إلى نصف دستة من المجلدات الممتعة، إلا أن هذا لن يتسنى حتى يتعلم السدنة المثقفون أن يكتبوا أو يتحلى كاتب ما بالصبر.
تلك المداولات والمناقشات التي هذبت وصقلت النظريات المطروحة في الفصل الأول جرى معظمها مع السيد روجر فراي
Roger Fry
الذي أدين له، من أجل ذلك، دينا يعجزني أن أحصيه، وأنا أشكره في المقام الأول كمحرر مشارك في البرلنجتون ماجازين لسماحه بإعادة طبع جزء من مقال أسهمت به في هذه الدورية، وبعد إذ أؤدي هذا الواجب آتي إلى حساب أكثر تعقيدا، في المرة الأولى التي التقيت فيها بالسيد فراي، في عربة سكة حديد تصل بين كمبردج ولندن تجاذبنا أطراف الحديث حول الفن المعاصر وعلاقته بكل فن آخر، ويبدو لي أحيانا أننا ظللنا منذ ذلك الوقت نتحدث عن نفسي الشيء، ولكن أصدقائي أكدوا لي أن الأمر ليس بهذا السوء، أذكر أن السيد فراي كان حديث عهد بالأساتذة الفرنسيين المحدثين - سيزان وجوجان وماتيس، وأني كنت أتمتع بمعرفة أطول بهم، غير أن السيد فراي كان قد أصدر لتوه كتابه «مقال في الإستطيقا» الذي يعد ، من وجهة نظري، أرشد إسهام تم في هذا العلم منذ زمن كانت
Kant ، لقد تحدثنا كثيرا عن هذا المقال، ثم تناقشنا في احتمال إقامة معرض «بعد انطباعي»
في صلات عرض جرافتون، نحن لم نسمه آنذاك «بعد انطباعي»، فقد ابتكر السيد فراي هذه اللفظة بعد ذلك، الأمر الذي يجعلني أرى شيئا من الإجحاف من جانب النقاد الأكثر تقدمية إذ يكثرون من توبيخه لجهله بما تعنيه «بعد الانطباعية»!
وقد جعلت أجادل السيد فراي بعض السنوات، جدالا سلميا إلى حد ما، حول مبادئ الإستطيقا، غير أننا نختلف اختلافا جسيما، وإنني لأود أن أرى أنني لم أتزحزح عن موقفي الأصلي قيد أنملة، إلا أن علي أن أعترف أن الشكوك والتحفظات الحذرة التي دست نفسها في هذا التصدير كلها نتائج غير مباشرة لنقد صديقي فراي، لم يكن حديثنا مقصورا على أفكار عامة وأشياء أساسية، فقد تنازعنا أنا والسيد فراي ساعات حول أعمال فنية بعينها، في مثل هذه الحالات يتعذر تقدير مدى تأثير الواحد منا على حكم الآخر، ولا نحن يلزمنا هذا التقدير؛ فلا أحد منا، في اعتقادي، يشتهي المراسم الظنية للاهتداء، من المؤكد أن من يقدر عملا فنيا رفيعا تتاح له تلك المتعة الشديدة - متعة افتراض أنه قد اجترح اكتشافا، ورغم ذلك، فحيث إن كل النظريات الفنية تقوم على أحكام إستطيقية؛ فمن الواضح أنه إذا أثر أحد في أحكام آخر فإنه قد يؤثر، بطريق غير مباشر، في بعض نظرياته، ومن المؤكد أن السيد فراي قد عدل بعض تعميماتي التاريخية بل قوضها، لم تكن مهمته شاقة، فلم يكن عليه إلا أن يواجهني بعمل فني معين هو على يقين من أنه سيبلغ بي النشوة، ثم يبرهن بأشد الأدلة كراهة وإفحاما أن هذا العمل ينتمي إلى فترة كنت قد خلصت، على أسس «قبلية»
a priori
للغاية، إلى أنها فترة قاحلة تماما، ولا يسعني إلا أن آمل أن أستاذية السيد فراي كانت مربحة لي بقدر ما كانت مؤلمة: لقد ترحلت معه عبر فرنسا وإيطاليا والشرق الأدنى، متألما بشدة، ليس دائما في صمت (يطيب لي أن أتذكر ذلك)؛ فالرجل الذي يطعن تعميما ما بحقيقة واقعة إنما يصادر كل ادعاء على الزمالة الطيبة وعلى تلطف المهذبين.
ولا يفوتني أن أتوجه بالشكر إلى صديقي السيد فيرنون رندال لسماحه لي بالإفادة كيف أشاء من مقالاتي التي أسهمت بها من وقت لآخر في
The Athenaeum : فإذا كنت قد أفدت مما ينتمي بحكم القانون إلى أصحاب ملكية أبحاث أخرى فها أنا ذا أقدم استحقاقاتها العرفية، كذلك سيكون قرائي شاكرين، مثلي، جميل
M. Vignier ، و
M. Druet ، و
Mr. Kevorkian ، من الجاليري الفني الفارسي؛ إذ إنهم من ضمنوا للقارئ أن يقتني شيئا يروقه مقابل نقوده، وإنني لأدين دينا أخص وأقرب للسيد إريك مكلاجان من سوث كنسينجتون، والسيد جويس من المتحف البريطاني، وقد تفضلت زوجتي بقراءة كل من مخطوطة هذا الكتاب وبروفته الطباعية، وقد صوبت بعض الأخطاء، وأيقظت انتباهي إلى الإساءات الفاضحة ضد المحبة المسيحية؛ لذا فليس لك أن تلتمس العذر للمؤلف على أي إهمال أو تسرع.
كلايف بل
نوفمبر 1913م
تصدير الطبعة الجديدة
تحديث كتاب «الفن»
Art ؛ أي أن أجعل ما فكرت به وشعرت في 1911 و1913م منسجما مع ما أفكر وأشعر به اليوم، سيعني أن أكتب كتابا جديدا، وهذا ما لن أفعله: أولا لأني كسول. وثانيا لأنه إذا كان للفن أي قيمة للأجيال القادمة سيكون ذلك بوصفه تسجيلا لما كان أشخاص مثلي يفكرون ويشعرون به في السنوات السابقة على الحرب الأولى؛ لذا فلأترك المبالغات كما هي والتبسيطات الطفولية والإجحافات.
وقد قمت بتصويب بعض الأخطاء في هذه الطبعة أو في سابقاتها، أغرب هذه الأخطاء، والتي استمرت سنوات في طبعات عديدة في هذا البلد وفي أمريكا، هو طباعة
Gaugin
بدلا من
Gauguin ، وهو خطأ يعزى بالتأكيد لمراجعين من جيلي، كان كثير منهم على غير وفاق كبير مع أفكاري، ولا يد لي في هذا الخطأ المطبعي من قريب أو بعيد - باستثناء البروفيسور تونكس الذي لم يكن مراجعا، ولست أدري هل الشهامة هي ما منعهم أن يلمحوا «تحصيل حاصل»
tautology
ناتئا في عرضي ل «الفرضية الإستطيقية»
aesthetic hypothesis : وبوسعي أن أقول إن هذه الوصمة قد أزيلت منذ زمن طويل،
1
ومن عجب أنني لم أوبخ على عبارة (ما زالت موجودة) تنزل بسورا
Seurat
وتضعه في مرتبة سينياك
Signac
وكروس
Cross ، ليس لي عذر في هذا الحكم سوى أنني لم أطلع على عمل الأستاذ اطلاعا يذكر، وهذا بالطبع ليس عذرا لأي شخص أخذ على عاتقه أن يتفضل على الجمهور بآرائه، ومن جهة أخرى، أود أن أقدم بعض الاعتذار عن ملاحظة انتقاصية صوبتها في كتاب آخر («معالم في تصوير القرن التاسع عشر»
Landmarks in Nineteenth Century Painting ) إلى ديجا
Degas ، كان ديجا فنانا عظيما، عظيما جدا، ولكني كنت مستشاطا من صيحة جديدة، كانت منتشرة يوما بين الأشخاص الإنجليز الذين لا يعرفون شيئا يذكر عن التصوير الفرنسي، بتمجيد «منظر الشاطئ في التيت»
Beach Scene in the Tate
على حساب لوحات أفضل، إن لوحة «الشاطئ»
La plage
بعيدة عن أن تكون من بين روائع ديجا، ولكنها ممتازة، وممتازة على نحو يمكن تبينه بسهولة، لقد كنت ساخطا، ومثلما يحدث كثيرا حين يكون امرؤ في حالة عالية كهذه فقد قلت قولا غير سديد.
هذه شوائب مفردة، أما الأخطاء الأكثر عمومية لهذا الكتاب فليست غير لائقة تماما بالشباب؛ فالنبرة واثقة كثيرا ومشاكسة كثيرا، وثمة مسحة دعائية تصدر من صفحات ليست محلا للدعاية، ولكن تذكر أن «معركة ما بعد الانطباعية» كانت بعد في المستهل، كان قصارى ما يمكن أن يقوله سيكرت
Sickert
نفسه في حق سيزان هو أنه «فاشل عظيم»
un grand raté ، في حين دعاه سرجنت «مرقعا»
a botcher ، أما مدير تيت جاليري فرفض أن يعلق لوحاته، وكان فان جوخ يشجب كل يوم على أنه مجنون قاصر وسوقي، وأنبأنا السيد جاك إميل بلانش أنه عندما ينظف لوحة ألوانه كثيرا ما كان ينتج شيئا ما أفضل من لوحة لجوجان، وعندما أطلع روجر فراي «نقابة صناع الفن»
Art-workers Guild
على لوحة لماتيس، علت الصيحة:
drink of drugs? ، قد يكون سخيفا أن نخرج عن طورنا مع «صناع الفن» أو مع أستاذ بمدرسة سليد، ولكن لا تنس أن فنانين ونقادا مبجلين - ودعك من الروائيين والشعراء والقضاة والكهنة والساسة والبيولوجيين - شاركوا في الصيحة، أصغ إلى سيكرت: «ماتيس لديه أسوأ خدع مدرسة الفن جميعا.» «بيكاسو، شأنه شأن أتباع ويسلر جميعا، أخذ خلفية ويسلر الفارغة دون أن يأخذ الصفة الفريدة التي جعل بها ويسلر خلفيته الفارغة خلفية شائقة.» ربما أحسنا صنعا إذ غضبنا، إلا أن أي شخص يقرأ هذا الكتاب سيرى أنني إذ أغضب أتحدث بسخف وتطاول على عمالقة «ذروة النهضة»
The High Renaissance ، وأنني أغبن القرن الثامن عشر، وأنني أظن؛ لدواعي الحذلقة النظرية المعيبة، أن علي أن أخفف من إعجابي بالانطباعيين
Impressionists ، إن نبرة الكتاب، كما قلت، مفرطة الثقة، كما أنها عدوانية، وإن التعميمات الكاسحة، وتاريخ الأربعة عشر قرنا الذي قيل في خمس وسبعين صفحة لم يقل مثلما ينبغي أن يقال تاريخ يسرد بهذا الاختصار؛ أي بالأبيض والأسود، بل قيل بألوان صارخة الاختلاف، كما أن بعض الألوان زائف، وفضلا عن كل هذا، فهناك قدر من التفاؤل قمين أن يرتد مضحكا في ضوء الأحداث التي تمت في الخمسة والثلاثين عاما الأخيرة. غير أن الأحداث لم تكن إذ ذاك طوع يد المؤلف، ورغم ذلك فحين أعيد قراءة كتاب «الفن»، آخذا بالاعتبار جميع (وإن لم تزد، فيما أعتقد، عن جميع) الظروف المخففة التي يمكن أن تقدم دفاعا عنه، لا يسعني سوى الشعور بشيء من الحسد تجاه الشاب الجسور الذي كتبه.
كلايف بل
شارلستون، أكتوبر 1948م
الفصل الأول
ما هو الفن؟
What is Art? (1) الفرضية الإستطيقية
The Aesthetic Hypothesis
رغم أني أستبعد أن يكون ما كتب في الإستطيقا (علم الجمال) من هراء أكثر مما كتب في غيرها (فالتراث الإستطيقي أصغر من أن يبلغ ذلك) إلا أني لا أعرف بين جميع الموضوعات موضوعا افتقر تناوله إلى وضوح الغرض مثلما هو الحال في الإستطيقا، وتفسير ذلك غير خاف؛ فلا بد لمن ينبري لوضع نظرية محكمة ومقبولة في الإستطيقا أن يتحلى بخصلتين؛ الحساسية الفنية، والميل إلى التفكير الواضح. فمن افتقر إلى الحساسية فقد عدم الخبرة الإستطيقية (الجمالية)
aesthetic experience ، وجلي أن لا قيمة لأي نظرية إستطيقية لا ترتكز على خبرة جمالية واسعة وعميقة، فما كان لأحد غير مولع بالفن ولوعا متصلا أن يظفر بالمعطيات التي يمكن أن تستنبط منها نظريات مفيدة.
غير أن استنباط نظريات مفيدة، حتى لو توافرت المعطيات الدقيقة ، يتطلب قدرا معينا من العمل الذهني، ومن عثرة الحظ أن قوة الفكر ورهافة الحس ليستا متلازمتين بالضرورة. لي صديق وهبه الله ذكاء نافذا كالحفار، وهو على اهتمامه بالإستطيقا لم يحدث له في عمره الذي يقرب الأربعين أن اقترف انفعالا إستطيقيا. إن مثله وقد عدم الملكة التي يميز بها بين العمل الفني والمنشار اليدوي، عرضة لأن يشيد هرما من الحجج السديدة تأييدا لفرضية أن المنشار اليدوي هو عمل فني، ومن شأن هذا القصور أن يسلب تفكيره الواضح والحاذق كثيرا من جدواه؛ فمن المبادئ المسلم بها دائما أن المنطق السديد لا يشفع لنتائج تستند إلى مقدمات معروفة البطلان، ولكن رب ضارة نافعة: فهذا التبلد، على نحسه إذ يمنع صديقي أن يتخير أساسا سليما لحجته، لا يزال رءوفا به إذ يعمي عليه خلف نتائجه فيما يتركه مزهوا غاية الزهو بجدله اللوذعي، إن من ينطلق في فكره الإستطيقي من فرضية أن سير إدفين لاندسير هو أبرع مصور شهدته الأرض، لن يستشعر قلقا في نظرية إستطيقية تستوي له يكون جوتو
Giotto
بمقتضاها هو أسوأ مصور؛ ومن ثم فحين خلص صديقي بمنطقية تامة إلى نتيجة مفادها أن العمل الفني يجب أن يكون صغيرا أو مستديرا أو ناعما، أو أن عليك لكي تقدر لوحة تقديرا تاما أن تخطو أمامها برشاقة أو تديرها كالخذروف حين خلص صديقي إلى ذلك لم يكن بوسعه أن يحدس لماذا أسأله هل ذهب مؤخرا إلى كمبردج (وهو مكان يلم به أحيانا).
1
وهناك من الجهة الأخرى أناس يستجيبون للأعمال الفنية استجابة فورية ناجحة، ورغم أنهم في تقديري أسعد حظا من ذوي الفكر الكبير مع الحساسية القليلة، فهم كثيرا ما يكونون عاجزين بنفس الدرجة عن الإفضاء بكلام مفيد في الإستطيقا؛ ذلك أن أفكارهم ليست دائما واضحة بما فيه الكفاية، وبينما هم يملكون المعطيات التي ينبغي أن يقوم عليها أي نسق إستطيقي، إلا أنهم بعامة تعوزهم القدرة على استخلاص استدلالات صائبة من المعطيات الصحيحة. إن مثلهم، بعد إذ تلقوا من الأعمال الفنية انفعالات إستطيقية، في وضع يدعو إلى تلمس الصفة المشتركة التي تجمع بين كل الأشياء التي حركت مشاعرهم، غير أنهم في الحقيقة لا يفعلون شيئا من هذا، وأنا لا ألومهم؛ فلماذا يكرثون أنفسهم بفحص مشاعرهم وهم ليسوا متضلعين في الفكر؟ لماذا يتعين عليهم أن يجوسوا لتصيد خصلة مشتركة بين جميع الأشياء التي حركت مشاعرهم ما دام بإمكانهم أن يتلبثوا حيال السحر السائغ والعجيب في كل شيء منها كيفما يأتي؟ ومن ثم فإذا كتب هؤلاء نقدا وأسموه إستطيقا، وإذا تصوروا أنهم يتحدثون عن «الفن» بينما هم يتحدثون عن أعمال فنية بعينها، أو حتى عن تكنيك التصوير،
2
وإذا وجدوا في غمرة حبهم لأعمال معينة أن النظر في الفن في جملته أمر مضجر - فربما يكونون قد ظفروا بالنصيب الأوفر، إذا لم يكن هؤلاء مشغوفين بمعرفة طبيعة انفعالهم ولا بمعرفة الميزة المشتركة لجميع الأشياء التي تحركهم، فإن قلبي معهم، وحيث إن ما يقولونه كثيرا ما يكون أخاذا وموحيا، فلهم إعجابي أيضا، كل ما أبتغيه ألا يفترض أحد أن ما يكتبونه ويقولونه هو إستطيقا، إنه نقد، أو مجرد حديث «في الشغل».
إن نقطة البدء في كل نسق إستطيقي ينبغي أن تكون هي الخبرة الشخصية بانفعال خاص، ونحن نطلق على الأشياء التي تثير هذا الانفعال اسم «الأعمال الفنية»
works of art ، ويتفق كل ذي حس مرهف من الناس على أن هناك انفعالا خاصا تثيره الأعمال الفنية، ولست أعني بطبيعة الحال أن كل الأعمال الفنية تثير نفس الانفعال؛ إذ، على العكس، يولد كل عمل من أعمال الفن انفعالا مختلفا، غير أنه من الممكن إدراك أن هذه الانفعالات جميعا هي من نفس الصنف، وعلى أية حال فالرأي الأرجح حتى هذا الحد هو في صفي، إن هناك صنفا معينا من الانفعال تثيره الأعمال الفنية البصرية، وهو انفعال يثيره كل نوع من الفن البصري: الصور وأعمال النحت والمباني والجرار وأعمال الحفر والنسيج، وأعتقد أن هذا شيء لا يماري فيه أي شخص لديه القدرة على أن يحس هذا الانفعال، ويطلق على هذا الانفعال «الانفعال الإستطيقي»
aesthetic emotion ، ولو أمكننا أن نكتشف صفة ما مشتركة ومميزة لجميع الأشياء التي تثير هذا الانفعال نكون قد ظفرنا بحل لما أعتبره المشكلة المركزية في الإستطيقا؛ أي نكون قد وقفنا على الصفة الجوهرية في العمل الفني، تلك الصفة التي تميز الأعمال الفنية عن جميع الفئات الأخرى من الموضوعات.
ذلك أنه لو لم تكن للأعمال الفنية صفة مشتركة تشملها جميعا، لكان حديثنا عن «الأعمال الفنية» لغوا وثرثرة، كلنا يتحدث عن «الفن» واضعا بذلك تصنيفا ذهنيا يفرق به بين فئة «الأعمال الفنية» وجميع الفئات الأخرى، فما هو المبرر العقلي لهذا التصنيف؟ وأيا ما كانت هذه الصفة فمما لا شك فيه أنها كثيرا ما توجد مصاحبة لصفات أخرى، غير أن هذه الصفات عرضية بينما الصفة التي نلتمسها جوهرية، لا بد أن هناك صفة مفردة محددة لا يمكن أن يوجد بدونها عمل فني، وإذا حاز عليها أي عمل فستكون له بعض القيمة على أقل تقدير، فما هي هذه الصفة؟ ما الصفة التي تشترك فيها جميع الأشياء التي تثير انفعالاتنا الإستطيقية؟ ما الصفة التي تجمع بين كنيسة القديسة صوفيا، والنوافذ في كاتدرائية شارتر، والنحت المكسيكي، والآنية الفارسية، والسجاد الصيني، وجداريات جوتو الجصية في بادوا، وروائع بوسان وبييرو دلا فرانشيسكا وسيزان؟ يبدو أن ليس هناك سوى جواب واحد ممكن، هو «الشكل ذو الدلالة» (الشكل الدال)
significant form ، ففي كل منها فإن الخطوط والألوان إذ تتضام بطريقة معينة، وإن أشكالا معينة وعلاقات الأشكال، تثير انفعالاتنا الإستطيقية، هذه العلاقات والحبكات من الخطوط والألوان، هذه الأشكال المحركة إستطيقيا، أطلق عليها «الشكل الدال»، و«الشكل الدال» هو الصفة الفريدة التي تشمل كل أعمال الفن البصري.
هنا قد يعترض البعض بأني بذلك أجعل الإستطيقا شأنا ذاتيا محضا، ما دامت معطياتي الوحيدة هي خبرات شخصية بانفعال معين، وسيقال إنه ما دامت الأشياء التي تثير هذا الانفعال تختلف من شخص لآخر فلا يمكن أن يكون لأي نسق إستطيقي صواب موضوعي، ولا بد أيضا أن يقال ردا على ما ذكرت أن أي نسق إستطيقي يدعي أنه قائم على حقيقة موضوعية هو من البطلان الواضح بحيث لا يستحق المناقشة؛ فنحن لا نملك أي وسيلة للتعرف على عمل من الأعمال الفنية سوى شعورنا به، وإن الموضوعات التي تثير الانفعال الإستطيقي تختلف باختلاف الأشخاص، والأحكام الجمالية كما جرى المثل هي مسألة ذوق، ولا مشاحة في أذواقنا كما يسلم - فخورا - كل إنسان. قد يستطيع الناقد القدير إزاء لوحة لم تحرك مشاعري أن يلفت انتباهي إلى أشياء أغفلتها في اللوحة إلى أن يقع لي الانفعال الجمالي فأدركها كعمل من أعمال الفن، إن وظيفة النقد هي ألا ينفك يبين لنا تلك الأجزاء التي من شأنها حين تتحد أن يفضي مجموعها، أو بالأحرى تضامها، إلى إنتاج الشكل الدال، غير أنه من العبث الذي لا طائل منه أن يخبرني ناقد فني أن شيئا ما هو عمل فني، بل لا بد له أن يجعلني أشعر بذلك بنفسي، ولا بد له لكي ينجح في ذلك أن يصل إلى انفعالاتي من خلال عيوني؛ فليس بإمكانه أن يرغمني على الانفعال ما لم ينجح في أن يجعلني أرى شيئا ما يحرك مشاعري، وليس من حقي أن أعتبر أي شيء عملا فنيا ما لم يمكني أن أستحيب له انفعاليا، ولا هو من حقي أن أبحث عن الصفة الجوهرية في أي شيء لم أشعر إزاءه أنني أمام عمل فني، ولا يملك الناقد أن يؤثر على آرائي الجمالية إلا عن طريق التأثير على خبرتي الجمالية، ولا بد لجميع الأنساق الإستطيقية أن تقوم على الخبرة الشخصية؛ أي لا بد أن تكون ذاتية.
ولكن بالرغم من أن كل النظريات الإستطيقية تستند بالضرورة إلى أحكام جمالية، وأن جميع الأحكام الجمالية هي في النهاية مسألة ذوق شخصي، فمن التهور أن نقول بأن النظرية الإستطيقية لا يمكن أن تتمتع بصواب عام، فرغم أنني قد تحركني الأعمال أ، ب، ج، د، بينما تحركك الأعمال أ، د، ه، و؛ فليس هناك ما يمنع أن تكون الصفة س هي الصفة الفريدة التي يعتقد كلانا أنها القاسم المشترك في جميع الأعمال بقائمته، فقد نتفق جميعا على إستطيقا واحدة ونختلف رغم ذلك حول أعمال معينة؛ أي نختلف حول وجود الصفة س أو غيابها. سيكون هدفي المباشر إثبات أن «الشكل الدال» هو الصفة الوحيدة المشتركة والمميزة لجميع أعمال الفن البصري التي تحرك مشاعري، وسأناشد من لا تنطبق خبرتهم الإستطيقية على خبرتي أن ينظروا ما إذا كانت هذه الصفة في تقديرهم ليست شاملة أيضا لجميع الأعمال التي تحركهم، وما إذا كان بإمكانهم اكتشاف أي صفة أخرى يمكن أن يقال عنها الشيء نفسه.
عند هذه النقطة أيضا يبرز تساؤل - تساؤل خارج عن الموضوع حقا ولكن لا سبيل إلى دفعه - لماذا تتأثر مشاعرنا كل هذا التأثر حيال أشكال متصلة فيما بينها على نحو معين؟ إنه سؤال شائق للغاية ولكنه غير ذي صلة بالإستطيقا، فليس لنا في الإستطيقا المحضة أن ننظر فيما سوى انفعالنا وموضعه؛ ففي حدود أغراض الإستطيقا ليس من حقنا، ولا هو من الضروري بحال، أن ننبش وراء الموضوع في الحالة الذهنية للذي صنعه، ولسوف أحاول لاحقا أن أجيب عن هذا السؤال حتى يتسنى لي أن أقول كلمتي في علاقة الفن بالحياة، غير أنني لن أوهم نفسي عندئذ أن ذلك تتمة لنظريتي الإستطيقية؛ فكل ما يلزم في مبحث الإستطيقا هو أن أثبت فحسب أن الأشكال إذ تنتظم وتجتمع وفقا لقوانين معينة مجهولة وغامضة، تحرك مشاعرنا فعلا بطريقة معينة، وأن مهمة الفنان هي أن يجمعها وينظمها بحيث تحرك مشاعرنا، هذه التجمعات والتنظيمات هي ما أطلقت عليه على سبيل التيسير، ولسبب آخر سنعرفه فيما بعد، اسم «الشكل الدال»
Significant Form .
وهناك مقاطع ثالث علي أن أجيبه، يسألني: «تراك أغفلت مسألة اللون؟» بالطبع لا، فمصطلح «الشكل الدال» هو عندي يتضمن تضام الخطوط والألوان، إن التفرقة بين الشكل واللون هي تفرقة غير حقيقية؛ فأنت لا يمكنك أن تتصور خطا لا لون له، أو تتصور فراغا عديم اللون، ولا هو بإمكانك أن تتصور علاقة بين الألوان لا شكل لها؛ ففي حالة الرسم الأبيض والأسود تكون الفراغات جميعا بيضاء، وتكون جميعا محاطة بخطوط سوداء، وفي معظم اللوحات الزيتية تكون الفراغات متعددة الألوان، وكذلك الحدود، فأنت لا تستطيع أن تتخيل خطا حديا بدون محتوى أو محتوى بدون خط حدي؛ ولذا فحينما أتحدث عن الشكل الدال فإنما أعني تضاما معينا للخطوط والألوان (معتبرا الأبيض والأسود ألوانا) يثير في نفسي هزة إستطيقية.
وقد يندهش البعض لأني لم أطلق على ذلك
beauty (جمال، ملاحة)، إنني بطبيعة الحال أسلم عن طيب خاطر لمن يعرف الجمال بأنه «ضروب من تضام الخطوط والألوان بطريقة تثير انفعالا إستطيقيا.» بحقه في أن يستبدل لفظه بلفظي، غير أن معظمنا، مهما بلغت دقتنا الاصطلاحية، عرضة لأن يخلع نعت «جميل
beautiful » على موضوعات لا تثير ذلك الانفعال الخاص الذي تثيره الأعمال الفنية، فكل منا فيما أظن قد أطلق يوما على فراشة أو زهرة صفة «جميل»، فهل يحس كل منا تجاه الفراشة أو الزهرة بنفس الانفعال الذي يحسه تجاه كاتدرائية أو لوحة؟ من المؤكد أن ما أسميه انفعالا إستطيقيا هو شيء يختلف عما يشعر به معظمنا، بصفة عامة، تجاه الجمال الطبيعي، ولسوف أتطرق فيما بعد إلى أن بعض الناس في بعض الأحيان قد يرى في الطبيعة ما نراه في الفن ويحس إزاءها انفعالا إستطيقيا، ولكن بحسبي الآن أن أقر كقاعدة أن ما يحسه معظم الناس تجاه الطيور والأزهار وأجنحة الفراشات هو صنف من الانفعال مختلف كليا عما يحسونه تجاه اللوحات والأواني الخزفية والمعابد والتماثيل. أما لماذا لا تفعل هذه الأشياء الجميلة في شعورنا ما تفعله الأعمال الفنية فهو سؤال آخر وليس سؤالا إستطيقيا، فلنجتزئ لغرضنا الحالي باستكشاف الصفة التي تعم الموضوعات التي تهزنا بوصفها أعمالا فنية، وآمل في نهاية هذا الفصل، عندما أحاول أن أضع يدي على سبب تأثرنا العميق بضروب معينة من تضام الخطوط والألوان، أن أقدم تفسيرا مقبولا لعدم تأثرنا بنفس العمق تجاه الأشياء الأخرى.
وما دمنا نطلق كلمة «جمال»
beauty
على خاصية ليست تثير الانفعال الإستطيقي المميز، فمن المضلل أن نطلق الكلمة نفسها على الخاصية التي تثيره، فإذا ما جعلنا «الجمال»
beauty
هو موضوع الانفعال الإستطيقي لتوجب علينا أن نعطي الكلمة تعريفا مفرطا في التشدد وغير مألوف؛ فجميعنا نستخدم كلمة «جمال»
beauty
أحيانا بمعنى غير إستطيقي، ومعظم الناس اعتادت أن تفعل ذلك؛ فالمعنى الأعم لكلمة «جمال»
beauty
عند الجميع، ربما باستثناء «جمالي متطرف»
aesthete
3
نصادفه عرضا هنا وهناك، هو معنى غير إستطيقي، ولست بحاجة لذكر الاستخدام الأسوأ للكلمة، كما يتجلى في هذرنا عن «صيد جميل» و«ركلة جميلة»، فبوسع السراة من الناس أن يردوا بأنهم لا يبذلونها بهذه الطريقة أبدا، وإذا كنا في هذا المقام بمأمن من الخلط بين الاستخدامين الإستطيقي وغير الإستطيقي لكلمة «جميل»
beautiful ، فإن خطر الخلط قائم عندما يكون حديثنا عن امرأة جميلة، عندما يتحدث الرجل العادي عن امرأة جميلة فمن المؤكد أنه لا يعني بذلك أنها تحرك مشاعره الإستطيقية فحسب، أما عندما يصف فنان امرأة ذاوية شمطاء بالجمال؛ فإنه قد يعني أحيانا الشيء نفسه الذي يعنيه عندما يصف جذع تمثال معطوبا بأنه جميل، وقد يصف الرجل العادي، إذا كان ذا ذوق أيضا، جذع تمثال معطوبا بأنه جميل، ولكنه لن ينعت بالجمال امرأة ذابلة شمطاء؛ ذلك أنه لا يفرد نعت الجمال لتلك الخاصية الإستطيقية التي قد تتحلى بها العجوز الشمطاء وإنما لخاصية معينة أخرى، والحق أن معظمنا لا يرد بخياله على الإطلاق أن يقصد إلى إخوانه من البشر ابتغاء انفعال إستطيقي؛ فالذي نبتغيه من الناس هو شيء مختلف تماما، ونحن عندما نجد هذا «الشيء» في امرأة شابة نميل إلى أن نسميه «جمالا»، إننا نعيش في عصر رقيق وكلمة «جميل» عند رجل الشارع هي في أغلب الأحوال مرادفة لكلمة «مرغوب»
desirable ، وهي في أغلب الأحوال لا تحمل أي دلالة إستطيقية البتة، وإنني أميل إلى الاعتقاد بأن النكهة الجنسية للكلمة أقوى في أذهان الكثيرين من النكهة الإستطيقية. لقد لاحظت اتساقا منطقيا في رأي أولئك الذين يرون أن أجمل الأشياء جميعا في الدنيا هي امرأة جميلة، وأن الشيء الذي يليه في الجمال هو صورة لإحدى النساء؛ فالخلط بين الجمال الإستطيقي والجمال الجنسي في حالة هؤلاء ليس خلطا كبيرا كما قد يبدر إلى الظن، وربما لا يوجد أي خلط؛ ذلك أنهم ربما لم يجربوا في حياتهم انفعالا إستطيقيا واحدا حتى يختلط مع بقية انفعالاتهم. الفن «الجميل» عند هؤلاء هو في عموم الأحوال وثيق الصلة بالمرأة؛ فالصورة الجميلة هي صورة فوتوغرافية لفتاة حسناء، والموسيقى الجميلة هي الموسيقى التي تثير انفعالات شبيهة بتلك التي تثيرها النسوة الشابات في المسرحيات الهزلية الاستعراضية
musical farces ، والشعر الجميل هو ذلك الشعر الذي يستدعي نفس العواطف التي كانوا يحسونها منذ عشرين عاما تجاه ابنة القس. من الواضح أن كلمة «جمال» تستخدم لتدل على الموضوعات الخاصة بانفعالات متميزة تماما، وهو مما يجعلني أحجم عن استخدام مصطلح حري بأن يوقع ضروبا محتومة من الخلط وسوء التفاهم بيني وبين قرائي.
ومن ناحية أخرى، هناك من يرون أن من الأصوب الأدق أن نطلق على هذه الضروب من التضام والترتيب الشكلي التي تثير الانفعالات الإستطيقية اسم «العلاقات الدالة للشكل» بدلا من «الشكل الدال»، وعندئذ يحاولون الإفادة القصوى من عالمين، العالم الإستطيقي والعالم الميتافيزيقي، بتسمية هذه العلاقات «الإيقاع»
rhythm ، ومع هؤلاء لست على أدنى خلاف؛ فأنا على استعداد، بعد أن أوضحت أني أعني بالشكل الدال تلك الترتيبات والتضافرات التي تحرك مشاعرنا بطريقة معينة، أن أمد يدي إلى أولئك الذين يفضلون أن يضعوا اسما مختلفا لنفس الشيء.
تتمتع فرضية «الشكل الدال بوصفه الخاصية الجوهرية للعمل الفني» بمزية يفتقر إليها كثير من الفرضيات الأكثر شهرة وإثارة - وهي أنها تسعفنا بالفعل في تفسير أمور كثيرة؛ كلنا مثلا نألف لوحات تثير اهتمامنا وإعجابنا دون أن تهزنا كأعمال فنية، تحت هذه الفئة من اللوحات يندرج ما أسميه «التصوير الوصفي»
Descriptive Painting ؛ أي ذلك الصنف من التصوير الذي يستخدم فيه الشكل لا كموضوع للانفعال بل كوسيلة لنقل معلومات واقتراح عواطف، في هذا التصنيف تدخل البورتريهات
4
ذات القيمة السيكولوجية والتاريخية، وتدخل الأعمال الطوبوغرافية واللوحات التي تروي حكايات وتوحي بمواقف، وتدخل وسائل الإيضاح بجميع أنواعها، إن الفرق واضح لنا جميعا؛ فمن منا لم يتفق له يوما أن يقول إن هذه أو تلك من اللوحات هي رسم ممتاز كوسيلة إيضاح، ولكنه لا قيمة له كعمل فني ؟ هناك بالطبع كثير من اللوحات الوصفية التي تتحلى، فيما تتحلى به، بالشكل الدال، غير أن هناك عددا أكبر لا يتحلى بذلك، إنها تروقنا وتطرفنا وقد تحركنا بمائة طريقة متنوعة، عدا أن تحركنا إستطيقيا، إنها وفقا لفرضيتي ليست أعمالا فنية، فهي لا تمس انفعالاتنا الإستطيقية؛ ذلك لأن ما ينالنا منها ليس الشكل بل الأفكار التي يقترحها الشكل أو المعلومات التي ينقلها.
قلما حظيت لوحة بالشهرة أو النجاح الذي حظيت به لوحة فريث
Frith «محطة بدنجتون»
،
5
ومن المؤكد أنني آخر من ينفس عليها شهرتها ورواجها، ولكم تريثت إزاءها وأطلت تأملها لأحلل تفصيلاتها الفاتنة وأصوغ لكل منها ماضيا متوهما ومستقبلا مستحيلا، ولكن رغم أنه من المؤكد أن رائعة فريث أو طبعات منها قد غمرت الآلات بآماد من المتعة المدهشة والعجيبة، فليس أقل توكيدا أنها لم تبث في خبرة أي مشاهد آنة واحدة من النشوة الإستطيقية؛ ذلك وإن اللوحة لتتضمن العديد من الانتقالات اللونية البارعة، وإنها أبعد ما تكون عن أخطاء الرسم. إن لوحة «محطة بدنجتون» ليست عملا فنيا بل وثيقة طريفة ومسلية؛ فالخطوط والألوان فيها تستخدم لكي تردد حكايات وتوعز بأفكار وتشير إلى طرائق وعادات عصر من العصور؛ إنها لا تستخدم لتبث انفعالا إستطيقيا؛ فالأشكال وعلاقات الأشكال لم تكن بالنسبة لفريث موضوعات انفعال، بل وسائل لاقتراح انفعالات وتوصيل أفكار.
إنها أفكار ومعلومات طريفة وجيدة العرض تلك التي تنقلها لوحة «محطة بدنجتون»، وهي من الطرافة والجودة بحيث تمنح اللوحة قيمة كبيرة وتجعلها جديرة بالحفظ كل الجدارة. إلا أنه مع تقدم التقنيات الفوتوغرافية والسينمائية نحو مزيد من الدقة والإتقان، فإن هذا الصنف من اللوحات صائر من التبطل والبوار، وهل ثمة من شك في أن بإمكان أحد مصوري ال «ديلي ميرور» بالتعاون مع أحد مراسلي ال «ديلي ميل» أن ينبآنا عن «لندن يوما بيوم» بما لا يحلم به أي عضو من أعضاء «الأكاديمية الملكية»؟ فإذا أردنا في المستقبل أن نتحرى خبرا عن السلوكيات والأنماط السائدة فسوف نلجأ إلى الصور الفوتوغرافية يدعمها قليل من الكتابة الصحفية الذكية، بدلا من أن نلجأ إلى الرسم الوصفي. ولو أن الأكاديميين في إمبراطورية نيرون كانوا قد عمدوا إلى تسجيل عادات عصرهم وأنماطه في لوحات جصية جدارية وفسيفسائية، بدلا مما لفقوه من تقليدات بشعة الغثاثة لفن العصور القديمة، لكانت أعمالهم الآن، على رداءتها الفنية، منجم ذهب تاريخيا، فيا ليتهم كانوا كلهم فريث بدلا من ألماتاديما! غير أن التصوير الفوتوغرافي قد سد الطريق على أي تحويل كهذا بالنسبة للغثاء العصري، فلا مناص إذن من الاعتراف بأن اللوحات على طريقة فريث لم تعد إليها حاجة، إن هي إلا إهدار لساعات رجال ذوي براعة، من الأجدى أن يستخدموا في أعمال أوسع نفعا.
على أن هذه اللوحات، بعد كل شيء، لا بأس بها، وهو نعت لا يرقى إليه ذلك الصنف من التصوير الوصفي الذي تعد لوحة «الطبيب» مثاله الصارخ. بديه أن لوحة «الطبيب» ليست عملا فنيا؛ فالشكل هنا لا يستخدم كموضوع للانفعال، بل كوسيلة لاقتراح انفعالات والإيعاز بعواطف، وهذا يكفي وحده لجعلها تافهة، بل إنها أكثر من تافهة؛ لأن العاطفة التي توعز بها هي عاطفة كاذبة، فما توعز به ليس الشفقة والإعجاب بل إحساس بالرضا الذاتي عن شفقتنا نحن وكرمنا، إنها إسفاف عاطفي. إن الفن فوق الأخلاق، أو بالأحرى كل فن هو أخلاقي؛ ذلك أن الأعمال الفنية، كما أود أن أبين الآن، هي وسائل مباشرة للخير، فما إن نحكم على شيء بأنه عمل فني حتى نكون قد حكمنا بأنه ذو أهمية قصوى أخلاقيا وجعلناه دون منال الداعية الأخلاقي. غير أن اللوحات الوصفية التي ليست أعمالا فنية، وبالتالي ليست بالضرورة سبلا إلى حالات ذهنية خيرة، هي جديرة بأن تقع تحت طائلة الفيلسوف الأخلاقي. وما دامت «الطبيب» ليست عملا فنيا، فهي تفتقر إلى القيمة الأخلاقية الهائلة التي تتحلى بها جميع الموضوعات التي تبعث النشوة الإستطيقية، وإن الحالة الذهنية التي تفضي إليها بوصفها صورة إيضاحية تبدو لي غير مرغوب فيها.
6
وأعمال أولئك الشبان المغامرين - المستقبليين الإيطاليين
Italian Futurists - هي أمثلة لافتة للتصوير الوصفي، وهم، شأنهم شأن الأكاديميين الملكيين ، يستخدمون الشكل لا ليبثوا انفعالات إستطيقية، بل ليوصلوا معلومات وأفكارا. والحق أن النظريات المنشورة للمستقبليين تثبت أن لوحاتهم ينبغي ألا تعد فنا على الإطلاق. إن نظرياتهم الاجتماعية والسياسية جديرة بالاحترام، غير أني أود أن يعلموا أن بوسع المرء أن يصبح مستقبليا في الفكر والفعل ويظل مع ذلك فنانا، ما دام حظه أن ولد فنانا. إن لوحاتهم وصفية أولئك المستقبليين؛ لأنهم يستهدفون أن يعرضوا بالخط واللون فوضى الذهن في لحظة معينة؛ فهم لا يقصدون من الشكل أن يعزز الانفعال الإستطيقي بل أن يوصل معلومات، وعلى ذكر هذه الأشكال فهي في حد ذاتها، وأيا ما كانت طبيعة الأفكار التي توحي بها، قد تكون أي شيء عدا أن تكون ثورية؛ فالرسم في هذه اللوحات المستقبلية كما شهدتها - ربما باستثناء بعض لوحات سفريني
Severini - متى أصبح تمثيليا كما هو الحال في لوحات كثيرة، يتضح أنه يتبع ذلك التقليد الرقيق والشائع الذي استحدثه بسنارد منذ حوالي ثلاثين عاما، والذي تأثر كثيرا بطلاب
Beaux-Arts (الفنون الجميلة) منذ ذلك الحين، إن اللوحات المستقبلية غير ذات قيمة كأعمال فنية، غير أنها يجب ألا تصنف كأعمال فنية؛ فاللوحة المستقبلية الجيدة قد تنجح بنفس الطريقة التي تنجح بها قطعة جيدة من السيكولوجيا؛ فهي تكشف من خلال الخط واللون عن تعقيدات حالة نفسية طريفة، فإذا فشلت لوحات مستقبلية وبدت مخفقة فإن تفسير ذلك يجب أن يلتمس لا في افتقاد الخصائص الفنية التي لم تعمد هذه اللوحات إلى التحلي بها على الإطلاق، بل بالأحرى في العقول التي كانت هذه اللوحات تقصد إلى كشف حالاتها.
يجد أغلب المولعين بالفن أن الشطر الأكبر من الأعمال الأشد إثارة لهم هو ما يطلق عليه الدارسون الفن «البدائي»
primitive ، هناك بالطبع قطع بدائية رديئة، أذكر على سبيل المثال أني ذهبت يوما وأنا ممتلئ حماسا لكي أشاهد واحدة من أقدم الكنائس الرومانسكية في بواتيا (نوتردام لاجراند)، فوجدتها غير متناسقة ومفرطة الزينة وفظة غليظة ثقيلة، مثلها مثل أي مبنى من مباني الطبقة الموسرة، صممه واحد من أولئك المهندسين الفائقي التحضر الذين ازدهروا قبل ذلك بألف عام أو بعد ذلك بثمانمائة عام، على أن مثل هذه الاستثناءات نادرة؛ فالفن البدائي، كقاعدة عامة، هو فن جيد - وفرضيتي هنا مسعفة مرة أخرى - ذلك أن الفن البدائي، كقاعدة، هو أيضا مبرأ من الخصال الوصفية، ولن تجد فيه غير الشكل الدال، ومع ذلك فهو بين الفنون أعماقها تأثيرا فينا، فسواء تأملنا النحت السومري، أو فن ما قبل الأسر في مصر القديمة، أو الفن الإغريقي القديم، أو روائع عصر أسر واي
Wei
7
وأسرة تانج
Tang
8
بالصين،
9
أو تلك الأعمال اليابانية المبكرة التي أسعدني الحظ بمشاهدة بضعة نماذج رائعة منها (ولا سيما قطعتا بوديساتفا خشبيتان) في معرض شبردز بوش عام 1910م، وسواء دنونا من الوطن وتأملنا الفن البيزنطي البدائي للقرن السادس وتطوراته البدائية بين البرابرة الغربيين، أو التفتنا إلى أصقاع أبعد وتأملنا ذلك الفن الغامض والمهيب الذي ازدهر في أمريكا الوسطى والجنوبية قبل مجيء الرجل الأبيض؛ ففي كل حالة من هذه الحالات سوف نلاحظ ثلاث خصائص عامة: غياب التمثيل، وغياب الاختيال التكنيكي، وحضور الشكل الجليل التأثير. وليس من العسير أن نكتشف الارتباط الوثيق بين هذه الخصائص الثلاث؛ فالدلالة الشكلية تخسر نفسها إذا هي انشغلت بالتمثيل الدقيق والبراعة المتباهية.
من الطبيعي أن يقال إنه إذا كان التمثيل في الفن البدائي قليلا والدجل أقل، فمرد ذلك إلى أن البدائيين لا يمتلكون القدرة على اقتناص الشبه والقيام بوثبات فكرية، إلا أن هذا المراء في غير محله. لا شك أن هناك وجها من الصواب في هذا القول، غير أنني لو كنت ذلك الناقد الذي تتكئ مكانته إلى قدرته على اختلاب العامة بظاهر المعرفة لتوخيت الحذر في الإلحاح على هذا الرأي أكثر مما يفعل أمثال هؤلاء النقاد في عموم الأحوال، فافتراض أن الأساتذة البيزنطيين كانوا يفتقرون إلى المهارة أو كان متعذرا عليهم خلق إيهام لو أنهم أرادوا ذلك. يبدو أنه افتراض ينطوي على جهل بالواقعية المدهشة الحذق التي تسم الأعمال الرديئة لذلك العصر والمتفق على رداءتها، بل أخشى أنه في الأغلب الأعم ينبغي أن تعزى إساءة التمثيل لدى البدائيين إلى ما يطلق عليه النقاد «التحريف المقصود»
willful distortion ، ومهما يكن من أمر فالوجه أن البدائيين، سواء لغياب المهارة أو غياب القصد، لم يخلقوا إيهاما
illusion
ولم يتباهوا بالإتمام المحكم للعمل، بل كانوا يركزون طاقاتهم على المطلب الوحيد المنشود؛ خلق الشكل، هكذا أبدعوا لنا أرفع الأعمال الفنية التي بين أيدينا.
أود ألا يتصور أحد أن التمثيل شيء سيئ في ذاته؛ فليس هناك ما يحول دون أن يكون شكل واقعي ما، وهو منتظم في مكانه كجزء من التصميم، مضاهيا في الدلالة لآخر تجريدي، ولكن إذا كان لشكل تمثيلي قيمة فبوصفه شكلا لا بوصفه تمثيلا؛ فالعنصر التمثيلي في العمل الفني قد يضر وقد لا يضر، ولكنه دائما خارج عن الموضوع؛ ذلك أننا لكي ندرك عملا من أعمال الفن لا نحتاج إلى أن نأتي معنا بشيء من الحياة، أو بمعرفة بأفكارها وشئونها أو بإلف بانفعالاتها؛ فالفن ينتشلنا من عالم الدأب البشري إلى عالم الوجد الإستطيقي، ونحن في اللحظة الإستطيقية تنقطع أسبابنا بالاهتمامات البشرية، وتتوقف تطلعاتنا وذكرياتنا؛ إذ يشيل بنا الفن فوق تيار الحياة.
إن عالم الرياضيات البحتة المستغرق في دراساته يعرف حالة ذهنية اعتبرها شبيهة بذلك إن لم تكن مطابقة؛ فهو يشعر إزاء تأملاته بانفعال لا ينجم عن أي علاقة مدركة بينها وبين حياة البشر، بل ينبع - غير بشري أو فوق بشري - من قلب علم مجرد، وربما يذهب بي الظن أحيانا إلى أن مدركي الفن ومدركي الحلول الرياضية قد يكونون أكثر قربا وأوثق صلة حتى من ذلك، فأتساءل: قبل أن يأخذنا انفعال إستطيقي تجاه تجمع من الأشكال، ترانا ندرك بالفكر صواب هذا التجمع وضرورته؟ فإن صح ذلك فهو حري أن يفسر واقعة أننا إذ نمر سراعا خلال غرفة فنحن نميز جودة إحدى اللوحات رغم أننا لا نستطيع أن نقول إنها أثارت فينا انفعالا كبيرا، فيبدو أننا نكون قد تبينا بالفكر صواب الأشكال باللوحة دون أن نتريث لنركز انتباهنا ونقبض على دلالتها الانفعالية كيفما كانت، فإذا كان الأمر كذلك فإن لنا أن نتساءل ما إذا كانت الأشكال ذاتها هي ما أدى إلى الانفعال الإستطيقي أم إدراكنا لصواب الأشكال وضرورتها. ولكني لا أظن أني بحاجة إلى أن أطيل الوقوف هنا لاستقصاء هذه المسألة، لقد كنت بصدد البحث عن سبب انفعالنا بتجمعات معينة من الأشكال، وما كنت لأستدرج إلى مسالك أخرى لو أنني تساءلت بدلا من ذلك: لماذا تدرك تجمعات معينة كصواب وضرورة، ولماذا يطربنا إدراكنا لصوابها وضرورتها؟ والجواب عندي هو هذا: إن الفيلسوف المستغرق؛ وذلك الذي يتأمل عملا من أعمال الفن، كلاهما يستوطن عالما ذا دلالة كثيفة وخاصة، دلالة لا شأن لها بدلالة الحياة، في هذا العالم لا محل لانفعالات الحياة، إنه عالم له انفعالاته الخاصة به وحده.
لكي ندرك عملا من أعمال الفن لا نحتاج إلى أن نأتي معنا بشيء عدا إحساس بالشكل واللون ومعرفة بالمكان ذي الأبعاد الثلاثة. إنني أسلم بأن ذلك الجانب الأخير من المعرفة ضروري لإدراك كثير من الأعمال العظيمة؛ ذلك أن الكثير من الأشكال الأكثر تأثيرا بين كل ما أبدع من فن على الإطلاق إنما يتمثل في ثلاثة أبعاد. إن رؤية مكعب أو شبه معين كشكل مسطح من شأنها أن تخفض من دلالته، كما أن الإحساس بالمكان ذي الأبعاد الثلاثة هو أمر ضروري للإدراك الكامل لمعظم الأشكال المعمارية. إن الصور التي تفقد دلالتها إذا شهدناها كنماذج مسطحة هي صور بالغة التأثير فينا؛ لأننا نراها في الحقيقة على هيئة مستويات (مسطحات) مرتبطة فيما بينها، فإذا كان لتمثيل المكان الثلاثي الأبعاد أن يسمى تمثيلا
representation
فإنني أوافق عندئذ على أن هناك صنفا واحدا من التمثيل غير خارج عن الموضوع. إنني أوافق أيضا على أننا يجب أن نأتي معنا، إلى جانب شعورنا بالخط واللون، بمعرفتنا بالمكان إذا شئنا أن نظفر من كل صنف من الشكل بأوفى نصيب، ورغم ذلك فإن هناك تصميمات رفيعة لا يحتاج إدراكها بالضرورة إلى هذا الصنف من المعرفة. إذن رغم أن المعرفة بالمكان غير خارجة عن الموضوع في بعض الأعمال الفنية، فإنها غير ضرورية لإدراك جميع الأعمال، وما يتعين أن نقوله هو أن تمثيل المكان ذي الأبعاد الثلاثة لا هو خارج عن الموضوع ولا هو ضروري بالنسبة لكل فن، وأن كل صنف عداه من التمثيل هو خارج عن الموضوع.
ليس من المستغرب على الإطلاق أن هناك عنصرا تمثيليا أو وصفيا خارجا عن الموضوع في الكثير من الأعمال الفنية العظيمة، وسوف أحاول في موضع آخر أن أبين لماذا هو غير مستغرب. إن التمثيل ليس موبقا بالضرورة، وليس هناك ما يمنع أن تكون بعض الأشكال البالغة الواقعية هي أشكال بالغة الدلالة، إلا أنه في أغلب الأحوال يكون التمثيل علامة ضعف في الفنان؛ فمن دأب الفنان الذي لا يقوى على خلق أشكال قادرة على إثارة انفعال إستطيقي كبير أن يتحايل على ضآلة ما يثيره باللجوء إلى انفعالات الحياة، وهو لكي يثير انفعالات الحياة فلا بد له أن يستخدم التمثيل؛ مثال ذلك أن يشرع رسام في تنفيذ مخططه، ولأنه يخشى أن تحيد رميته الأولى عن إصابة شكل جمالي فسوف يحاول الإصابة بالثانية بأن يوقظ انفعالا بالخوف أو الشفقة، ولكن إذا كان الميل إلى العزف على عواطف الحياة لدى الفنان هو علامة على خبو الإلهام في كثير من الأحوال، فإن ميل المشاهد إلى التماس عواطف الحياة وراء الشكل هو علامة على قصور الحساسية في جميع الأحوال؛ فهو يعني أن انفعالاته الإستطيقية ضعيفة أو غير تامة على كل حال؛ فإزاء العمل الفني يشعر الأشخاص الذين لا ينفعلون بالشكل الخالص إلا قليلا، أو لا ينفعلون على الإطلاق، بالحيرة الشديدة؛ فهم أشبه بالصم في حفل موسيقي، إنهم يعرفون أنهم ينبغي أن يشعروا إزاء هذا الشيء بانفعال هائل، غير أن الصنف الخاص من الانفعال الذي يمكن أن يثيره فيهم هو شيء يحسونه بالكاد أو لا يحسونه على الإطلاق، وهكذا يقرءون في أشكال العمل تلك الوقائع والأفكار التي يملكون القدرة على أن يشعروا بها، وهي الانفعالات المألوفة في الحياة، وعندما يواجهون بإحدى اللوحات فهم يردون أشكالها تلقائيا إلى العالم الذي أتوا منه، فهم يعاملون بالشكل المبتكر كما لو كان شكلا مقلدا، ويعاملون اللوحة كما لو كانت صورة فوتوغرافية، وبدلا من أن يترحلوا على تيار الفن إلى عالم جديد من الخبرة الإستطيقية، فهم يولونه أظهرهم ويعودون أدراجهم إلى عالم الاهتمامات البشرية. إن دلالة العمل الفني بالنسبة لهم تتوقف على ما يجلبونه له؛ ولذلك لا يضيف الفن شيئا جديدا إلى حياتهم، إن هي إلا المادة القديمة قد أثيرت، إن العمل الفني الجيد ليحمل الشخص القادر على تذوقه ويخرج به من الحياة إلى الوجد، واستخدام الفن كوسيلة إلى انفعالات الحياة هو مثل استخدام تلسكوب لقراءة جريدة، وسوف تلاحظون أن الأشخاص الذين لا يقدرون على الشعور بانفعالات إستطيقية خالصة يتذكرون اللوحات بموضوعاتها، أما القادرون فكثيرا ما لا تكون لهم أي فكرة عما يكونه موضوع لوحة ما؛ ذلك أنهم لم يعيروا العنصر التمثيلي انتباها قط؛ ومن ثم فحين يناقشون اللوحات الفنية فهم يتحدثون عن الهيئة التي تتخذها الأشكال، وعن علاقات الألوان وكمياتها، وكثيرا ما يكون بإمكانهم أن يحكموا من خلال خط واحد ما إذا كان الفنان قديرا أو غير قدير. إن اهتمامهم بكامله منصب على الخطوط والألوان وعلاقاتها وكمياتها وكيفياتها، غير أنهم من خلال هذه الأشياء يظفرون بانفعال أكثر عمقا وأكثر جلالا بكثير من أي شيء يمكن أن يمنحه وصف الوقائع والأفكار.
قد يلمس البعض في هذه العبارة الأخيرة نبرة شديدة الثقة ... زائدة الثقة، وربما أمكنني أن أبررها وأن أجعل مقصدي أكثر وضوحا أيضا إذا ما تناولت بالوصف مشاعري الشخصية تجاه الموسيقى. إنني في الحقيقة لست مولعا بالموسيقى، ولست أجيد فهم الموسيقى، وأجد صعوبة بالغة في إدراك الشكل الموسيقي، ومن المؤكد أن غوامض الهارموني والإيقاع ودقائقهما تفوتني في معظم الأحوال، والحق أن شكل أي مؤلف موسيقي لا بد أن يكون بسيطا كيما يتسنى لي أن أفهمه فهما صحيحا. إن رأيي في الموسيقى لا يعتد به، غير أني في بعض الأحيان، إذ أجلس في حفل موسيقي، يكون إدراكي للموسيقى على قلته وتواضعه إدراكا خالصا؛ أي أنني في بعض الأحيان تكون لي رغم ضعف الفهم ذائقة نقية ؛ ومن ثم فعندما أشعر أني متيقظ وصاف ومنتبه، في بداية الحفل على سبيل المثال؛ إذ يكون ما يجري عزفه بمنال فهمي، فإنني أستمد من الموسيقى ذلك الانفعال الإستطيقي الخالص الذي أستمده من الفن البصري. إن الانفعال أقل شدة والنشوة أسرع زوالا؛ لأن فهمي للموسيقى أضعف من أن تحملني بعيدا في عالم النشوة الإستطيقية المحضة، إلا أنني لا أعدم لحظات أدرك فيها الموسيقى كشكل خالص؛ كأصوات متضامة وفقا لقوانين ضرورية خفية؛ كفن بحت له دلالته الهائلة الخاصة به ولا علاقة له من قريب أو بعيد بدلالة الحياة، وإنني في تلك اللحظات لأتبدد في نفس الحالة النفسية اللامتناهية الجلال التي ينقلني إليها الشكل البصري الخالص.
يا لرداءة حالتي الذهنية المعتادة حين أكون في حفل موسيقي، ضجرا كنت أو محيرا فإنني أدع إحساسي بالشكل يفلت مني، وأفشل في فهم التآلفات الهارمونية فأظل أنسج بها أفكار الحياة، وأعجز عن الشعور بالانفعالات الصارمة للفن فأظل أقرأ في الأشكال الموسيقية عواطف بشرية من رعب وغموض وحب وكراهية، وأنفق اللحظات - مستمتعا إلى حد مرض - في عالم من المشاعر الآسنة المتدنية، فلو أن نتفا من أبشع ضروب التمثيل الأونوماتوبي
10
قد أقحمت داخل السيمفونية في هذه اللحظات، لما تأذيت، بل الأرجح جدا أنني سأبتهج لها وأسر؛ فهي حرية أن تقدم لي منطلقات جديدة لتيارات المشاعر الرومانسية والتفكير البطولي. إنني أدري تماما ما الذي حدث، لقد كنت أتخذ الفن سبيلا إلى انفعالات الحياة وأقرأ فيه أفكار الحياة، لقد كنت أقطع جلاميد صخر بموسى حلاقة، لقد ترديت من الذرى العالية للنشوة الإستطيقية إلى السفوح الحميمة للحياة البشرية الدافئة، إنها وطن بهيج، ولا يخلجن أحد من إمتاع نفسه هناك، كل ما في الأمر أن من عرف يوما عز الأعالي فعسير عليه ألا يستشعر في الأودية الدافئة شيئا من الهوان، ولا يتصورن أحد، لمجرد أنه قد جعل يمرح حينا في أرض الرومانسية الذلول الدافئة وأركانها الطريفة، أن بإمكانه حتى أن يحرز بما تكونه المواجيد الصارمة والمثيرة لأولئك الذين ارتقوا القمم البيضاء الباردة للفن .
ومثلي يؤثر معظم الناس التواضع في تقدير ذائقتهم الموسيقية، فإذا ما عجزوا عن أن يفهموا الشكل الموسيقي ويستمدوا منه انفعالا إستطيقيا محضا، اعترفوا بأنهم لا يفهمون الموسيقى فهما كاملا أو لا يفهمونها على الإطلاق، وهم يتبينون بوضوح تام أن هناك فرقا بين شعور الموسيقي تجاه الموسيقى البحتة وشعور المستمع الممراح الذي يرتاد الحفلات الموسيقية تجاه ما توحي به الموسيقى. إن هذا الأخير ليستمتع بانفعالاته الخاصة، كما يحق له تماما، وهو على بينة من قصورها ودونيتها، ومن المؤسف أن الناس تميل إلى أن تكون أقل تواضعا حين يتعلق الأمر بقدراتهم على تذوق الفن البصري؛ فالكل يميل إلى الاعتقاد بأن بإمكانه أن يستخلص من اللوحات على أية حال كل ما يمكن استخلاصه، والكل على استعداد لأن يصيح «دجال» أو «أفاك» في وجه من يقول بأن اللوحة يمكن أن يكون لديها أكثر من ذلك. إن نوايا أصحاب الانفعالات الإستطيقية الخالصة ليظن بها الظنون من جانب الذين لم يعرفوا في حياتهم أي شيء من ذلك، ولعل تفشي عنصر التمثيل هو ما يجعل رجل الشارع على كل هذه الثقة بأنه يعرف اللوحة الجيدة عندما يشاهدها، فلقد لاحظت أن الناس في مجال العمارة والخزف والنسيج ... إلخ تؤثر الاعتراف في نفسها بالجهل والخرق وتذعن لآراء أولئك الذين أنعم الله عليهم برهافة حسية خاصة. إنه لأمر مؤسف أن يتعذر إقناع المثقفين والأذكياء من الرجال والنساء بأن توافر ملكة كبيرة للإدراك الإستطيقي في مجال الفن البصري هو أمر مماثل في ندرته على أقل تقدير لنظيرتها في مجال الفن الموسيقي، ولقد أمكنني إذ قارنت بين خبرتي الخاصة في كلا المجالين أن أميز بوضوح شديد بين الإدراك النقي والإدراك المشوب، فهل كثير أن أناشد الآخرين أن يكونوا صادقين تجاه إحساسهم باللوحات قدر صدقي تجاه إحساسي بالموسيقى؟ فأنا على يقين من أن معظم الذين يرتادون معارض الصور يجدون شعورا جد قريب مما أجده في حفلات الموسيقى. إنهم ليظفرون بلحظات من النشوة الخالصة، غير أنها لحظات قصيرة وغير مضمونة، سرعان ما يرتدون بعدها إلى عالم الاهتمامات البشرية ويحسون بانفعالات طيبة ولا شك، ولكنها دون المستوى. وما عنيت قط أن ما يحظون به من الفن هو شيء رديء أو تافه، وإنما أعني أنهم لا يأخذون من الفن أطيب ما يمكن أن يعطيه، ولا قلت إنهم لا يمكنهم أن يفهموا الفن، وإنما أقول إنهم لا يمكنهم أن يفهموا الحالة الذهنية التي يجدها من يفهمون الفن على أفضل وجه، ولا أقول إن الفن لا يعني شيئا بالنسبة لهم أو يعني أقل القليل، بل أقول إن هؤلاء تفوتهم الدلالة الكاملة للفن، ولا يخطر لي لحظة أن أعرض بذائقتهم الفنية. إن غالبية الشخصيات الجذابة والذكية التي أعرفها يدركون الفن البصري إدراكا غير نقي، وعلى ذكر ذلك أقول إن إدراك جميع كبار الكتاب تقريبا كان إدراكا غير نقي، غير أنه لو تحقق وجود نسبة ضئيلة من الانفعال الإستطيقي الخالص؛ فإنني على ثقة من أنه حتى الإدراك الفني المشوب والضئيل هو واحد من أعلى الأشياء قيمة في الدنيا، إنه شيء ثمين حقا بحيث أجد نفسي في لحظات الوجد البالغ منجرفا إلى الاعتقاد بأن الفن قد يثبت يوما أن فيه خلاص العالم.
ولكن رغم أن أصداء الفن وظلاله تثري حياة السهول فإن روحه تسكن أعالي الجبال. إن من يتودد إلى الفن ودا مشوبا فحسب، فإن الفن يرد له صنيعه مضاعفا؛ فالفن كالشمس تدفئ البذرة الصالحة في تربة صالحة وتتيح لها أن تؤتي ثمارا صالحة، ولكن وحده العاشق الكامل من يذخر له الفن هدية عجيبة جديدة، هدية فوق كل ثمن. إن أصحاب الود الممذوق يجلبون إلى الفن ويغنمون منه أفكار عصرهم الخاص وعواطف حضارتهم، فلعل امرءا في أوروبا القرن الثاني عشر قد تأثر غاية التأثر بكنيسة رومانسكية بينا لم يجد شيئا في إحدى لوحات أسرة تانج. ولعل النحت الإغريقي كان يعني الكثير لامرئ من عصر لاحق في حين لا يحرك النحت المكسيكي فيه ساكنا؛ إذ كان بمقدوره أن يجلب للأول حشدا من الأفكار المتداعية لتكون موضوعات لانفعالات مألوفة، أما العاشق الكامل، ذلك الذي يملك الشعور بالدلالة العميقة للشكل، فإنه يبرأ فوق عوارض الزمان والمكان. إن مشكلات الأركيولوجيا والتاريخ وسير القديسين هي بالنسبة إليه أمر خارج عن الموضوع، فمتى كان شكل العمل دالا أصبح مصدره غير ذي صلة، إنه محمول أمام جلال تلك الصور السومرية في اللوفر على نفس التيار الانفعالي وإلى نفس النشوة الإستطيقية التي كانت تمل العاشق الكلداني منذ أربعة آلاف عام خلت، إن آية الفن العظيم أن جاذبيته عالمية خالدة؛
11
فالشكل الدال يبقى مشحونا بالقدرة على إثارة انفعال إستطيقي في أيما شخص قادر على الشعور به. إن أفكار البشر لتموت عاجلا كالجراجس
12
وتذهب أدراج الرياح، وإن البشر ليبدلون مؤسساتهم ويغيرون عاداتهم مثلما يغيرون ستراتهم، فما كان يعد نصرا فكريا في عصر يعد حماقة في عصر آخر، وحده الفن العظيم يبقى ثابتا لا يذهب بهاؤه؛ لأن المشاعر التي يوقظها مستقلة عن الزمان والمكان؛ ذلك أن مملكة الفن ليست من هذا العالم، فماذا يهم بالنسبة لأولئك الذين يملكون حسا بدلالة الشكل إن كانت الأشكال التي تحركهم قد أبدعت في باريس أمس الأول أم في بابل منذ خمسين قرنا؟ إن أشكال الفن لا تنضب ولا تستنفد، بل تؤدي جميعا عن الطريق نفسه - طريق الانفعال الإستطيقي، إلى العالم نفسه - عالم الوجد الإستطيقي. (2) الإستطيقا وما بعد الانطباعية
Aesthetic and Post-Impressionism
أستطيع الآن، في ضوء نظريتي الإستطيقية، أن أقرأ تاريخ الفن قراءة أكثر وضوحا من ذي قبل، وأستطيع أيضا أن أتبين مكان الحركة المعاصرة في هذا التاريخ؛ وحيث إني سوف أسهب فيما بعد في الحديث عن الحركة المعاصرة فربما يكون من الحكمة أن أغتنم هذه اللحظة، والفرضية الإستطيقية حاضرة بعد في ذهني، وفي أذهان قرائي كما آمل، لدراسة الحركة في علاقتها بالفرضية، إنه لا يسع أي واحد من جيلي أن يضع كتابا عن الفن لا يعرض فيه لتلك الحركة التي يطلق عليها في هذا البلد «ما بعد الانطباعية»
، وإلا كان فعله محض تصنع، وحيث إني سوف أتناولها بإفاضة كبيرة، فأود ألا أفوت هذه الفرصة السانحة لكي أنظر في مدى انسجام هذه الحركة مع نظريتي في الإستطيقا، وستكون هذه النظرة مناسبة للإدلاء ببعض الأشياء عما تتسم به «ما بعد الانطباعية» وعما لا تتسم به، ومناسبة لطرح بعض النقاط التي سآخذها في موضع آخر بتفصيل أكبر، وسأجتزئ الآن بطرح هذه النقاط، وباقتراح حل على أقل تقدير.
ينتج البدائيون الفن لأنهم لا بد أن ينتجوه؛ فالبدائيون ليس لديهم دافع آخر غير رغبتهم المشبوبة في التعبير عن إحساسهم بالشكل، إنهم، عن زهد في خلق الإيهام أو عن عجز، يكرسون أنفسهم كليا لخلق الشكل، إلا أن الأمور قد تغيرت في الوقت الحاضر، وغدا الفنان مرتبطا براع ومرتبطا بجمهور، الأمر الذي عجل بنشوء حاجة إلى «المشابهة الأمينة الناطقة»، وفيما لا تزال الجماهير الغفيرة تصخب في طلب المشابهة، فقد بدأت أواق الصفوة تتكلف الإعجاب بالبراعة والصناعة، وها هو المآل أمام أعيننا، إننا لنشاهد الفن في أوروبا يسوخ رويدا رويدا من تصميم رافينا
Ravenna
13
المثير إلى فن البورتريه المضجر في هولندا، بينما الشطر الأكبر من النحت الرومانسكي والنورماندي يتحول إلى تلاعب قوطي بالحجر والزجاج، وقبل أن تنقضي ظهيرة النهضة كان الفن قد انطفأ تقريبا، ولم تعد الساحة تزخر إلا بكل متكلف من صانعي الإيهام وأساتذة الحرفة، كانت تلك هي اللحظة المواتية لانبعاث «ما بعد الانطباعية».
ولأسباب عديدة لم تكن ثمة ثورة؛ فقد بقي التقليد الفني في غيبوبة، فكان يظهر عبقري هنا وهناك ويصطرع من سلاسل التقليد ويخلق شكلا دالا؛ من ذلك أن فن نيقولاس بوسان
Nicolas Poussin
وكلود
Claude
وإلجريكو
El Greco
وشاردان
Chardin
وأنجر
Ingres
ورينوار
Renoir (وهي بضعة أسماء نذكرها على سبيل المثال) يحرك مشاعرنا كما يحركها فن جوتو
Giotto
وسيزان
Cézanne ، غير أن غالبية الذين نبهوا فيما بين ذروة النهضة والحركة المعاصرة يمكن تقسيمهم إلى فصيلين؛ أهل الصنعة، وأهل الغفلة، أما أهل الصنعة، فأولئك الأساتذة الصغار الذين كان بوسعهم أن يكونوا فنانين لو لم يستغرق التصوير
painting
كل طاقاتهم، فكانوا طيلة هذه الفترة لا يفتئون ينسجون أحاجي تكنيكية ويجدون في حلها، وأما أهل الغفلة فقد ظلوا يطورون الصور الفوتوغرافية الملونة ولا يزالون.
إن حقيقة أن الشكل الدال هو الخاصية المشتركة الوحيدة في الأعمال التي تطربني، وأن هذه الخاصية في الأعمال أكثر إطرابا لي؛ أي في الفن البدائي،
14
هي الصفة الوحيدة الكائنة تقريبا - هذه الحقيقة قد هدتني إلى فرضيتي قبل أن تكون لي أي معرفة بأعمال سيزان وتابعيه؛ لقد فتنني سيزان وخلب لبي قبل أن يتكشف لي أن أقوى خصائصه هي إلحاحه على إعلاء منزلة الشكل الدال فوق كل منزلة، وعندما تفطنت لذلك صار إعجابي بسيزان وبعض أتباعه مدعما لي في نظرياتي الإستطيقية، ولم أجد بطبيعة الحال ما يعوق إعجابي بهم؛ فقد وجدت فيهم الشيء الذي شغفت به في أيما عمل فني أطربني وحرك مشاعري.
ليس ثمة من أسرار حول «ما بعد الانطباعية»؛ فاللوحة «بعد الانطباعية» الجيدة هي لوحة جيدة لنفس الأسباب بالضبط التي تجعل أي لوحة أخرى جيدة؛ فالخاصية الجوهرية في الفن هي خاصية دائمة؛ لذا لا تنطوي حركة «ما بعد الانطباعية» على قطيعة عنيفة مع الماضي؛ فهي لا تعدو أن تكون رفضا متعمدا لتقاليد معينة تعيق نمو الفن الحديث، صحيح أنها تنكر أن على الفن أن يتلقى أوامر من الماضي، غير أن هذا ليس شعارا لما بعد الانطباعية. إنه السمة الأعم للحيوية. إن مجرد الحديث عن «ما بعد الانطباعية» بوصفها حركة من شأنه أن يؤدي إلى ضروب من سوء الفهم. بل إن عادة الحديث عن «حركات» على الإطلاق هي عادة مضللة نوعا ما. إن تيار الفن لم يجف تماما في يوم من الأيام؛ فهو ما برح يتدفق خلال العصور، عريضا تارة ضيقا طورا، عميقا مرة ضحلا مرة أخرى، سريعا آنا متثاقلا آنا آخر. إن لونه في تغير دائم، ولكن من ذا الذي يستطيع أن يضع علامة تحدد نقطة التغير بدقة وحسم؟ ففي بدايات القرن التاسع عشر كان تيار الفن يجري منخفضا جدا، وفي أيام الانطباعيين، الذين تعد الحركة الجديدة بمعنى ما هي رد فعل ضدهم، كان التيار قد أصبح غزيرا لتوه. إن أية محاولة لسد هذا النهر وحبسه، وتخير مدرسة أو حركة معينة والقول «هنا يبدأ الفن وهناك ينتهي»، هي عبث ضار، وهكذا دأب التقنين الأكاديمي؛ ففي هذه اللحظة ليس هناك بين الرسامين المجيدين الأحياء، باستثناء حفنة لا تتجاوز نصف دستة، من لا يستمد شيئا من سيزان وينتمي بمعنى ما لحركة «ما بعد الانطباعية»، ولكن قد يظهر غدا رسام عظيم يخلق الشكل الدال بطرائق معارضة ظاهريا لطرائق سيزان، وأقول «ظاهريا» لأن كل الفن الجيد ينتمي «جوهريا» إلى نفس الحركة، فليس هناك غير نوعين من الفن: جيد ورديء، ومهما يكن من أمر فإن تقسيم المجرى إلى مراحل تتمايز بفروق في الطريقة هو شيء واضح القصد، وهو بالنسبة للمؤرخين على أية حال، شيء مفيد، وتتفاوت المراحل أيضا في الحجم، فتتميز حقبة فنية عن حقبة أخرى بخصوبتها؛ حيث النتاج الفني الجدير بالاعتبار في بضعة أعوام أو عقود سعيدة نتاج عظيم، ثم إذا به يتوقف فجأة أو يتضاءل رويدا رويدا مؤذنا بأن حركة ما قد استنفدت ذاتها، هل تصادف وجود عدد من الفنانين العظام في عصر واحد هو الذي يصنع حركة فنية، أو أن تفشي روح باطنة معينة للعصر هو الذي يساعد الفنانين على خلق الشكل الدال؟ وإلى أي حد؟ ذاك سؤال لا يمكن البت فيه دون أدنى اعتراض، ولكن الفضل يمكن أن يقسم رغم كل شيء، وإنني لأظن أنه يجب أن يقسم بالتساوي، إن لنا ما يبرر، إذ ننظر إلى تاريخ الفن ككل، أن نعتبر فترات الخصوبة الفنية كأجزاء محددة من ذلك الكل، إنني إن أكن معجبا بحركة «ما بعد الانطباعية» فبوصفها فترة خصب في الفن الجيد والفنانين العظام بالدرجة الأساس، كما أنني أعتقد أيضا أن المبادئ التي تتبطن تلك الحركة وتلهمها أجدر بحفز الفنانين على تقديم خير ما عندهم وإنشاء تقليد جديد من أي مبادئ يحملها لنا سجل التاريخ الحديث. غير أن شغفي بهذه الحركة وإعجابي بكثير من الفن الذي أنتجته ما كان ليغشيني عن عظمة الثمار التي أنتجتها الحركات الأخرى، وإنني لآمل ألا تغشيني عن عظمة أي خلق جديد للشكل مهما بدت جدته مشتملة على رد فعل ضد طريقة سيزان.
إن «ما بعد الانطباعية»، شأنها شأن جميع الثورات الصحيحة، ليست أكثر من عودة وإنابة إلى المبادئ الأولى؛ ففي عالم يتوسم في الرسام أن يكون إما مصورا فوتوغرافيا وإما بهلوانا، ينبري الفنان «بعد الانطباعي» قائلا بأنه فوق كل شيء يجب أن يكون فنانا، «لا يكن همك التمثيل أو التتميم، النقل أو الصقل، فكر في خلق الشكل الدال، فكر في الفن.» هكذا يقول، إن خلق عمل فني هو مهمة جسيمة بحيث لا تترك منصرفا لتصدي شبه أو عرض براعة، وكل تقدمة على مذبح التمثيل هي شيء مسلوب من الفن. إن «ما بعد الانطباعية» ليست بحال ذلك الصنف المتعجرف من الثورة كما يفترض السوقة، بل هي في حقيقة الأمر عودة ومتاب؛ عودة لا إلى أي تقليد معين في الرسم بل إلى التقليد العظيم للفن البصري. إنها تضع نصب عين كل فنان ذلك المثل الأعلى الذي كان يضعه البدائيون نصب أعينهم؛ وهو مثل لم يعد يتعلق به منذ القرن الثاني عشر سوى عدد استثنائي من أهل العبقرية> ليست «ما بعد الانطباعية» سوى إعادة توكيد للوصية الأولى من وصايا الفن: «اخلق الشكل»
Thou shalt create form ، وهي بهذا التوكيد إنما تصافح - عبر العصور - البدائيين البيزنطيين وكل حركة حية جاهدت للبقاء منذ بداية الفن.
ليست «ما بعد الانطباعية» مسألة تكنيك، صحيح أن سيزان قد ابتكر تقنية، مناسبة لغرضه بشكل باهر، وقد تبناها وطورها بشكل أو بآخر معظم أتباعه، إلا أنه ليس ما يهم في لوحة من اللوحات هو كيف رسمت وإنما المهم هو ما إذا كانت تثير الانفعال الإستطيقي. وكما قلت آنفا، إن اللوحة «بعد الانطباعية» الجيدة تماثل في جوهرها أي عمل فني آخر من أعمال الفن، ولا تختلف عن بعضها، ظاهريا، إلا بالرفض الواعي والمقصود لتلك الطفيليات التقنية والعاطفية المبتذلة التي فرضها على فن التصوير تقليد سيئ، إن هذا يصبح واضحا للمرء عندما يزور معرضا من قبيل
Salon d’Automne
أو
Les Indépendants
حيث مئات اللوحات المرسومة على طريقة «ما بعد الانطباعية» كثير منها غاية في التفاهة، ويدرك المرء أن هذه اللوحات هي رديئة بنفس الطريقة التي تكون بها أي لوحة أخرى رديئة؛ أي أن أشكالها غير دالة ولا تثير أي استجابة إستطيقية. وفي الحق إنها ضرورة تعسة تلك التي ألجأتنا إلى الحديث عن «لوحات بعد انطباعية»، وأرى أن الوقت قد آذن لكي نعود إلى المصطلح الأقدم والأوفى بالقصد، ونتحدث عن لوحات جيدة ولوحات رديئة، كل ما يجب ألا ننساه هو أن الحركة التي يعد سيزان مظهرها المبكر والتي خلفت لنا محصولا مدهشا من الفن الجيد، تدين بشيء ما، ولكن ليس بكل شيء، للمذاهب المحررة والثورية لما بعد الانطباعية.
ولعل أسخف ما يقال عن لوحات «ما بعد الانطباعية» هو ما يقوله أولئك الذين يعتبرون «ما بعد الانطباعية» حركة منفصلة، بينما الحقيقة أنها تحتل مكانها كجزء من منحدر من تلك المنحدرات الهائلة التي يمكن أن نقسم إليها تاريخ الفن والتاريخ الروحي للجنس البشري، إنني في لحظات حماستي يغريني الأمل بأن تكون «ما بعد الانطباعية» هي المرحلة الأولى في منحدر جديد تقف فيه هذه الحركة بالنسبة إليه نفس الموقف الذي يقفه الفن البيزنطي في القرن السادس بالنسبة إلى المنحدر القديم. إن لنا في تلك الحالة أن نضاهي «ما بعد الانطباعية» بتلك الروح الحيوية التي جعلت، تجاه نهاية القرن الخامس، تخفق بالحياة وسط أطلال الواقعية الإغريقية - الرومانية. إن لما بعد الانطباعية، أو لنسمها الحركة المعاصرة، مستقبلا، ولكن عندما يكون ذلك المستقبل حاضرا فلن يعود سيزان
Cézanne
وماتيس
Matisse
يلقبان «بعد انطباعيين»، بل سيسميان بالتأكيد فنانين عظيمين، تماما كما كان يسمى جوتو
Giotto
وماساتشو
Massaccio
فنانين عظيمين، سيسمى سيزان وماتيس زعيمي حركة، ولكن هل يقدر لتلك الحركة أن تكون أكثر من حركة؟ هل يقدر لها أن تكون شيئا في سعة المنحدر الواقع بين سيزان وأساتذة سان فيتالي
S. Vitale ؟ تلك مسألة أقل يقينا بكثير مما يهم المتحمسين أن يفترضوا.
تتهم «ما بعد الانطباعية» بأنها عقيدة سلبية وتحطيمية، وليس في الفن عقيدة صحية يمكن أن تكون أي شيء آخر، إنك لا يمكن أن تهب الناس العبقرية، كل ما يمكنك أن تهبهم هو الحرية - التحرر من الخرافة ، وليس بإمكان «ما بعد الانطباعية» أن تصنع فنانين عظاما أكثر مما يمكن للقوانين الصالحة أن تصنع بشرا صالحين. ومما لا شك فيه أنه مع تزايد شعبيتها فإن حشودا متزايدة سنويا من المغفلين سوف يستخدمون ما يسمى «التكنيك بعد الانطباعي» لكي يعرضوا نماذج بلا دلالة ويرددوا حكايات حمقاء. إن لوحاتهم سوف تلقب «بعد انطباعية»، ولكن ليس بغير ظلم عظيم سوف تمنع من دخول برلنجتون هاوس. ليست «ما بعد الانطباعية» علاجا نوعيا للحماقة والعجز البشريين، فكل ما يمكن أن تقدمه إلى الرسامين هو أن تطرح أمامهم دعاوي الفن، يمكنها أن تقول للعبقري وللتلميذ الموهوب: «لا تهدر وقتك وطاقتك في أشياء لا تهم، ركز على ما يهم؛ ركز على خلق الشكل الدال.» بذلك فقط يمكن لأي منهما أن يؤتي خير ما فيه، لقد كان كلاهما في السابق مضطرا إلى أن يعقد تسوية بين الفن وبين ما علم الجمهور أن يترقبه؛ ولذلك فإن عمل الأول (أي العبقري) قد تشوه بفحش، أما عمل الثاني (أي التلميذ الموهوب) فقد دمر. لقد أوعز التقليد إلى الرسام أن يكون مصورا فوتوغرافيا وبهلوانا وأركيولوجيا (عالم آثار) وأديبا، بينما تدعوه «ما بعد الانطباعية» إلى أن يكون فنانا. (3) الفرضية الميتافيزيقية
The Metaphysical Hypothesis
أما وقد تحدثت بما فيه الكفاية، في حدود غرضنا الحالي، عن المشكلة الإستطيقية وعن «ما بعد الانطباعية»، فأود الآن أن أتناول هذا السؤال الميتافيزيقي: لماذا تهزنا ترتيبات وتجمعات معينة للشكل وتحرك مشاعرنا بهذه الطريقة الغريبة؟ إنه ليكفي بالنسبة لمجال الإستطيقا إنها تحرك مشاعرنا فعلا، وإن بالإمكان الرد على كل استجواب زائد من جانب المملين والحمقى بأنه كيفما تكن غرابة هذه الأشياء فما هي بأغرب من أي شيء آخر يزخر به هذا العالم المفرط في العجب والغرابة. أما أولئك الذين يلوح لهم أن نظريتي تفتح أفقا من الممكنات فإنني أقدم إليهم تخيلاتي عن طيب خاطر، بقدر ما يطيقون.
يبدو لي ممكنا، وإن لم يبلغ اليقين بحال، أن الشكل المبدع يهزنا بهذا العمق لأنه يعبر عن انفعال مبدعه ، لعل خطوط العمل الفني وألوانه توصل لنا شيئا ما قد أحسه الفنان، فإذا صح هذا فإنه سيفسر لنا تلك الواقعة العجيبة والتي لا يمكن إنكارها في الوقت نفسه، والتي أشرت إليها آنفا؛ وهي أن ما أسميه الجمال المادي (جناح فراشة مثلا) لا يحرك مشاعرنا بطريقة تشبه طريقة العمل الفني من قريب أو بعيد. إنها شكل جميل، ولكنها ليست شكلا دالا، إنها تحركنا، ولكنها لا تحركنا إستطيقيا، ومن المغري أن نفسر الفرق بين «الشكل الدال»
significant form
و«الجمال»
beauty - أي الفرق بين الشكل الذي يثير انفعالات إستطيقية والشكل الذي لا يثيرها - بأن نقول إن «الشكل الدال» يوصل إلينا انفعالا أحسه مبدعه وإن «الجمال» لا يوصل شيئا.
تجاه أي شيء إذن يشعر الفنان بذلك الانفعال الذي يفترض أنه يعبر عنه؟ من المؤكد أن الانفعال يأتي إليه أحيانا من خلال الجمال المادي؛ فتأمل الأشياء الطبيعية كثيرا ما يكون هو السبب المباشر لانفعال الفنان، فهل علينا إذن أن نفترض أن الفنان يشعر (أو يشعر أحيانا) تجاه الجمال المادي ما نشعر به نحن تجاه عمل فني؟ هل يحتمل أن يكون وجه الأمر هو أن الجمال المادي بالنسبة للفنان يكون في بعض الأحيان «دالا» بطريقة ما؛ أي قادرا على إثارة انفعال إستطيقي؟ وإذا كان الشكل الباعث على الانفعال الإستطيقي هو الشكل الذي يعبر عن شيء ما، فهل من المحتمل أن يكون الجمال المادي بالنسبة له معبرا؟ هل يشعر وراءه بشيء ما مثلما نتخيل أننا نشعر بشيء ما وراء أشكال عمل فني؟ هل لنا أن نفترض أن الانفعال الذي يعبر عنه الفنان هو انفعال إستطيقي تجاه شيء تفوتنا نحن دلالته في عامة الأحوال وتدق على حساسيتنا البليدة الكليلة؟ كل هذه أسئلة أفضل أن أتأملها على أن أجزم فيها بشيء.
لنستمع إلى ما تعين على الفنانين أن يقولوه من جانبهم. إننا لنصدقهم من فورنا عندما يخبروننا أنهم في الحقيقة لا يبدعون الأعمال الفنية لكي يثيروا انفعالاتنا الإستطيقية بل لأن هذا هو السبيل الوحيد الذي يمكنهم به أن يجسدوا صنفا معينا من الشعور، ما هو هذا الشعور على وجه التحديد؟ ذلك ما يجدون الجواب عنه صعبا، ثمة وصف لهذه المسألة قاله لي واحد من أعظم الفنانين؛ هو أن ما يحاول أن يعبر عنه في لوحة فنية هو «فهم انفعالي للشكل»، وقد صممت على أن أكتشف ما يعنيه «الفهم الانفعالي للشكل»، وبعد حديث كثير وإصغاء أكثر خلصت إلى النتيجة التالية: في بعض الأحيان عندما ينظر فنان، فنان حقيقي، إلى الأشياء (محتويات غرفة مثلا) فهو يدركها كأشكال خالصة ذات علاقات معينة بعضها ببعض، ويشعر بانفعال نحوها بما هي كذلك، هذه هي لحظات إلهامه، ثم تأتي بعدها الرغبة في التعبير عما تم الشعور به. إن العاطفة التي أحس بها الفنان في لحظة الإلهام لم تكن تجاه الأشياء بوصفها وسائل، بل تجاه الأشياء أشكالا خالصة - أي غايات في ذاتها. إنه لم يشعر بانفعال نحو أحد الكراسي كوسيلة للراحة الجسدية، ولا كشيء مرتبط بالحياة الأسرية الحميمة، ولا كمكان جلس فيه يوما شخص ما وقال أشياء لا تنسى، ولا حتى كشيء مرتبط بحياة مئات من الرجال والنساء، الأموات والأحياء، بمائة سبب خفي، لا شك أن الفنان كثيرا ما يشعر بانفعالات من هذا القبيل نحو الأشياء التي يراها، ولكنه في لحظة الرؤية الإستطيقية لا يرى الأشياء كوسائل ملفعة بالارتباطات، بل كأشكال خالصة. إن انفعاله الملهم إنما يحسه تجاه الشكل الخالص، أو خلاله على أية حال.
إذن، أن نرى الأشياء كأشكال خالصة هو أن نراها كغايات في ذاتها، فرغم أن الأشكال بالطبع مرتبطة بعضها ببعض كأجزاء في كل؛ فهي مرتبطة على قدم المساواة، إنها ليست وسيلة لأي شيء عدا الانفعال، ولكن ألا نشعر نحو الأشياء التي نراها كغايات في ذاتها بانفعال أعمق وأكثر إثارة من أي انفعال سبق لها نحوها كوسائل؟ في تصوري أننا جميعا نحظى فعلا من وقت آخر برؤية للأشياء كأشكال خالصة؛ إننا نرى الأشياء كغايات في ذاتها؛ أي إننا ننظر إليها - وهو ما يبدو في تلك اللحظات ممكنا بل مرجحا - بعين فنان. من منا لم يظفر ، مرة في حياته على أقل تقدير، برؤية مفاجئة لمنظر طبيعي كشكل خالص؟ إنه لم ينظره في هذه المرة الفريدة كحقول وأكواخ، بل أحس به بالأحرى كخطوط وألوان، ألم يظفر من الجمال المادي في تلك اللحظة بهزة لا تفرق عن تلك التي يمنحها الفن؟ وإذا كان الأمر كذلك، ألا يتضح أنه قد ظفر من الجمال المادي بهزة لا يقدر على منحها بصفة عامة سوى الفن؛ لأنه قد اتخذ سبيلا إلى رؤيتها كتضام شكلي خالص للخطوط والألوان؟ ألا نمضي قدما ونقول إنه إذ رآها كشكل خالص، وبرأها من كل ضروب الاهتمام السببي والعارض ومن كل ما يمكن أن تكون قد اكتسبته من صلاتها ببني البشر، ومن كل دلالة لها كوسيلة؛ فقد أحس دلالتها كغاية في ذاتها؟
ما هي دلالة أي شيء بوصفه غاية في ذاته؟ ما الذي يتبقى عندما نجرد شيئا ما من جميع ارتباطاته؟ ماذا عساه أن يتبقى لكي يثير انفعالنا؟ ماذا غير ذلك الذي درج الفلاسفة على تسميته «الشيء في ذاته»
the thing in itself
ويسمونه الآن «الواقع النهائي»
ultimate reality ؟ هل أكون خياليا تماما إذا اقترحت ما اعتقده نفر من أعمق المفكرين من أن دلالة الشيء في ذاته هي دلالة «الواقع»
Reality ؟ هل من المحتمل أن يكون جواب سؤالي «لماذا نطرب كل هذا الطرب لتجمعات معينة من الخطوط والألوان» هو «لأن بقدرة الفنانين أن يعبروا بتجمعات الخطوط والألوان عن انفعال نحو الواقع يكشف عن نفسه من خلال الخط واللون»؟
إذا حظي هذا الاقتراح بالقبول فقد يترتب عليه أن «الشكل الدال» هو الشكل الذي نظفر من ورائه بحس بالواقع النهائي، وقد يكون لدينا مبرر لافتراض أن الانفعالات التي يحسها الفنانون في لحظات إلهامهم، والانفعالات التي يحسها الآخرون في اللحظات النادرة التي ينظرون فيها الأشياء نظرة فنية، والانفعالات التي يحسها كثير منا عندما يتأملون الأعمال الفنية، هي جميعا من نفس الصنف؛ فقد تكون جميعا انفعالات نحو واقع يكشف عن نفسه من خلال الشكل الخالص، من المتيقن أن هذا الانفعال لا يمكن التعبير عنه إلا في شكل خالص، ومن المتيقن أن معظمنا لا يمكن أن يبلغ إليه إلا من خلال شكل خالص، ولكل هل الشكل الخالص هو الطريق الوحيد الذي يمكن لأي شخص من خلاله أن يصل إلى هذا الانفعال السري؟ ذاك سؤال مربك ومرير للغاية؛ لأني ظننت عند هذه النقطة أني أبصرت طريقي إلى إلغاء كلمة «واقع»، والقول بأنها جميعا انفعالات محسة نحو شكل خالص قد يكون وراءه شيء ما وقد لا يكون، إنه ليرضيني كل الرضا أن أقول بأن السبب الذي يجعل بعض الأشكال تحركنا إستطيقيا وبعضها لا، هو أن بعضها قد تمت تنقيته بما يكفي؛ لأن نشعر به إستطيقيا، وأن البعض الآخر متخثر بالمادة غير الإستطيقية (كالارتباطات) بحيث يحتاج إلى حساسية فنان لكي يدرك دلالته الشكلية الخالصة. لقد كان يرضيني كل الرضا أن أعتقد بأن كل شخص لا بد أن يبلغ إلى الواقع عن طريق الشكل مثلما أن كل شخص لا بد أن يعبر عن حسه بالواقع في شكل، ولكن هل هذا صحيح؟ فأي صنف من الشكل ذاك الذي يستقي منه الموسيقي الانفعال الذي يعبر عنه في تآلفات هارمونية مجردة؟ ومن أين تأتي انفعالات المعماري والخزاف؟ إنني أعرف أن انفعالاتي الإستطيقية لا يمكن أن تنشط من عقالها إلا بواسطة شكل، ولكن هل يمكنني أن أجزم بأن انفعال الفنان لا يثيره دائما إلا شكل؟ عود إلى الواقع مرة أخرى.
إن الذين يميلون إلى الاعتقاد بأن انفعال الفنان هو شعور نحو الواقع سوف يسلمون عن طيب خاطر بأن الفنانين البصريين الذين لا يعنينا سواهم - يبلغون الواقع بصفة عامة من خلال الشكل المادي، ولكن ألا يبلغونه أحيانا من خلال شكل متخيل؟ ألا ينبغي علينا أن نضيف أننا نجهل أحيانا من أين يأتي حس الواقع؟ لعل أبلغ وصف أعرفه لهذه الحالة من الطرب بحس باطني بالواقع هو الوصف الذي قدمه دانتي
Dante
في أبياته التالية:
أيها الخيال، يا من تنتشلنا بعض حين من
العالم الذي حولنا، حتى إننا لا نعود نسمع له ركزا
وإن تكن ألف من الطبل تقرع حولنا •••
من ذا الذي يحركك، إن لم يكن الإحساس هو ما يحدوك؟
يحركك ضياء يتخذ في الأعالي شكلا
بذاته أو بإرادة تتنزل به •••
هنالك انسحب عقلي داخل ذاته
بحيث لم يعد يطرقه طارق
يمكن أن يتلقاه ويدركه.
يقينا أننا في تلك اللحظات العالية التي يتيحها الفن، مؤهلون للاعتقاد بأننا كنا في حوزة انفعال آت من عالم الواقع، وسيتعين على الذين يرون هذا الرأي أن يقولوا بأن جميع الأشياء تمتلك الخامة الأولية التي يصنع منها الفن - أي الواقع، حتى الفنانون لا يمكنهم أن يقبضوا على الواقع إلا عندما يردون الأشياء إلى أنقى حالات وجودها - إلى الشكل الخاص، ما لم يكونوا من أولئك الذين يبلغونه على نحو سري دون عون من عناصر خارجية، وفي جميع الأحوال لا يمكن التعبير عن حس الواقع إلا في شكل خالص، وربما يتبين، وفقا لهذه الفرضية. إن الخاصة التي تميز الفنان عن بقية الخلق هي أنه يمتلك القدرة على القبض على الواقع على نحو مضمون ومتكرر (ومن خلال شكل خالص في عامة الأحوال)، ويمتلك القدرة على التعبير عن حسه بالواقع، في شكل خالص دائما، غير أن الكثير من الناس، رغم شعورهم بالدلالة الهائلة للشكل، يشعرون أيضا بكراهة حذرة تجاه الكلمات الكبيرة، و«الواقع» كلمة جد كبيرة. يفضل هؤلاء أن يقولوا إن ما يكشف عنه الفنان وراء الشكل، أو يقبض عليه بقوة الخيال المحضة، هو الإيقاع الذي يغمر كل الأشياء ويبث فيها الحياة، وقد سبق أن قلت إنني لن أعترض مطلقا على هذه الكلمة الموفقة «الإيقاع»
rhythm .
إن الموضوع النهائي لانفعال الفنان سوف يبقى إلى الأبد غير مؤكد، ولكني أعتقد أننا، ما لم نفترض أن جميع الفنانين كاذبون، يجب أن نفترض أنهم يشعرون فعلا بانفعال ما، وهو انفعال بمقدورهم أن يعبروا عنه في شكل، وفي شكل فقط، ولنلحظ جيدا هذه النقطة الإضافية: يحاول الفنانون أن يعبروا عن انفعال، لا أن يدلوا بتقارير عن الموضوع النهائي أو المباشر لهذا الانفعال، وبالطبع إذا كان انفعال الفنان آتيا إليه من (أو من خلال) إدراك للأشكال وعلاقات الأشكال، فسيكون حريا أن يعبر عنه في أشكال مستقاة من تلك التي أتت منها، غير أنه لن يتقيد برؤيته بل بانفعاله وحده، ليس ما رآه هو الذي سيحكم تصميمه بالضرورة بل ما أحسه، هل الصلة بين أشكال العمل المبدع وأشكال العالم المنظور هي صلة واضحة أم صلة مبهمة، موجودة أم غير موجودة؟ تلك مسألة غير ذات بال على الإطلاق، فما ارتاب أحد قط في أن إناء خزفيا من عهد أسرة سنج أو كنيسة رومانسكية كانت تعبيرا عن انفعال، شأنها تماما شأن أي لوحة رسمها راسم في أي يوم، فماذا كان موضوع انفعال الخزاف؟ وماذا كان موضوع انفعال مشيد الكنيسة؟ أكان شكلا متخيلا ما، هو مركب من مائة رؤية مختلفة لأشياء طبيعية، أم كان تصورا ما للواقع لا صلة له بالخبرة الحسية وبعيدا تماما عن العالم الفيزيائي؟ هذه أسئلة وراء كل تخمين، وعلى أية حال فالشكل الذي يعبر فيه الفنان عن انفعاله لا يحمل أي تذكرة بأي شكل خارجي يحتمل أن يكون قد أثاره؛ فالتعبير لا يتقيد على أي نحو بأشكال الحياة أو انفعالاتها أو أفكارها، وليس بالإمكان أن نعرف على وجه الدقة ما الذي أحسه الفنان، إنما نعرف فقط ماذا أبدع، وإذا كان الواقع هو هدف انفعاله فإن الطرق إلى الواقع طرق عديدة؛ فبعض الفنانين يبلغون الواقع من خلال مظهر الأشياء، وبعضهم يبلغونه بمجموعة من المظاهر، وبعضهم يبلغونه بقوة التخيل المحضة.
لماذا تطربنا كل هذا الطرب ضروب معينة من تضام الأشكال؟ لا أود أن أرد على هذا السؤال ردا إيجابيا، ولست مضطرا إلى ذلك؛ لأن هذا السؤال ليس سؤالا إستطيقيا، على أنني أقترح بالفعل أن سبب طربنا هو أن هذه التضافرات الشكلية تعبر عن انفعال معين قد أحسه الفنان، رغم أني أتردد في البت بأي شيء عن طبيعة ذلك الانفعال أو موضوعه، فإذا ما حظي اقتراحي بالقبول فإنه سوف يزود النقد بسلاح جديد، وهو سلاح جدير بأن نتأمل لحظة في طبيعته. إن الناقد إذ يتخطى انفعال الفنان وموضوع انفعاله، فإنه سيكون قادرا على كشف النقاب عن الشيء الذي يضفي على الشكل دلالته، وسيكون قادرا على أن يفسر لماذا تكون بعض الأشكال دالة وبعضها غير دال، وهو بذلك سيتمكن من دفع جميع أحكامه خطوة إلى الخلف. ولأضرب مثالا لتوضيح ذلك: تنقسم اللوحات المنسوخة إلى فئتين؛ فئة تتضمن بعض الأعمال الفنية، والأخرى لا تتضمن ذلك؛ فالنسخة الحرفية قلما تعد عملا فنيا حتى في رأي صاحبها، إنها لا تخلف فينا شعورا، إن أشكالها غير دالة، إلا أنها إذا كانت نسخة مطلقة الدقة فمن الواضح أنها ستكون محركة للمشاعر قدر النسخة الأصلية، وكثيرا ما تكون النسخة الفوتوغرافية لإحدى اللوحات مساوية في تأثيرها تقريبا للنسخة الأصلية، ومن البديهي أن تقليد عمل فني بدقة هو أمر محال؛ فالفروق بين النسخة والأصل مهما تكن طفيفة هي فروق ماثلة يحس بها على الفور. حتى هذا الحد يقف الناقد على أرضية صلبة، وحتى هذه اللحظة يقف على أرضية مألوفة أيضا. إن النسخة لا تثيره لأن أشكالها ليست مطابقة لتلك التي بالأصل، وإن ما يجعل الأصل مثيرا هو بالضبط ما يذهب به النسخ، ولكن لماذا يتعذر رسم نسخة مطلقة الدقة؟ يبدو أن تفسير ذلك هو أن الخطوط الحقيقية والألوان والفراغات في عمل فني تتسبب عن شيء ما في عقل الفنان، وهو شيء غير موجود في عقل المقلد. إن اليد لا تطيع العقل فحسب، بل إنها لعاجزة عن مد الخطوط والألوان بطريقة معينة ما لم تخضع لتوجيه حالة ذهنية معينة،
15
إن الموضوعين المرئيين، الأصل والنسخة، يختلفان؛ لأن ذلك الشيء الذي أدار دفة العمل الفني لا يشرف على تصنيع النسخة، وإنني لأقترح أن ما يدير دفة العمل الفني هو ذلك الانفعال الذي يمكن الفنانين من خلق الشكل الدال. إن النسخة الجيدة، تلك التي تحرك مشاعرنا، هي دائما من عمل شخص استحوذ عليه هذا الانفعال الخفي؛ فالنسخ الجيدة ليست على الإطلاق محاولات للتقليد الدقيق؛ فنحن عند الفحص نجد دائما فروقا ضخمة بين النسخ والأصول، النسخ الجيدة هي عمل رجال أو نساء لا ينسخون بل بمكنتهم أن يترجموا فن الآخرين إلى لغتهم الخاصة. إن القدرة على خلق شكل دال لا تعتمد على بصر حاد كبصر الصقر بل على قدرة خاصة ذهنية وانفعالية، حتى في عملية نسخ لوحة، لا يتوجب على المرء أن ينظر كملاحظ مدرب، بل أن يشعر كفنان، ويبدو أنه يتحتم على المبدع لكي يلقي شعورا في روع المشاهد ... أن يشعر هو أيضا، ما هو هذا الشيء الذي تفتقر إليه الأشكال المقلدة وتتحلى به الأشكال المبدعة؟ ما هو هذا الشيء الخفي الذي يحكم الفنان في عملية خلق الأشكال؟ ما ذلك الذي يكمن من وراء الأشكال ويبدو أنه ينتقل إلينا من خلالها؟ ما الشيء الذي يميز المبدع عن الناسخ؟ وما عساه أن يكون غير انفعال؟ أليس ما يجعل أشكال الفنان أشكالا دالة هو أنها تعبر عن صنف معين من الانفعال؟ وما يجعلها مترابطة هو أنها تنطبق على الانفعال وتطوقه؟ وما يجعلها ترقى بنا إلى معارج الوجد هو أنها توصل الانفعال وتبثه؟
ثمة كلمة تحذير لا بد منها: يجب ألا يتخيل أحد أن التعبير عن انفعال هو العلامة الخارجية والمرئية للعمل الفني؛ فالسمة المميزة للعمل الفني هي قدرته على إثارة انفعال إستطيقي، ومن المحتمل أن يكون التعبير عن انفعال هو ما يمنح العمل تلك القدرة. إنه لمن العبث أن تذهب إلى معرض صور بحثا عن التعبير، بل ينبغي أن يكون ذهابك بحثا عن شكل دال، وحالما أطربك شكل فإن لك عندئذ أن تشرع في النظر فيما جعلك تطرب، فإذا صحت نظريتي فإن صواب الشكل هو بلا استثناء نتيجة مترتبة على صواب الانفعال. إنني أدعي أن الشكل الصائب يحكمه وينظمه نوع معين من الانفعال، ولكن سواء صحت نظريتي أم أخطأت فإن الشكل يظل صائبا، فمتى جاءت الأشكال مرضية فلا بد أن الحالة الذهنية التي اقتضتها كانت حالة صائبة إستطيقيا، أما إن جاءت الأشكال خاطئة فلن يترتب على ذلك أن الحالة الذهنية كانت خاطئة بالضرورة، فبين لحظة الإلهام ولحظة انتهاء العمل الفني ثمة متسع لزلات عديدة. إن الانفعال الواهن أو القاصر هو على أكثر تقدير مجرد تفسير واحد للشكل الفاشل؛ ولذا فعندما يصادف الناقد شكلا مرضيا فعليه ألا يكرث نفسه حول مشاعر الفنان، وبحسبه أن يحس الدلالة الإستطيقية للأشكال التي أبدعها، فإذا اكترث بالحالة الذهنية للفنان فليكن على ثقة بأنها كانت صائبة ما دامت الأشكال صائبة، أما عندما يحاول الناقد أن يعلل لقصور الأشكال فإن له أن يبحث في الحالة الذهنية للفنان، وهو لن يسعه أن يثق بخطأ الحالة الذهنية قياسا على خطأ الأشكال؛ ذلك أن الأشكال الصائبة تدل ضمنا على شعور صائب، ولكن إذا سعى الناقد إلى تفسير خطأ الشكل فثم احتمال لا يمكن إغفاله؛ أنه سيكون قد غادر الأرض الصلبة للإستطيقا لكي يترحل في جو غير مستقر. إن المرء في نطاق النقد ليتعلق بأية قشة، ولا ضير في ذلك ما تذكر دائما أنه مهما تكن عبقرية النظريات التي قد يقدمها فهي لن تعدو أن تكون محاولات لتفسير حقيقة مركزية واحدة؛ هي أن بعض الأشكال يحركنا إستطيقيا والبعض الآخر لا يفعل ذلك.
لقد جذبني هذا البحث قريبا من مسألة لا هي إستطيقية ولا ميتافيزيقية، ولكنها تمس كلا المجالين. إنها مسألة المشكلة الفنية، وهي في حقيقة الأمر مسألة تكنيكية. لقد زعمت أن مهمة الفنان هي إما أن يخلق شكلا دالا وإما أن يعبر عن حس بالواقع - حسبما تفضل من تعبير. غير أن من المؤكد أننا قلما نجد فنانا، إن وجدنا أحدا على الإطلاق، يمكن أن يقعد أو يقوم لا لشيء إلا لكي يبدع شكلا دالا، أو لكي يعبر عن حس بالواقع، دون أي تحديد أبعد من ذلك، إنما يتوجب على الفنانين أن يتخذوا لانفعالهم مجرى معينا ... أن يركزوا طاقاتهم على مشكلة محددة؛ فالشخص الذي يشرع في رحلة صوب العالم كله هيهات له أن يبلغ مكانا، هذه الحقيقة تفسر لنا الضرورة المطلقة للمواضعات الفنية، وتفسر لنا لماذا تعد كتابة شعر جيد أيسر من كتابة نثر جيد، ولماذا تكون كتابة الشعر المرسل
16
الجيد أصعب من كتابة مقاطع جيدة من شعر الدوبيت المقفى ، هذا هو مغزى القوالب الفنية مثل السونيتة،
17
والبالاد،
18
والروندو:
19
إن الحدود الصارمة تركز طاقات الفنان وتكثفها.
ومما يشبه المحال على فنان لم يضع لنفسه مهمة أكثر تحديدا من إبداع شكل دال دون شروط أو حدود مادية أو فكرية، أن يركز طاقاته بحيث ينجز هدفه. إن مشروعه سيكون مفتقرا إلى الدقة وجهوده من ثم ستكون مفتقرة إلى القصد، وأقرب إلى اليقين أنه سيكون غامضا ومتراخيا في عمله، وقد يلوح له دائما أن هناك احتمالا بأن يعيد للشيء عافيته بضربة حظ، وقلما يبصر بوضوح تام أنه قد ضل السبيل، تلك هي مخاطر النزعة الجمالية (المتطرفة)
aestheticism
على الفنان. إن من يشعر أنه لا عمل له إلا أن يصنع شيئا ما جميلا، يندر أن يعرف من أين يبدأ أو أين ينتهي، أو لماذا ينبغي عليه أن يركز حول شيء أكثر من شيء آخر. لقد أخذه شعور بضرورة أن يجعل عمله الفني «صوابا»، وأنه سيكون صوابا عندما يعبر عن انفعاله نحو الواقع أو عندما يقدر على إثارة انفعال إستطيقي في الآخرين أيا ما كانت الطريقة التي يهمك أن تنظر بها إلى العمل. إلا أن معظم الفنانين قد انصرفوا إلى اتخاذ مجرى لانفعالهم وتركيز طاقاتهم على مشكلة ما أكثر تحديدا وأقرب مأخذا من مشكلة صنع شيء من شأنه أن يكون صوابا من الوجهة الإستطيقية. إنهم بحاجة إلى مشكلة تصير بؤرة لانفعالاتهم الشاسعة وطاقاتهم الغامضة، وعندما تحل تلك المشكلة سيكون عملهم «صوابا».
يعني «صواب» بالنسبة للمشاهد «مرض إستطيقيا»، وبالنسبة للفنان وهو في حالة عمل يعني التحقيق الكامل لمفهوم ما - الحل الأمثل لمشكلة ما، والخطأ الذي يقع فيه السوقة هو أنهم يفترضون أن «صواب»
20
تعني حل مشكلة واحدة بعينها؛ أن السوقة عرضة لافتراض أن المشكلة التي ينذر لها جميع الفنانين البصريين والأدبيين أنفسهم هي أن يصنعوا شيئا ما شبيها بالحياة. ألا إن جميع المشكلات الفنية - وتنويعاتها الممكنة لا نهاية لها - يجب أن تكون بؤرات لصنف معين واحد من الانفعال؛ ذلك الانفعال الفني المميز الذي أعتقد أنه انفعال نحو الواقع يدرك بصفة عامة من خلال شكل، ولكن طبيعة البؤرة لا مادية، ومن الحق تقريبا (وإن لم يكن تماما) أن نقول إن كل مشكلة هي مساوية في الوجاهة لغيرها؛ فكل المشكلات في الحقيقة هي في ذاتها وجيهة على حد سواء، رغم أن هناك بسبب الضعف البشري مشكلتين تنتهيان نهاية سيئة؛ المشكلة الأولى كما رأينا هي المشكلة الإستطيقية الخالصة، والأخرى هي مشكلة التمثيل الدقيق.
يتخيل السوقة أن ليس هناك سوى بؤرة واحدة؛ وهي أن «صواب» تعني دائما تحقيق تصور دقيق للحياة، وليس بإمكانهم أن يفهموا أنه قد تكون المشكلة المباشرة للفنان هي أن يعبر عن نفسه داخل مربع أو دائرة أو مكعب، أو أن يساوق توافقات هارمونية معينة، أو أن يوفق بين تنافرات معينة، أو أن يحقق إيقاعات معينة، أو أن يقهر صعوبات معينة خاصة بالوسيط
medium ؛ وهي مشكلات تقف على قدم المساواة مع مشكلة اقتناص مشابهة، هذا الخطأ يقع في الصلب من النقد السخيف الذي جعله الأستاذ شو موضة الكتابة. إن في مسرحيات شكسبير تفاصيل من السيكولوجيا ورسم الشخصيات شديدة الواقعية بحيث تذهل الجموع وتسحرهم، ولكن التصور
conception ، ذلك الشيء الذي نذر شكسبير نفسه لتحقيقه، لم يكن تمثيلا طبق الأصل للحياة، لا لم يكن خلق الإيهام
illusion
هو المشكلة التي اتخذها شكسبير قناة لانفعاله وبؤرة لطاقاته، لم يكن عالم مسرحيات شكسبير بأي حال من الأحوال شبيها بالحياة قدر عالم السيد جولزورثي
Galsworthy ؛ ومن ثم يحق لأولئك الذين تخيلوا أن مشكلة الفنان يجب أن تكون دائما هي تحقيق تطابق بين الكلمات المطبوعة أو الأشكال المرسومة وبين العالم كما يعرفونه - يحق لهم أن يحكموا بأن مسرحيات شكسبير أدنى مستوى من مسرحيات السيد جولزورثي، حقيقة الأمر أن تحقيق الصدق الواقعي، وهو ليس المشكلة الوحيدة الممكنة بأية حال، يتنازع هو وتحقيق الجمال (الملاحة) على نيل لقب أسوأ المشكلات الممكنة. إن التشبه بالحياة أمر سهل؛ بحيث إن الاكتفاء به يترك أعلى قوى الفنان الانفعالية والفكرية عاطلة ولا يستنفرها أبدا أو يهيب بها، وبالضبط كما أن المشكلة الإستطيقية شديدة الغموض فإن المشكلة التمثيلية شديدة البساطة.
على كل فنان أن يختار «مشكلته» الخاصة، وله أن يستمدها من حيثما شاء ما دام قادرا على أن يجعلها البؤرة لتلك الانفعالات الفنية التي شرع في التعبير عنها، والحافز لتلك الطاقات التي سيحتاج إلى التعبير عنها، وما يجب علينا أن نتذكره هو أن المشكلة (موضوع اللوحة في حالة فن التصوير بعامة) أمر غير ذي بال في حد ذاته. إنها لا تعدو أن تكون إحدى وسائل الفنان للتعبير أو الإبداع، وفي أي حالة خاصة قد تكون إحدى المشكلات خيرا من الأخرى كوسيلة، تماما كما أن قماشة لوحة أو صنفا من الألوان قد يكون أفضل من غيره، فذاك أمر سيتوقف على مزاج الفنان وقد لا ننازعه فيه، ليس «للمشكلة» قيمة بالنسبة إلينا، أما بالنسبة إلى الفنان «فالمشكلة» هي الاختبار العامل «للصواب» المطلق، إنها المقياس الذي يقيس ضغط البخار. إن الفنان يذكي ناره لكي يجعل المقبض الصغير يدور، وهو يدور أن آلته لن تتحرك حتى يجعل المؤشر يبلغ العلامة. إنه يتقدم تدريجيا إليها وبواسطتها، غير أنها لا تدير المحرك.
ما هي إذن زبدة القول في هذا الأمر كله؟ إنها في اعتقادي لا تزيد على هذا: يؤدي تأمل الشكل الخالص إلى حالة من النشوة العالية غير العادية وإلى انسلاخ تام عن هموم الحياة، عن هموم أثق أنها (وإنني لأتحدث عن نفسي) كثيرة جدا. إن من المغري أن نفترض أن الانفعال الذي يطرب هو شيء يوصله إلينا من خلال الأشكال التي نتأملها ذلك الفنان الذي أبدع الأشكال، فإذا صح هذا فإن الانفعال الموصل، أيا ما كان هذا الانفعال، لا بد أن يكون من ذلك الصنف الذي يمكن أن يعبر عنه في أي ضرب من ضروب الشكل؛ في لوحات، منحوتات، مبان، آنية، نسيج ... إلخ، الانفعال الذي يعبر عنه الفنان إذن يحل في بعض هذه الأشكال؛ ومن ثم فهي تؤثر فينا من خلال فهم الدلالة الشكلية للأشياء المادية، وما الدلالة الشكلية لأي شيء مادي سوى دلالة ذلك الشيء معتبرا كغاية في ذاته ، ولكن إذا كان من شأن موضوع ما إذ ينظر إليه كغاية في ذاته أن يهزنا بعمق أكبر (أي تكون له دلالة أكبر) مما لو نظرنا إليه هو نفسه بوصفه وسيلة إلى غايات عملية أو كشيء متصل بالاهتمامات البشرية - وهو وجه الأمر بلا شك - فلا يسعنا إلا أن نفترض أننا متى نتأمل أي شيء كغاية في ذاته نصبح على وعي بتلك الخاصة الأبقى في ذلك الشيء من أي خاصة يمكن أن يكون قد اكتسبها من دوام صحبته ببني الإنسان، وبدلا من أن نميز أهميته العرضية والمشروطة، فنحن نغدو على وعي بواقعه الجوهري، وعلى وعي بالإله في كل شيء، بالكلي في الجزئي، بالإيقاع الذي يغمر الكل، فلتطلق عليه ما شئت من أسماء؛ فالشيء الذي أتحدث عنه هو ذلك الذي يقبع وراء المظهر من جميع الأشياء، ذلك الذي يضفي على جميع الأشياء دلالتها الفردية، الشيء في ذاته، الواقع النهائي. وإذا كان إدراك معين (لا شعوري تقريبا) لهذا الواقع الكامن للأشياء المادية هو حقا سبب ذلك الانفعال الغريب، ذلك الولوع بالتعبير الذي هو إلهام كثير من الفنانين، فمن المعقول أن نفترض أن أولئك الذين يخبرون نفس الانفعال دون عون من الأشياء المادية، قد وصلوا من طريق آخر إلى البلد نفسه.
تلك هي الفرضية الميتافيزيقية، هل علينا أن نبتلعها كاملة، أو نقبل بعضها، أو نرفضها كليا؟ على كل شخص أن يقرر ذلك بنفسه؛ فأنا لست مصرا إلا على صحة فرضيتي الإستطيقية، كما أنني متيقن من شيء واحد آخر؛ أن أولئك الذين يبلغون النشوة «الوجد»، وليكونوا فنانين أو عاشقين أو متصوفة أو رياضيين، هم أولئك الذين حرروا أنفسهم من الكبر والغطرسة البشريين، فمن شاء أن يحس دلالة الفن فعليه أن يتضع أمامه. أما أولئك الذين يرون الأهمية الأولى للفن أو الفلسفة هي في علاقتهما بالسلوك أو بالنفع العملي، أولئك الذين لا يستطيعون أن يقدروا الأشياء كغايات في ذاتها، أو كسبيل مباشر إلى الانفعال على أية حال، فما يكون لهم أن يظفروا من أي شيء بخير ما يمكن أن يمنحه، وأيا ما كان عالم التأمل الإستطيقي فما هو بعالم المشاغل والأهواء البشرية، إنه عالم لا تسمع فيه لغو الوجود المادي وصخبه، أو تسمعه كمجرد صدى لتوافق آخر أكثر جوهرية.
الفصل الثاني
الفن والحياة
(1) الفن والدين
Art and Religion
إذا كنت في الفصل الأول قد تجشمت عناء كبيرا لكي أبين أن الفن لا يدين للحياة بشيء، فإن عنوان الفصل الثاني «الفن والحياة» قد يثير شبهة التناقض، غير أن الأمر أبسط من ذلك؛ فرغم أن الفن لا يدين بشيء للحياة فإن الحياة قد تدين حقا بشيء ما للفن. إن الطقس مثلا مستقل بدرجة فائقة عن آمال البشر ومخاوفهم، إلا أنه يندر من بيننا من يعلو شأنه عن الاكتراث بالطقس. إن الفن ليؤثر في حيوات الناس، إنه يثير النشوة، وهو بذلك يضفي لونا وأهمية على ما من شأنه أن يكون بدون الفن أمرا كئيبا وتافها نوعا ما. إن الفن عند البعض يجعل الحياة جديرة بأن نحياها، والفن أيضا يتأثر بالحياة؛ لأن إبداع الفن يتطلب أناسا ذوي أيدي وحس بالشكل واللون والمكان الثلاثي الأبعاد، والقدرة على الشعور والتوق إلى الإبداع؛ ومن ثم فإن للفن صلة كبيرة بالحياة؛ بالحياة الوجدانية. أما أنه وسيلة إلى حالة من النشوة العالية فهو أمر متفق عليه، وأما أنا يجيء من الأعماق الروحية للطبيعة الإنسانية فهو أمر يعز أن نختلف فيه. إن تذوق الفن هو بالتأكيد سبيل إلى النشوة، وإبداعه ربما يكون هو التعبير عن حالة نشوة ذهنية، الفن في حقيقة الأمر ضرورة للحياة الروحية ونتاج لها.
إن من يوافقونني تماما فيما قلته حتى آخر شوط من رحلتي الميتافيزيقية، سيسلمون بأن الانفعال المعبر عنه في العمل الفني هو انفعال ينبع من أعماق الطبيعة الروحية للإنسان، وحتى من لا يجدون لكلامي أي معنى سيوافقون على أن الجانب الروحي من الإنسان يتأثر تأثرا هائلا بالأعمال الفنية؛ الفن إذن مرتبط بالحياة الروحية التي إليها يعطي ومنها بالتأكيد يأخذ. والفن، بطريقة غير مباشرة، يرتبط ارتباطا ما بالحياة العملية؛ فالفن يفعل فعله في شخصياتنا، وإلا فما أهونها وأحقرها تلك الخبرات الوجدانية التي تغادر شخصياتنا دون أن تمسها من قريب أو بعيد؛ فمن خلال تأثيره على الشخصية ووجهة الرأي، يمكن للفن أن يؤثر في الحياة العملية، غير أن الحياة العملية والعاطفة الإنسانية لا يمكن أن تؤثرا في الفن إلا بقدر ما يمكن أن تؤثرا في الأحوال التي يعمل الفنانون في ظلها، وبهذه الطريقة قد تؤثران بعض التأثير في إنتاج الأعمال الفنية، فإلى أي حد يمتد هذا التأثير؟ هذا ما سوف أتناوله في موضع آخر.
كذلك يعنى كثير جدا من أعمال الفن البصري بالحياة، أو بالأحرى بالعالم الفيزيائي الذي تشكل الحياة جزءا منه؛ ذلك أن الأشخاص الذين يبدعون هذه الأعمال إنما قذفت بهم في الحالة الإبداعية بيئتهم المحيطة. لقد لاحظنا، وما كان بوسعنا أن نغفل، أنه أيا ما كان الانفعال الذي يعبر عنه الفنانون فإنه يأتي إلى الكثير منهم خلال تأمل الأشياء المألوفة للحياة، ويبدو أن موضوع انفعال الفنان هو في أغلب الأحوال إما مشهد أو شيء أو مركب من خبرته البصرية الكلية. قد يعنى الفن بالعالم الفيزيائي، أو بأي جزء أو أجزاء منه، كوسيلة إلى انفعال، وسيلة إلى تلك الحالة الروحية المتميزة والخاصة التي نسميها الإلهام، ولكن الفن يتجاهل قيمة هذه الأجزاء بوصفها وسيلة إلى أي شيء عدا الانفعال - أي أنه يتجاهل منفعتها العملية، وكثيرا ما يهتم الفنانون بالأشياء، ولكنهم لا يهتمون أبدا ببطاقات الأشياء. لقد اخترع هذه البطاقات المفيدة أناس عمليون من أجل أغراض عملية، والبلية هي أن العمليين من الناس بعد أن يكتسبوا عادة تمييز البطاقات يميلون إلى أن يفقدوا القدرة على الانفعال، وبما أن الطريقة الوحيدة لبلوغ الشيء في ذاته هي الإحساس بدلالته الانفعالية، فإنهم سرعان ما يبدءون في فقد حسهم بالواقع. لقد بين الأستاذ روجر فراي
Roger Fry
أنه من المحال على أغلب البشر أن ينظروا إلى ثور مغير (هاجم) كغاية في ذاته ويسلموا أنفسهم للدلالة الانفعالية لأشكال الثور، فنحن ما نكاد نميز بطاقة «ثور مغير» حتى نهيئ أنفسنا للفرار لا للتأمل،
1
ها هنا تكون عادة تمييز البطاقات مفيدة لنا، إلا أنها تضرنا عندما تحول بين الأشياء وبين استجابتنا الانفعالية لها رغم غياب أي داع للفعل أو العجلة، ليست البطاقة أكثر من رمز يوجز للجنس البشري المشغول دلالة الأشياء باعتبارها «وسائل»، يدلف الشخص العملي إلى غرفة حيث توجد كراس وطاولات وأرائك وسجادة ورف مصطلى. إنه يلحظ كلا منها فكريا، وإذا شاء أن يجلس أو يضع كأسا فسيعرف كل ما تلزم معرفته لتحقيق غرضه. إن البطاقة لا تبلغه إلا بالحقائق التي تخدم أغراضه العملية. أما الشيء ذاته الذي يقبع وراء البطاقة فلا يرد ذكره، أما الفنانون، من حيث هم فنانون
qua artist ، فلا يلقون بالا إلى البطاقات؛ فهم لا تعنيهم الأشياء إلا بوصفها وسائل إلى صنف معين من الانفعال، وهو مساو لقولنا إنهم يأبهون للأشياء إذ تدرك كغايات في ذاتها فحسب؛ فعندما «تدرك» الأشياء كغايات، هنالك فقط «تصير» وسائل إلى هذا الانفعال، وعندما نكف عن النظر إلى الأشياء في منظر طبيعي كوسائل إلى أي شيء، هنالك فقط يمكننا أن نشعر بالمنظر الطبيعي شعورا فنيا، ولكن عندما ننجح بالفعل في اعتبار أجزاء منظر طبيعي كغايات في ذاتها، كأشكال خالصة، فإن هذا يعني أن المنظر الطبيعي يصير، «بحكم طبيعته ذاتها»
ipso facto ، وسيلة إلى حالة ذهنية إستطيقية خاصة، ليس يعنى الفنانون إلا بهذه الدلالة الانفعالية الخاصة للعالم الفيزيائي؛ إنهم «يدركون» الأشياء بوصفها «غايات»؛ ولذا فإن الأشياء «تصير» بالنسبة لهم «وسائل» إلى النشوة.
إن عادة تمييز البطاقة وإغفال الشيء، والرؤية الفكرية بدلا من الرؤية الانفعالية، هي علة ذلك العمى المذهل، أو بالأحرى تلك الضحالة البصرية، لمعظم الراشدين المتحضرين؛ فنحن لا ننسى ما حرك شعورنا، ولكن ما اجتزأنا بتمييزه ولم نزد، فهو لا يخلف في ذهننا أثرا عميقا. لي صديق صاحب ذوق حدت به الرغبة يوما إلى أن يجري بعض الإزالة في حدائقه؛ إذ كانت تعج بعدد وافر من الأشجار، ولسوء حظه أبدى معظم أصدقائه وكل أسرته اعتراضهم، على أساس عاطفي أو إستطيقي، مؤكدين أن المكان لن يعود كعهدهم به لو أنه أعمل الفأس في شجرة واحدة، وقد ظل صديقي يائسا إلى أن اقترحت عليه يوما أن عليه كلما سنحت فرصة يكون فيها أهله جميعا بمنأى عن المكان في زيارات أو أسفار كما اعتادوا كثيرا، أن يجتث ما يمكنه اجتثاثه بشكل تام ونظيف أثناء غيابهم، ومذاك شحنت عدة مئات من الأشجار بالكارة
2
من متنزهه الصغير وساحات متعته، وإنني على ثقة مفعمة بالمرح أنه لو أفشى السر للأسرة فلن يصدقه أحد، وبإمكاني أن أسرد ما لا يحصى من أمثلة هذه البلادة الحسية تجاه الشكل. وكم ذا أسمر مع جماعة في غرفة كل ما فيها مألوف لنا فيما عدا الديكور الذي تغير مؤخرا، فإذا بي الوحيد الذي يلحظ ذلك، لقد بقيت الغرفة من جهة الأغراض العملية كما هي، وحدها الدلالة الانفعالية للغرفة كانت جديدة. سل صديقك عن ترتيب الأثاث في غرفة استقبال زوجته، سله أن يرسم مخططا للشارع الذي يذرعه يوميا: بنسبة عشرة إلى واحد سوف يتخبط بلا طائل، ليس غير الفنانين والدارسين ذوي الحساسية الفائقة وبعض البدائيين والأطفال، من يشعرون بدلالة الشكل شعورا حادا؛ بحيث يعرفون كيف تبدو الأشياء، هؤلاء يرون؛ لأنهم يرون انفعاليا، وما كان لأحد أن ينسى الأشياء التي حركت مشاعره. أما أولئك الذين لم يشعروا يوما بالدلالة الانفعالية للشكل الخالص فينسون. إنهم ليسوا أغبياء، ولا هم في مجملهم فاقدو الإحساس، ولكنهم يستخدمون أعينهم لجمع معلومات فحسب لا لقنص انفعال، هذه العادة في جعل وظيفة الأعين وقفا على التقاط الوقائع هي الحاجز الذي يقف بين معظم الناس وبين فهم الفن البصري، إنه ليس بالحاجز الذي لم يخترقه مخلوق قط، ولا هو من اللازم أن يبقى حائلا إلى أبد الدهر.
في عصور الوجد الروحي العظيم يتفتت الحاجز في بعض البقاع ويغدو أقل منعة، يقال لمثل هذه العصور بعامة العصور الدينية العظيمة، وما جانب الصواب من أطلق عليها هذا الاسم؛ فالدين في أغلب الأحيان هو حجر الشحذ الذي يرهف عليه الناس حسهم الروحي؛ فالدين، شأنه شأن الفن، موكل بعالم الواقع الانفعالي، ولا تعنيه الأشياء المادية إلا بقدر ما تكون ذات دلالة انفعالية؛ فالعالم الفيزيائي بالنسبة للمتصوف، كما بالنسبة للفنان، هو وسيلة إلى النشوة؛ فالمتصوف يشعر بالأشياء كغايات بدلا من أن يراها كوسائل، إنه يتلمس داخل كل الأشياء ذلك الواقع النهائي الذي يثير الوجد الانفعالي، وهو إن كان لا يبلغه من خلال الشكل الخالص فثم كما قلنا أكثر من طريق لبلوغ هذا البلد. إن الدين، كما أفهمه، هو تعبير عن الحس الفردي بالدلالة الانفعالية للعالم، ويجب ألا أندهش حين أجد أن الفن كان تعبيرا عن الشيء نفسه. وعلى كل حال فكلاهما يبدو أنه يعبر عن انفعالات مختلفة عن انفعالات الحياة ومتجاوزة لها، وكلاهما بالتأكيد له القدرة على أن ينقل الناس إلى مواجيد فوق بشرية، كلاهما سبيل إلى حالات ذهنية غير أرضية، ينتمي الفن والدين لعالم واحد؛ فهما هيئتان يحاول البشر فيهما أن يحصروا أخفى تصوراتهم وأكثرها شفافية ويوفروا لها أسباب البقاء، ليست مملكة الفن ولا مملكة الدين من هذا العالم؛ ومن الحق لذلك أن نعتبر الفن والدين توءمين متلازمين من مظاهر الروح، ومن الخطأ أن يتحدث البعض عن الفن كمظهر من مظاهر الدين.
إذا زعم أحد أن الفن والدين مظهران توءمان لشيء ما قد يسمى «الروح الدينية» على سبيل التيسير؛ فإن علي ألا أبتئس، غير أني أصر على التمييز بين «الدين» بالمعنى السائد للكلمة، و«الروح الدينية» التي نوردها، تمييزا ينفي كل احتمال لإثارة مماحكات تافهة، وعلي أن أصر على أنه إذا كان لنا أن نقول بأن الفن هو مظهر للروح الدينية فلا بد أن نقول الشيء نفسه عن كل دين موقر وجد يوما أو يمكن أن يوجد على الإطلاق، ويجب أن أصر فوق كل شيء على أنه أيا من كان القائل فيجب أن يقر بالذهن كلما قالها إن كلمة «مظهر» مختلفة عن كلمة «تعبير» اختلاف «مونموث» عن «مقدونيا» على أقل تقدير.
تتولد الروح الدينية عن اقتناع بأن بعض الأشياء أكثر أهمية من الأخرى؛ فبالنسبة لأولئك الذين تتملكهم هذه الروح ثمة تمييز قاطع بين ما هو كوني وغير مشروط من ناحية، وما هو محلي ومحدود من ناحية أخرى. إن الوعي بالكوني وغير المشروط هو ما يجعل الناس دينيين، وإن هذا الوعي، أو على الأقل تلك القناعة بأن بعض الأشياء غير مشروطة، وكونية، هو ما يجعل موقف الناس أحيانا تجاه المشروط والمحلي موقفا جافيا بعض الشيء، هذا الوعي هو ما يجعلهم يضعون العدل فوق القانون، والعاطفة فوق المبدأ، والحساسية فوق الثقافة، والذكاء فوق المعرفة، والحدس فوق الخبرة، والمثالي فوق المستطاع، وهذا الوعي هو ما يجعلهم أعداء العرف والتوفيق والحس المشترك. الحق أن جوهر الدين هو قناعة بأنه ما دامت بعض الأشياء لا متناهية القيمة؛ فمعظم الأشياء غاية في التفاهة، وما دامت لدينا كعكة الزنجبيل فلا علينا من طلائها الذهبي.
3
ومن غير المجدي للاهوتيين التحرريين أن يزعموا أن لا تنافر بين الطبيعة الدينية والطبيعة العلمية، صحيح أن ليس هناك تنافر بين الدين والعلم، ولكن هذا أمر مختلف تماما؛ فالحق أن فرضيات العلم لا تبدأ إلا حيث ينتهي الدين، ولكن كلا من الدين والعلم يولد متعديا يدخل أراضي الآخر دخولا غير مشروع. إن لكل من الشخص الديني والشخص العلمي تحيزاته، ولكن تحيزاتهما ليست من صنف واحد؛ فالذهن العلمي لا يستطيع أن يتخلص من تحيز ضد فكرة أنه قد توجد معلولات لا يدري (أي الذهن العلمي) عن عللها شيئا. أما الأذهان الدينية فليس بوسعها فقط أن تعتقد بمعلولات لا تعرف علتها وربما لن تعرفها أبدا، بل إنها لا ترى ضرورة مطلقة لافتراض أن لكل شيء علة، ويميل العلميون من الناس إلى أن يثقوا بحواسهم ويكذبوا عواطفهم عندما تناقضها، بينما يميل الدينيون إلى تصديق العاطفة حتى لو كانت الخبرة الحسية مناقضة لها، والدينيون بصفة عامة هم الأكثر انفتاحا عقليا؛ فافتراضهم بأن الحواس قد تخدع هو أقل غطرسة من افتراض أنه ليس من غير طريق الحواس قد يمكن لنا أن نبلغ الواقع؛ ذلك أنه كما قال دكتور مكتاجارت
McTaggart
ببراعة: «إذا كان إنسان حبيسا في منزل تكون شفافية النوافذ شرطا ضروريا لأن يرى السماء، غير أن من الحماقة أن نستنتج من ذلك أنه إذا مشى خارج المنزل فلن يمكنه أن يرى السماء لأنه لم يعد هناك أي زجاج يمكنه من خلاله أن يراها!»
4
إن أمثلة التعصب العلمي شائعة كالعليق، والمثال الكلاسيكي على ذلك هو موقف مهنة الطب تجاه الطب غير التقليدي. أذكر أنني في خريف عام 1912 كنت أمشي خلال
Grafton Galleries
مع رجل هو بالقطع واحد من أقدر رجال العلم المعاصرين ويعد واحدا من أكثرهم استنارة، عندما نظر هذا الرجل إلى لوحة لهنري ماتيس تمثل فتاة صغيرة مع قطة، تعجب قائلا: «ها أنا أكشف الأمر: إن صاحبنا مصاب بالاستجماتيزم.» ولقد كان ينبغي علي أن أدع هذه اللمحة التهكمية تمضي دون تعليق باعتبارها من القفشات الرشيقة التي اشتهر بها أمراء العلم عن حق، والتي كثيرا ما ينفحوننا بها حتى عندما لا يكونون بحضرة أعمال فنية، لولا أن الأستاذ تابع كشفه بجدية بالغة، مؤكدا لي أخيرا أنه لا توجد بالمعرض لوحة واحدة تمتنع على تشخيص الرمد، ولما كنت لا أزال أتوسم فيه حسن النية؛ فقد أوعزت إليه، بتردد، أنه ربما يكون التفاوت بين رؤى الإنسان السوي وبين اللوحات على الجدار راجعا إلى تحريف مقصود من جانب الفنانين، وهنا ثارت ثائرة الأستاذ وقال بجدية: «أتريد أن تقول لي إن هناك فنانا واحدا على ظهر الأرض لم يرد أن يجعل موضوعاته أشبه ما يمكن بالحياة؟ اطرد من رأسك مثل هذا الهراء السخيف.» إنها الحكاية القديمة: «طهر عقلك من الزيغ» أي من أي شيء يبدو غير محتمل أو غير سائغ للدكتور جونسون.
5
والدينيون من الجهة الأخرى عرضة لأن يشوبهم شيء من التعصب ضد الحس المشترك
common sense ، ومن جهتي فأنا أعترف أنني كثيرا ما أنجرف إلى الاعتقاد بأن الرأي القائم على الحس المشترك هو رأي خاطئ بالضرورة. لقد كان حسا مشتركا أن حسب الناس قديما أن العالم لا بد أن يكون مسطحا ولا بد أن الشمس تدور حوله، وما زال هذا ظنهم حتى انبرى أولئك النفر الخياليون الذين رأوا أن النظام الشمسي قد لا يكون بالبساطة التي ارتآها الحس المشترك وأكدها، وليس قبل أن يفرض أولئك القوم أصواتهم أن تلقت هذه الآراء ضربة شجت رأسها. لقد أعلن الدكتور جونسون، الممثل الأكبر للحس المشترك البريطاني، إذ لحظ أسراب السنونو تسف فوق البحيرات والأنهار، أن من المؤكد أن هذه الطيور تنام طوال الشتاء، «إن عددا منها يتكور معا، بأن يطير ويطير في حلقة، ثم تقذف هذه الطيور نفسها في كومة إلى تحت الماء وترقد في قاع أحد الأنهار.» وكم كان حساسا أيضا حين تخلص من مثالية باركلي
Berkeley’s Idealism - «ضاربا بقدمه حجرا كبيرا بقوة عنيفة.» «إنني أدحضها هكذا.» إنني لأسأل جادا: هل كانت نظرة الحس المشترك هي النظرة الصحيحة في أي وقت من الأوقات؟
منذ عهد قريب كسب رجال الحس والعلم إلى جانبهم أنصارا قدموا إلى قضيتهم أخص ما كانت تفتقر إليه؛ شيئا من الفكر الجوهري. إن أولئك النفر البارعين والصادقين، أصحاب المذهب العقلي بكمبردج، وعلى رأسهم الأستاذ جورج مور
G. E. Moore
الذي أدين بفضل كبير لكتابه «مبادئ علم الأخلاق»
، هم بطبيعة الحال دينيون للغاية ويعيشون بإيمان مشبوب بالقيمة المطلقة لحالات ذهنية معينة، كما أنهم وقعوا في حب نتائج العلم ومناهجه، ورغم ذلك فهم يدركون، لذكائهم البالغ، أن الحجج التجريبية لا تجدي شيئا في تأييد نظرية ميتافيزيقية أو في تفنيدها، وأن نتائج العلم جميعها قائمة في صميمها على منطق سابق على التجربة، وهم يدركون أيضا أن العواطف هي واقعية بقدر واقعية الإحساسات؛ ومن ثم فإنهم يجدون أنفسهم في مواجهة الصعوبة التالية: إذا خطا شخص خطوة إلى الأمام ليقول إن لديه قناعة قبلية
a priori
منزهة عن الغرض بخيرية انفعالاته نحو القداس فإنه يضع نفسه في ذات موقف الأستاذ مور الذي يشعر بقناعة مماثلة بخيرية انفعالاته نحو الحقيقة، فإذا حق للأستاذ مور أن يستدل على خيرية إحدى الحالات الذهنية بالاستناد إلى مشاعره، فلماذا لا يحق لغيره أن يستدل على خيرية حالة ذهنية أخرى من مشاعره؟ إن عقليي كمبردج ليضيق صدرهم بمثل هؤلاء الخوارج، وهم (أي عقليو كمبردج) يؤكدون لهم ببساطة أنهم لا يشعرون حقا بما يقولون إنهم يشعرون به، ولقد بدأ بعضهم يطبقون مناهجهم المفحمة على الإستطيقا، فيؤكدون لنا حين ننبئهم بما نشعر به تجاه الشكل الخالص أننا في الحقيقة لا نشعر بشيء من ذلك، إلا أن هذه الحجة تصدمني دائما بافتقارها إلى الحذق.
وبقدر ما يكره رجل العلم الشائع أن يذكر الحقيقة أو أن يسمع ذكرها، فهو لا يعرف غاية للحياة غير العمر الطويل الهانئ. وها هنا نقطة التعارض ومنشب الجدل بينه وبين الديني؛ وهي أيضا عذره في أن يكون داعية يوجيني.
6
إنه يأبى أن يعتقد في أي واقع غير واقع العالم الفيزيائي؛ فهو يجزم بهذا الواقع جزما دوجماويا؛
7
فالإنسان عنده هو حيوان يرغب مثل باقي الحيوانات في الحياة، وهو مزود بحواس ويريد مثل باقي الحيوانات أن يشبعها: وهو يهيب بنا أن نجد في هذه الحقائق تفسيرا لكل طموح بشري؛ فالإنسان يريد أن يعيش ويريد أن يقضي وقتا سعيدا، ولكي يحقق هذه الغايات فقد ابتكر آلية معقدة. إن جميع الانفعالات، في قول رجل العلم الشائع، يجب أن ترد إلى الحواس؛ فجميع العواطف الأخلاقية والدينية والجمالية مستمدة من الحاجات الجسمية، تماما مثلما تقوم الأفكار السياسية على غريزة الاجتماع التي هي ببساطة نتاج رغبة في الحياة الطويلة والمريحة. إننا نطيع القانون الداخلي الذي يحظر ركوب دراجة على رصيف المشاة؛ لأننا نرى أن هذا القانون يؤدي بنا في النهاية إلى حياة ممتدة وسائغة، ونحن لأسباب مماثلة جدا (هكذا يقول رجل العلم) نثني على الشخصيات الشهمة والأعمال الفنية الجليلة. «ما هكذا الأمر.» كذلك يرد القديسون والفنانون وعقليو كمبردج وكل ذي معدن طيب؛ لأنهم يشعرون بأن عواطفهم الدينية والجمالية والأخلاقية ليست مشروطة بشكل مباشر أو غير مباشر بحاجات جسيمة، ولا هي في الحقيقة مشروطة بأي شيء في العالم الفيزيائي. إنهم يحسون أن بعض الأشياء خير لا لأنها وسائل إلى الهناءة الجسمية، بل لأنها خير في ذاتها، فليست قيمة النشوة الإستطيقية أو الدينية متوقفة بأي حال على ما تقدمه من إشباع جسمي، ثمة أشياء في الحياة لا يمكن لقيمتها أن تتعلق بالعالم الفيزيائي؛ أشياء قيمتها ليست نسبية بل مطلقة، عن هذه الأمور أتحدث بحذر ودون سلطة، ولا يعورني في غرضي المباشر - وهو أن أعرض تصوري للشخصية الدينية - سوى أن أقول إن من الناس من يبدو لهم التصور المادي للعالم مفسرا لتلك العواطف التي يحسونها بيقين أعلى ونزاهة مطلقة. حقيقة الأمر هي أن رجال العلم بعد أن دفعوا بنا إلى عادة محاولة تبرير مشاعرنا وحالاتنا الذهنية بردها إلى العالم الفيزيائي، قد حملوا بعضنا بالترهيب على أن يعتقدوا بأن ما لا يمكن تبريره بهذه الطريقة فهو غير موجود.
إنني أدعوه دينيا ذلك الإنسان الذي يوقن أن هناك أشياء هي خير في ذاتها وأن الوجود الفيزيائي ليس من بينها، فيسعى على حساب الوجود الفيزيائي إلى ما يبدو له خيرا؛ ومن ثم فإن كل أولئك الذين يعتقدون بإخلاص عنيد أن الحياة الروحية أهم من الحياة المادية، هم في فهمي دينيون. لقد رأيت في باريس على سبيل المثال رسامين صغارا، مفلسين ضامرين مقرورين مهلهلي الثياب، وليست زوجاتهم ولا أولادهم بأفضل منهم حالا، رأيتهم طيلة يومهم في نشوة محمومة منغمسين في رسم لوحات لا يؤمل لها رواج، ومن الجائز تماما أنهم كانوا حريين بأن يقتلوا أو يصيبوا أي شخص يقترح عليهم التوفيق بين فنهم ومتطلبات السوق، وحين كانت أدواتهم تنفذ ورصيدهم ينقطع بالكامل كانوا يبيعون الجرائد خفية ويمسحون الأحذية حتى يمكنهم أن يواصلوا خدمة ولوعهم المسيطر، لقد كانوا دينيين بامتياز؛ فجميع الفنانين دينيون، وكل اعتقاد عنيد هو اعتقاد ديني. إن إنسانا تملكه حب الحقيقة بحيث آثر السجن أو الموت على الاعتراف بإله لا يؤمن بوجوده، هو إنسان ديني وشهيد في سبيل الدين شأنه شأن سقراط ويسوع؛ ذلك أنه جعل لقيمه معيارا خارج العالم الفيزيائي.
يقال في مجال الأشياء المادية إن نصف رغيف خير من انعدام الخبز، لكن الأمر في مجال الأشياء الروحية غير ذلك. إن رجل السياسة سوف يؤيد مشروع قانون يعرف قصوره إذا ما رأى أن هذا القانون قد يعود بفائدة ما، إنه يدلي باعتراضاته ثم يصوت مع الأغلبية، وربما يكون تصرفه سليما، أما في المسائل الروحية فمثل هذه التسويات غير ممكنة، إن الفنان لا يسعه أن يقدم تنازلا لكي يرضي الجمهور؛ لأنه إذا فعل ذلك يكون قد ضحى بالشيء الذي يجعل للحياة قيمة، فإذا كان عليه أن يكذب ويعبر عن شيء غير ما يشعر به فلن يعود مسكونا بالحقيقة، وماذا يجديه أن يربح العالم كله ويخسر روحه الخاص؟ إنه يعرف أن في دخيلته شيئا أهم من الوجود الفيزيائي، شيئا ليس الوجود الفيزيائي إلا وسيلة إليه؛ فوجود احتمال بأن يحس هذا الشيء ويعبر عنه يجعل من الخير له أن يتشبث بالحياة، ولكنه ما لم يشعر بهذا الشيء ويعبر عنه على خير وجه فمن الأفضل له أن يموت.
الفن والدين إذن طريقان بهما يهرب البشر من الحدث العرضي إلى الوجد، وبين الوجد الإستطيقي والوجد الديني ترابط أسري؛ فالفن والدين وسائل إلى حالات ذهنية متشابهة، وإذا جاز لنا أن نتغاضى عن علم الإستطيقا ونتفحص، متجاوزين انفعالنا وموضوعه، ما في ذهن الفنان، فقد نقول (بتبسط كبير) إن الفن من تجليات الحس الديني، فإذا كان الفن تعبيرا عن انفعال - مثلما هي قناعتي - فهو تعبير عن ذلك الانفعال الذي هو القوة الحيوية في كل دين، أو هو على أية حال يعبر عن انفعال نحو ذلك الذي هو جوهر الكل، وقد نقول إن كلا من الفن والدين هو من مظاهر الحس الديني للإنسان، إذا كنا نعني ب «الحس الديني للإنسان» حسه بالواقع النهائي. أما الذي يجمل بنا ألا نقوله فهو أن الفن تعبير عن أي ديانة معينة؛ لأننا بذلك نخلط بين الروح الدينية وبين القنوات التي أجبرت فيها هذه الروح أن تجري. إنه خلط بين النبيذ والقارورة؛ فقد يكون للفن شأن كبير بذلك الانفعال الكوني الذي وجد تعبيرا فاسدا ومتلعثما في ألف عقيدة مختلفة: ولكنه لا شأن له بالوقائع التاريخية والخيالات الميتافيزيقية، ومما يؤكد ذلك أن كثيرا من فنون التصوير الوصفي هو أبواق دعاية وشروح للعقائد الدينية، وهو أيضا استعمال مناسب جدا للتصوير الوصفي، ويقينا أن موطن الضعف في كثير من الصور الجيدة هو العنصر الوصفي المقحم من أجل التهذيب والإرشاد، ولكن بقدر ما تكون صورة ما عملا فنيا فلن يكون لها شأن بالعقائد والنظريات أكثر من شأنها باهتمامات الحياة اليومية وانفعالاتها. (2) الفن والتاريخ
Art and History
على أن هناك صلة بين الفن والدين، حتى بالمعنى الشائع والمحدود للكلمة، هناك صلة تاريخية: أو بمعنى أدق هناك صلة أساسية بين تاريخ الفن وتاريخ الدين. إن الأديان لا تتحلى بالحيوية والصدق ما لم تكن مفعمة بما يفعم كل فن عظيم - الخميرة الروحية. ومن الخطأ، على ذكر ذلك، أن نفترض أن الدين الدوجماوي لا يمكن أن يكون حيويا وصادقا. إن بالعواطف الدينية ميلا إلى أن تلقي بمرساتها إلى العالم الأرضي بواسطة سلسلة من الدوجما، هذا الميل هو العدو المندس داخل كل حركة دينية، وقد يكون الدين الدوجماوي حيويا وصادقا، بل إن اللاهوت والشعيرة كانا فيما مضى هما بوق الثورات الروحية وطبلها، غير أن العصور الدينية الدوجماوية أو الخالية من الفكر، عصور الفورة الروحية إذ يعلي الناس الروح فوق الجسد والعواطف فوق الفكر، هي العصور التي يشيع فيها الإحساس بالدلالة الروحية للعالم. الأمر إذن هو أمر بشر يقطنون على تخوم الواقع ويصغون بشغف إلى حكايا الرحالة، هكذا قدر أن تكون العصور الدينية الكبرى هي بعامة العصور الكبرى للفن، أما حين يأخذ حس الواقع في التبلد ويتضلع الناس في التلاعب بالنعوت والرموز ويصيرون أكثر آلية وتدجينا وتخصصا وأقل قدرة على الإحساس المباشر بالأشياء، هنالك تهن قدرتهم على الهروب إلى عالم الوجد ويبدأ الفن والدين في الانحدار، حين يفتقر الأغلبية إلى الانفعال الذي منه جبل الفن والدين، ويفتقرون حتى إلى الحساسية التي يستجيبون بها لما تقدمه القلة التي لا تزال قادرة على الإبداع، عندئذ يصاب الفن والدين بالعرج، وبعدها لا يتبقى للفن والدين إلا اسمهما، ويسمى الإيهام والملاحة فنا، وتسمى السياسة والابتذال العاطفي دينا.
والآن، إذا كنت مصيبا فيما أراه من أن الفن هو مظهر - علامة لا تعبير - للحالة الروحية للإنسان، فنحن في تاريخ الفن إذن سنقرأ التاريخ الروحي للجنس البشري، وليس من المستغرب عندي أن أولئك الذين كرسوا حياتهم لدراسة التاريخ لا بد أن يستاءوا حين يأتي شخص مثلي يعترف بأن فهمه مقصور على طبيعة الفن ويلمح بأن فهمه لعمله قد يؤهله للحكم على عملهم، فلأكن دمثا إزاءهم جهد ما أستطيع. إنني آخر من يحق له، وآخر من يميل حقا إلى أن يدعي شرف التلقب بلقب «عالم تاريخي»، فليس أحد أقل مني التفاتا إلى اللغو التاريخي أو يفوقني حيرة في فهم ما يراد ب «علم التاريخ» على وجه الدقة. غير أنه إذا كان للتاريخ أن يكون أكثر على أي نحو من مجرد سجل للتسلسل الزمني للوقائع، وإذا كان له أن يعنى بتحولات العقل والروح، فإن لي إذن أن أؤكد أننا لكي نقرأ التاريخ قراءة صحيحة فلا بد لنا من أن نعرف الأعمال الفنية التي أنتجها كل عصر، بل أن نعرف أيضا قيمتها كأعمال فنية، وإذا كانت الدلالة الإستطيقية للأعمال الفنية، أو انعدام الدلالة، شاهدة حقا على الحالة الروحية؛ فإن الشخص الذي لديه القدرة على إدراك الدلالة لا بد أن يكون في وضع يسمح له بأن يدلي بدلوه فيما يتعلق بالحالة الروحية للأشخاص الذين أنتجوا تلك الأعمال ولأولئك الذين تذوقوها، وإذا كان للفن أن يكون ذلك الشيء الذي يفترض دائما أن يكونه، فإن تاريخ الفن لا بد أن يكون فهرسا للتاريخ الروحي للجنس البشري، يبقى أن المؤرخ الذي يريد أن يستخدم الفن كفهرس ينبغي ألا تقتصر ملكاته على الملاحظة الدقيقة لرجل العلم وعالم الآثار، بل أن يمتلك أيضا حساسية مرهفة؛ ذلك أن الدلالة الإستطيقية للعمل هي ما يقدم مفتاحا لفهم الحالة الذهنية التي أنتجته؛ ومن ثم فإن القدرة على نسبة عمل فني معين إلى حقبة معينة لا تغني فتيلا ما لم تصحبها قدرة أخرى على إدراك دلالته الإستطيقية.
هل يتعين علينا لكي نفهم تاريخ عصر من العصور فهما كاملا أن نعرف تاريخ الفن في ذلك العصر ونفهمه؟ يبدو ذلك، إلا أن هذه الفكرة لا يحتملها علماء التاريخ، وإلا فأية نازلة تحل بالمبدأ العلمي الأكبر: مبدأ انقسام العلم إلى مباحث مستقلة مسيجة منيعة؟ مرة أخرى هذا مبدأ جائر؛ إذ من المتيقن أننا لكي نفهم الفن فلن نحتاج إلى معرفة أي شيء كان عن التاريخ، ونحن ربما كان بإمكاننا أن نستمد من الأعمال الفنية استدلالات عن نوعية الأشخاص الذين صنعوها، إلا أن محادثاتنا مع أحد الفنانين مهما تكن طويلة وحميمة فهي لن تنبئنا إن كانت لوحاته جيدة أم رديئة، إنما يتعين علينا أن نشاهدها، وعندئذ سوف نعرف؛ فقد أكون متحيزا أو غير صادق فيما أقول عن العمل الفني لصديقي، غير أن دلالة العمل الإستطيقية ليست أوضح لي من دلالة عمل فني فرغ منه مبدعه منذ خمسة آلاف عام، فلكي ندرك عملا فنيا إدراكا كاملا فلسنا بحاجة لشيء غير الحساسية. إن الفن ليتحدث عن نفسه إلى من يستطيعون سمعا، بينما لا تتحدث الوقائع والتواريخ بشيء، وعلى المرء إن أراد أن يغزل شيئا من هذه المادة أن يتلقط المعلومات من النجود والأغوار التماسا لنتف من الأخبار والاقتراحات المساعدة، وليس تاريخ الفن استثناء لهذا المبدأ، فإذا شئت أن أدرك فن شخص فلست بحاجة إلى أن أعرف أي شيء عن الفنان، وبوسعي أن أحكم إن كانت هذه اللوحة أفضل من تلك دون عون من التاريخ، أما إذا حاولت أن أبين أسباب تدهور فنه فسوف يعينني أن أعرف أنه قد أصيب بمرض خطير، أو أنه قد تزوج امرأة دفعته إلى أن ينتج للارتزاق فقط؛ فأنا حين أتبين التدهور إنما أقيم حكما إستطيقيا بحتا، وحين أعلل له أتحول إلى مؤرخ، يتعين إذن أننا لكي نفهم تاريخ الفن ينبغي أن نعرف شيئا عن أنواع أخرى من التاريخ، وربما يكون الفهم الدقيق لأي نوع من التاريخ منوطا بفهم كل نوع من التاريخ، ربما يكون تاريخ أي عصر أو حياة هو كل لا يتجزأ، وتلك فكرة أخرى لا يحتملونها! فأي خطب يلم بالمتخصص؟ ماذا يكون مصير تلك الخلاصات التاريخية الهائلة التي تفصل فيها أنشطة الإنسان المتعددة عن بعضها البعض بحرص شديد؟ إن العقل ليجفل رعبا من الرؤية الهولية لاستنتاجاته الخاصة.
ولكن هل يعنيني هذا الأمر على أية حال؟ إنني لست مؤرخا للفن ولا لأي شيء آخر، ولا يهمني بحال متى صنعت الأشياء أو لماذا صنعت، إنما تعنيني دلالتها الانفعالية بالنسبة لنا، فكل شيء عند المؤرخ هو وسيلة لوسيلة معينة أخرى. أما بالنسبة لي فكل ما يهم هو وسيلة مباشرة للانفعال. إنني أكتب في الفن لا في التاريخ، وليس يعنيني التاريخ إلا بقدر ما يسعفني في إيضاح فرضيتي، ولا يعنيني في شيء أصدق التاريخ أم كذب؛ حيث إن نظريتي غير قائمة على التاريخ بل على الخبرة الشخصية، وليست مستندة إلى الوقائع بل إلى المشاعر؛ فالصدق والكذب التاريخيان لا وزن لهما عند من يحاولون التعامل مع حقائق الواقع؛ فهؤلاء لا يعوزهم أن يسألوا «هل حدث هذا؟» بل يعوزهم أن يسألوا فحسب «هل أشعر بهذا؟» ومن حسن حظنا أن الأمر كذلك؛ إذ لو كان على أحكامنا عن الأشياء الواقعية أن تنتظر حتى يأتيها اليقين التاريخي فقد يكون عليها أن تنتظر إلى الأبد، إلا أن من الشائق أن ننظر إلى أي حد يتفق ما نحن واثقون منه مع ما يجب أن نتوقعه. لقد كانت فرضيتي الإستطيقية - أن الصفة الجوهرية في أي عمل فني هي الشكل الدال - قائمة على خبرتي الإستطيقية، وأنا من خبراتي الإستطيقية على ثقة. أما عن فرضيتي الثانية - أن الشكل الدال هو تعبير عن انفعال خاص تجاه الواقع - فلست واثقا منها بحال، ورغم ذلك فإنني أفترض أنها صحيحة وأمضي قدما فأقترح أن حس الواقع هذا يجعل الناس تولي الدلالة الروحية للعالم أهمية أكبر من الدلالة المادية، وأنه يجعلهم أميل إلى الشعور بالأشياء كغايات بدلا من تمييزها كمجرد وسائل، وأن حسا بالواقع هو في حقيقة الأمر جوهر الصحة الروحية، فإن صح ذلك فسوف نتوقع أن نجد أن العصور التي توقف فيها إبداع الشكل الدال هي عصور بات فيها حس الواقع كليلا، وأن هذه العصور هي عصور فقر روحي، وسوف نتوقع أن منحنيات الفن ومنحنيات التوقد الروحي تصعد معا وتهبط معا. وفي الفصل القادم سألقي نظرة على تاريخ دورة من دورات الفن بقصد تتبع حركة الفن واكتشاف مدى مواكبة تلك الحركة للتغيرات التي تعتور الحالة الروحية للمجتمع. إن وجهة نظري عن صعود الفن في العالم المسيحي وانحداره وسقوطه قائمة بالكامل على سلسلة من الأحكام الإستطيقية المستقلة أثق بصحتها ثقة كبيرة وأعتد كثيرا بذلك. إنني أدعي القدرة على التمييز بين الشكل الدال والشكل غير الدال، وسوف يشوقني أن أنظر إن كان انحدار في دلالة الأشكال - أي تدهور الفن بتعبير آخر - يتزامن بصفة عامة مع هبوط الحس الديني، وسوف أتوقع أن أجد أنه حيثما سمح الفنانون لأنفسهم أن تضل عن مهمتها الحقيقية، وهي خلق الشكل، تحت إغراء اهتمامات أخرى غير ذات صلة بالفن؛ فإن المجتمع يكون إذاك في تفسخ روحي، وأتوقع أن العصور التي ضاع فيها حس الدلالة الشكلية تماما في غمرة الانشغال بالواضح سوف يثبت أنها كانت عصور قحط روحي؛ ولذا فإنني فيما أتتبع مصاير الفن خلال أربعة عشر قرنا من الزمان سوف أحاول أن أضع نصب عيني ذلك الشيء الذي قد يكون الفن مظهرا له - أعني حس الإنسان بالواقع النهائي.
أن ننقد عملا من أعمال الفن نقدا تاريخيا هو أن نتصرف بسخف من أسكره العلم، فلم يحدث قط أن صدر عن دماغ مشعوذ نظرية أكثر شؤما من نظرية التطور في الفن. إن جوتو لم يزحف، يرقة، حتى يرفرف تيتيان، فراشة، إن من إساءة الفهم لفن شخص ما أن نعتبره مؤديا إلى فن شخص آخر؛ فإطراء عمل فني أو تسفيهه أو الاهتمام به لأنه يؤدي أو لا يؤدي إلى عمل فني ثان، هو بمثابة اعتباره شيئا آخر غير عمل فني؛ فقد تكون للصلة بين عمل فني وآخر شأن كبير بالتاريخ، ولكن هيهات أن يكون لها شأن بالتذوق الفني؛ فما إن نشرع في النظر إلى عمل ما دون اعتباره غاية في ذاته حتى نكون قد غادرنا عالم الفن؛ فرغم أن التطور في فن التصوير من جوتو إلى تيتان قد يكون ذا أهمية من الوجهة التاريخية، فما كان له أن يؤثر على القيمة الفنية لأية لوحة معينة؛ فذاك أمر غير ذي بال على الإطلاق من الوجهة الإستطيقية. إن كل عمل من أعمال الفن ينبغي أن يقيم وفق حالته الموضوعية ودون تأثر بأي اعتبارات أخرى.
ليكن القارئ إذن على ثقة بأني لن أقوم في الفصل القادم بوضع أحكام إستطيقية في ضوء التاريخ، بل سأقوم بقراءة التاريخ في ضوء أحكام إستطيقية؛ فبعد أن أضع أحكامي، بمعزل عن أية نظرية إستطيقية أو غير إستطيقية، سأكون مشوقا لأن أرى إلى أي حد تتفق النظرة التاريخية التي قد تستند إلى هذه الأحكام مع الفرضيات التاريخية المقبولة، فإذا صحت الأحكام التي وضعتها والتواريخ التي يقدمها المؤرخون لترتب على ذلك أن بعض العصور قد أنتجت فنا أجود من بعضها الآخر، ولكن مما لا خلاف عليه حقا أن التنوع في الدلالة الفنية للعصور المختلفة هو تنوع هائل، وسوف يشوقني أن أرى نوع العلاقة التي يمكن أن تتأسس بين الفن والعصر الذي أنتجه، وإذا صحت فرضيتي الثانية (أن الفن هو تعبير عن انفعال نحو الواقع النهائي) فإن العلاقة بين الفن وعصره ستكون علاقة محتومة ووثيقة. في تلك الحالة سينطوي كل حكم إستطيقي على نوع معين من الحكم عن الحالة الذهنية العامة للفنان ومحبيه المعجبين به، الحق أن كل من يقبل فرضيتي الثانية قبولا مطلقا بكل متضمناتها الممكنة - وهو أمر يفوق ما أريد أن أفعله - فلن يكتفي بأن يرى في تاريخ الفن التاريخ الروحي للجنس البشري، بل لن يسعه أبدا أن يفكر في أحدهما دون أن يفكر في الآخر.
فإذا كنت لا أشتط في الرأي إلى هذا الحد، فإنني أقترب منه كثيرا؛ فمن المتيقن أن اعتبار الفن مفتاحا للتاريخ هو رأي أكثر استساغة وأقل امتناعا من أن نتخيل أن التاريخ يمكن أن يعيننا على إدراك الفن، إنني أبحث في عصور التوهج الروحي عن الفن العظيم، ولست أعني بعصور التوهج الروحي العصور السعيدة أو الرومانسية أو الإنسانية أو المستنيرة، إنما أعني العصور التي كان فيها الناس لسبب أو لآخر مكترثين بأرواحهم اكتراثا فائقا، وغير مكترثين بأجسادهم. لقد كانت هذه العصور في نصف الحالات عصور خرافة وقسوة؛ فقد يؤدي الانشغال بالروح إلى الخرافة، ويؤدي الاستخفاف بالجسد إلى القسوة، وما قلت على الإطلاق إن عصور الفن العظيم كانت عصور تعاطف مع الطبقات الوسطى؛ فالفن والحياة الهادئة، في ظني، متنافران، ولا بد كي يوجد الفن من وجود بعض التوتر والاضطراب؛ فهل علي أن أضيف أنه في أدفأ عصور المادية قد يظهر فنانون عظام ويزدهرون؟ نعم بالطبع، ولكن حيثما يكن إنتاج الفن العظيم شائعا متدفقا متوافرا سأتوقع أن أجد جيلا متململا قلقا، كذلك كلما تبينت حقبة من الفورة الروحية، فسوف أبحث غير بعيد عن تمثلها في شكل دال، غير أن الفورة يجب أن تكون روحية وأصيلة، فما يكون لدوامة من العاطفية أو السعار السياسي أن تثير شيئا رفيعا،
8
فإلى أي حد يؤدي الوجد العام إلى تنشيط إنتاج الفن أو تؤدي الأعمال الفنية إلى الوجد العام في عصر معين من العصور؟ هذا ما سوف يتضح عندما أحاول في الفصل القادم أن أرسم مخططا للمنحدر المسيحي: صعوده وانحداره وسقوطه. (3) الفن والأخلاق
Art and Ethics
يبقى بيني وبين المواضع السارة من التاريخ رغم ذلك حاجز صفيق واحد؛ فليس بوسعي أن ألهو وأخضخض في برك الماضي وضحله قبل أن أجيب عن سؤال هو من العبث بحيث لا يكل الحمقى من ترديده: «ما هو التبرير الأخلاقي للفن؟» إنهم على حق بالطبع أولئك الذين يلحون على أن إبداع الفن يجب أن يبرر على أساس أخلاقي؛ فجميع النشاطات البشرية يجب أن تبرر أخلاقيا. إن من صلاحيات الفيلسوف أن يطالب الفنان بإثبات أن ما يقوم به هو إما خير في ذاته وإما وسيلة إلى الخير، وإن من واجب الفنان أن يجيب: «الفن خير؛ لأنه يعلو بنا إلى حالة من النشوة أفضل بكثير مما يمكن أن يخطر ببال الداعية الأخلاقي البليد الحس، وفي هذا وحده الكفاية.» إن الفنان على حق من الوجهة الفلسفية، كل ما في الأمر أن الفلسفة ليست بهذه البساطة التي يجيب بها الفنان، فلنحاول إذن أن نجيب بطريقة فلسفية.
يحقق الداعية الأخلاقي فيما إذا كان الفن إما خيرا في ذاته وإما وسيلة إلى الخير، وقبل أن نجيبه علينا أن نسأل ماذا يعني بكلمة «خير»، لا لأن لدينا بها أدنى شك، بل لنحمله على أن يفكر. الحق أن الأستاذ جورج مور
G. Moore
قد أثبت بصفة نهائية تقريبا في كتابه «مبادئ علم الأخلاق»
أننا جميعا بكلمة «خير» نعني الخير ولا أكثر؛ فكلنا نعرف جيدا ما نعنيه رغم عجزنا عن تعريفه، فكلمة «خير» لا يمكن أن تعرف أكثر مما تعرف كلمة «أحمر»: ف «الكيفية»
quality
لا يمكن أن تعرف، غير أننا نعرف تماما ما نعنيه عندما نقول عن شيء إنه «خير» أو «أحمر»، ذاك حق بلغ من الوضوح مبلغا أقلق الفلاسفة التقليديين (ولا نقول أغضبهم) قلقا عظيما.
إن الفلاسفة التقليديين لا يوافقوننا بحال حول ما نعنيه بكلمة «خير»، وكل ما هم واثقون منه هو أننا لا يمكننا أن نعني ما نقول، ولا يزالون مغرمين بافتراض أن «الخير» يعني اللذة، أو أن اللذة على أي حال هي الخير الوحيد الذي يعد غاية. هاتان قضيتان مختلفتان غاية الاختلاف، أن الخير يعني اللذة، وأن اللذة هي الخير الوحيد، كان هذا رأي الهيدونيين
Hedonists (أصحاب مذهب اللذة) وما زال هو رأي أي فلول من النفعيين
Utilitatians (أصحاب مذهب المنفعة) تكون قد بقيت إلى غضون القرن العشرين، إنهما تتشرفان بلقب المغالطتين الأخلاقيتين الوحيدتين اللتين تستحقان عناء أي كاتب في الفن، ولست أتصور لمحة منطقية أكثر رهافة وإقناعا مما قاله الأستاذ مور في دحض القضيتين معا، ولكن ما يكون لي أن أفعل بتعثر ما فعله الأستاذ مور بتأنق، ولن أستدرج إلى محاولة نسخ جدلياته فأجلب على نفسي سخرية الملمين بكتاب «مبادئ علم الأخلاق» أو أفسد متعة غير الملمين به ممن سيفعلون عين الصواب حين يلتهمون هذه الرائعة الدقيقة والمنهجية، إنما يلزمني لغرضي الحالي أن أستعير سهما واحدا فقط من تلك الترسانة العامرة.
سأوجه هذا السؤال إلى من يؤمن بأن اللذة هي الخير الوحيد: هل يتحدث، شأنه شأن جون ستيوارت مل أو أي شخص آخر سمعت به، عن لذات «أعلى وأدنى» أو «أجود وأردأ» أو «رفيعة ووضيعة»؟ وإذا كان الأمر كذلك، ألا يدرك أنه قد تخلى عن قضيته؟ إذ عندما يقول بأن إحدى اللذات «أعلى» أو «أفضل» من الأخرى فهو لا يعني أنها أكبر في «الكم» بل أرفع في «الكيف».
في صفحة 7 من كتاب «المذهب النفعي»
Utilitarianism
يقول جون ستيوارت مل
J. S. Mill : «إذا كانت إحدى اللذتين، لدى أولئك الذين يلمون إلماما كافيا بالاثنتين، تتسنم مرتبة أعلى من الأخرى بحيث يفضلونها عليها رغم علمهم بأنها مصحوبة بقدر أكبر من القلق، ولا يتنازلون عنها مقابل أي كم من اللذة الأخرى التي يقدرون عليها بطبيعتهم، فإن لنا أن نعزو إلى المتعة المفضلة تفوقا في الكيف يرجح الكم رجحانا يجعله ضئيل القيمة عند المقارنة».
ولكن إذا صح أن اللذة هي الخير الوحيد، لما أمكن أن يكون هناك سوى معيار واحد لتقدير اللذات - هو كمية اللذة. ولما أمكن لكلمة «أعلى» أو «أفضل» أن تعني غير الاشتمال على لذة أكثر، أما الحديث عن «لذات أفضل» بأي معنى آخر فهو يجعل خيرية الخير الوحيد المعتبر كغاية في ذاته معتمدة على شيء ما هو «بحكم الفرضية»
ex hypothesi
ليس خيرا في ذاته. إن مل
Mill
أشبه بشخص جعل صفة الحلاوة هي الصفة الخيرة الوحيدة في المربى ثم أعلن أنه يفضل مربى تيبري على مربى كروس وبلاكويل، لا لأنها أكثر حلاوة بل لأنها تحوز نوعا أفضل من الحلاوة، وهو إذ يفعل ذلك يكون قد تخلى عن صفة الحلاوة كمعيار نهائي ونصب مكانها صفة أخرى. إذن عندما يتحدث مل، شأن أي شخص آخر، عن لذات «أفضل» أو «أعلى» أو «أرفع» فإنه يتخلى عن اللذة كمعيار نهائي، وبذلك يعترف أن اللذة ليست هي الخير الوحيد. إنه يشعر أن بعض اللذات أفضل من بعض، ويقدر لكل منها قيمتها وفق درجة اشتمالها على تلك الكيفية التي نميزها جميعا ولكن لا يقدر أحد على تعريفها؛ وهي صفة الخيرية
goodness ، فحين نقول: لذات أعلى وأدنى، رفيعة ووضيعة، فنحن نعني ببساطة «لذات» أكثر «خيرا» أو أقل خيرا؛ فهناك إذن كيفيتان مختلفتان؛ اللذاذة والخيرية؛ فاللذة، بين غيرها من الأشياء قد تكون خيرا، ولكن اللذة لا يمكن أن تعني الخير، ونحن لا يمكن بكلمة «خير» أن نعني «لذيذ»؛ لأن هناك كما رأينا صفة، هي الخيرية، متميزة عن اللذة بحيث إننا نتحدث عن لذات أكثر أو أقل خيرا دون أن نعني لذات أكثر أو أقل لذاذة، نحن إذن بكلمة «خير» لا نعني اللذة، ولا اللذة هي الخير الوحيد.
ويمضي الأستاذ مور
Moore
قدما ليتساءل أي الأشياء هي خير في ذاتها؛ أي كغاية بتعبير آخر، وخلص إلى نتيجة نوافق عليها جميعا (على قلة من عثر منا في يوم من الأيام على حجج مقنعة ومنطقية تثبت هذه النتيجة): يبين مور أن «حالات ذهنية»
states of mind
معينة هي وحدها الخير بوصفه غاية، أما أولئك الذين لا يسيغون المنطق إلا أقل القليل فسوف يجدون برهانا بسيطا ومرضيا على هذه النتيجة فيما يسمى ب «منهج العزل»
method of isolation .
من شأن الشيء الذي هو خير كغاية في ذاته أن يحتفظ على كل حال ببعض قيمته حين يعزل عزلا تاما. إنه سيحتفظ بكل قيمته كغاية، أما الشيء الذي هو خير كوسيلة فحسب فسوف يفقد كل قيمته بالعزل. إن ذلك الذي هو خير كغاية سيبقى ذا قيمة حتى حين تسلب منه كل نتائجه ولا يترك له إلا وجوده المحض؛ ومن ثم فنحن لن يسعنا أن نكتشف ما إذا كنا حقا نشعر تجاه شيء ما بأنه «خير كغاية» ما لم نتمكن من تصوره في انعزال تام، ونتأكد أنه يظل ذا قيمة وهو معزول. إن الخبز خير، فهل الخبز خير بوصفه غاية أم بوصفه وسيلة؟ تصور رغيفا موجودا في كوكب غير مأهول وغير قابل للسكنى، فهل يبدو كأنه يفقد قيمته؟ إن مثال الرغيف مغال في السهولة بعض الشيء، فلننظر في العالم الفيزيائي، إنه يبدو لمعظم الناس خيرا بدرجة هائلة، ذلك أنهم يشعرون نحو الطبيعة باستجابة انفعالية عنيفة تضع على شفاههم النعت «خير»
good ، ولكن هب أن العالم الفيزيائي لا يمت لعقل بصلة، وأنه ليس من شأنه أبدا أن يثير استجابة انفعالية، وليس من شأن أي عقل أن يتأثر به، وأنه ليس له عقل خاص به، فهل يظل هذا العالم يبدو خيرا؟ افترض أيضا أن هناك كوكبين أحدهما خلو من الحياة وسيظل خلوا أبدا، والآخر توجد به شظية من بروتوبلازم حي بالكاد ولن ينمو أبدا ولن يصير واعيا على الإطلاق، فهل يسعنا أن نقول بحق إننا نحس أن أحدهما خير من الآخر؟ هل الحياة نفسها خير كغاية؟ إن ما يجعل الحكم القاطع أمرا صعبا هو حقيقة أن المرء لا يمكنه أن يتصور أي شيء دون أن يشعر نحوه بشيء ما؛ فتصورات المرء نفسها تثير حالات ذهنية وبذلك تكتسب قيمة كوسيلة، فلنسأل أنفسنا بصراحة: هل يمكن لأي شيء ليس له عقل وليس يؤثر في أي عقل أن تكون له قيمة؟ كلا بالتأكيد، بينما يمكن لأي شيء له عقل أن تكون له قيمة باطنة، ويمكن لأي شيء يؤثر في عقل ما أن يصبح ذا قيمة بوصفه وسيلة، من حيث إن الحالة الذهنية التي ينتجها قد تكون لها قيمة في ذاتها، ولتعزل (في تصورك) ذلك الذهن؛ اعزل الحالة الذهنية لإنسان في حالة حب، أو إنسان مستغرق في التأمل. إنه لا يبدو أنه يفقد كل قيمته، «لاحظ» أنني لا أقول إن قيمته لا تنقص؛ فمن الواضح أنه يفقد قيمته كوسيلة لإنتاج حالات ذهنية خيرة لدى الآخرين، غير أن هناك قيمة معينة تدوم بالفعل، إنها قيمة باطنة.
اعمر الكوكب الموحش بعقل إنساني واحد، يصبح كل جزء من هذا الكوكب ذا قيمة كامنة كوسيلة؛ لأنه قد يكون وسيلة إلى ذلك الشيء الذي هو خير كعادته؛ أعني حالة ذهنية خيرة، إن الحالة الذهنية لشخص في حالة حب أو مستغرق في التأمل تكفي في ذاتها؛ فنحن لا نعود نتساءل «أي غرض نافع تقدمه هذه الحالة، أي شخص تفيده، وكيف؟» بل نقول بمباشرة واقتناع: «هذا خير.»
عندما نطالب بتبرير ما نراه من أن أي شيء، عدا حالة ذهنية، هو خير، فإننا إذ نشعر أن هذا الشيء هو مجرد وسيلة، نفعل عين الصواب حين نتلمس آثاره الخيرة، ويكون تبريرنا النهائي دائما هو أنه يؤدي إلى حالات ذهنية، هكذا عندما نسأل لماذا ننعت سمادا منثورا بأنه خير، فقد نبين (إن أمكننا أن نجد مستمعا!) أن السماد وسيلة إلى المحصولات الجيدة، والمحصولات الجيدة وسيلة للغذاء، والغذاء وسيلة إلى الحياة، والحياة شرط ضروري لحالات ذهنية خيرة، وأبعد من ذلكم لا يمكن أن نمضي، وعندما نسأل لماذا نعتقد أن حالة ذهنية معينة هي خير، ولتكن حالة التأمل الإستطيقي مثلا، فإن حسبنا أن نجيب بأن خيريتها بالنسبة لنا هي أمر واضح بذاته
self-evident ، فبعض الحالات الذهنية تبدو خيرة بمعزل عن نتائجها، ولا شيء عدا هذه الحالات يبدو خيرا بهذه الطريقة، نخلص من ذلك إلى أن الحالات الذهنية الخيرة هي وحدها خير كغاية في ذاتها.
علينا لكي نبرر أي نشاط إنساني تبريرا أخلاقيا أن نتساءل: «هل هذا النشاط هو وسيلة إلى حالات ذهنية خيرة؟» أما في حالة الفن فإن جوابنا سيكون فوريا وإمباثيا
empathic ؛
9
فالفن ليس فقط وسيلة إلى حالات ذهنية خيرة، بل ربما يكون أقوى الوسائل التي في حوزتنا وأكثرها مباشرة وقوة، إنه أكثرها مباشرة لأنه لا شيء أسرع منه تأثيرا في الذهن، ولا شيء أكثر قوة وفعالية؛ لأنه لا توجد حالة ذهنية أكثر امتيازا أو شدة من حالة التأمل الإستطيقي، فإذا كان الأمر كذلك فإن التماس أي تبرير أخلاقي آخر للفن، أو البحث في الفن عن وسيلة إلى شيء لا يرقى إلى أن يكون حالة ذهنية خيرة، هو خطل لا يقع فيه إلا أحمق أو رجل من رجال العبقرية.
لقد وقع في هذا الخطل كثير من الحمقى، وروج له واحد من عباقرة الرجال ترويجا قبيحا، فلم يحدث قط أن وضع أحد العربة بشكل معيق أمام الحصان مثلما فعل تولستوي عندما أعلن أن ما يبرر الفن هو قدرته على تعزيز الأفعال الخيرة، كما لو كانت الأفعال غايات في ذاتها! إن فعل الجري ليس فيه فضيلة ولا رذيلة، ولكن أن تجري بأنباء سارة هو فعل جدير بالثناء، وأن تجري فرارا بكيس إحدى العجائز هو فعل غير جدير بذلك. كذلك فعل الصياح، فليس في الصياح فضيلة، ولكن أن تصيح لكي تصدع بالحق والعدل هو فعل خير، أما أن تصم آذان الخلق بالدجل والهراء فهو فعل لعين. إن الغاية المنشودة هي دائما ما يضفي على الفعل القيمة، ويجب أن تكون غاية جميع الأفعال الخيرة في النهاية هي أن تخلق أو تحفز أو تمكن لحالات ذهنية خيرة؛ ومن ثم فإن حث الناس على الأفعال الخيرة بواسطة لوحات إرشادية هو حرفة جديرة بالاحترام ووسيلة غير مباشرة إلى الخير. أما الأعمال الفنية فهي وسيلة مباشرة إلى الخير وأكثر مباشرة من أي شيء آخر يمكن للكائن الإنساني أن يمارسه، في هذه الحقيقة على وجه التحديد تكمن الأهمية الهائلة للفن: فليس ثمة وسيلة إلى الخير أكثر مباشرة من الفن.
حين تعد أي شيء عملا فنيا، فإنك إذن تقيم حكما أخلاقيا خطيرا؛ لأنك بذلك تعده وسيلة مباشرة وفعالة إلى الخير بحيث لا نحتاج إلى أن نكرث أنفسنا بأي شيء من نتائجه المحتملة، وحتى لو لم يكن الأمر كذلك؛ فإن عادة إقحام اعتبارات أخلاقية في عملية الحكم بين أعمال فنية معينة لن يكون لها ما يبررها، فليقم الداعية الأخلاقي حكما على الفن ككل، وليقيض له ما يرى أنه مكانه الصحيح بين وسائل الخير، ولكن إذا كان المقام مقام أحكام إستطيقية؛ أي أحكام مقارنة بين أعضاء فئة واحدة؛ أي بين الأعمال الفنية بوصفها أعمالا فنية، فليمسك هذا الداعية لسانه. إن الفن مساو لأعظم الوسائل إلى الخير، ولو ظن الداعية الأخلاقي أن الفن أقل من ذلك بأي شيء فقد أخطأ، ولو سلمنا على سبيل الموادعة أن الفن أدنى من بعض هذه الوسائل فسوف أذكره رغم ذلك أن أحكامه الأخلاقية حول قيمة أعمال فنية معينة لا شأن لها بقيمتها الفنية. ليس من حق الحكم في إبسوم أن يغمط الفائز في الدربي حقه لمصلحة الحصان الذي جاء قبل الأخير، لا لشيء إلا لأن هذا الحصان هو لأسقف بروجهام كنتربري.
عرف الفن كما تهوى، مؤثرا أن يكون ذلك وفقا لما طرحته من أفكار، وأنزله المنزلة التي تشاء في النسق الأخلاقي، ثم فاضل بين الأعمال الفنية حسب امتيازها بتلك الخاصية أو تلك الخصائص التي وضعتها في تعريفك باعتبارها الخصائص الجوهرية والمميزة للأعمال الفنية. قد تقيم بالطبع أحكاما أخلاقية حول أعمال معينة، ليس بوصفها أعمالا فنية بل بوصفها أعضاء في فئة أخرى، أو بوصفها أجزاء مستقلة وغير مصنفة من العالم، وقد ترى أن لوحة معينة لرئيس الأكاديمية الملكية هي وسيلة أعظم إلى الخير من إحدى لوحات نادي الفن الإنجليزي الجديد بكل مجده، وأن كعكة بقرش هي أفضل من الاثنتين؛ فأنت في مثل هذه الحالة إنما تقيم حكما أخلاقيا لا حكما إستطيقيا؛ ومن ثم سيكون من الصواب أن تأخذ بالاعتبار مساحة القماشة، وسمك الإطار والقيمة الممكنة لكل منها كوقود أو وقاء من تقلبات مناخنا القاسية. وعليك في عملية جمع الحسابات ألا تغفل آثارهما الممكنة على الكهول الذين يزورون برلنجتون هاوس وصالة عرض سافوك ستريت، وألا تغفل أيضا ضمائر أولئك الذين يمسون موارد الأوقاف أو أولئك الذين تدفعهم الرغبة في الربح إلى المحاكاة والتقليد. إنك عندئذ تقيم حكما أخلاقيا لا حكما إستطيقيا. وإذا كنت قد خلصت إلى أن كلتا اللوحتين ليست عملا فنيا، فأنت رغم مظنة تضييع وقتك ستكون بمنأى من السخرية، ولكن حين تتعامل مع لوحة بوصفها عملا فنيا تكون قد أقمت - ربما على نحو لا شعوري - حكما أخلاقيا أهم بكثير. لقد أدرجتها في فئة من الأشياء تعد وسائل قوية ومباشرة إلى النشوة الروحية بدرجة تمحي إلى جانبها جميع المزايا الصغرى، ورغم المفارقة الظاهرة؛ فإن الخصائص الوحيدة ذات الصلة بالعمل الفني بوصفه عملا فنيا هي الخصائص الفنية، فنحن إذ خلصنا إلى أن الخصائص الفنية هي وسيلة إلى الخير ؛ فإن أي خصائص أخرى تغدو غير ذات بال؛ فليس ثمة خصائص تفوق الخصائص الفنية من حيث القيمة الأخلاقية؛ ذلك أن ليس هناك وسيلة إلى الخير أعظم من الفن.
الفصل الثالث
المنحدر المسيحي
(1) صعود الفن المسيحي
The Rise of Christian Art
ماذا أعني ب «منحدر»
slope ؟ هذا ما آمل أن أوضحه خلال هذا الفصل والفصل الذي يليه، ولكن حيث إن القراء يترقبون شيئا ما يسترشدون به، سأعجل ببيان أنني رغم إدراكي لاستمرارية تيار الفن فأنا أعتقد أن من الممكن والملائم أن أقسم هذا التيار إلى منحدرات وحركات. من المتعذر التيقن من الخط المحدد للتقسيم، وبميسورنا أن نقول إنه خلال مجرى نهر عظيم من التلال إلى البحر، فإن من المتعين أن يتفاوت عمق المياه وعرضها ولونها وحرارتها وسرعتها. أما التحديد الدقيق لنقطة التغير فهذا أمر آخر، فإذا حاولت أن أصور لنفسي التاريخ الكلي للفن منذ الأزمنة الأولى في جميع أجزاء العالم، فلن يمكنني، بطبيعة الحال، أن أراه كخيط فريد واحد. إن الخامة التي هو مصنوع منها لا يمكن أن تتغير؛ فهي دائما ماء يتدفق إلى أسفل النهر، غير أن هناك أكثر من قناة؛ هناك مثلا «الفن الأوربي» و«الفن الشرقي»، يتراءى لي التاريخ العالمي للفن في صورة خريطة فيها تيارات عديدة تنزل من سلسلة الجبال نفسها إلى البحر نفسه، وهي تبدأ من ارتفاعات متفاوتة ولكنها جميعا تنزل في النهاية إلى مستوى واحد، هكذا علي أن أقول بأن المنحدر الذي على قمته تقف الروائع البوذية لأسر واي ولانج وتانج يبدأ أعلى بكثير من ذلك الذي قمته النحت السومري المبكر، ولكن إذا تعين أن ننظر في الفن الياباني المعاصر، والنحت الإغريقي - الروماني والروماني، والأشوري المتأخر، لرأينا أنها جميعا قد آلت إلى نفس المستوى البحري للطبيعة المغثية.
أعني بالمنحدر إذن ذلك الذي يقع بين صبح بدائي عظيم، إذ يخلق الناس الفن لأنهم لا بد أن يخلقوه، وبين تلك الساعة الأحلك عندما يخلط الناس بين التقليد والفن، هذه المنحدرات يمكن تقسيمها إلى حركات، ليس المسار الهابط ناعما ومستويا، بل هو وعر ومليء بالعوارض. الحق أن موكب الفن لا يشبه النهر بقدر ما يشبه طريقا من الجبال إلى السهل، هذا الطريق هو سلسلة من الارتفاعات والانخفاضات، كل ارتفاع وانخفاض يشكلان معا حركة، قد تبلغ قمة إحدى الحركات نفس الارتفاع الذي بلغته قمة الحركة السابقة عليها، إلا أن قاعدتها تأخذها دائما إلى مستوى أدنى على المنحدر، وفي تاريخ الفن كذلك فإن ذروة إحدى الحركات تبدو دائما طالعة من غور سابقتها بزاوية قائمة؛ فالحركة الصاعدة عمودية، أما الهابطة فتتخذ مستوى مائلا، من دوتشو، على سبيل المثال، إلى جوتو خطوة إلى أعلى حادة ضحلة، ومن جوتو إلى ليوناردو سقوط طويل وغير مدرك تقريبا في بعض الأحيان. إن جوتو هو تفسخ بارع لتلك الحركة البازيلية
Basilian
التي عاشت بعض الزمن بعد الفتح اللاتيني وانتهت نهاية مونقة في ظل الباليولوجيين
1
الأوائل، ارتفعت قمة هذه الحركة كثيرا فوق جوتو، رغم أن دوتشو بقرابة قاعدتها هو أسفل منه. إن فن جوتو هو بالتأكيد أدنى من الفن البيزنطي الأرفع للقرنين الحادي عشر والثاني عشر، وجوتو هو ذروة حركة جديدة مقدر عليها حتما أن تهبط إلى أغوار لم يحلم بها دوتشو.
كل ما كان روحيا في الحضارة الإغريقية كان معتلا قبل نهب كورنث، وكل ما كان حيا في الفن الإغريقي كان قد مات قبل ذلك بسنوات طويلة. أما أنها ماتت قبل موت الإسكندر فلتكن مقبرته في القسطنطينية شاهدي على ذلك. لقد كانت معتلة قبل أن يضعوا الحجر الأخير في البارثينون. إن التماثيل الرخامية الكبيرة في المتحف البريطاني هي الأمثلة المهمة الأخيرة للفن الإغريقي. الإفريز بطبيعة الحال ليس دليلا على أي شيء؛ إذ هو عمل صانع حرفي لا أكثر. أما الرجل الذي صنع ما يمكن أن أسميه أيضا «الثيسيوس»
The Theseus
2
و«الإليسوس»
The Ilissus ، الرجل الذي يمكن أيضا أن أسميه «فيدياس»
،
3
فإنه يتوج الحركة الحيوية الأخيرة في المنحدر الهليني. إنه عبقري، ولكنه ليس «غريبة»؛ فهو يقع موقعه بشكل طبيعي تماما بوصفه أستاذ التدهور المبكر. إنه الرجل الذي يجري فيه، ثرا دافقا وإن يكن فظا بعض الشيء، تيار الإلهام الذي منح الحياة للنحت الإغريقي القديم. إنه جوتو (وإن من صنف أدنى) المنحدر الذي بدأ من القرن الثامن ق.م - أدنى بكثير من القرن السادس الميلادي - لكي يرزح ويتبدد في مستنقعات الهراء الهلينستي والروماني، من أين أتت تلك الصحوة الهيلينية؟ حتى الآن لا يمكننا أن نقول، ربما من بقايا حضارة من متوسطية جليلة لا أتردد في القول بأن الصحوة الهيلينية كانت رد فعل ضد ماديتها المغرقة، تمكن قراءة قصة بدايتها في كسر النحت القديم المتناثر خلال أوروبا، والمدروس في المتحف القومي في أثينا؛ حيث تكشف تماثيل معينة للرياضيين تعود إلى حوالي سنة 600
4
مزايا وعيوب الفن الإغريقي في عنفوانه. وفيدياس هو جوتو (من الدرجة الثانية) انحداره المبكر في القرن الخامس،
5
ونسخ المشاهير من معاصريه ومن أسلافه المباشرين مغثية جدا؛ بحيث يستحيل أن تكون دقيقة، وبراكسيتليز
،
6
في القرن الرابع، عصر الرابعة المكتملة، هو كوريجو
Corregio
7
أو أيما عابث مبهج يقترحه عليك إحساسك بالفن والكرونولوجيا، وتأبى علينا عمارة القرن الخامس والرابع أن ننسى عظمة الإغريق في العصر الذهبي من تاريخهم الفكري والسياسي، وبوسعك أن تقتفي الهبوط من الرسم الحساس (وإن يكن دائما مثقلا بالتفاصيل)، عبر الرسم الذواق والمكتمل، إلى القسري بغير فاعلية في جرار وزهريات القرن السادس والخامس والرابع والثالث، وفي الرمال والسهول المديدة للواقعية الرومانية يضيع تيار الإلهام الإغريقي إلى الأبد.
قبل وفاة ماركوس أوريليوس كانت أوروبا ضجرة من المادية مثلما كانت إنجلترا قبل وفاة فيكتوريا، ولكن أية قوة قدر لها أن تحطم آلة استعبدت الناس تماما بحيث لم يجرءوا على تصور أي بديل؟ لقد تضخمت هذه الآلة حتى لم يعد بقدرة الإنسان أن يحدق إلى جانبها، لم يعد بقدرته أن يرى سوى كرنكاتها وروافعها، ولا يسمع إلا طنينها، بوسعه أن يلاحظ الحذافات المدومة ويغتر بتأمل الكرات الدوارة. كانت الإبادة هي المهرب الوحيد للمواطن الروماني من الإمبراطورية الرومانية، وبينما كان هادريان في الغرب يخمر الموهبة الإمبراطورية في التوحش إلى نظام وعلم كانت خميرة جديدة في الشرق - في مصر وآسيا الصغرى، أو، على الأرجح، في سوريا أو بين الرافدين أو حتى فارس - كانت تعمل عملها. كانت تلك القوة التي ستحرر العالم في اختمار. كانت الروح الدينية تولد مرة ثانية، هنا وهناك في وجه التناقض التام في الأحوال سيسع واحدا أن يقوم ويؤكد أن الإنسان لا يعيش بالخبز وحده. كانت الأورفية
8
والمثرية
9
والمسيحية - وهي أشكال متعددة لروح واحدة - تشرع في أن تعني شيئا أكثر من الطقوس الدقيقة والفسوق المضمر، كان تغير ما يرين رويدا رويدا على وجه أوروبا.
كان ثمة تغير قبل أن تتبدى علاماته؛ فالتصاوير المسيحية الأولى في مقابر تحت الأرض كلاسيكية خالصة، وإذا كان المسيحيون الأوائل يحسون أي شيء جديد فإنهم لم يستطيعوا التعبير عنه، ولكن لم يكد القرن الثاني ينصرم حتى كان الصناع الأقباط قد شرعوا ينسجون في التصاميم الرومانية الميتة شيئا ما حيويا، لقد انحرفت الأنماط الأكاديمية على نحو غريب وانبسطت إلى أشكال ذات دلالة معينة، كما يمكن أن نحس من جانبنا إذا ذهبنا إلى غرفة النسيج في ساوث كنسينجتون، من المؤكد أن هذه المنسوجات القبطية للقرن الثاني أشبه بالأعمال الفنية من أي شيء أنتج في الإمبراطورية الرومانية لأكثر من أربعمائة سنة، أما التصاوير المصرية للقرن الثالث فتحمل شهادة إيجابية أقل على تلمسات روح جديدة تتحسس طريقها، ولكن في بداية القرن الرابع شيد ديوقليتيانوس
10
قصره في سبالاتو؛ حيث تعلمنا جميعا أن نرى الكلاسيكية والروح الجديدة من الشرق يقتتلان عليها جنبا إلى جنب، وإذا كان لنا أن نثق في
Strzygowski
فمن نهاية هذا القرن تتأرخ الكنيسة الجميلة لكودجا - كاليسي في إيسوريا. إن القرن الذي ساد فيه الشرق في النهاية على الغرب (350-450م) هو فترة اختمار. إنه وقت نشاط مضطرب يسبق الاندلاع البين للفن على المنحدر المسيحي. لقد كنت قمينا أن أؤكد بثقة أن كل ميلاد فني تسبقه فترة حمل قلقة يكتسب فيها الطفل غير المولود الأعضاء والطاقة التي ستقله في رحلته الطويلة، لو أنني كنت أملك البيانات الكفيلة بأن تقدم دعما مترنحا لمثل هذا التعميم المريح. وا أسفاه! فميلاد المنحدرات العظيمة للعصر القديم محجوب في ليل قلما تؤرقه أبحاث دقيقة لأثريين دءوبين، ومستغلق على الكشوف المروعة لخبراء التزييفات المكشوفة، عن هذه الفترات الحرجة، نحن لا نجرؤ على أن نتحدث بثقة، ورغم ذلك فإن بوسعنا أن نقارن القرن الخامس بالقرن التاسع عشر ونستنبط نتائجنا الخاصة.
في عام 450 شيدوا ضريح جالا بلاسيديا
Galla Placidia
الجميل في رافينا، إنه مبنى غير روماني في صميمه؛ أي أن الصبغة الرومانية التي تتعلق به عارضة ولا تضيف شيئا إلى دلالته، غير أن الفسيفساء داخله ما زالت كلاسيكية على نحو فظ. ثمة واقعية مغثية في الخراف وفي الراعي الصالح تتجاوز مسحة الإغريقي؛ الروماني أبولو. لا تزال المحاكاة تقاوم وإن كانت تحارب معركة خاسرة مع الشكل الدال، وعندما بدأ تشييد كنيسة سان فيتال
S. Vitale
سنة 526م حسمت المعركة، وكانت أيا صوفيا تشيد بين عام 532 وعام 537م، تنتمي أرقى فسيفساء في سان فيتال وسان أبولينير نوفو وسان أبولينير إنكلاس إلى القرن السادس، وكذلك سان سيرجيوس وباكوس في القسطنطينية والدومو في بارينزو. والحق أن أفخم آثار الفن البيزنطي تنتمي إلى القرن السادس، إنها الذروة البدائية والأسمى للمنحدر المسيحي. إن الصعود من مستويات الطريقة الإغريقية - الرومانية هو صعود هائل لا يقاس، والجوانب التي يمكن أن يشملها هذا الصعود لا تزال غير مكتشفة؛ إنه الطول الكلي للمنحدر من أيا صوفيا إلى نصب فيكتوريا المنتصب واقفا على قاعدة من مئات السنين، ونحن على ارتفاعات لا ترى منها السهول الطينية، والمرء إذ يمكث هنا يتعذر عليه أن يعتقد بأن السهول كان لها وجود على الإطلاق، أو، على أية حال، أنها سيكون لها وجود مرة ثانية. اذهب إلى رافينا ولسوف تشهد روائع الفن المسيحي، بدائيي المنحدر، واذهب إلى التيت جاليري أو اللكسمبورج ولسوف تشهد نهاية هذا المنحدر الفن المسيحي وهو في النزع الأخير، مثل هذه الأضرب من «تذكرة الموت» مفيدة لنا في عصر الثقة الذي نحن فيه؛ إذ نشعر، ولنا عذرنا، ونحن ننظر إلى لوحات سيزان أننا بعيدون فوق الطين والملاريا، فبين سيزان وتيت جاليري آخر ماذا يقبع مذخورا للروح الإنسانية؟ هل نحن في فترة اختمار جديدة؟ أو هل ولد العصر الجديد؟ هل هو منحدر جديد هذا الذي نحن فيه، أم نحن فقط في جزء من ارتعاش تمهيدي مدهش في قوته؟ هذه تساؤلات للتفكر، هل سيزان هو بداية منحدر، أم بشير، أم مجرد ذروة حركة؟ الكاهنات لا تحير، شيء واحد يبدو لي مؤكدا: منذ أن وضع البدائيون البيزنطيون أعمالهم الفسيفسائية في رافينا لم يخلق أي فنان في أوروبا أشكالا ذات دلالة عظيمة اللهم إلا سيزان.
ومع أيا صوفيا بالقسطنطينية، وكنائس وفسيفساء القرن السادس في رافينا، يؤسس المنحدر المسيحي نفسه في أوروبا،
11
لقد أخذ انعطافة إلى أسفل في القسطنطينية، غير أن الإلهام الجديد بقي يعبر عن نفسه في جزء أو آخر من أوروبا على نحو أسمى لأكثر من ستمائة عام، كانت هناك بالطبع صعدات ونزلات، حركات وردات فعل، فكان الفن في بعض الأماكن جيدا دائما تقريبا، وفي أماكن أخرى دون الطبقة الأولى دائما، ولكن لم يكن ثمة هبوط مستعص عام حتى استسلمت العمارة النورمانية والرومانسكية للعمارة القوطية، حتى تحول نحت القرن الثاني عشر إلى تزيين القرن الثالث عشر.
احتفظ الفن المسيحي بدلالته البدائية لأكثر من نصف ألفية، ولست أرى عجبا في ذلك، فحتى الأفكار والعواطف كانت تتنقل ببطء في تلك الأيام. لقد حققت القطارات والبواخر من جهة، على كل حال، تنبؤات مستخدميها؛ فجعلت كل شيء يتحرك أسرع. يكمن الخطأ في ثقتهم المفرطة بأن هذه نعمة، أما في تلك العصور المظلمة فكانت الأشياء تتحرك ببطء، هذا أحد أسباب لماذا لم تستنفد القوة الجديدة نفسها في ستمائة سنة، وسبب آخر هو أن الإلهام جاء إلى عصر كان يقتحم أرضا جديدة على الدوام. كانت هناك دائما بقعة بكر تتلقى البذرة وتزرع محصولا قويا، فبين سنة 500 وسنة 1000م كانت الكتلة السكانية لأوروبا سائلة فكان ثمة دائما عرق جديد قابض على الإلهام والشعور ومعبر عنه بحساسية وانفعال بدائيين. وكان العرق الأخير في تلقي العدوى من أرقى الأعراق، فأنتجت القوة النورماندية والذكاء الفرنسي في القرن الحادي عشر في غرب أوروبا مظهرا للخميرة المسيحية لا يقل كثيرا عن ذلك الذي مجد الشرق قبل ذلك بخمسمائة عام.
ولأؤكد مرة ثانية أنني عندما أتحدث عن الخميرة المسيحية أو المنحدر المسيحي فأنا لا أفكر في الدين العقدي، وإنما أفكر في تلك الروح الدينية التي تعد المسيحية، بعقائدها وطقوسها، مظهرا واحدا من مظاهرها، والبوذية مظهرا آخر. وعندما أتحدث عن الفن كمظهر للروح الدينية فأنا لا أعني أن الفن يعبر عن عواطف دينية معينة، بله أن يعبر عن أي شيء لاهوتي. لقد قلت إنه إذا كان الفن يعبر أي شيء فإنه يعبر عن انفعال يحس تجاه الشكل المحض وتجاه ذلك الذي يمنح الشكل المحض دلالته الفائقة؛ لذا فعندما أتحدث عن الفن المسيحي فأنا أعني أن هذا الفن كان منتجا لحالة من الحماسة تعد الكنيسة المسيحية منتجا آخر لها، كانت الروح الجديدة بعيدة عن أن تكون مجرد فورة إيمان مسيحي؛ بحيث إننا لنجد تجليات لها في الفن الإسلامي،
12
يعلم ذلك كل من شهد صورة فوتوغرافية لمسجد عمر في القدس. لم تكن النهضة الانفعالية في أوروبا هي الانتشار الواسع للمذاهب المسيحية، وإنما من خلال الإيمان المسيحي تأتى لأوروبا أن تدري بإعادة اكتشاف الدلالة الانفعالية للعالم. ليس الفن المسيحي تعبيرا عن عواطف مسيحية محددة، بل عندما أيقظت المسيحية الناس هنالك فقط شرع الناس في الإحساس بانفعالات تعبر عن نفسها في الشكل. لقد كانت المسيحية هي ما وضع أوروبا في تلك الحالة من الفورة الانفعالية التي انبثق منها الفن المسيحي.
يبدو أن تيار الحماسة قد أخذ بلب العالم الشرقي، وحتى العالم الرسمي، لحظة ما، في القرن السادس، غير أن المسئولين البيزنطيين لم يكونوا أكثر شغفا بالسباحة من غيرهم، لم يكن الرجال المسيرين للآلة الإمبراطورية، والدارسين للشعراء السكندريين، والمشتغلين بالأركيولوجيا الكلاسيكية على سبيل الهواية؛ لم يكونوا ليحدقوا بشغف. ليس غير الناس، المتبعين للنساك، بغموض وبغباء دون شك، من كان إلى جانب الانفعال وإلى جانب المستقبل، وسرعان ما بدأت الإمبراطورية بعد وفاة جستنيان تنقسم إلى معسكرين. كان الفن الديني، على نحو ملائم، هو معيار الطرف الشعبي، وحول هذا المعيار نشبت المعركة، قال لورد ملبورن: «لا أحد يفوقني احتراما للدين المسيحي، ولكن إذا بلغ الأمر أن تجر إلى الحياة الخاصة ...» في القسطنطينية شرعوا في جر الدين، والفن أيضا، إلى حرمة العاصمة الخاصة. لم يكن ثمة مسئول جدير باسمه يمكنه أن يشاهد الظل يضحى به من أجل الجوهر دون أن تلح عليه رغبة في استدعاء الشرطة للقبض على شخص ما. وقد أصبحت يقظة المسئولين البيزنطيين واحتراسهم مضرب الأمثال. نعلم من رسالة كتبها الباب جريجوري الثاني إلى الإمبراطور ليو، الأيقونوكلاستي (محطم الأيقونات الدينية)، أن الناس كانت على استعداد لأن تهب أملاكها من أجل صورة، كان هذا عند البابا والإمبراطور والسيد فينلي المؤرخ برهانا كافيا على فساد خلقي مروع، وكانوا يضاهون ذلك، فيما أعتقد، بطيش المجدلية الفاضح. كان الناس بالقسطنطينية الذين يأخذون الفن مأخذ الجد، وإن بروح أدبية مفرطة إلى حد بعيد،
dicunt enim artem pictoriam piam esse . كان لا بد لهذا أن يتوقف، وفي بواكير القرن الثامن بدأ الهجوم الأيقونوكلاستي، لا تعنينا حرب المائة عام هذه، التي أدار فيها الحزب الشعبي مقاومة جريئة وناجحة في النهاية، غير أن هناك تفصيلة جديرة بالملاحظة؛ فأثناء الاضطهاد الأيقونوكلاستي ظهر فن شعبي جديد في تلك الأديرة البعيدة، وحولها، التي كانت معاقل النساك، والمثال الأشهر على هذا الفن هو «الكلودف سلتر»
Chloudof Psalter . من المؤكد أن فن الكلودوف سلتر ليس فنا عظيما؛ فالرغبة في الإيضاح تفسد، في عامة الأحوال، كلا من الرسم والتصميم، إنها تفسد ولكنها لا تدمر تماما؛ ففي كثير من الرسوم يبقى ثمة شيء ما ذو دلالة، ثمة دائما، رغم ذلك، واقعية مفرطة وأدبية مفرطة، ولكن لا الواقعية ولا الأدبية مستقاة من النماذج الكلاسيكية؛ فالعمل مبتكر في صميمه، وهو أيضا شعبي في صميمه؛ إنه أشبه حقا ببيان حزبي، ونحن في موضع منه نرى الإمبراطور ووزراءه يؤدون عملهم كاجتماع سري للمدانين، فلنتجنب الإسراف في القيمة الفنية التي نضفيها على الكلودوف سالتر، ولكنه على أعلى درجة من الأهمية كوثيقة؛ لأنه يعرض بوضوح ذلك التضاد بين الفن الرسمي للأيقونوكلاستيين الذي يستند إلى التقليد الهلينستي ويقتبس ببلادة من بغداد، وبين الفن الحيوي الذي يستمد إلهامه من الحركة المسيحية ويحول كل اقتباسه إلى شيء ما جديد، وجنبا إلى جنب مع هذا الفن الحي للحركة المسيحية سنرى مخرجا مستمرا من العمل القائم على تقليد النماذج الكلاسيكية، تلك الأشياء الفظة والكئيبة التي تطل كثيرا في الفن البيزنطي المبكر، والفن الميروفينجي
Merovingian
13
والكارولينجي والأوتوني
14
والرومانسكي والإيطالي المبكر، ليست مع ذلك ميراثا من الفترة الأيقونوكلاستية، إنها الظل الطويل الذي ألقته عبر التاريخ إصبع روما الإمبراطورية، لم يكن الأذى الذي اقترفه الأيقونوكستيون متعذر الإصلاح ولكنه كان خطرا. أطلق المسئولون البيزنطيون، مخلصين لطبقتهم، أطلقوا العنان لذوق في الأثاث، مانحين بذلك هجومهم وخزا غير متعمد، وكشأن نبلاء النهضة الكلاسيكية حطوا منزلة الفن، الذي هو ديانة، إلى تنجيد، إلى حرفة وضيعة. لقد رعوا حرفيين لم يكونوا ينعمون النظر في قلوبهم بل في الماضي؛ من جاء من بلاط الخليفة بنماذج بارعة، ومن العصر الكلاسيكي القديم بإيهامات أنيقة؛ لكي تقوم مقام التصميم الدال، وقد نظروا إلى اليونان، وروما مثلما فعل رجال النهضة، ومثلهم أضاعوا في علم التمثيل فن الخلق، في عصر الأيقونوكلاستيين بدأت النمذجة - النمذجة الرومانية الفظة - تنتأ وتلتف على نحو زخرفي في القسطنطينية، القرن الثامن في الشرق هو بشير القرن السادس عشر في الغرب؛ إنه استعادة المادية مع عشيقها: الفن الخنوع، يروي لنا فن الأيقونوكلاستيين حكاية أيامهم؛ إنه فن وصفي، ورسمي، وتلفيقي، وتاريخي، وبلوتوقراطي، وبلاطي، وسوقي، ولحسن الحظ كان انتصاره جزئيا وسريع الزوال.
ذلك أن الفن كان بعد عفيا بحيث لا تخنقه حفنة من كبار الموظفين المهذبين، وفي النهاية انتصر النساك، وتحت الريجنت تيودورا (842م) استعيدت الصور أخيرا، وتحت الأسرة البازيلية (867-1057م) والكومنينية
15
تمتع الفن البيزنطي بعصر ذهبي ثان، ورغم أني لا يمكنني أن أرفع أفضل فن بيزنطي للقرن التاسع والعاشر والحادي عشر والثاني عشر إلى نفس المستوى العالي الذي أضع فيه مستوى فن القرن السادس؛ فأنا أميل إلى أن أضعه في مستوى أعلى، لا من أي شيء سيأتي فحسب، بل أيضا من أرقى منجزات لأزهى عصور مصر وكريت واليونان. (2) تألق وانحدار
Greatness and Decline
بعد أن ألقينا نظرة على بدايات الفن المسيحي ينبغي ألا نتلكأ عند التاريخ البيزنطي؛ فالتجار والصناع الشرقيون الموغلون في أوروبا الغربية من البحر الأدرياتيكي وعبر وادي نهر الرون حملوا معهم الخميرة، والرهبان الذين احترشتهم من الشرق الاضطهادات الأيقونوكلاستية وجدوا أوروبا الغربية مسيحية وغادروها دينية. إن قوة الحركة في أوروبا بين سنة 500 و900م لا تقدر في عامة الأحوال حق قدرها، يعود ذلك جزئيا إلى أن آثارها الباقية غير واضحة؛ فالمباني هي الأشياء التي تقتنص العين، وقلما توجد خارج رافينا عمارة مسيحية لهذه الفترة. كذلك جدا ما يسمح للفن المهذب المدلل لبلاط النهضة لشارلمان أن يسيء تمثيل عصر ويغثي آخر، ومعظم تلك الحلي التافهة الوفيرة المصنوعة للأباطرة الكارولينيين والأوتونيين، والتي يمكنك أن تراها الآن في آكن
Aechen ،
16
بهيمية شأنها شأن أي شيء آخر مصنوع فقط لكي يكون ثمينا؛ إنها تعكس الذوق الجرماني في أسوأ حالاته، ومن الحكمة في اقتفاء خط المنحدر المسيحي وتقدير قيمته أن نتغاضى حتى عن أفضل الجهد التيوتوني؛
17
فمعظمه ليس فنا بدائيا أو قروسطيا أو نهضويا، بل هو فن جرماني، وهو على كل حال مظهر للطابع القومي وليس إلهاما إستطيقيا، أغلب الخلق الإستطيقي يحمل ميسم القومية وقلما تحمل القومية الجرمانية أي أثر من الخلق الإستطيقي، والفروق بين كنوز آكن والعمارة الجرمانية والنحت الجرماني بالقرن الخامس عشر وما ينتج الآن في ميونيخ هي فروق سطحية؛ فكلها تقريبا جرمانية حتى النخاع، جرمانية قلبا وقالبا: أعني أنها منجزة بضمير حي، ونية صادقة، وتمكن شديد، ومفتقرة بالتحديد إلى ذلك الذي يميز العمل الفني عن أي شيء آخر في العالم، يمكن الشعور بإلهام العصور المظلمة وحساسيتها بأتم وثوق وسهولة في الأعمال الفنية الصغرى المنتجة في فرنسا وإيطاليا،
18
على أن إيطاليا فيها من العمارة ما يكفي لأن يثبت تماما، إذا كان ثمة حاجة لبرهان آخر، أن الروح كانت عفية، إنه عصر ما يسميه سيجريفويرا العمارة قبل اللومباردية -الإيطالية البيزنطية: إنه عصر المدرسة البيزنطية للتصوير في روما.
19
إن ما فعله «البرابرة»، بشكل غير مباشر، للفن هو شيء لا يمكن إنكاره؛ لقد أزالوا تقريبا تقليد الثقافة، شرعوا في القضاء على بعبع الإمبراطورية، لقد نظفوا السجل، واستطاعوا أن يقدموا قوارير جديدة للخمر الجديد. يتعذر على الفنانين أن يكبتوا حسدهم عندما يسمعون أن المصورين والأساتذة الأكاديميين قد استرقوا بالنقاط. لقد تسلم البرابرة المشعل واجترحوا في ضوئه الأعاجيب. غير أن الناس في تلك الأيام كانوا منشغلين بالقتال والحرث والصلاة؛ بحيث لم يبق لهم متسع من الوقت لأي شيء آخر. لقد امتصت الحاجات المادية طاقاتهم دون أن تسمنهم، كانت شهيتهم الروحية ضارية ولكن كان لديهم دين حي وفن حي ليشبعاها. يفترض الناس أن العوز والقلاقل في العصور المظلمة قد حطت بالبشرية إلى منزلة لا تكاد تفترق عن الحيوانية، غير أن فنهم وحده يدحض ذلك. وثمة دليل آخر: إذا كان الاضطراب والقلاقل تحط البشر إلى البهيمية لكان الإيطاليون بالقرن التاسع هم أولى الناس بالثغاء والرغاء؛
20
لقد كانوا عرضة على الدوام لتحرشات العرب والمجر واليونان والفرنسيين والجرمان على اختلاف أنواعهم، وكانوا محرومين من حوافز العمل والخلق التي أنتجت في زمن الأمن الواسع للباكس رومانا
21
والباكس بريتانيكا تلك الثمار المجيدة للموهبة الفردية والعظمة العامة، على أن المستشكفين المجريين في 898م يرون أن شمال إيطاليا كثيف السكان ومليء بالمدن المحصنة،
22
أحرقت لدى الاستيلاء على بارما (924م) أربع وأربعون كنيسة، ومن المؤكد أن هذه الكنائس كانت أشبه بسانتا ماريا دي بومبوزا أو سان بيترو في توسكانيلا منها بالكلوسيوم
23
أو محاكم العدل الملكية، لا شك البتة في أن المخرج الفني في العصور المظلمة كان محصورا بفقره؛ فقد أنتج من فن الطبقة الأولى في أوروبا بين عامي 500 و900م أكثر مما أنتج في نفس البلاد بين عامي 1450 و1850م.
ذلك أنه في تقدير القيمة الفنية لحقبة ما يميل المرء أولا إلى النظر في روعة منجزاتها الكبرى، وبعد ذلك يحسب كمية أعمال الطبقة الأولى المنتجة، وفي النهاية يحسب نسبة الأعمال الفنية المقطوع بفنيتها إلى المخرج الكلي، يبدو أن النسبة في العصور المظلمة كانت مرتفعة، وهذه من سمات الفترات البدائية ؛ فالسوق أضيق من أن يغري الكثير من كبار المنتجين، وظروف المعيشة أقسى من أن تقيم أود رسام الأكاديمية أو الصالون المعتاد الذي يعيش على مقدراته الخاصة ويكب على الفن لأنه غير مؤهل لأي شيء آخر، مثل هذا المنتج الذي ينبئنا وجوده عن حالة الفن أقل مما ينبئنا عن حالة المجتمع، والقمين بأن يكون أسوأ عامل في طاقمه، وأسوأ جندي في سريته، والذي كان النتاج الرئيسي لمدارس الفن الرسمية - مثل هذا لم يسمع عنه في العصور البدائية؛ ولذا فإن علينا في استدلالاتنا ألا نغفل الميزة التي تتمتع بها الفترات البدائية، ألا وهي أن من بين أولئك الذين يقدمون أنفسهم كفنانين فإن الغالبية العظمى لديها موهبة ما حقيقية، وإنني لأجرؤ على الحدس بأنه بين الأعمال التي بقيت من العصر المظلم فإن نسبة عالية مثل 1 : 12 تحوز قيمة فنية حقيقية، فلو أن نسبة الفن المنتج بين 1450 و1850م مكافئة لنسبته في الفترة بين 500 و900م لترجح جدا ألا تشتمل هذه الفترة على عمل فني واحد، الحق أننا نميل إلى أن نرى الأشياء الأهم فحسب لهذه الفترة وأن نضرب صفحا عن السقط الفاضح، على أني حين أحكم من الأعمال المنتقاة التي استرعت نظرنا في صالات العرض والمعارض والمجموعات الخاصة، لا أعتقد بأي حال أن نسبة تتعدى 1٪ من الأعمال المنتجة بين 1450 و1850م يمكن أن توصف بحق كأعمال فنية.
ليست المنجزات الكبرى للفن المسيحي بين 900 و1200م أعلى قدرا من منجزات العصر الذي يسبقه. الحق أنها تقصر عن الروائع البيزنطية للقرن السادس، ولكن فن الطبقة الأولى لهذه الفترة الثانية كان أغزر، أو لعله كان أنجح في البقاء من فن الفترة الأولى. إن العصر الذي أورثنا العمارة الرومانسكية واللومباردية والنورمانية لا يبدي أمارة انحلال، فما نزال على المرتفعات المنبسطة ل «النهضة المسيحية»
Christian Renaissance ، والفنانون لا يزالون بدائيين، والناس لا تزال تشعر بدلالة الشكل بما يكفي لأن يخلقوه بغزارة، والثروة الزائدة تشتري فراغا زائدا، وبعض هذا الفراغ يكرس لخلق الفن؛ لذا فأنا لا أعجب بالرأي الشائع (وإن يكن في رأيي غير دقيق) القائل بأن هذه كانت الفترة التي بلغت فيها أوروبا المسيحية قمة تاريخها الروحي؛ فآثارها في كل مكان مهيبة أمام أعيننا، وبوسعنا أن نرى انتصارات الفن الرومانسكي لا في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا فحسب، بل في إنجلترا وفي بلدان خارجية بعيدة بعد الدنمرك والنرويج والسويد، كانت هذه آخر درجة منبسطة في الرحلة الطويلة من سانتا صوفيا إلى سانت جونز وود.
ومع العمارة القوطية بدأ الانحدار، والعمارة القوطية تلاعب في الحجر والزجاج، إنها الطريق الملتف الذي ينتهي في كعكة عرس أو إطار مؤنف، الكاتدرائية القوطية عمل براعة، وهو أيضا ميلودراما، ادخل ولسوف تروعك مهارة البناء المنقطعة النظير، وربما سيروعك حس بسر وقوة غامضين، ولكن لن يهزك الشكل الدال، قد تتأوه «آه» وتنهار، ولكنك لن تنسلك في وجد متقشف. طوف حولها وتنعم بدقائق حرفة البناء، والأركان الغريبة، والميازيب والدعامات الطامحة، ولكن لا تتوقع الرعشة التي ترجع إدراك الصواب الشكلي المحض، إنما في العمارة تولد الروح الجديدة أول ما تولد، وفي العمارة تموت أول ما تموت.
نحن نجد الروح حية في نهاية القرن الثاني عشر في النحت الرومانسكي وفي الزجاج الملون: بوسعنا أن نراها في كاتدرائية شارتر وفي كاتدرائية بورج،
24
في كاتدرائية بورج ثمة إشارة إلى الطريقة التي تسير بها الأمور في حقيقة أننا في مبنى تافه نجد زجاجا وبعض كسر من النحت جديرة بشارتر وبأي عصر أو مكان. إن شيمابو
Cimabue
ودوتشو
Duccio
هما آخر الممثلين العظام في الغرب للتقليد الأعظم؛ التقليد الذي يولي الجوهري كل شيء ولا يولي العرض شيئا؛ فمع دوتشو على كل حال كان حس الشكل تقليدا بقدر ما هو حيوي: وشيمابو هو «فان دي سيكل»
Fin de siècle ،
25
يقولون إن شيمابو مات في 1302م، ودوتشو بعد ذلك بخمسة عشر عاما، ومع جوتو (ولد في 1276م)، وهو فنان أعظم من كليهما، ندور حول مفرق حاد بقدر حدة المفرق الذي ذرعناه قبل ذلك بمائة عام مع ابتكار العمارة القوطية في فرنسا، ربما يكون جوتو من الطبقة الثانية عن عمد؛ فقد كان بوسعه أن يضحي بالشكل من أجل الدراما والحكاية، صحيح أنه لم يتخل عن الجوهري قط ولكنه كان ينتقص من أركانه أحيانا، لقد كان دائما مشغوفا بالفن أكثر من شغفه بسانت فرنسيس، ولكنه كان ينسى أحيانا أن سانت فرنسيس لا صلة له البتة بالفن. ذلك شيء صحيح نظريا إلى حد كبير؛ فالبيزنطيون كانوا يعتقدون أنهم أكثر اهتماما باللاهوت الدوجماتي منهم بالشكل، وما من فنان عظيم إلا كان يضمر شيئا من ذلك. الحق أنه ليس أخطر على الفنان من أن يعمد عن وعي إلى إغفال كل شيء عدا الفن؛ فأن يعتقد الفنان أن فنه معني بالدين أو السياسة أو الأخلاق أو السيكولوجيا أو الحقيقة العلمية ذلك خير؛ إذ يحفظ عليه حيويته وانفعاله وعافيته، ويعصمه من النزعة الجمالية العاطفية، ويجعل في يده مشكلة فنية ملائمة، ولكن على الفنان أن ينسى كل هذه الأشياء، وعجزه عن نسيانها بالسهولة التي ينسى بها صائد السلمون غداءه هو طامة كبرى. لم يكن جوتو ينسى بسهولة؛ فهناك جداريات نجد فيها أن جوتو إذ يفشل في الإمساك بدلالة شكل ما فإنه يدعها تقرر حقيقة أو تقترح موقفا. بلغ جوتو أعلى مما بلغ شيمابو ولكنه كثيرا ما كان يهدف إلى الأدنى، قارن لوحته «العذراء والطفل» في الأكاديمية بلوحة شيمابو في صالة العرض نفسها ولسوف ترى كم أمكن لإنسانيته أن تهبط به. أما الثقل الفظ لأشكال تلك المرأة وطفلها فهو أمر لا يخطر لشيمابو لأنه تعلم من البيزنطيين أن الأشكال ينبغي أن تكون دالة لا أن تكون شبيهة بالحياة، لا شك أنه كان في ذهن كليهما شيء ما إلى جانب الاهتمام بالحبكات الشكلية، إلا أن جوتو سمح لذلك «الشيء ما» أن يطغى على تصميمه، بينما ألزم شيمابو تصميمه أن يطغى عليه، ثمة شيء يقال اعتراضا على صورة جوتو، لقد كان مؤرقا بعنف بهاجس أن بشرية الأم والطفل هي المهم فيهما، فأصر عليه بحيث أضر فنه، لم يقو شيمابو على مثل هذا الابتذال ، اعقد المقارنة إذن فهي مفيدة ومرشدة، ثم اذهب إلى سانتا كروس أو أرينا شابل واعترف أنه إذا لم يكن أعظم اسم في التصوير الأوربي هو سيزان فإنه جوتو.
من القمة التي هي جوتو يهبط الطريق ببطء ولكن بثبات، يتزعم جوتو حركة نحو المحاكاة والصنع العلمي للصورة، مثل عبقريته كان مقدرا لها أن تكون السبب في حركة، ولكن لم يكن متعينا عليها بالضرورة أن تكون سبب هذه الحركة، ولكن روح أي عصر من العصور أقوى من أصداء التقليد مهما بلغت عذوبتها، وقد اتجهت روح ذلك العصر، مثلما يعلم كل محاضر تعليم مفتوح، شطر «الحقيقة» و«الطبيعة»، بعيدا عن النشوات الفائقة للطبيعة. ثمة لحظة تبدأ الروح فيها تتوق إلى «الحقيقة» و«الطبيعة»، إلى الطبيعية
naturalism
ومظهر الصدق
verisimilitude . وفي تاريخ الفن تعرف هذه اللحظة ببداية الانحطاط، ورغم ذلك تشن حرب متصلة على الطبيعية والمادية من قبل روح عظيمة أو روحين تائقين إلى الطرب الإستطيقي الخالص، ومن عجب أن هذه الحرب يصفها محاضر التعليم المفتوح دائما كمعركة من أجل «الحقيقة» و«الطبيعة»، لا شك البتة أنهم سيظلون مائة عام أو ما يقرب يعلمون تلاميذهم أنه في عصر من التكلف والزيف المفرط ظهر رجلان، سيزان وجوجان، استطاعا بالبساطة والإخلاص أن يردا العالم مرة ثانية إلى مكامن «الحقيقة» و«الطبيعة»، والأعجب من كل هذا أن جزءا مما يقولون سيكون صوابا.
لقد قطعت الحركة الجديدة مع التقليد البيزنطي العظيم،
26
وتركت جسد الفن ضحية لهجوم ذلك المرض الجديد الغريب «النهضة الكلاسيكية»
Classical Renaissance . إن القناة التي تقع بين جوتو وليوناردو هي بداية النهاية، ولكنها ليست النهاية. لقد بلغ الفن الكبر متأخرا، ومات بأسى، وفن القرنين الرابع عشر والخامس عشر - وبخاصة المدارس التوسكانية - ليس مجرد وصلة تاريخية؛ إنه حركة مهمة، أو بالأحرى حركتان، والأسماء السينية
27
العظيمة أوجولينو
Ugolino ، وأمبروجيو لورنزيتي
Ambrogio Lorenzetti ،
28
وسيمون مارتيني
Simone Martini ، تنتمي إلى العالم القديم قدر انتمائها إلى الجديد، ولكن الحركة التي أنتجت ماساتشو
Masaccio ، وماسولينو
Masolino ، وكاستانيو
Castgno ، ودوناتيلو
Donatello ، وبييرو دلا فرنشيسكا
، وفرا أنجيليكو
Fra Angelico ، هي رد فعل من التقليد الجوتي
Giottesque
للقرن الرابع عشر، وهي حركة بالغة الحيوية، وكثيرا، فيما يبدو، ما كان التحريك والاهتياج الذي تثيره الكشوف العلمية الكارثية في الصميم، كثيرا ما كان سببا للفن الجيد، وظني أن التقدير المنزه للمنظور هو الذي مكن أوتشلو
Uccello
ومانتينيا
Mantegna
من بادوا أن يفهما الشكل انفعاليا؛ فلا بد للفنان أن يكون لديه شيء ما لكي يناله انفعال به.
وخارج إيطاليا في بداية القرن الثالث عشر نجد مقاربات الإفلاس الروحي أكثر وضوحا، وإن كان التصوير هنا أيضا أحسن بلاء من العمارة. يبدو أن سبعمائة عام من الخلق الدائم والمجيد قد أنهك العبقرية البنائية لأوروبا؛ فها هي العمارة القوطية تصبح مغثية
29
بحيث لا يسع المرء أن يبتهج إلا عندما تستسلم أوروبا وتهجر كل محاولة للخلق وتخلد إلى محاكاة النماذج الكلاسيكية. كان كل خلق حقيقي قد مات قبل ذلك بكثير، وكان نقش ضريحه قد وضعه أستاذ الأوتوفر
Haute Oeuvre
في بوفيز
Beauvais ، مجرد ابتكار فكري مسحوب على وجود عقيم ومنحوس، وما الكنيسة القوطية للعصور الوسطى المتأخرة إلا شيء معد حسب الطلب، لقد ابتكرت صيغة بناء يجد داخلها الصانع، الذي أزاح الفنان، فرصة لا نهاية لها لعرض براعته. ثمة حاجة كبرى لمهارة المشعوذ وذوق الفطائري ما دامت قوة الحس وعبقرية الخلق قد فقدت، ثمة تجارة ناشطة في الأشياء الجميلة، وها هي المباني مرصعة بها من كل جانب، اذهب وأنعم النظر في كل على حدة إذا كان لديك سن للحلوى الرخيصة.
وخارج إيطاليا كان التصوير يتخذ، بعمد أكبر، الطريق الذي دلت عليه العمارة، وبميسورك في المخطوطات المزخرفة أن تشاهد الفظاظة المتصلة للخط واللون، ومع بداية القرن الرابع عشر كانت طلاءات ليموجس
Limoges
30
قد ساخت في ذلك السقوط الذي لم تحاول أن تقوم منه أبدا. أما عن التصوير خارج الألب بعد 1250م فحدث ولا حرج؛ فإذا كان الانحدار في التصوير الإيطالي أكثر رفقا؛ فلأن روح النهضة البيزنطية كانت تموت هناك موتا أكثر تعسرا، من جهة لأن الهبوط كان يعاق بفنانين أفراد ارتفعوا فوق ظروفهم، ولكن هنا أيضا كان الذهن يملأ الفراغ الذي تركه الانفعال؛ فالعلم والثقافة يعملان عملهما، وبحلول عام 1500م كان تيار الإلهام قد تضاءل على نحو مخيف بحيث لم يبق إلا ما يدير بالكاد عجلات رجال العبقرية، أما صغار الفنانين فكانوا فيما يبدو جاهزين لأن يسلموا أنفسهم للمحتوم؛ فما دمنا لم نغد فنانين نوقظ فلنكن صانعين ندهش. إنه لشيء مدهش أن نغري القنافذ بتفاحات مرسومة، ذلك يصيب الناس بالذهول. مثل هذه الأعمال، بالمناسبة، دون مستوى خلفاء جوتو، نحن نتركها للهولنديين الذين نحسدهم بعض الشيء رغم ذلك. لقد خسرنا الفن، فلندرس علم المحاكاة، فها هنا مجال للعلم والبراعة، ولأن رعاتنا الذين فقدوا إدراكاتهم الإستطيقية لم يفقدوا كل حواسهم، فلنتملقهم بأشياء تعبر عن الامتنان، لتكن أعنابنا وفتياتنا حلوة كما هي في الحياة، ولكن رعاتنا ليسوا جميعا حسيين؛ فبعضهم أساتذة، وتجارة محاكاة القديم جيدة كتجارة محاكاة الطبيعة. وعلينا نحن علم الآثار والخبرة، تلكم العلامتان التوءمان للفن المشلول؛ ذلك أن استجابة المرء للشكل تتطلب الحساسية، أما معرفة هل احترمت القواعد أم لا فلا تتطلب غير معرفة هذه القواعد، وبحلول القرن الخامس عشر يكون الفن قد أصبح مسألة قواعد، وتقييم الفن مسألة «خبرة»
connoisseurship .
الأدب ليس فنا خالصا بأي حال، قليل جدا من الأدب ما هو تعبير محض عن الانفعال، ولا شيء من الأدب، في اعتقادي، هو تعبير عن انفعال فوق بشري، معظم الأدب معني، إلى حد ما، بالحقائق والأفكار. إنه فكري؛ ولذا فإن الأدب مرشد مضلل لتاريخ الفن، وتاريخه هو تاريخ الأدب، وهو مرشد جيد لتاريخ الفكر. إلا أن الأدب في بعض الأحيان سيقدم لتاريخ الفن حظا جيدا من البنية الإضافية؛ مثال ذلك أن واقعة أن شارل الأكبر أمر بجمع الأغاني الفرنجية تصنع قلادة أنيقة لنهضة فن آكن؛ فالذين يبدءون في الجمع قد فقدوا الفورة الأولى للخلق، والتغير الذي أصاب الفن التشكيلي في فرنسا تجاه نهاية القرن الثاني عشر منعكس في المنجز التافه لكريتيان دي ترو
Chrètien de Troyes ،
31
وكان القرن الحادي عشر قد أنتج «أغنية رولان»
Chanson de Roland ، وهي قصيدة في عظمة وبساطة كنيسة رومانسكية. لقد ميع كريتيان دي ترو المفاهيم الهائلة لأعماله الأفضل ولوى بها إلى أوهام جيدة النسج. لقد أنتج قصيدة محلقة ورشيقة وغير دالة مثل «كاتدرائية روان»
Rouen Cathedral ،
32
وفي الأدب، مثلما هو في الفنون البصرية، صمد الأدب أطول صمود، وعندما سقط سقط مثل لوسيفر - سقوطا لا قيام بعده، لم يكن في إيطاليا نهضة أدبية، بل مجرد تقليب في ركام الهراء، وإذا كان ثمة رجل هو علامة وقف كامل فهذا الرجل هو بوكاتشيو
Boccaccio . مات دانتي في رافينا سنة 1321م، وكان موته نقطة تحول في التاريخ الروحي لأوروبا، ووراءه يقع ذلك الذي، إذا أخذ مع الكوميديا الإلهية، كسب لإيطاليا صيتا أدبيا مبالغا فيه، في القرن الثالث عشر كان هناك شعر كثير لا يقل كثيرا عن «مرثية رينالدو»
Lament of Rinaldo . وفي القرن الرابع عشر يجيء بترارك مع بلاء السبك المعسول.
ولينسني الله إن نسيت الفن الإيطالي العظيم للقرن الخامس عشر، ولكن، على الرغم من وجود كوكبة من العبقريات الفردية وحشد من المصورين الرائعين، فإن فن القرن الخامس عشر كان أبعد عن الامتياز من المصورين الجوتيين للقرن الرابع عشر، والمخرج الكلي للقرن الرابع عشر والخامس عشر أدنى بما لا يقاس من الإنتاج البيزنطي والرومانسكي العظيم للقرنين الحادي عشر والثاني عشر. الحق أنه أدنى في الكيف، إذا لم يكن في الكم، من الفن البيزنطي المتحلل والبيزنطي الإيطالي للقرن الثالث عشر؛ لذا سأقول إنه بنهاية القرن الرابع عشر، وبرغم أن كاستانيو
Castgno
وماسولينو
Masolino
وجنتي لدا فبريانو
Gentile da Fabriano
وفرا أنجليكو
Fra Angelico
كانوا أحياء، وكان ماساتشو
Masaccio
وبييرو
piero
وبليني
Bellini
قادمين لم يولدوا بعد، بدا كما لو أن الطريق الذي بدأ من القسطنطينية في القرن السادس على وشك أن ينتهي بمنزلق، ومن بودابست إلى سليجو يمثل «القوطي المتأخر» شيئا كريها بقدر ما هو «إحياء»، وبعد أن خرجت أوروبا سالمة من الشعاب العالية كانت فيما يبدو بسبيل إنهاء رحلتها بالتردي في جرف، كان على الاندفاع المتهور أن يوقف، وعلى الهبوط أن يهدأ بواسطة انعطاف غريب، بمغامرة خيالية، بانبعاث لم يكن ولادة جديدة، بل بالأحرى مرجل ميديا،
33
بمرض نابض بالحياة مليء بالتوق والضحك، كان للعالم القديم أن يمد أربعمائة عام أو نحوها، بواسطة القوة الصادمة ل «النهضة الكلاسيكية»
Classical Renaissance . (3) النهضة الكلاسيكية وآفاتها
The Classical Renaissance
and Its Diseases
لا تعدو «النهضة الكلاسيكية» أن تكون فتلة كبيرة في المنحدر الطويل، غير أنها فلتة كبيرة جدا، إنها حدث ذهني، من الوجهة الانفعالية كان الهزال الذي يبلي أوروبا يمضي في مساره، كانت النهضة مجرد ومضة محمومة، غير أن أهميتها للأدب هائلة؛ فبوسع الأدب أن يستقل بنفسه عن الصحة الروحية، والأدب معني بالأفكار قدر عنايته بالانفعالات، بوسع الأدب أن يعيش على الأفكار معززا مكرما؛ فتاريخ فينلي
Finlay
للإمبراطورية البيزنطية، على سبيل المثال، لا يثير انفعالا يذكر، غير أن بوسعنا أن نسلك فينلي في زمرة الأدباء، كذلك الحال بالنسبة لهوبس وممسن وسنت بيف وصموئيل جونسون وأرسطو؛ فبإمكان الفكر العظيم بغير شعور عظيم أن يصنع أدبا عظيما، وبين أقيم ما لدينا من كتب هناك شطر كبير لا ترجع قيمته إلى خصائصه الانفعالية، وحتى حين يستند العمل العظيم إلى خاصية انفعالية، فإلى أي حد يكون هذا الانفعال إستطيقيا؟ إنني أعرف أن المضمون الفكري والواقعي للشعر العظيم لا يكاد يسهم في دلالته بشيء؛ فالمعنى الحقيقي للكلمات في أغنيات شكسبير، وهي أنقى ما بلغه الشعر في اللغة الإنجليزية، هو في عامة الأحوال إما تافه أو مبتذل، إنها أغنيات أطفال حكائية أو أغاني غرف استقبال:
تعال، تعال إلي أيها الموت،
ووارني تحت سروة حزينة،
واغربي، اغربي عني أيتها الحياة؛
فقد قتلتني فتاة قاسية جميلة.
هل يمكن أن يكون هناك ما هو أكثر ابتذالا من هذا؟
هارك هارك
باو واو
كلاب الحراسة تنبح
باو واو
هارك هارك! أسمع
لحن ديك مختال
يصيح، كوك-آ-ديدل-داو.
ماذا عساه أن يكون أكثر هراء؟ وفي قريض شاعرنا الثاني ملتون (العظيم بحيث إن كلمة «الثاني» قبل اسمه تبدو زائفة كضحكة الأبله) فإن الأفكار ضحلة مرارا، والوقائع كاذبة عادة، وعند دانتي إذا كانت الأفكار عميقة أحيانا والانفعالات رهيبة فإنها، كقاعدة، ليست موافقة لأفضل مشاعرنا؛ فالوقائع أشبه بمحفوظات امرأة هابطة سليطة. إن موسيقى الشكل هي التي تصنع معجزة الشعر العظيم؛ فالشاعر يعبر في شكل لفظي عن انفعال لا يتصل بالألفاظ التي وضعها إلا صلة بعيدة، غير أنه يتصل بها على أية حال، وهو من ثم ليس انفعالا فنيا خالصا. إن الشكل ودلالته ليسا كل ما في الشعر؛ فالشكل والمضمون في الشعر ليسا شيئا واحدا، ورغم أن بعض أغنيات شكسبير تقترب من الفن الخالص فهي لا تخلو من واقع الأمر من أشابة. إن الشكل في الشعر مثقل بمضمون فكري، وهذا المضمون هو حالة نفسية تمتزج بانفعالات الحياة وتستند إليها، ومن هنا يعجز الشعر، رغم ما فيه من مواجد، عن أن ينقلنا إلى تلك الذرى العالية من الغبطة الإستطيقية التي ينقلنا إليها الشكل البصري والموسيقي الخالص بفضل انفصاله عن الحياة البشرية.
كانت «النهضة الكلاسيكية» قراءة جديدة للحياة الإنسانية، وما أضافته إلى رأس المال الانفعالي لأوروبا كان حسا جديدا بروعة الشئون الإنسانية، وإذا كان رجال النهضة ونساؤها قد اهتزوا ب «الفن» و«الطبيعة»؛ فلأنهم في «الفن» و«الطبيعة» رأوا انعكاساتهم الخاصة، لم تكن «النهضة الكلاسيكية» إعادة ميلاد بل إعادة اكتشاف؛ وذلك الخليط الرائع من الفكر والملاحظة والتوق والبلاغة والحذلقة - الذي نسميه أدب «النهضة» هو أفضل وأميز آثارها، والذي أعاد اكتشافه هو الأفكار التي من عليائها اكتسب القدماء رؤية للحياة، اقتبست «النهضة» هذه الرؤية، وبفعلها هذا نزعت الوخزة من الموت الروحي للعصور الوسطى المتأخرة. لقد بينت للناس أنهم نجحوا أيما نجاح بدون روح، وجعلت المادية محتلمة بأن بينت كم يمكن أن يعمل بالمادة والذهن، ذلك كان عملها الفذ. لقد علمت الناس كيف يبذلون غاية جهدهم رغم المصاعب، وأثبتت أنه بتثقيف الحواس وجعل الذهن يتفكر فيها تتسنى إثارة انفعال ما من صنف رديء، فعندما فقد الناس إبصار الروح سربلت الجسد برداء من فتنة.
كانت «النهضة الكلاسيكية»، جوهريا، حركة فكرية، مما يثبت ذلك، في اعتقادي، حقيقة أنها لم تمس الطبقات غير المتعلمة تقريبا. لقد عانوا من جرائها، ولم تقدم لهم أي شيء، وبينا موجة من الانفعال تفيض على الحدائق الخلفية، بقي تيار ذهني داخل في قنوات الري، لقد أتمت «النهضة الكلاسيكية» الانفصال بين العلية والعامة. كان اللورد القروسطي في قلعته والفلاح القروسطي في كوخه صنوين روحيين يفكران ويشعران نفس الشيء، ويضمران نفس الآمال والمخاوف ، ويتقاسمان إلى حد عجيب آلام ومسرات مجتمع بسيط وقاس نوعا ما، جاءت «النهضة» فغيرت كل ذلك. دخل اللورد عالما جديدا من الأفكار والحسية الرفيعة، وبقي الفلاح حيث هو، أو تدنى أكثر حيث بدأت بقايا الدين الروحي في الزوال عند الطغام. لم يتغير الفن الشعبي إلا ببطء شديد بحيث إننا في أواخر القرن الخامس عشر وفي القرن السادس عشر لا نزال نجد في الأركان القصية أشياء خاما ولكن بالغة الإثارة. كان بناء القرية لا يزال بوسعه أن يخلق بالحجر في الوقت الذي كان فيه جاك كور يبني لنفسه أول «مقام جدير بمليونير» يتم إعلاؤه منذ أيام هونوريوس
Honorius ، ولكن تدهور الفن الشعبي ببطء مع تقدم الفن البلوتوقراطي عدوا، ذلك حدث غريب سرعان ما ضاعت آثاره. أما الحقيقة الجليلة فهي أن أوروبا النهضة بالتأكيد قد أدارت ظهرها للرؤية الروحية للحياة، بهذا التخلي تصبح القدرة على خلق الشكل الدال هي الموهبة الملغزة للعبقرية العارضة، فينتج فرد من هنا وهناك عملا فنيا؛ ومن ثم صار الفن يعتبر شيئا متفرقا في الصميم وغريب الأطوار. يعد الفنان أعجوبة، ها نحن أولاء في عصر الأسماء والفهارس وعبادة العبقرية، ألا إن عبادة العبقرية هي علامة لا تخطئ على عصر غير خالق، أما في العصور العظيمة فقد لا نكون جميعا عباقرة ولكن كثيرا منا فنانون، وحيثما كان هناك كثرة من الفنانين يميل الفن إلى أن يصير غفلا (من الاسم).
كانت «النهضة الكلاسيكية» شيئا مختلفا في النوع عما قد أسميته «النهضة المسيحية»، وهي تقع بالضرورة في موضع ما بين سنة 1350 و1600م، ضعها حيث شئت، أما أنا فأتصورها دائما كثوب رائع وجيد التفصيل قد من السنوات الواقعة بين 1453 و1594م، بين سقوط القسطنطينية ووفاة تينتوريتو
Tintoretto ؛ وهي عندي عصر ليوناردو، وشارل الثامن، وفرنسيس الأول، وقيصر بورجيا، وليو العاشر، ورفائيل، ومكيافيللي، وإرازموس الذي ينتقل بنا إلى المرحلة الثانية، فترة السياسة الكنسية الغاضبة لكليمنت السابع
Clement VII ، وفونتينبلو
Fontainebleau ، ورابيليس
Rabelais ، وتيتيان
Titian ، وبالاديو
، وفيزاري
Vesari ، ولكن على أي تقدير فإن «النهضة الكلاسيكية» تقع بين العلو الروحي لأوائل القرن الثاني عشر والمادية الوطيدة لأواخر القرن السادس عشر، وأيما شيء حدث فإنما حدث بين هذين التاريخين، وكل ما حدث بالفعل لا يعدو أن يكون تغيرا من رجولة متأخرة إلى شيخوخة مبكرة مضاعفة بانتقال لمنزل آخر، وجالبة معها هوايات وحرفا جديدة، الانحدار من القرن الحادي عشر إلى السابع عشر مستمر ويتوقع، أما التغير من عالم أوريليان إلى عالم جريجوري الأكبر فكارثي، منذ «النهضة المسيحية». ورغم الأفكار والمعرفة الجديدة، فقد أفسد العالم بالاحتشام والنظام، ولزمه أكثر من إعادة اكتشاف النصوص الإغريقية والتماثيل الإغريقية-الرومانية لكي تثار الجوائح والزلازل التي ردته شابا.
كان فن «النهضة العالية» (ذروة النهضة)
High Renaissance
مكيفا بمطالب رعاته، ولا غرابة في ذلك؛ فهو مرحلة معروفة في مسيرة الانحدار، كان رعاة «النهضة» يريدون كثيرا من الجمال من الصنف المفضل لدى السماسرة السريعي التأثر، إلا أن بلوتوقراطيي القرن السادس عشر كان لديهم ذوق رقيق وحساس قمين بأن يجعل منازل وطرائق السماسرة المحدثين غير محتملة بالنسبة لهم. قد يكون مليونيرات «النهضة» سوقيين غلاظا ولكنهم كانوا سادة عظاما؛ فهم ليسوا أوغادا أميين، ولا بيوريتانيين فضوليين، ولا حتى مخلصي مجتمع، غير أننا إن شئنا أن نفهم الرواج المذهل لنساء تيتيان وفيرونيز
Veronese
يتعين علينا أن نلاحظ عذوبة مقبلهن ورغبتهن الواضحة في أن يقبلن، هذا الجمال الذي يمكن أن نستبدل به كلمة
desirableness «مرغوبية»، وهذا الجمال غير الدال الذي هو جمال الجواهر، كان مطلوبا بشدة. المحاكاة أيضا كانت مطلوبة؛ فإذا كان على الصور أن تسرنا بوصفها اقتراحات أو تذكارات، توجب للأشياء التي تقترح أو تذكر أن تصور بإتقان، تعين على هذه الصور أن تثير انفعالات الحياة أولا. أما الانفعال الإستطيقي فكان أمرا ثانويا، كان المقصود من لوحة «النهضة» أن تقول بالضبط تلك الأشياء التي يود الراعي أن يسمعها، وفي هذا الطريق تكمن نهاية الفن. قد يكون من الخبث أن تحاول أن تصدم الدهماء، ولكن الأخبث منه أن تحاول إرضاءها. ولكن بغض النظر عما اضطر مصورو «النهضة» أن يقولوه، فقد قالوه بالطريقة الرفيعة، تذكر أننا لسنا هولنديين؛ لذا دع كل صورك توعز بالانفعال المناسب بواسطة الإيماء المناسب؛ الإيماء الذي يكرسه التقليد العظيم، أطراف مشدودة، سيماء الحب والكره والحسد والخوف والرعب، أعين تشخص لأعلى أو تغض لأسفل، أياد مبسوطة أو مقبوضة في يأس؛ فبواسطة عدتنا الرائعة، ومهارتنا الأروع، يمكننا أن نقدم لهم كل ما يطلبونه دون إحباط الفوتوغرافيين. غير أننا لسنا جميعا رواة؛ فبعض رعاتنا شعراء، العالم المرئي عند هؤلاء لا يوحي بحالات مزاجية أو، على أية حال، يتعاطف معها. هؤلاء يقدرون الأشياء لارتباطها بهزل الحياة وحماقتها وعاطفتها الرومانسية، ولهؤلاء أيضا نحن نرسم صورا، وفي صورهم نحن نضفي على الطبيعة من الإنسانية ما يكفي لجعلها شائقة: سيدي الراعي فاسق؟ سيمنحه كوريجيو
Correggio
خلفية لمزاجه، سيدي جليل؟ سينبئه مايكل أنجلو أن الإنسان حقا حيوان نبيل عضلاته متمعجة بشكل بطولي مثل زنبركات الساعة. أنتج القرن السادس عشر جنسا من الفنانين متميزا من حيث شعورهم بالجمال المادي، ولكنه عادي، يجيء حيث هو عند قدم التلال، من حيث حرفيتهم التقنية وفقرهم الإستطيقي. البراعة الحرفية تمسك الشمعة التي تفضح خواء الخزانة، الدلالة الإستطيقية للشكل لا تحس إلا إحساسا واهنا وغير خالص، والقدرة على خلقه مفقودة تقريبا، غير أن الأوصاف الأدق قلما تم تصويرها. لقد عرفوا كيف يصورون في القرن السادس عشر، أما عن البدائيين - باركهم الله - فقد بذلوا وسعهم، ماذا كان بوسعهم أكثر من ذلك وهم لا يقدرون حتى على تدوير فخذي امرأة؟
كانت النهضة إعادة ولادة أشياء أخرى إلى جانب تذوق أطراف مستديرة والعلم الخاص بتمثيلها، وها نحن نسمع مرة ثانية بمرضين، متوطنين في روما الإمبراطورية، يحصن كل مجتمع حيوي وعفي نفسه منهما بدرجة معقولة؛ تصيد النادر، والاطلاع الواسع. ليس بوسع هذين الطفيليين التمكن من جسم صحيح، إنما على المادة الميتة أو المحتضرة ينموان ويسمنان؛ فشهوة تملك ما هو نادر ليس إلا؛ هي مرض ينشأ عندما تشيخ الحضارة، ويلازمها إلى القبر، إنه إعفيني (
saprophytic )،
34
لك أن تسمي صائد النوادر «جامعا»
collector
إذا كنت لا تعني بالكلمة ذلك الذي يشتري ما يسره أو يحركه. من المؤكد أن مثل هذا الشخص لا يستحق الاسم ؛ فهو يفتقد غريزة العقعق الحقيقي؛ فالقيمة الباطنية للعمل الفني عند «الجامع» الحقيقي هي شيء غير ذي صلة؛ فالأسباب التي تجعله يثمن لوحة هي تلك الأسباب التي تجعل جامع الطوابع يثمن طابع بريد، وبالنسبة له يعد سؤال «هل هذا يحركني؟» سؤالا مضحكا، والسؤال «هل هو جميل؟» يعد سؤالا عقيما. ورغم أن جامع الطوابع أو الأعمال الفنية، الشديد التذوق، يسمح للجمال أن يكون جوهرة جميلة في تاج الندرة، فإنه يود منا أن نفهم أن القيمة التي تسبغها هي قيمة عرضية وتعتمد في وجودها على الندرة. لا ندرة لا جمال. أما عن القيمة الإستطيقية الأعمق، فلو قدر لإنسان أن يعتقد في وجودها لكف عن أن يكون جامعا. والسؤال الذي يجب أن يطرح هو: «هل هذا نادر؟» افترض أن الرد بالإيجاب فسيبقى سؤال آخر: «هل هو أصلي؟» إذا كان عمل أي فنان معين غير نادر، إذا كان العرض يفي بالطلب، فيبقى أن يستنبط أن العمل غير ذي شأن كبير؛ فالفن الجيد هو الفن الذي يجلب أسعارا جيدة والأسعار الجيدة تأتي من قلة المعروض، ولكن رغم أن من المشهور أن عمل فلاسكويز
Velasquez
نادر نسبيا؛ ومن ثم جيد، فإنه يبقى أن يحكم ما إذا كانت لوحة معينة عرضت بخمسين ألفا هي حقا من عمل فلاسكويز.
يدخل الخبير
the expert ، الذي أود أن أميزه عن الأركيولوجي وعن الناقد، الأركيولوجي رجل لديه فضول أحمق وخطر عن الماضي، وأنا شخصيا بي من الأركيولوجي خصلة، الأركيولوجيا خطرة لأنها يمكن أن تغشي بسهولة على حساسية المرء الإستطيقية؛ فقد يشرع الأركيولوجي، في أية لحظة، في تثمين عمل من أعمال الفن لا لأنه عمل جيد بل لأنه قديم أو شائق. ورغم أن هذا أقل سوقية، من تثمينه لأنه نادر أو غال فإنه قاتل للتقدير الإستطيقي بنفس الدرجة، ولكن ما دمت على إدراك ببطلان علمي، ما دمت أدرك أنني أعلي من قدر العمل الفني لأني أعلم متى وأين صنع، ما دمت أدرك أنني في الحقيقة في وضع غير موات في الحكم على فسيفساء القرن السادس حين أقارن بشخص لديه نفس الحساسية، ولكنه يعلم ولا يهمه شيء عن الرومان والبيزنطيين، ما دمت أدرك أن النقد الفني والأركيولوجيا شيئان مختلفان؛ فإنني أرجو أن يسمح لي أن أقرزم في هوايتي المفضلة دون أن أفضح، آمل ألا ينالني أذى.
يبدو لي النقد الأدبي في الحالة الراهنة للمجتمع مهنة محترمة وربما مفيدة، يعيش التحيز ضد النقاد، شأنه شأن معظم التحيزات، على الخوف والجهل، وهذا التحيز لا ضرورة له على الإطلاق وهو ساذج نوعا ما؛ فالنقاد في الحقيقة لا ينبغي التهويل من شأنهم. يشك الناس أن النقاد يمارسون كل ضروب السطوة؛ صنع الصيت وطمسه، التضخيم والتقزيم، الترويج والاستغلال؛ وهي أشياء لا أحسبهم قادرين عليها، وبرغم الرأي الشائع عنهم فأنا لا أظن أن النقاد ذوو قوة جبارة، ولا أنهم فاسدون تماما، الحق أني أرى بعضهم شخصيات بريئة بل محببة. تلك التعريضات الخبيثة (والمتملقة رغم ذلك) والاتهامات المفتوحة بالفساد تخبو بشكل مفجع إذا نظر المرء كم هو ضئيل ما يؤمل فيه ناقد الفن الحديث من تقريظ لوحات تباع بعشرين أو ثلاثين جنيها للواحدة. واعلم أن الخبير عرضة لشيء من الغواية. إذ إن بضع كلمات منه محكمة الوضع قد ترفع لوحة من عشرين ماركا إلى عشرين ألف مارك، ولكن خلق الخبير، كما يعرف الجميع، هي فوق الشكوك. قد تكون مهنة الناقد غير ذات جدوى، ولكنها قد تكون صادقة، وهل هي، بعد كل شيء، أقل جدوى من جميع المهن الأخرى باستثناء المهن المتعلقة بخلق الفن، وإنتاج الطعام والشراب والطباق وحمل أطفال ملاح؟
إذا «الجامع» سألني كناقد عن رأيي عن لوحة فلاسكويز التي يوشك أن يشتريها، فسأخبره بصدق عن رأيي فيها كعمل فني، سأخبره إن كانت تهزني كثيرا أو قليلا، وسأحاول أن أبين له تلك الكيفيات والعلاقات الخاصة بالخط واللون التي يبدو لي أنها تمتاز فيها أو تقصر، سأحاول أن أعلل درجة انفعالي الإستطيقي. هذه في تصوري هي وظيفة الناقد، أما كل التخمينات عن «أصلية»
authenticity
العمل القائمة على دلالته الشكلية، أو حتى على كماله التقني، فهي مجازفة للغاية؛ فهناك دائما احتمال بأن شخصا آخر كان كفؤا للأستاذ كفنان وكصانع، وأن لهذا الشخص الآخر، ربما، كما هائلا من الإنتاج. قد يبيع الناقد للجامع جروا عاديا بدلا من القطعة غير المدرجة في الفهرس؛ ومن ثم يلتمس الجامع من يستطيع أن يزوده بدليل على أصلية لوحته من ذلك الصنف الذي يرضي حكما خاصا ويحير تاجرا مشتريا، ويضحك مقهقها على البرهان الفني في الدوريات الصغيرة والمجلدات الكبيرة. إن الدليل التوثيقي هو ما يفضله، غير أنه إذا افتقد هذا الدليل فإنه سيتحمل أي تلفيق ماكر للتواريخ والعلامات المائية، والتوقيعات السرية، والتشققات، وصدأ القدم، والخصائص الكيميائية للدهان والخامة، والورق، والقماش، وكل ضروب البرهان غير المباشر، التاريخي والبيوجرافي، والحيل المكشوفة للفرشاة والقلم، ف «الجامع» إنما يستدعي «الخبير» لكي يقدم ويعرض هذا الصنف من الأدلة.
وأيما شخص قادته الصدفة أو سوء الحظ إلى أوكار الجامعين والخبراء سوف يسلم بأنني لم أبالغ في تصوير هول الأمراض التي ورثناها عن «النهضة الكلاسيكية»، وسيكون قد سمع بقيمة لوحة حددت بناء على تفسير رسالة، وسيكون قد سمع باللوحة التي تشرح من جميع وجهات النظر إلا وجهة ذلك الذي يحس دلالتها: من صنع هذه اللوحة؟ من دفع ثمنها؟ كم دفع؟ عبر أي مجموعات مرت هذه اللوحة؟ ما هي أسماء الشخوص المصورين فيها؟ ما هو تاريخهم؟ ما هو طراز وقصة ستراتهم وبنطالاتهم ولحاهم؟ كم ستساوي في معرض كريستي؟ كل هذه أسئلة للمناقشة، ولسوف تناقش في الحصة التعليمية، ولكن هل سمع أحد في اجتماعات الخبراء شيئا قط عن المزايا الإستطيقية لرائعة فنية يتجاوز ما هو تعليق بارد وسخيف؟
لقد رأينا الأساتذة في شقاق حول أصلية لوحة في «الجاليري القومي»، يندلع الخلاف حول تفسير علامات معينة في زاوية القماشة، أهي توقيع أم ليست توقيعا؟ وأيا ما يكون الحكم الأخير فاللوحة ستبقى هي اللوحة، غير أنه إن أمكن إثبات أن العلامات هي توقيع التلميذ، ستكون اللوحة عديمة القيمة. إذا تكشف أن «فينوس» لفلاسكويز هي موديل إسبانية من عمل دشل أمازو
Del Mazo
فإني أجزم أن أولئك العظام الذين يرشدوننا ويعلمون الناس أن تحب الفن سوف ينظرون إلى اللوحة باعتبارها قد تدنت إلى منزلة متواضعة تلائم صانعها، إنما هذا التحالف غير المقدس بين «الخبرة»
Expertise
والسلطة الرسمية
Officialdom
هو ما يهدر عشرين ألفا على لوحة لفرانز هالز
Frans Hals
معتمدة لا شك فيها، وأربعين ألفا على لوحة لمابيوز
35
لن يود أي فنان صغير أن يستدين من أجلها.
36
كان بوسع المشتري الحصيف مقابل النقود أن يحوز واحدة من أرقى المجموعات في إنجلترا؛ فالمعروض كبير والأسماء غير تاريخية. إن التنفج يسوغ صورة شخصية (بورتريه) لسيدة عظيمة وإن كانت من صنع بولديني
Boldini ، وحتى السيد لارفي قد يحتفى به إذا جاء بصورة لملك، ولكن أنى لمحتسبينا أن يعلموا ما إذا كانت صورة لفرد من العامة، أو لشيء غير حي وغير مشهور، من صنع ديجا أو سيزان، ما إذا كانت جيدة أم رديئة، فما يهمهم أن يعرفوا ما إذا كانت لوحة لهالز جيدة، بل يهمهم أن يعرفوا أنها لهالز.
لن أعرض بأي تفصيل نهاية المنحدر، من بداية القرن السابع عشر إلى وسط القرن التاسع عشر، القرن السابع عشر غني بالعبقريات الفردية، ولكنها فردية؛ فمستوى الفن فيه هابط جدا والأسماء الكبيرة لإلجريكو
El Greco
ورمبرانت
Rembrandt
وفلاسكويز
Velasquez
وفيرمير
Vermeer
وروبنس
Rubens
وجوردينس
Jordanes
وبوسان
وكلود
Claude ، وكذلك رن
Wren
37
وبرنيني
Bernini (كمعماريين)، هذه الأسماء تبرز متفردة، ولو أنهم عاشوا في القرن الحادي عشر فربما ضاعوا في حشد من الأكفاء المغمورين؛ فرمبرانت مثلا، وهو ربما يكون حقا الأنبغ بينهم جميعا، هو انهيار صميم لعصره؛ فباستثناء بضعة من أعماله المتأخرة كان حسه بالشكل والتصميم ضائعا تماما في خليط من الخطابة والرومانس والكياروسكيورو.
38
ولا يمكن أن نسامح القرن السابع عشر فيما فعله بعبقرية رمبرانت؛ فمن مزاياها العظيمة على سلفه أن القرن السابع عشر كان قد كف عن الاعتقاد بصدق في أفكار «النهضة الكلاسيكية»، لم يسع المصورين أن يكرسوا أنفسهم لاقتراح انفعالات الحياة غير ذات الصلة لأنهم لم يشعروا بها،
39
وبسبب افتقاد الانفعال البشري ارتدوا إلى الفن. لقد تحدثوا كثيرا عن الشهامة والنبالة غير أنهم كانوا يفكرون أكثر في «التصميم الإنشائي»
Composition ؛ فمثلا في أفضل أعمال نيقولاس بوسان، الفنان العظيم في ذلك العصر، ستلاحظ أن الشكل البشري يعامل كشكل قد من ورق ملون لكي يدبس كما يشير التصميم الإنشائي. هذه هي الطريقة الصحيحة للتعامل مع الشكل البشري، إنما يكمن الخطأ في جعل هذه الأشكال تحتفظ بالإيماءات المميزة للبلاغة الكلاسيكية، وبالطريقة نفسها تقريبا يعامل كلود المعابد والقصور والأشجار والجبال والمواني والبحيرات، مثلما يمكنك أن ترى في لوحاته الرفيعة بالجاليري القومي، وهي المعلقة هناك، بجانب لوحات تيرنر. لعل العالم يرى الفرق بين فنان عظيم وشاعر ما بعد العشاء. كان تيرنر
Turner
مأخوذا بملاحظاته وعواطفه بحيث سجلها جميعا دون حتى أن يحاول أن ينسقها في العمل الفني: من الواضح أنه لم يكن يمكنه أن يفعل ذلك على أي حال. تلك كانت فكرة رخيصة ومضطغنة أملت الفقرة التي تقضي بأن لوحاته سوف تعلق إلى الأبد إلى جانب لوحات كلود. لقد ود أن يلفت الانتباه إلى فرق وقد نجح نجاحا لم يكن يتوقعه؛ فاللعنات كالدجاج تأوي إلى البيت لتبيت.
في القرن الثامن عشر، حيث ندرة العبقرية، ندرك بوضوح أكبر أننا على السهول، كان شاردان هو الفنان العظيم الواحد، وكان أغلب الفنانين منجدين للنبلاء والطبقة العليا؛ فالبعض يبتكر أثاثا أنيقا لغرفة الطعام، والبعض الآخر يبتكر حلى صغيرة أنيقة لمخادع السيدات، والكثير منشغلون على الدوام بتصوير عائلة جلالته أو جلالتها لكسب تبجيل الأجيال القادمة. إن تصوير القرن الثامن عشر وسائل إيضاح باهرة لا تزال بها لمسة فنية؛ فعند واتو
Watteau
مثلا وكاناليتو
Canaletto
وكروم
Crome
وكوتمان
Cotman
وجاردي
Guardi
ثمة بعض الفن، وبعض الألمعية، وكثير من الإيضاح الجذاب. وعند تيبولو
Tiepolo
قلما نجد أي شيء عدا الألمعية، ولا يدرك المرء وجود مزايا أخرى ما لم يضع عمله بجانب عمل السيد سارجنت
Sargent . وعند هوجارث
Hogarth
قلما نجد أي شيء عدا الإيضاح، ولا يدرك المرء وجود مزايا أخرى إلا إذا تذكر عمل «المبجل جون كولير»
Hon. John Collier . وإلى جانب المنجدين الذين يعملون للأرستقراطيين هناك فئة أخرى يدعمها خبراء الذوق
connoisseurs . هناك الثقلاء ذوو الضمير الذين كان هدفهم المتواضع هو أن يصوروا ويرسموا بطريقة رفائيل وميكلانجلو. إن هدفهم الأول هو الالتزام بالقواعد، والهدف الثاني أن يبدوا بعض المهارة في هذا الالتزام، وليس على المرء أن يكترث بهم.
قوة الخلق إذن مفقودة تقريبا، وعلى الرسامين أن يقنعوا بنسخ أشياء جميلة. كان العمودان التوءمان للتصوير في القرن الثامن عشر ما أسموه «الموضوع»
subject
و«المعالجة»
treatment ، فلكي ترسم لوحة جميلة، لوحة مخدع، فعليك بامرأة جميلة، والحظ عنها ما قد يلحظه رفيق عشاء محتشم ومهذب، وسجل هذا في ألوان زاهية وكتل من الأبيض الصيني، ولك أن تفعل الشيء نفسه بطاقم أدوات زينتها وأثوابها النزوانية وأسمار نزهتها. قم بمحاكاة أي شيء جميل وثق بفلاح عملك، ولكي تصنع لوحة نبيلة، قطعة غرفة طعام، فعليك أن تأخذ نفس السيدة وتلبسها خيتونا دوريا
40
أو ديبلويدا وشملة دورية، أعطها كأسا صغيرة ورقيبا وكبش أضحية ومنظرا بعيدا لتيفولي،
41
دور تخطيطك واجعل ضربات ريشتك طويلة ومنحنية قليلا، عليك بالأصباغ الهادئة والحارة نوعا، وأطلق على الشيء النهائي «ديدو تصب شرابا لإلهة الحب.» ولكي ترسم لوحة معرض، وهو المفضل لدى خبراء الذوق الأكثر تشددا، تأكد من أنك لم تضع أي علامة لا يمكنك أن تجد لها مسوغا عند روبنس أو سارتو
Sarto
أو جيدو رني
Guido Reni
أو تيتيان أو تينتوريتو أو فيرونيز أو رفائيل أو ميكلانجلو أو عمود تراجان،
42
ولمزيد من المعلومات ارجع إلى «المقالات» لسير جوشو رينولدز
Sir Joshua Reynolds ، إدارة الطرق العامة، الذي تتحلى وصفاته بميزة قلما نصادفها في أطباقه؛ السطوع.
43
إن رد الفعل من الكلاسيكي إلى الرومانسي مسجل في حينه بتغيير الموضوع؛ فتصبح الأطلال والتاريخ القروسطي صيحة رائجة، وبالنسبة للفن، الذي لا يكترث كثيرا بالفقاعات الأنيقة للقرن الثامن عشر ولا بالفيض المزبد للصحوة الرومانسية، فإن هذا التغير لا يعدو أن يكون التأرجح الخاص ببندول غير ذي صلة، غير أن الأفكار الجديدة أدت بشكل محتم إلى النزعة الأثرية
antiquarianism ، ووجد الأثريون شيئا أثيرا للغاية في أسوأ ما في الفن القوطي. الرسامون الطائعون اتبعوا المتعالمين المغرورين، وهل لديهم شيء آخر لكي يتبعوه؟ وشاردون من عصر العقل أقعدوا لكي يجملوا ملائكة تتكلف الابتسام. لم يعد مسموحا الاكتفاء بقواعد اللياقة أو الوقار الشخصي؛ فمطلوب منهم تحلية لحمهم البارد بأقصى قدر من العواطف الغرامية والدينية يمكنهم إفرازه، بينا الزملاء الجدد، الأقل صدقا بكثير من القدامى، الذين لم يحسوا شيئا ولم يقولوا شيئا، يبدءون في تكلف سيماء الفنانين، هؤلاء الفيكتوريون لا يطاقون؛ فبعد أن فقدوا الحرفة القديمة لم تعد اللوحات التي يصنعونها عديمة الدلالة بلطف، إنها لتخور خوارا منكرا.
وحوالي منتصف القرن التاسع عشر كان الفن ميتا تقريبا قدر ما يسع الفن أن يموت، كان الطريق يجري موحشا خلال المستنقعات الواطئة، كان هناك بالطبع أناس يحسون أن المحاكاة (سواء محاكاة الطبيعة أو محاكاة عمل فني آخر) لا تكفي، ويشعرون بالحنق على تسمية المنتجات الرائجة ل «الأربعينيات» و«الخمسينيات» فنا، غير أنهم بعامة كانوا أقل سطوة من أن يصنعوا احتجاجا مؤثرا، وحيث إن الفن لا يمكن أن يموت موتا تاما، وإنما يرقد عليلا في كهوف وقباء، فقد كان هناك دائما واحد أو اثنان يحق لهما أن يسميا نفسيهما فنانين؛ فها هو أنجر
Ingres
44
العظيم يتخطى كروم
Crome ، وكورو
Corot
ودومييه
Daumier
يتخطيان أنجر، ثم يأتي «الانطباعيون»
Impressionists ، إلا أن معظم التصوير والنحت كان قد ساخ في شيء لا يحلم شخص ذكي ومثقف أن يسميه فنا، وإنما في تلك الأيام تم اختراع السلعة التي لا تزال المنتج الرائج للمعارض الرسمية في طول أوروبا وعرضها، وبوسعك أن ترى أطنانا منه كل صيف في برلنجتون هاوس وفي «الصالون»
The Salon . الحق أنك قلما ترى شيئا غيره هناك، إنه لا يدعي أنه فن، وإذا كان منتجوه يظنونه فنا في بعض الأحيان فإنهم يفعلون ذلك بكل براءة؛ إذ ليس لديهم أي فكرة عما يكونه الفن؛ فكلمة «الفن» إنما يعنون بها محاكاة الأشياء، وحبذا لو كانت أشياء جميلة وشائقة، هكذا قال المتحدثون بلسانهم مرارا وتكرارا. إن صنف الشيء الذي بدأ يقوم مقام الفن حوالي 1840م، وما زال يعتبر مرضيا للطبقة المتوسطة الدنيا، كان قمينا أن يكون غير متصور في أي وقت بين سقوط الإمبراطورية الرومانية ووفاة جورج الرابع، وحتى في القرن الثامن عشر، عندما كانوا عاجزين عن خلق الشكل الدال، كانوا يعرفون أن المحاكاة الدقيقة لا جدوى لها في ذاتها، وليس قبل أن يمكن لنفسه التصوير الرسمي (والنحت والعمارة الرسميان) ويقبل كبديل للفن. يمكننا أن نقول عن يقين إن المنحدر الطويل الذي بدأ مع البدائيين البيزنطيين قد انتهى، غير أننا وقد بلغنا هذه النقطة نعرف أننا لا يمكن أن نهبط أكثر من ذلك.
علينا أن نسم النقطة التي بالقرب منها ماتت اندفاعة ضخمة، ولكن ليس علينا أن نتلكأ في المستنقعات الآسنة (أو علينا ألا نوغل فيها إلا لكي نقول كلمة عدل). لا تقذع في لوم المصورين الرسميين، أحياء أو أمواتا، ليس بوسعهم أن يضيروا الفن؛ لأنهم لا علاقة لهم بالفن؛ ليسوا فنانين. إذا لم يكن بد من اللوم فلتلم هذا الجمهور الذي بعد أن فقد كل فكرة عما يكونه الفن جعل يطلب، ولا يزال يطلب، بدلا منه الشيء الذي يمكن لهؤلاء المصورين أن يقدموه. التصوير الرسمي نتاج ظروف اجتماعية لم تزل بعد. آلاف الناس الذين لا يهمهم الفن البتة لديهم القدرة على شراء لوحات ويمارسون عادة شراء اللوحات. إنهم يريدون خلفية، تماما مثلما كانت سيدات النظام البائد وسادته يريدون خلفية، لا فرق إلا في أن فكرتهم عما ينبغي أن تكون الخلفية مختلفة؛ يقدم رسام التجارة ما هو مطلوب، ولسذاجته يسميه فنا، إنه ليس فنا، وليس حتى سببا من أسباب الراحة، غير أن هذا يجب ألا يعمينا عن حقيقة أنه منتج صادق. أعترف أن الرجل الذي ينتجه يرضي ذوقا سوقيا وغير مربح، كذلك يفعل التاجر الشديد الاستقامة الذي يدفع بهليون تفه لسوق الكريسماس. لن يكترث سير جورجيوس ميداس أبدا بالفن، ولكنه سوف يحتاج دائما لخلفية، وما لم يعتر الأشياء تغير مفاجئ فسوف يمر وقت قبل أن يفقد القدرة على الحصول على ما يريد ، مقابل جائزة. ومهما تكن روعة وحيوية الحركة الجديدة، فهي في تصوري لن تقضي وحدها على مهنة صناعة الصور. سوف تخبو التجارة ولكني أشك أنها سوف تبقى حتى لا يكون ثمة من يقدر على اقتناء تنجيد منظراني، حتى لا يكون ثمة مشترون إلا أولئك الذين يضحون عن طيب خاطر من أجل فرحة امتلاك عمل فني. (4) يخرج الحي من الميت
Alid Ex Alio
45
في القرن التاسع عشر بدا أن الروح تدخل فترة حضانة من تلك الفترات الاستثنائية التي تذكرنا على الفور بالعصر الذي شهد المرض الأخير للإمبراطورية الرومانية وللحضارة الهليلينية. ثمة شيء ما يبعث على القلق بشأن الفيكتوريين والحركة الفيكتورية، لكأنما المرء إذ رأى القرش وقد سقط «كتابة» يهم فجأة أن يكشف النقاب عن ظل «ملك»، لقد كان يسعك أن تقسم أنه كان «ملك»، إنه شيء لا يهم ولكنه مقلق، وربما يهم فعلا بعد كل شيء. حين ينظرون من زوايا نائية يأخذ القضاة والوزراء الفيكتوريون سيماء المتآمرين، ثمة شيء نبوئي في السيد جلادستون، أما في برنامج نيوكاسل فثمة شيء مثير للشفقة. تؤخذ فرضيات محترمة متضمنة أحقر النتائج، ومع ذلك فالطبقات المحترمة تنظر، بينما الأناركيون والسوبرمن مروعون لا أكثر بلعب الورق وشرب الشمبانيا من جانب من هم أغنى منهم، واللاأدريون يرون إصبع الرب في سقوط باريس الملحدة، والفرديون يصخبون من أجل قوة شرطية أكبر وأكثر يقظة.
هكذا يبدو لنا القرن التاسع عشر، معظم الجبال تتمخض عن فئران مزرية، ولكن الأجزاء ترتج بزوابع في فناجين ذهنية، و«قبل الرفائيليين»
يعترضون على تقليد النهضة الكلاسيكية كله، ويضيفون بضعة أسماء إلى القائمة الثقيلة للمصورين المعروفين برداءتهم، و«الانطباعيون الفرنسيون» يدعون أنهم لا يفعلون أكثر من دفع نظرية التمثيل السائدة إلى نهايتها المنطقية، وفي ممارستهم يصورون بعض اللوحات المجيدة. ليس هذا فحسب بل يزلزلون الموروث المهلك ويذكرون الشطر الأذكى من العالم أن الفن البصري لا علاقة له بالأدب من قريب أو بعيد، ويرسم ويسلر
Whistler
جزءا فحسب من الدرس الصحيح، وآه لو كان فنانا أعظم مما هو، غير أنه كان فنانا على كل حال. وحوالي سنة 1880م انقرضت السلالة تقريبا في هذا البلد.
46
وخلال ضباب القرن التاسع عشر، الذي بدأ في 1830م، تلوح نذر عملاقة؛ فجميع الشخصيات الكبرى تنذر بسوء، فهم إذا كانوا لا ينتمون إلى النظام الجديد فإنهم يجعلون النظام القديم مستحيلا، كارليل
Carlyle
وديكنز
Dickens
وفيكتور هوجو
Victor Hugo ، نتاج العصر ومحبوه بعنف. فلوبير
Flaubert
يشير بإصبع الازدراء. إبسن
Ibsen ، أحد بدائيي العالم الجديد، يكشف الصدوع في جدران القديم. تولستوي قانع بألا يكون أكثر من بدائي حتى أصبح مجرد شخص ممل. وبانشغاله بعمله الخاص وضع دارون عمل كل شخص آخر موضع التساؤل. وبإحداث ومضات جديدة من آلة قديمة كشف فاجنر جوانب القصور في الموسيقى الأدبية. وفي مستهل القرن العشرين برز سؤال كان حتى الثورة الفرنسية سؤالا أكاديميا متحفظا فيه، وشق طريقه إلى داخل السياسة: «لماذا يعد هذا خيرا؟» وبفضل الجماليين (المتطرفين)
Aesthetes
والانطباعيين الفرنسيين بصفة رئيسية استيقظ ضمير إستطيقي كان هاجعا منذ ما قبل أيام «النهضة»، وشرع يصيح: «هل هذا فن؟»
ومن الطريف أن نتذكر أن أول ضجة متفق عليها أثيرت ضد «النهضة» وعقابيلها الصارخة كانت في إنجلترا؛ فالحركة الرومانسية، التي كانت فرنسية وألمانية بقدر ما هي إنجليزية، كانت مجرد رد فعل من كلاسيكية القرن الثامن عشر، ولم تهاجم الاستبداد السائد إلا قليلا، ولم تنبذه إلا أقل القليل. إن من حقنا أن نبتهج بحركة «قبل الرفائيليين»
كشاهد للتفوق الحاسم لإنجلترا في الاستقلالية وعدم التقليدية في التفكير، يبدأ الإحباط عندما يتعين أن نعترف بأن الثورة لم تفض إلا إلى عدد هائل من اللوحات الرديئة وإلى عاطفة هزيلة ضئيلة، كان «قبل الرفائيليين» أهل ذوق أحسوا عمومية «النهضة العالية»
The High Renaissance
وتميز ما أسموه «الفن البدائي» الذي عنوا به فن القرنين الخامس عشر والرابع عشر. لقد رأوا أن المصورين منذ «النهضة» كانوا يحاولون أن يفعلوا شيئا مختلفا عما فعله البدائيون، ولكنهم لم يمكنهم أن يروا في حياتهم ما هو ذلك الذي فعله البدائيون. كانت ذائقتهم تفضل جوتو على رفائيل، ولكن السبب الوحيد الذي أمكنهم أن يقدموه لتفضيلهم هو أنهم يحسون أن رفائيل سوقي، وهو سبب وجيه، ولكن ليس أساسيا؛ ومن ثم بدءوا يخترعون أسبابا أخرى، واكتشفوا في البدائيين إخلاصا شديدا للطبيعة وتقوى عالية وحياة عفيفة. وقد ظهر بعدهم الشديد عن الحدس بسر الفن البدائي عندما بدءوا هم أنفسهم يرسمون لوحات: سر الفن البدائي هو سر كل فن، في كل زمان، وفي كل مكان - الحساسية للدلالة العميقة للشكل وقوة الخلق. لكليهما تفتقر عصبة الإخوة السعداء، ولذا فلا عجب أنهم تعين أن يجدوا المادة في أفعال التقوى وفي الأساطير والرموز، ويجدوا في الكهنوت الصحيح الجوهر نفسه للفن القروسطي، ومن أجل إلهامهم نظروا إلى الماضي بدلا من أن ينظروا حولهم، وبدلا من أن يغوصوا التماسا للحقيقة فقد التمسوها على السطح. الحق أن «قبل الرفائيليين» لم يكونوا فنانين بل أركيولوجيين يحاولون أن يجعلوا الفضول الذكي يقوم بعمل التأمل المشبوب العاطفة، وهم كفنانين لا يختلفون اختلافا جوهريا عن حشد المصورين الفيكتوريين، ولسوف يعيدون إنتاج الزخرف البراق للفن القوطي المتأخر بالتزام عبودي مثلما يعيد الأكاديمي الصارم إنتاج نفطات برتقالة، وإذا حاولوا فعلا أن يبسطوا - إذ إن بعضهم لاحظ تبسيط البدائيين - فقد فعلوا ذلك لا بروح فنان بل بروح قرد مجتهد.
التبسيط هو تحويل التفصيل غير ذي الصلة إلى شكل دال. كان بوسع واحد من «قبل البرفائيليين» شديد الجرأة أن يمثل قوس قزح بواسطة ورقتي نجيل دقيقتين دقة بالغة، غير أن ورقتي نجيل بالغتي الدقة هما خارجتان عن الموضوع خروج مليوني ورقة، إنما الدلالة الشكلية لورقة النجيل أو قوس قزح هي ما يعني الفنان. إن منهج قبل الرفائيليين هو في أفضل الأحوال رمزية وفي أسوئها سخف محض، ولو كان «قبل الرفائيليين» ينعمون بعقول عميقة التخيل لكانوا استردوا روح العصور الوسطى بدلا من تقليد مظاهرها الأقل دلالة، ولكنهم لو كانوا فنانين عظاما لما رغبوا في استرداد أي شيء، بل ابتكروا أشكالا لأنفسهم أو استقوها من محيطهم، تماما كما فعل فنانو القرون الوسطى، الفنانون العظام لا ينظرون وراءهم البتة.
عندما يشرف الفن على الموت كما كان في منتصف القرن التاسع عشر، ينظر للدقة العلمية على أنها الغاية الصحيحة للتصوير، يقول «الانطباعيون الأكاديميون» حسن جدا، كن دقيقا، كن علميا، في أفضل الأحوال يسجل المصور الأكاديمي تصوراته، ولكن تصوره ليس واقعا علميا ، ينبئنا أهل العلم أن الواقع المرئي للعالم هو اهتزازات ضوء، فلنتمثل الأشياء كما هي علميا، لنمثل الضوء، لنرسم ما نراه، لا البناء الفوقي الذي نشيده فوق إحساساتنا. كانت تلك هي النظرية، ولو كانت غاية الفن هي التمثيل لكانت صحيحة بدرجة كافية، غير أن غاية الفن ليست التمثيل، كما عرف الانطباعيون العظام رانوار
Renoir
وديجا
Degas
ومانيه
Manet (اثنان منهما لا يزالان يعرفان لحسن الحظ) في اللحظة التي أقلعوا فيها عن الجدل وأرتجوا باب الأستديو على ذلك المنظر النابغ كلود مونيه
Claude Monet . واعلم أن بعضهم (مونيه قرب النهاية مثلا) صنع مخططات متعددة الألوان فاجعة البلادة، ولم ينتج «الانطباعيون الجدد»
Neo-Impressionists
سورا
Seurat
وسينياك
Signac
وكروس
Cross
شيئا آخر، كان بمكنة أي «انطباعي»، تحت تأثير مونيه و«وتو»
Watteaw ، أن يصنع شيئا هزيلا رخوا لا شكل له، غير أن الأغلب حدوثا هو أن الأساتذة الانطباعيين، في سعيهم الخيالي والفاشل تماما إلى الصدق العلمي، خلقوا أعمالا فنية مقبولة من حيث التصميم ومجيدة من حيث اللون، هذه الواحة في صحراء أواسط القرن أبهجت، بطبيعة الحال، الأشخاص الغريبي الأطوار الذين يهتمون بالفن، ولقد تظاهروا في البداية بأنهم مستغرقون في الدقة العلمية للشيء، ولكن لم يمض وقت طويل حتى أدركوا أنهم يخدعون أنفسهم وكفوا عن الادعاء؛ ذلك أنهم رأوا بوضوح شديد أن هذه اللوحات تختلف اختلافا عميقا جدا عن النجاحات النادرة لورش العمل الفيكتورية، لا في احترامها المقدر للنظرية العلمية، بل في حقيقة أنها، رغم انصرافها الكبير أو التام عن اهتمامات الحياة العادية، تثير انفعالا أقوى وأعمق بكثير، وبرغم النظريات العلمية، أثار الانطباعيون انفعالا يثيره كل فن عظيم، انفعالا لم يكن معظم الفنيين والنقاد الفيكتوريين، لأسباب واضحة، قادرين على الاعتقاد في وجوده. لم تعتمد ميزة هذه الصور الانطباعية، أيا ما كانت، على العالم الخارجي، ماذا عساها أن تكون؟ قال المشاهدون المسحورون «الجمال المحض»، ولم يكونوا بعيدين كثيرا عن الصواب.
الجمال هو الصفة الجوهرية الوحيدة في العمل الفني، هذا مذهب اقترن بشدة باسم ويسلر، الذي لم يكن أول ولا آخر ولا أقدر دعاته بل الأوضح فحسب في عصره. أن يقرأ أي شخص «الساعة العاشرة» لويسلر لن يضيره أي ضرر ولن يفيده كثيرا؛ فهو عمل ليس بالغ الروعة وليس عميقا على الإطلاق، غير أنه في الاتجاه الصحيح. ينبغي ألا يقارن ويسلر بكبار المجادلين أكثر مما ينبغي أن يقارن بكبار الفنانين؛ فأن تضع
the Gentle Art
بجانب «أطروحة في رسائل فالاريس»، أو دفاع جيبون، أو جدليات فولتير، سيكون ظلما، مثله مثل أن تعلق
Cremorne Gardens
في الأرينا شابل، لم يكن ويسلر زعيم العالم الفيكتوري المتأخر، غير أنه بين اللنديين في «الثمانينيات» يعد شخصية لامعة، في معرفته بما يكونه الفن وفي خلق الفن سواء بسواء، هذا ما يعطي كل لمحاته ومعاركه قوة ولذعا خاصا. ثمة شرف في وقاحته؛ فهو يستعمل مهارته الواضحة نوعا ليقاتل من أجل شيء أعز من الخيلاء. إنه فنان وحيد يقف ويضرب تحت الحزام من أجل الفن. لقد كان بغيضا للنقاد والمصورين ووجوه عصره لأنه كان فنانا، وكان مزعجا لأنه كان يعلم أن أوثانهم احتيالات وخدع، فكان عليه أن يعاني فظاظة، وخبث، أقسى زمرة من السفاحين على الإطلاق تسلقت إلى مقعد السلطة، وكان عليه أيضا أن يعرف أنه لا أحد منهم كان يمكن بأي حال أن يتفهم كلمة واحدة مما قاله جادا. تفحص النقد الفني الإنجليزي لتلك الفترة، بدءا من البلاغة الغامضة لرسكن إلى الابتذال الصحفي ل
Arry ، ولن يتسنى لك أن تجد جملة واحدة تدعم فرضية أن الكاتب يعلم ما هو الفن مثلما يظن. يقول
Arry
في التايمز: «السلسلة كما ألمعنا لا تمثل أي فينيسا يهمنا كثيرا أن نتذكرها؛ فمن ذا الذي يريد أن يتذكر تدني ما كان نبيلا، وفساد ما كان جميلا؟» لقد بات على الفنان بغير شك ألا يرد على أي نقد، وإنه ليكون من الحماقة لدى تلميذ مدرسة أن يستاء من كلام من هذا الصنف. رد ويسلر «على النقد »، وفي ردوده على الجهل والبلادة تمرس بالخبث، يقال إنه كان فظا وسافلا، نعم ولكنه في هذا الصدد لا يضاهي أشرف خصومه، وفي فظاظته وغلظته وفرادته تقريبا كان يدافع عن الفن ، في الوقت الذي كانوا فيه يتملقون كل ما هو تافه رديء في النزعة الفيكتورية.
وكما حاولت أن أبين في موضع آخر فليس من الصعب أن نجد خطأ في النظرية القائلة بأن الجمال هو الصفة الجوهرية في العمل الفني؛ أي إذا كانت كلمة «جمال» تستعمل، كما يبدو أن ويسلر وتابعيه قد استعملوها، لتعني الجمال غير الدال؛ إذ يبدو أن الجمال الذي كانوا يتحدثون عنه هو جمال زهرة أو جمال فراشة. أما إنني قلما قابلت شخصا حساسا للفن لم يوافق في النهاية على أن العمل الفني يحركه بطريقة مختلفة تماما، وأعمق بكثير، من الطريقة التي تحركه بها زهرة أو فراشة؛ ولذا فإذا شئت أن تسمي الصفة الجوهرية في العمل الفني «جمالا» فإن عليك أن تميز بعناية بين جمال عمل من أعمال الفن وجمال زهرة، أو، على أية حال، بين الجمال الذي يدركه أولئك الذين ليسوا فنانين عظاما من بيننا في عمل فني وبين ما يدركه نفس الأشخاص في زهرة، ألا يكون من الأبسط أن نستخدم كلمات مختلفة؟ التمييز على أية حال هو تمييز حقيقي؛ قارن بين بهجتك بزهرة أو جوهرة، وبين ما تشعر به إزاء عمل فني عظيم، ولن تجد صعوبة، فيما أرى، في الاختلاف عن ويسلر.
ولأي شخص تهمه النظرية أكثر مما تهمه الحقيقة مطلق الحرية في أن يقول إن فن «الانطباعيين»، بأفكاره الباطلة عن التمثيل العلمي، هو فطر جميل ينمو بطريقة طبيعية تماما على خرائب المنحدر المسيحي، ولا يصح أن يقال الشيء نفسه عن ويسلر، الذي كان بالتأكيد في ثورة ضد نظرية عصره؛ إذ ينبغي ألا ننسى أبدا أن التمثيل الدقيق لما يحسب البقال أنه يراه كان هو الدوجما المركزية للفن الفيكتوري. إن القبول العام لهذا الرأي - أن المحاكاة الدقيقة للأشياء صفة جوهرية للعمل الفني - والعجز العام عن خلق، أو حتى عن تمييز، كيفيات إستطيقية، هو ما يسم القرن التاسع عشر بوصفه نهاية منحدر، وإذا استثنيت فنانين متفرقين وهواة منعزلين فقد يسعك أن تقول إنه في منتصف القرن التاسع عشر لم يعد للفن وجود، وها هنا أهمية الفن الرسمي والأكاديمي لذلك العصر. إنه يثبت لنا أننا قد لمسنا القعر وبلغنا الحضيض، إن له أهمية الوثيقة التاريخية. في القرن الثامن عشر كان لا يزال هناك موروث فني. ما من مصور رسمي وأكاديمي، حتى في نهاية القرن الثامن عشر، معروف الاسم لدى عامة المثقفين ومرعية أعماله من قبل الجامعين، إلا ويعلم جيدا جدا أن غاية الفن ليست المحاكاة، وأن الأشكال يحب أن تحوز بعض الدلالة الإستطيقية. أما أخلافهم في القرن التاسع عشر فلم يعلموا، حتى الموروث مات. يعني ذلك أنه بصفة عامة وبصفة رسمية كان الفن ميتا، ولقد رأيناه يموت، وقد أخذت «الأكاديمية الملكية» و«الصالون» على تأدية غرضهما التاريخي المفيد، ولسنا بحاجة إلى أن نقول المزيد عنهما. وماذا عن تلك الزمرة الفنية بالتأكيد للقرن التاسع عشر، أولئك الذين جعلوا الشكل وسيلة إلى الانفعال الإستطيقي وليس وسيلة لذكر الحقائق ونقل الأفكار؛ أعني «الانطباعيين» و«الجماليين» (المتطرفين)
Aesthetes
مانيه ورينوار وويسلر وكوندر
Conder
و... و... أنعتبرهم زهورا عرضية تتفتح على قبر أم بشارات بعصر جديد؟ ذاك شيء يتوقف على مزاج من يعتبرهم.
ولكن مخططا للمنحدر المسيحي قد يحسن أن ينتهي ب «الانطباعيين»؛ فالنظرية الانطباعية طريق مسدود، ومآلها المنطقي الوحيد هو «آلة فن»
art-machine ، آلة لتأسيس القيم على نحو صحيح، وتحديد ما تراه العين على نحو علمي، جاعلة إنتاج الفن بذلك يقينا ميكانيكيا، وقد أنبئت أن مثل هذه الآلة قد اخترعها رجل إنجليزي، أما لو أن آلة الصلاة هي حقا النقلة الأخيرة لديانة شائخة، فإن آلة جلب القيمة هي حقا بمثابة حادي روح الفن إلى عالم الموتى. لقد مر الفن من الخلق البدائي للشكل الدال إلى التقرير الشديد التحضر للحقيقة العلمية، وأعتقد أن هذه الآلة، التي هي النهاية الذكية والمحترمة، ينبغي الاحتفاظ بها، إذا كانت لا تزال موجودة، في سوث كنسينجتون أو في اللوفر، إلى جانب الآثار الأقدم للمنحدر المسيحي. أما عن تلك النهائية غير الشائقة وغير المحترمة - أي الفن الرسمي للقرن التاسع عشر - فيمكن أن تدرس في مائة جاليري عام وفي معارض سنوية عبر العالم. إنها النهاية المتعفنة، والواضحة بالتالي. إن الروح التي ولدت مع انتصار الفن على الواقعية الإغريقية-الرومانية تموت مع إزاحة الفن وحلول الصورة التجارية محله.
ولكن إذا كان «الانطباعيون»، بعدتهم العلمية، وتكنيكهم المدهش، ونزعتهم الذهنية، يسمون نهاية حقبة، أليسوا مرهصين بمجيء حقبة أخرى؟ ثمة اليوم قلق بالتأكيد في مختبر الزمن السري، ثمة شيء مات، ولكن كما لاحظ ذلك الروماني الحكيم:
47 «لا شيء يفنى حقا من الأشياء المنظورة، إنما يجبل الشيء من الشيء، والطبيعة لا تسمح بخلق جديد إلا بثمن من الموت.»
ألا يحمل «الانطباعيون»، بقدرتهم على خلق أعمال فنية تقف على أقدامها الخاصة، ألا يحملون على أذرعهم عصرا جديدا؟ فإذا كان الذنب المغتفر للانطباعية هو نظرية شائهة، وشفيعها هو ممارسة مجيدة، فإن أهميتها التاريخية تتمثل في أنها قد علمت الناس أن تلتمس دلالة الفن في العمل ذاته، بدلا من التفتيش عنها في انفعالات العالم الخارجي واهتماماته.
الفصل الرابع
الحركة المعاصرة
(1) فضل سيزان
The Debt to Sézanne
مع نضج سيزان
Cézanne
ولدت حركة فنية جديدة، هذا ما لا يكاد يقدح فيه أي شخص قدر له أن يعمر إلى ما بعد التسعينيات،
1
وإنه لاحتمال جدير بالنقاش أن هذه الحركة هي بداية منحدر فني جديد، وإذا أمكن أن يقال إن بوسع امرئ واحد أن يلهم عصرا بكامله يكون سيزان قد ألهم الحركة المعاصرة، غير أنه يقف منفردا عنها بعض الشيء؛ لأنه أضخم من أن يدرج في أي مخطط للتطور التاريخي، إنه واحد من أولئك الأعلام الذين يسودون عصرا من العصور ويتعذر حصرهم في أي خانة من الخانات الصغيرة المحكمة التي ينجزها لنا دعاة التطور
2
بتعمل فكري كبير.
قضى سيزان الشطر الأكبر من حياته غير معروف، وكاد أن ينسلخ منها دون أن يلفت إليه الأنظار. ليس هناك، فيما يبدو، من كان يحدس بما يجري، أما الآن فبميسورنا أن ندرك كم ندين لسيزان، في حين لا يدين سيزان لأحد. إن من اليسير علينا الآن أن نرى ما استعاره منه جوجان وفان جوخ . أما في 1890م، وهو العام الذي توفي فيه الأخير، فلم يكن ذاك يسيرا. إنها لأبصار ثاقبة حقا تلك التي استطاعت أن تلمح قبل بزوغ القرن الجديد أن سيزان قد أسس حركة.
لا تزال تلك الحركة في طور النشوء، غير أن بإمكاننا فيما أرى أن نقول بثقة إنها قد أنتجت من الفن الجيد ما يعادل سالفتها،
3
لقد أبدع سيزان بالطبع أشياء أعظم كثيرا من أي مصور انطباعي، ويعد جوجان وفان جوخ وماتيس وروسو وبيكاسو ودي فلامنك وديرين وهيربان ومارشاند وماركيه ودونارد ودنكان جرانت وميلول ولويس وكندينسكي وبرنكوزي وفون أنرب وروجر فراي وفريز وجونشاروفا ولوت؛ يعد هؤلاء مقارعين أندادا لأية حقبة فنية أخرى،
4
صحيح أنهم ليسوا جميعا فنانين عظاما، ولكنهم جميعا فنانون. فإذا كان الانطباعيون قد رفعوا نسبة الأعمال الفنية (الحقيقية) بين المنتج التصويري العام من واحد في الخمسمائة ألف إلى واحد في المائة ألف؛ فإن ما بعد الانطباعيين (إذ من المعقول على كل حال أن نطلق هذا الاسم على جماعة الفنانين ذوي الحيوية الذين تلوا الانطباعيين مباشرة) قد رفعوا المعدل مرة أخرى، وإنني لأجرؤ على القول بأن النسبة تبلغ اليوم واحدا في العشرة آلاف، هذا في الحقيقة ما حدا بالبعض إلى أن يرى في الحركة الجديدة فجر عصر جديد؛ فليس هناك سمة أوثق في تمييز حركة فنية «بدائية»
primitive
5
من وفرة إنتاج الفن الأصيل وسعة انتشاره، وقشة أخرى يتشبث بها المتفائلون هي القدرة الفائقة على النمو، التي يتحلى بها الإلهام الجديد. إن القاعدة هي أن تمييز حركة فنية جديدة بوصفها حركة هو حتفها، فما كاد الأحبار يكتشفون «الانطباعية» بعد حوالي عشرين عاما من تجليها الواضح حتى قننوها أكاديميا. لقد نصبوا وجوههم حائلا ضد أي نوع من النمو، واضطروا كل دارس فيه ذرة من الحيوية إما إلى التمرد وإما إلى الانتحار الفني، ولكن قبل أن تجد الروح التي بثها سيزان وقتا تخمد فيه وتبوخ كانت قد تلقفها رجال من أمثال ماتيس وبيكاسو، فصبغوها بصبغتهم وقولبوها في أشكال تناسب مزاجهم المختلف، وهي اليوم تبدو بالفعل وقد أخذت شكلا متجددا لكي تعبر عن الحساسية الخاصة بجيل جديد.
6
إن هذا مرض جدا، ولكنه لا يكفي لإثبات أن الحركة الجديدة هي بداية منحدر جديد، إنه لا يثبت أننا نقف الآن حيث كان يقف البيزنطيون الأوائل، وحطام حضارة يقعقع حول مسامعنا، وعيوننا شاخصة إلى أفق جديد، ليس هناك من حجج صلبة تؤيد هذا الرأي، إلا أن هناك اعتبارات عامة جديرة بأن نطرحها ونتأملها، على ألا نبالغ في تقدير دلالتها والتحمس لها، فمن يرد أن يقرأ طالع البشرية أو يبصر بأي نشاط إنساني، فإن عليه ألا يغفل التاريخ وألا يبالغ أيضا في الوثوق به؛ ومن المؤكد أن إغفال التاريخ هو آخر خطأ يحتمل أن يقع فيه منظر حديث، لقد كانت المضاهاة بين إنجلترا في العصر الفيكتوري وروما في عصر الإمبراطورية هو ألهية أنصاف المتعلمين إبان الخمسين سنة الأخيرة،
Tu regere imperio populous, Romane, momento (تذكر أيها الروماني أن تحكم الشعوب في الإمبراطورية) تغدو هذه الآن تذكرة للمدرس العام بقدر ما كانت بالنسبة للأستاذ اللاتيني القديم، وعلى المولعين بالتاريخ أن يمضوا بمقارنتهم أبعد من ذلك قليلا (وللعلم فقد قام البعض بذلك بحثا عن حجج ضد الاشتراكية)، هنالك لن تفوتهم ملاحظة ما يتفشى في كلتا الإمبراطوريتين من مادية وحذق آلي وإعلاء من قيمة الرفاهية وحط من قيمة الصدق والإخلاص، وتحالف غير مقدس بين السخرية (الكلبية)
cynicism
7
والابتذال العاطفي
sentimentality ، وتدني الفن والدين إلى مرفقين للوضاعة والدجل، وهي سمات تومئ في كلتا الإمبراطوريتين إلى النهاية المتعفنة لما كان يوما ما فورة حيوية.
ربما يكون في تشبيه الخرافات والمراسيم الحكومية في روما بما لدينا من تكريس وخدمة رسميين، وتشبيه التماثيل النصفية الرومانية الدقيقة في المتحف البريطاني بتلك المحاكاة الواقعية الناطقة التي تتمتع بها الصور المعروضة بالجاليري القومي للبورتريه، وتشبيه النزعة الجمهورية
republicanism
الأكاديمية لأشراف روما المثقفين بالليبرالية الإنجليزية، والإثارة التي كانت تحفل بها الحلبة الرومانية بالإثارة التي تحفل بها ملاعبنا. ربما يكون في تشبيه تلك الأحوال الرومانية بأحوالنا الآن سلوى كبيرة لأي صبي ألماني صغير وشفاء لما في صدره، غير أني لن أدع هذا الصبي يتمادى في تشفيه ويؤرخ للجسوة والتبجح والعسكرية المرتجفة والثقافة السطحية والهوى السياسي الخبيث وجنون العظمة والولع بالانضواء مع الأغلبية، ويحددها كخصال مشتركة بين إمبراطورية روما وإمبراطورية إنجلترا، بل سأتساءل بالأحرى إن كانت بقية أوروبا لا تعاني هي أيضا من عجز مضرب الأمثال؛ هو عجز العائش في بيت من زجاج، فليست السياسة الإنجليزية وحدها هي ما يذكرني بنهاية الإمبراطورية الرومانية، بل الحضارة الغربية بأسرها.
إن المطابقة أيسر من أن نحشد لها التشابهات، فما أراني بحاجة إلى مضاهاة الأستاذ شو
Shaw
بلوشن (لوسيان)
Lucian
أو مضاهاة اضطهاد المسيحيين بحملات تجارنا ضد الفوضويين، على أن المرء قد يلاحظ أن من المحال أن يحدد بدقة متى ومن أين جاءت الروح الدينية التي قيض لها أن تضع نهاية لمادية الإغريقية- الرومانية، وأن من المحال بنفس القدر أن يحدد مسقط رأس للخميرة الروحية التي تعم أوروبا الحديثة، فرغم أن بإمكاننا أن نحدد تاريخا لبلوغ سيزان مرحلة النضج الفني، ورغم أني أسلم بأن بإمكان فن عبقري واحد أن يصنع حركة فنية؛ فحتى سيزان لن يكفي لتعليل ما يبدو أنه بداية منحدر فني ونهضة للروح البشري، وقد يتردد المرء في تفسير العصور المظلمة والوسطى بصور الفسيفساء في رافينا؛ فالروح التي كتب لها أن تبعث الحياة في العالم الروماني الهاجع إنما أتت من الشرق كما نعلم، وكانت تفعل فعلها قبل أن يفطن العالم إلى وجودها، وربما يكون من المحال كشف مصادرها القصية. إن بوسعنا اليوم أن نذكر أسماء رواد، إلى جانب سيزان، في عالم الانفعال الجديد. لقد كان هناك تولستوي، وكان هناك إبسن، ولكن من ذا الذي ينكر أنهما قد شرعا في البحث عن إلدورادوس
Eldorados
8
من بعد أن سمعا عنها حكايات من حكايا الرحالة؟ وقد كان رسكين
Ruskin
للنظام القديم ضربات لها بعض التأثير، وهو إن كان لم تتوافر له رؤية واضحة لقيمة الأشياء فلقد نجح على الأقل في كشف تفاهة بعضها، أما نيتشه فقد دحض بهرائه العبثي هراء آخر أكثر عبثية وأمعن دناءة وفسادا، غير أن التنقيب عن المنشأ ليس مما يعنيني، وثق أنه حالما تتأسس الكنيسة فإن المجددين من كتاب سير القديسين سوف يتكفلون بإنصاف شهدائها ومبشريها.
وإذا أخذنا بالاعتبار أيضا أن أي نهضة وجدانية عظيمة لا بد أن تكون مسبوقة بحركة هدمية فكرية، فكيف نحدد نقطة بداية لهذه الحركة الهدمية؟ إنني أفترض أن بإمكاننا أن نبرهن على أنها بدأت مع فولتير والموسوعيين، ولعل المؤرخ بعد إذ أوغلنا في الماضي إلى هذا الحد أن يجد سببا لأن يوغل أبعد من ذلك؛ فأنى له أن يبرر أي حد يقف عنده؟ يقال إن كل كائن حي يحمل في داخله جرثومة فنائه، وربما يكون من الحق أيضا أن أي حضارة ما تكاد تنشأ حتى تبدأ في تخطيط نهايتها، وشيئا فشيئا تغدو أعراض المرض واضحة للأطباء الثاقبي الملاحظة الذين يصرحون بالنتيجة دون أن يدركوا السبب، ولا علينا من ذلك؛ فالجبرية الدائرية أمر يبعث على البهجة قدر ما يبعث على الحزن، ما دام الخير لا بد أن يعقب الشر كما أن الشر يعقب الخير بالضرورة. لقد قلت ما فيه الكفاية على أية حال لأبين أنه إذا كانت أوروبا على أعتاب نقلة جديدة، وإذا كنا مشرفين على اتخاذ أولى الخطوات على منحدر جديد، فإن مؤرخي العصر الجديد سيكون لديهم الكثير ليختصموا حوله.
في القرن التاسع عشر حظي النقاد الهدميون بنصيب من الفهم من جانب أهل عصرهم يفوق ما حظي به الفنانون البنائيون؛ ربما لأن هذا القرن كان يهيئ أوروبا لاستقبال حقبة جديدة، وعلى أية حال فقبل أن ينصرم هذا القرن كان قد أنجب واحدا من أعظم الفنانين البنائيين في العالم ولم يلفت إليه الانتباه،
9
وسواء أكان سيزان يسم بداية منحدر أم لم يكن، فمن المؤكد أنه يسم بداية حركة فنية سآخذ على عاتقي وصف خصائصها الرئيسية؛ فرغم أن التمييز بين حركة فنية وأخرى هو أمر لا يخلو من عبثية ما دامت جميع أعمال الفن على اختلاف عصورها هي في جوهرها شيء واحد، إلا أن لتلك الفروق السطحية التي تميز إحدى الحركات الفنية أهمية خاصة ، ودورا غير الدور التأريخي الذي نشك في أنها تضطلع به؛ ذلك أن الطرق الخاصة في خلق الشكل والضروب الخاصة من الشكل التي يؤثرها جيل من الفنانين لها وقعها إلهام على فن الجيل الذي يليه؛ فبينما تسمح طرق جيل ما وقوالبه بتطور لا حد له، فإن ما يتبناه جيل آخر من طرق وقوالب قد لا يسمح بغير الاحتذاء والتقليد؛ من ذلك مثلا أن الحركة الفنية التي بدأت مع ماساتشو
Masaccio
وأتشيلو
Uccello
وكاستانيو
Castagno
في القرن الخامس عشر قد كشفت عن منجم ثري لمعدن رديء بعض الشيء، بينما كانت مدرسة رفائيل طريقا مسدودا، أما سيزان فقد اكتشف طرائق وقوالب (أشكالا) فتحت أفقا من الاحتمالات لا يمكن لأحد أن يرى نهايته. لقد ابتكر سيزان لآلاف الفنانين الذين لم يولدوا بعد قيثارة يمكن لكل منهم أن يعزف عليها نغماته الخاصة.
ليس بوسعنا أن نحرز بما سيدين به المستقبل لسيزان، أما أفضال سيزان على الفن المعاصر فتكاد لا تحصى؛ فبدون سيزان ربما كان توقف الفنانون ذوو العبقرية والموهبة الذين يمتعوننا اليوم بدلالة أعمالهم وأصالتها، ولبثوا حبيسي المرفأ إلى الأبد لا يتبينون هدفهم، ولا يملكون خريطة ولا دفة ولا بوصلة. إن سيزان هو كريستوفر كولمبس لقارة شكلية جديدة. ولد سيزان عام 1839م في أكسان بروفانس
Aix-en-Provence ، وظل أربعين سنة يرسم بدأب على طريقة أستاذه بيسارو
، وبدا في نظر العالم حتى ذلك الحين، بقدر ما بدا على الإطلاق، انطباعيا صغيرا موقرا، معجبا بمانيه
Manet ، وصديقا إن لم يكن تابعا لزولا
Zola ، وتلميذا مخلصا خامل الذكر، لقد وقف سيزان إلى الجانب الصحيح، أعني بالطبع جانب الانطباعية؛ أي جانب الفنانين الصادقين النزهاء، ضد الآفات الأكاديمية الأدبية،
10
لقد اعتقد في فن التصوير
painting ، واعتقد أنه يمكن أن يكون شيئا أسمى من مجرد بديل مكلف للتصوير الفوتوغرافي، أو رفيق متمم للشعر الرديء؛ لذا كان سيزان عام 1870م واقفا إلى جانب العلم ضد الابتذال (الإسفاف) العاطفي
sentimentality .
غير أن العلم لن يصنع فنانا ولن يشفي غليله، ربما يكون سيزان قد رأى ما عجز الانطباعيون عن رؤيته، فرغم أنهم كانوا لا يزالون يرسمون لوحات أخاذة؛ فإن نظرياتهم قد قادت الفن إلى طريق مسدود؛ لذا فبينما كان يعمل في ركنه القصي في بروفانس بمعزل عن النزعة الجمالية (المتطرفة)
aestheticism
بباريس وعن البودليرية والويسلرية، كان يبحث دائما عن شيء ما يحل محل العلم الزائف لكلود مونيه
C. Monet ، ولقد عثر على هذا الشيء في مكان ما حوالي عام 1880م؛ إذ أتاه في أكسان بروفانس إلهام أسس فجوة بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين؛ فبينما كان سيزان يحدق في منظر طبيعي مألوف، تسنى له أن يفهم المنظر لا كأسلوب ضوئي، ولا كلاعب في لعبة الحياة البشرية، بل كغاية في ذاته، وموضوع لانفعال كثيف، وما من فنان عظيم إلا أبصر المنظر الطبيعي كغاية في ذاته - كشكل خالص، وهذا يعني أن سيزان قد صنع جيلا من الفنانين يحسون أن أي شيء عن المنظر الطبيعي هو لا شيء إذا قورن بدلالته كغاية في ذاته، ومنذ ذلك الحين نذر سيزان نفسه لخلق الأشكال التي من شأنها أن تعبر عن الانفعال الذي كان يحسه تجاه الأشياء التي تعلم كيف يراها، عندئذ أصبح العلم غير ذي صلة، شأنه شأن موضوع اللوحة. إن بالإمكان أن ننظر إلى كل شيء كشكل خالص، ووراء الشكل الخالص تقبع الدلالة الباطنية التي تثير النشوة، أما بقية حياة سيزان فهي محاولة مستمرة لاقتناص الدلالة الشكلية والتعبير عنها.
لقد حاولت أن أقول في موطن آخر إن هناك أكثر من طريق واحد لبلوغ الواقع
reality ؛ فبعض الفنانين قد بلغوه فيما يبدو عن طريق قوة الخيال المحضة ولم يتكئوا في ذلك على غير أنفسهم، ولم يحتاجوا إلى سلم مادي يعينهم على تخطي المادة، لقد تحدثوا مع الواقع عقلا لعقل، وبثوا الرسالة على هيئة أشكال لا تدين للعالم الفيزيقي إلا بمحض الوجود. في هذا الفصيل يندرج أفضل الموسيقيين والمعماريين، وفي هذا الفصيل لا يندرج سيزان؛ فقد ترحل سيزان صوب الواقع عبر الطريق التقليدي لفن التصوير الأوربي. لقد كانت مرئيات العين هي ما اكتشف فيه سيزان أسلوبا بنائيا جليلا يسكنه «الكلي»
Universal
الذي يجوهر كل «جزئي»
ويبث فيه الروح. لقد حث خطاه موغلا أكثر فأكثر صوب إلهام كامل بدلالة الشكل، ولكنه كان بحاجة إلى شيء ما عيني وملموس ليكون نقطة انطلاقه، لم يكن أمام سيزان من سبيل لبلوغ الواقع غير ما تبصره عيناه؛ وهذا هو ما منعه أن يبتكر أشكالا تامة التجريد، وقلما نجد بين الفنانين العظام من فاق سيزان في الاهتمام بالأنموذج
model
والتعويل عليه، كانت كل لوحة يرسمها تنقله خطوة في اتجاه هدفه؛ أي في اتجاه التعبير الكامل، وإذ كان ما يشغله هو التعبير عن إحساسه بدلالة الشكل وليس صناعة لوحات بحد ذاتها، فما كاد يفرغ من التعبير عن كل ما أمكنه استيعابه حتى فقد شغفه بعمله. إن لوحات سيزان لم تكن بالنسبة إليه غير درجات في سلم يرجى أن تفضي ذروته إلى التعبير الكامل، وكانت كل حياته المتأخرة ارتقاء صوب مثل أعلى، كانت كل لوحة يرسمها هي بالنسبة إليه مجرد وسيلة، خطوة، عصا، دعامة، حجر يخطو عليه؛ كانت شيئا هو على استعداد للتخلي عنه بمجرد أن يؤدي غرضه. كانت اللوحات عنده تجارب، ولقد قذف بها في الأحراج أو غادرها في الحقول المنبسطة لتكون من بعده حجر عثرة لفصيل من النقاد الأشقياء.
إن سيزان نمط من الفنان الكامل؛ وهو النقيض التام لمحترفي صناعة اللوحات، ومحترفي صناعة القصائد، ومحترفي صناعة الموسيقى، لقد كان يخلق الأشكال لا لشيء إلا لأنه بهذا الفعل وحده يمكنه أن يحقق غاية وجوده؛ وهي التعبير عن إحساسه بدلالة الشكل، وعندما نكون بصدد الحديث عن الإستطيقا، فإن خير ما نفعله هو ألا نبالي بكل هذا، وأن ننصرف فحسب إلى الموضوع وتأثيره الانفعالي علينا، ولكننا حين نحاول أن نفسر التأثير الانفعالي للوحات؛ فإننا نلتفت تلقائيا إلى أذهان الأشخاص الذين صنعوها، ونجد في قصة سيزان معينا لا ينضب من الإلهام؛ فقد كانت حياته جهدا متصلا لخلق الأشكال التي يسعها أن تعبر عما أحس به في لحظة الإلهام. إن فكرة فن بلا إلهام ... فكرة وصفة لصنع اللوحات، كان لا بد أن تبدو له ممتنعة، فلم يكن هم سيزان الحقيقي في حياته هو أن يصنع لوحات بل أن يصنع خلاصه، ومن حسن حظنا أنه لم يمكنه ذلك إلا بواسطة الرسم. إن أي لوحتين لسيزان من المتعين أن تختلفا فيما بينهما اختلافا بعيدا؛ فلم يحلم سيزان قط بأن يكرر نفسه، ولم يكن بإمكانه أن يتجمد في مكانه، وهذا هو السر في أنه استطاع بأعماله أن يلهم جيلا بكامله من الفنانين المتباينين الذين لم يتفقوا في شيء عدا استلهام سيزان؛ ولذا فلست أغض من شأن أي من الفنانين الأحياء حين أقول إن السمة الرئيسية للحركة الفنية الجديدة هي أنها مستمدة من سيزان.
لقد كان العالم الذي صادفه سيزان ونشأ في كنفه هو عالم يعج بالنزاع بين الرومانسيين والواقعيين، وما النزاع بين الرومانسية والواقعية سوى نزاع بين أناس يعز عليهم أن يتفقوا حول مسألة هل تاريخ إسبانيا أم عدد البذر هو الأهم في شأن برتقالة! لقد كان الرومانسيون والواقعيون أشبه بأناس صم يختلفون حول صرير أحد الخفافيش. دأب الرومانسي كلما سئل عما يحسه تجاه أي شيء هو أن يتذكر تداعيات هذا الشيء، فإذا كان بصدد وردة من الورود فهي تذكره بما مر به في سالف أيامه من جنائن وفتيات، وتذكره بإدموند وولر
E. Waller
وبالساعات الشمسية، وبألف شيء من الأشياء الطريفة والفاتنة التي جرت له أو لغيره في وقت أو آخر، فهذه الوردة تمس من حياته ألف موضع جميل، وهي طريفة لأن لها ماضيا، هكذا يتحدث الرومانسي، فيرد عليه الواقعي: «هراء، سأنبئك بما تكونه الوردة؛ أي سأقدم لك وصفا مفصلا لخواص الفصيلة النباتية المسماة «روزا سيتيجيرا»، ولن أغفل ذكر أنبوب الكأس الوعائي الشكل، أو الفصوص المتراكبة الخمسة، أو التويج المفتوح المكون من خمس بتلات بيضاوية مقلوبة»، إن كل وصف من الوصفين (الرومانسي والواقعي) هو خارج عن الموضوع قدر خروج الوصف الآخر؛ ذلك أن كليهما يغفل الشيء المهم في الفن، وهو الشيء الذي اعتاد الفلاسفة أن يسموه «الشيء في ذاته»
the thing in itself ، وإخالهم الآن يسمونه «الواقع الماهوي»
the essential reality ، وإلا فما هي الوردة على أية حال؟ ما الشجرة، الكلب ، الجدار، القارب؟ ما هي الدلالة الخاصة لأي شيء من الأشياء؟ من المؤكد أن ماهية قارب من القوارب ليست أنه يستحضر في الذهن مشاهد أساطيل تجارية ذات أشرعة أرجوانية، ولا أنه ينقل الفحم إلى نيوكاسل، ولتتخيل قاربا في عزلة تامة، وافصله عن الإنسان وأنشطته الملحة وتاريخه الخرافي، فما الذي يتبقى؟ ما الذي نظل نستجيب له انفعاليا؟ ماذا غير الشكل الخالص، وغير ذلك الذي يكمن خلف الشكل الخالص ويهبه دلالته؟ فتجاه هذا الشيء كان سيزان يشعر بالانفعال الذي صرف عمره في التعبير عنه.
أما السمة الثانية للحركة الجديدة فهي الولع المشبوب، الموروث عن سيزان، بالأشياء معتبرة كغاية في ذاتها، وحين أقول ذلك فإنني لا أعدو أن أقول إن مصوري الحركة الجديدة قد قرروا عن وعي أن يكونوا فنانين. إن التفرد يقبع في الوعي؛ الوعي الذي به نذروا أنفسهم لنبذ كل ما يحول بينهم وبين الأشكال الخالصة للأشياء. لقد أيقنوا أن بحسب المرء أن يكون فنانا؛ فكم من موهوب بل كم من عبقري قد فوت على نفسه أن يكون فنانا حقيقيا؛ لأنه سعى إلى أن يكون شيئا آخر. (2) التبسيط والتصميم
Simplification and Design
أكرر، متجشما خطر الإملال، أن تصيد سمات خاصة بفن اليوم أو فن الأمس أو فن أي فترة معينة هو عمل لا يبرأ من السخف؛ فالتمييز الوحيد الذي يهم في الفن هو التمييز بين الفن الجيد والفن الرديء؛ فكون هذا الإناء قد صنع في بلاد الرافدين منذ حوالي أربعة آلاف سنة قبل الميلاد، وهذه اللوحة في باريس حوالي سنة 1913م بعد الميلاد، هو أمر ضئيل الأهمية إلى أبعد حد؛ إلا أن من الممكن - رغم قلة جدواه - التمييز بين الأعمال الفنية المتساوية الجودة التي أنتجت في حقبتين مختلفتين ومكانين متباعدين. ورغم أن عادة ربط الفن بالعصر الذي أنتج فيه قد لا تعود بالنفع على الفن أو الفنانين؛ فلست على ثقة من خلوها من كل ضروب النفع، فإذا صح أن الفن سجل للحالة الروحية لعصر من العصور، فإن بإمكان النظرة التاريخية للفن أن تلقي بعض الضوء على تاريخ الحضارة؛ ومن ثم فمن الجائز عقلا أن تؤدي بنا دراسة مقارنة للعهود الفنية إلى تعديل تصورنا عن التطور الإنساني، وتنقيح بعض نظرياتنا الاجتماعية والسياسية، ومهما يكن وجه الصواب في هذا الأمر؛ فالذي لا شك فيه هو أن من يرغب في الاستدلال على حضارة عصر ما من خلال الفن الذي أنتجه ذلك العصر، فإن من المتعين عليه أن يمتلك القدرة على التمييز بين الأعمال الفنية لهذا العصر والأعمال الفنية لجميع العصور الأخرى، ومن المتعين عليه أن يكون ملما بخصائص الحركة الفنية. وإنني أعتزم أن أبين بعضا من الخصائص الأكثر وضوحا للحركة الفنية المعاصرة.
ولكن كيف يتأتى أن يختلف الفن في أحد العصور عن الفن في عصر آخر؟ فقد يبدو غريبا للوهلة الأولى أن يختلف الفن، وهو التعبير عن إحساس الإنسان بدلالة الشكل، من عصر إلى عصر ولو اختلافا سطحيا، إلا أن النظرة المتعمقة في هذا الأمر تدلنا على أن من المتعين على الفن أن يكون سطحه في تغير دائم مثلما هو من المتعين أن يكون جوهره ثابتا لا يتغير، فيبدو أن غريزة القرد في الإنسان مكينة قوية بحيث إنه لو لم يكن الإنسان في تغير مستمر لتوقف عن الإبداع وجعل يقلد فحسب. إنه السؤال القديم للمشكلة الفنية؛ فليس بمقدور الفنان أن يذكي طاقاته حتى وهج الإبداع لو لم يطرح على نفسه مشكلات جديدة، ولا نهاية للأشكال التي يمكن للفنانين أن يعبروا بها عن أنفسهم، ولا تزال رغبتهم في التعبير عن أنفسهم تكفل للشكل الفني تغيرا مستمرا وتفاعلا مطردا.
لا يزال بالإنسان شيء من أسلافه القردة.
ليس هذا فحسب، بل إن به خصلة متبقية من أسلافه الخراف.
11
ثمة صيحات (موضات) في الأشكال والألوان وعلاقات الأشكال والألوان، أو لنقل بطريقة أكثر تلطفا وإنصافا إن الحساسية الفنية للناس في كل عصر تتسم بقدر من الاتفاق يكفي لإحداث تشابه معين في الأشكال، والأمر يبدو كما لو أن هناك قوى غريبة متفشية لا يسع أي إنسان أن يتجنبها كل التجنب، ونحن نطلق على هذه القوى أسماء أثيرة؛ مثل «حركات»، «قوى»، «اتجاهات»، «مؤثرات»، «روح العصر»، غير أننا لا نفهمها على الإطلاق. إن علينا ألا نرتعب منها وألا نتملقها أيضا بتصنع الإلمام بها، وهو تظاهر لا ينطلي على غير العامة، بيد أنها موجودة، ولو لم تكن موجودة لوجب علينا أن نخترعها، وإلا فكيف نفسر حقيقة أن فناني كل حقبة يؤثرون أنواعا معينة من الأشكال، وحقيقة أنه حتى المشاهدون من كل جيل يبدو كأنهم ولدوا بحساسية مهيئة بشكل خاص بحيث تستميلها هذه الأشكال الجديدة؟ ومن الممكن في هذا العصر أن نلوذ بالكلمة السحرية «سيزان»، فنستطيع أن نقول إن سيزان قد فرض قوالبه على الرسامين الجورجيين وعلى العامة، تماما مثلما فرض فاجنر قوالبه على الموسيقيين والمستمعين الإدوارديين. إن هذا التفسير يبدو لي قاصرا، وهو على كل حال لا يفسر سيطرة صيحات شكلية في عصور مقفرة من أي عبقري مسيطر. إن روح أي عصر فني، في ظني، هي مركب يتحدى التحليل الكامل، تشكل أعمال أحد العقول الكبيرة جزءا منه في عامة الأحوال، وتشكل آثار عصر سابق معين جزءا آخر في أحوال كثيرة. وقد كانت المكتشفات التقنية تؤدي أحيانا إلى تغيرات فنية؛ من ذلك أن اختراع القماش
canvas
قد أوحى إلى أولئك الذين اعتادوا الرسم على الخشب بكل أصناف التجديد الأخاذ، كما أن هناك تغيرا مستمرا في مظهر تلك الأشياء المألوفة التي تشكل المادة الخام لمعظم الفنانين البصريين؛ ولذا فرغم أن الصفة الماهوية
12 - الدلالة - هي صفة ثابتة، فهناك تغير دائم في اختيار الأشكال، ويبدو أن هذه التغيرات تتحرك على هيئة تحليقات طويلة أو قفزات أقصر؛ بحيث نستطيع أن نضع أيدينا بشيء من الدقة على نقطتين يحصران فيما بينهما قدرا معينا من الفن الذي يحوز سمات مشتركة محددة. يطلق المؤرخون على ذلك الأمد الذي يقع بين هاتين النقطتين اسم «عهد» أو «حركة».
إن العهد الذي نجد أنفسنا في كنفه الآن (1913م) يبدأ تاريخه مع نضج سيزان (حوالي 1885م)؛ ومن ثم فهو يتداخل مع الحركة الانطباعية التي من المتيقن أنها قد بقي بها رمق من الحياة حتى نهاية القرن التاسع عشر، فهل ستتلاشى «ما بعد الانطباعية» وتهن مثلما وهنت الانطباعية، أم أنها باكورة إزهار لحيوية فنية جديدة سبقتها قرون من النمو؟ تلك مسألة قد اعترضت بأنها تستند إلى الحدس والتخمين، أما ما يبدو لي يقينيا فهو أن الذين سيجيئون من بعدنا ويتاح لهم أن يتأملوا عصرنا كشيء مكتمل وحقبة من تاريخ الفن، أولئك لن يدروا شيئا عن أهل الصنعة الذين ما يزالون بيننا يخلقون الإيهام ويتخاطبون ويتنازعون بطريقة الفيكتوريين، ولن يذكروا من مصوري بدايات القرن العشرين إلا الفنانين الذين حاولوا خلق الشكل. أما الصناع الذين سعوا إلى خلق الإيهام فسوف يعفي عليهم الزمان ويدرجون في زوايا النسيان. سيذكر القادمون من عني بالحاضر لا بالماضي، وأنا من أجل ذلك لن أذكر غيرهم حين أعمد إلى وصف الحركة الفنية المعاصرة.
13
لقد ذكرت آنفا سمتين من سمات الحركة، فقلت إن معظم الفنانين المعاصرين ذوي الحيوية قد تأثروا بدرجة أو بأخرى بسيزان في اختيارهم للأشكال والألوان، وإن سيزان قد بث فيهم العزيمة والإصرار على تنقية فنهم من الطفيليات الأدبية والعلمية، وأحسب أننا إذا سألنا معظم الناس أن يذكروا سمة ثالثة للحركة لأجابوا على الفور: «التبسيط»
Simplification ، وقد يبدو غريبا أن نفرد «التبسيط» كسمة مميزة لفن أي عصر بعينه ما دام التبسيط شيئا أساسيا لكل فن وبدونه لا يمكن للفن أن يوجد؛ فالفن هو خلق الشكل الدال، والتبسيط يعني تصفية ما هو دال مما لا دلالة له، ومع ذلك فقد بلغ الفن في القرن التاسع عشر من الهبوط والتدني بحيث بدا الجرم الأكبر الذي ارتكبه ويسلر
Whistler
والانطباعيون في نظر الدهماء هو إلحاحهم العنيف على التبسيط، ونحن لم نتخلص بعد من الطابع الفيكتوري ولم ننسلخ من جلده، والشمعة المستهلكة لا تزال تدخن بإنتان إلى الفجر، وبحسبك أن تلقي نظرة على أي بناء حديث تقريبا لترى حشدا من التعقيد والتفصيل لا يشكل جزءا من أي تصميم ولا يخدم أي غرض نافع، فلا شيء يبدو أكثر افتقارا إلى التبسيط من المعمار، ولن تجد أحدا يفزع من التبسيط ويمقته قدر ما يفعل المعماريون. طف بشوارع لندن، ولسوف ترى في كل صوب كتلا ضخمة من الزخرف الجاهز وأعمدة وأروقة معمدة وأفاريز وواجهات، ترفع على الأوناش لكي تتدلى من حوائط الأسمنت المسلح، المباني العامة غدت أضحوكة عامة، إنها فارغة من المعنى مثل ركام الخبث وأقل منه جمالا بكثير، ولن نشهد مبنى يتمتع بأي قيمة إلا حيثما دفعت الاعتبارات الاقتصادية إلى الاستغناء عن المعماري. إن المهندسين (الذين لديهم على الأقل مشكلة علمية ليحلوها) يخلقون في المصانع وجسور السكة الحديدية أبهى آثارنا الباقية وأجدرها بالإكبار؛ إنهم على الأقل غير خجلين من بنائهم، وهم على أية حال غير مسموح لهم بأن يخترقوه بالجمال بواقع ثلاثين شلنا لكل قدم. ولن يكون لدينا معمار في أوروبا حتى يعي المعماريون أن كل هذه الزوائد المبهرجة يجب أن تقصى بعيدا لتحل البساطة محلها، وحتى ينصرفوا إلى التعبير عن أنفسهم بمواد عصرهم - الأسمنت المسلح والزجاج - ويخلقوا بهذه الوسائط الرائعة أشكالا شاسعة وبسيطة ودالة.
لقد أمعنت الحركة المعاصرة في التبسيط وبلغت به شأوا أبعد بكثير مما بلغه مانيه
Manet
ورفاقه، وبذلك ميزت نفسها وافترقت عن أي شيء شهدناه منذ القرن الثاني عشر؛ فمنذ القرن الثاني عشر في فنون النحت والزجاج، ومنذ القرن الثالث عشر في فنون التصوير والرسم؛ أخذ التحول ينحو إلى الواقعية وينأى عن الفن، وإن جوهر الواقعية هو التفصيل، فمنذ زولا
Zola
أدرك كل روائي أن لا شيء يضفي على العمل صبغة واقعية جليلة مثل أن تدفع فيه بحشد من الوقائع الطفيلية (الخارجة عن الموضوع)، وقلما نجد من الروائيين من حاد عن هذه الطريقة وحاول أن يحذو حذوا آخر؛ فالتفصيل هو في الصميم من الواقعية، وهو الانحلال الدهني
fatty degeneration
للفن، أما الحركة المعاصرة فقد اتجهت إلى التبسيط وإلى التخلص من كل هذه الفوضى من التفاصيل التي أقحمها الرسامون في لوحاتهم من أجل إثبات الوقائع وتقريرها، غير أن المهمة كانت أكبر من ذلك؛ فقد كانت هناك عناصر خارجة عن الموضوع يقحمها الرسامون في لوحاتهم لأغراض أخرى غير تقرير الوقائع ، من هذه الأغراض الاستعراض التكنيكي؛ فمنذ القرن الثاني عشر أخذت التعقيدات التكنيكية في التوسع المطرد، وأخذ الكتاب الذين ليس لديهم ما يقولونه يعتبرون التلاعب بالألفاظ كغاية في ذاته؛ فهم أشبه بطهاة ليس لديهم بيض فجعلوا يعتبرون وتيرة صنع العجة كفن جميل؛ خلط التوابل وفرم الأعشاب وإحماء النار وتهيئة الطواقي البيضاء، أما البيض فما لنا وما له، هذا أمر الله، ومن ذا يريد العجة حين يكون بوسعه أن يمارس الطهي؟ لقد بسطت الحركة الجديدة هذه الأمور واختزلت عدة الطهي، وعمدت إلى أن تطهر العمل الفني من أي عنصر لا يعدو أن يكون عرضا لحرفية الصانع.
من دواعي الحسرة رغم ذلك أن الحياة والفن يتكشف دائما أنهما أعقد مما نحتسب ونتمنى، فلكي نفهم ما يعنيه التبسيط على وجه الدقة فإن علينا أن نغوص أبعد من ذلك في أعماق الأسرار. إن من السهل أن نقول للفنان تخلص من التفاصيل الخارجة عن الموضوع، فما هي التفاصيل غير الخارجة عن الموضوع؟ في أي عمل فني، لا شيء يتصل بالموضوع إلا ما يسهم في الدلالة الشكلية؛ ومن ثم فكل عنصر إرشادي أو إخباري هو عنصر خارج عن الموضوع ويتعين إقصاؤه. غير أن ما ينبغي على معظم الفنانين أن يعبروا عنه هو أشياء لا يمكن أن تصاغ إلا في تصميمات بالغة التعقيد والدقة بحيث تغدو غير مفهومة ما لم يزودنا الفنان بمفتاح ما يفتح لنا مغاليق العمل ويظهرنا على جليته؛ فهناك مثلا تصميمات كثيرة لا يمكن أن يفهمها المشاهد ما لم ينظر إليها من زاوية معينة؛ فمن الأعمال ما يحسن أن ترى من أعلى إلى أسفل أو العكس، يؤيد ذلك ما نراه من أن ذوي الحساسية المرهفة من الناس بمقدورهم دائما أن يكتشفوا من التصميم نفسه كيف ينبغي أن يبصروه ، وبمقدورهم دون كثير عناء أن يضعوا وضعا صحيحا قطعة من شريط زينة أو من شيء مطرز لا يتضمن أي مفتاح إرشادي يدلهم، ورغم ذلك فعندما يصنع فنان تصميما معقدا يجد في نفسه رغبة مغرية، ومعقولة حقا، في أن يدخل في تصميمه شيئا ما مألوفا؛ شجرة مثلا أو هيئة شخصية. فعندما ينتهي الفنان من وضع عدد من العلاقات البالغة الدقة بين أشكال بالغة التعقيد، فقد يسائل نفسه إن كان بقدرة أي شخص آخر أن يدركها، ألا يليق به عندئذ أن يقدم إشارة ضئيلة تلمح إلى طبيعة تكوينه وتمهد السبيل لانفعالاتنا الإستطيقية؟ ألا ييسر فهمنا للعلاقات الإستطيقية للأشكال التي خلقها في تصميمه أن يمنح هذه الأشكال قدرا من الشبه بأشكال الحياة العادية يتيح لنا أن نردها للتو إلى ما عهدناه وألفناه؟ ردي على ذلك أن لا بأس بأن تدخل من الباب الخلفي للتمثيل
representation
الذي يتصف به مفتاح مرشد إلى طبيعة العمل، فليس لدي اعتراض على وجوده، كل ما أريد أن أؤكده هو أن العنصر التمثيلي يجب أن يكون مدمجا في التصميم كيلا يفسد اللوحة بوصفها عملا فنيا. إن على العنصر التمثيلي مهمة مزدوجة؛ فإلى جانب تقديم معلومات فلا بد له أيضا أن يخلق انفعالا إستطيقيا؛ أي لا بد أن يبسط إلى شكل دال.
لنتقص هذه المسألة ولا ندع فيها منفذا للخطأ. لقد أردنا أن نساعد المشاهد على إدراك تصميمنا فأدخلنا في لوحتنا عنصرا تمثيليا أو معرفيا، هذا العنصر لا شأن له بالفن من قريب أو بعيد؛ فتمييز التطابق بين أشكال العمل الفني والأشكال المألوفة في الحياة لا يمكن أن يثير انفعالا إستطيقيا البتة، فليس غير الشكل الدال ما يقدر على ذلك، وليس ما يمنع بطبيعة الحال أن تكون الأشكال الواقعية دالة إستطيقيا، وأن يخلق منها الفنان عملا رائعا، غير أن ما يعنينا منها عندئذ هو قيمتها الإستطيقية لا قيمتها المعرفية؛ فبإمكان العنصر المعرفي أو التمثيلي في العمل الفني أن يكون مفيدا كوسيلة إلى إدراك العلاقات الشكلية وليس بأي طريقة أخرى؛ إنه ذو قيمة للمشاهد، ولكن لا قيمة له بالنسبة للعمل الفني، أو لنقل إنه ذو قيمة للعمل الفني مثلما أن بوق الأذن ذو قيمة لمن يود الحديث مع شخص أصم؛ إذ بإمكان المتحدث أن يتكلم بنفس الكفاءة بدون البوق ، ولكن هذا ليس بإمكان المستمع، كذلك بإمكان العنصر التمثيلي أن يعين المشاهد، غير أنه لا يجدي اللوحة شيئا، وقد يضرها؛ فهو قد يفسد التصميم؛ أي أنه قد يجرد الصورة من قيمتها بوصفها كلا، وإنما بوصفه كلا وبوصفه تنظيما للأشكال يثير العمل الفني الانفعالات الأشد وقعا وروعة.
من وجهة نظر المشاهد كان فنانو «ما بعد الانطباعية» موفقين بشكل خاص في تبسيطهم؛ فمن الممكن، كما نعلم، أن يتكون التصميم من أشكال واقعية كما أنه من الممكن أن يتكون من أشكال مخترعة، غير أن التصميم الجميل المكون من أشكال واقعية معرض بدرجة كبيرة لخطر التدني الإستطيقي؛ إذ يستلفت العنصر التمثيلي فيه نظرنا على الفور فتفوتنا دلالته الشكلية. إن من العسير جدا أن ندرك بالنظرة الأولى تصميم لوحة لفنان شديد الواقعية، أنجر
Ingres
على سبيل المثال؛ ذلك أن فضولنا البشري يغشي انفعالاتنا الإستطيقية، ولا نعود نرى الصور بوصفها أشكالا لأننا سرعان ما نتأملها بوصفها أشخاصا، وفي المقابل فإن التصميم المكون من أشكال تخيلية خالصة خلو من أي مفتاح معرفي (سجادة فارسية مثلا) حري، إذا كان شديد التركب والتعقيد، أن يربك المشاهدين ذوي الحساسية المحدودة. أما الفنانون بعد الانطباعيين فإنهم باستخدامهم أشكالا محرفة بحيث تحبط وتحير الاهتمام والفضول البشريين، وتمثيلية رغم ذلك بحيث تسترعي الانتباه المباشر إلى طبيعة التصميم، قد وجدوا طريقا مختصرة إلى انفعالاتنا الإستطيقية. إن هذا لا يجعل اللوحات بعد الانطباعية أفضل من غيرها ولا أسوأ، بل يجعلها أيسر في إدراكها كأعمال فنية، ربما سيظل صعبا دائما على أغلب الناس أن يتأملوا الصور كأعمال فنية. غير أن اللوحات بعد الانطباعية ستكون في ذلك أقل عسرا من اللوحات الواقعية، بينما هم إذا كفوا عن تأمل الأشياء غير المزودة بمفاتيح تمثيلية (مثل بعض أعمال النسيج الشرقي) بوصفها آثارا تاريخية ، فقد يجدون من العسير عليهم أن يتأملوها على الإطلاق.
لكي يبرز الفنان تصميمه فإنه يجعل همه الأول أن يبسط، غير أن مجرد التبسيط؛ أي التخلص من التفاصيل، لا يكفي؛ إذ لا بد للأشكال الإخبارية المتبقية أن تكون دالة، ولا بد للعنصر التمثيلي لكي لا يفسد التصميم أن يصبح جزءا منه، ويتعين عليه إلى جانب تقديم المعلومات أن يثير انفعالا إستطيقيا، وها هنا الموطن الذي تفشل فيه الرمزية. إن الرمزي يتخلص ولكنه لا يهضم ويتمثل، ورموزه، في عامة الأحوال، ليست أشكالا دالة بل ناقلات خبر شكلية؛ فالرموز ليست أجزاء مدمجة لتصور تشكيلي، وإنما هي اختصارات فكرية، والرموز لا يبثها انفعال الفنان بل يخترعها فكره. إنها مادة ميتة في كائن عضوي حي، وهي جاسئة
14
مغلقة لأنها غير مغمورة في إيقاع التصميم، وليست الأساطير الشارحة التي اعتاد رسامو الصور التوضيحية أن يضعوها على أفواه شخصياتهم بأدخل على الفن البصري من الأشكال الرمزية التي أفسد بها كثير من الرسامين القديرين تصاميمهم. لقد تمكن دورر
Dürer
في لوحته الشهيرة «ميلانكوليا» وتمكن إلى حد ما في نقوش أخرى قليلة مثل «القديس يوستيس» و«العذراء والطفل» (المتحف البريطاني
B. 34. ) من أن يحول كتلة من التفاصيل إلى شكل مقبول الدلالة، غير أننا في الشطر الأكبر من أعماله (مثل «الفارس» و«القديس جيروم») نجد أن التصور الجميل قد أفسدته كتلة من الرموز غير المهضومة وأتت عليه.
من هنا يتوجب أن يكون كل شكل في العمل الفني ذا دلالة إستطيقية، وأن يكون أيضا جزءا من كل ذي دلالة؛ لأن قيمة الأجزاء المتضامنة في كل، كما يحدث دائما، هي أكبر بكثير من قيمة المجموع الجبري للأجزاء، يطلق على هذا التنظيم الذي يسلك الأشكال في كل ذي دلالة اسم «التصميم»
Design . إن الإلحاح على التصميم، ولعل البعض يقول الإلحاح المفرط، هو السمة الرابعة للحركة المعاصرة. لا شك أن هذا الإصرار، وهذا الإيمان الراسخ بأن العمل يجب أن يكون جيدا لا «على الكل» بل «ككل» هو إلى حد ما رد فعل تجاه المنقبة السهلة التي كان يتحلى بها بعض الفنانين الانطباعيين، أولئك الذين كانوا قانعين بأن يفعموا قماش لوحاتهم بأشكال وألوان أخاذة، دون أن يشغلهم كثيرا هل هي متناسقة أو كيف. كانت هذه بالقطع نقطة ضعف في الانطباعية - وإن لم تشمل بحال جميع الأساتذة الانطباعيين - لأن من المؤكد أيضا أن الفنان لا يسعه أن يعبر عن نفسه على نحو تام إلا في هذه التضافرات المنظمة.
يبدو أن الفنان يخلق تصميما جيدا عندما يتسنى له، بعد أن يستحوذ عليه تصور انفعالي حقيقي، أن يقبض على هذا التصور ويترجمه، وأحسب أننا نتفق جميعا على أن الفنان ما لم تواته لحظة الرؤية الانفعالية فلن يتسنى له أن يأتي بعمل فني ذي شأن، بل سيظل غير متيقن إن كانت لديه القدرة على الإمساك بالرؤية التي رآها وأحسها، أو إن كانت لديه المهارة الكفيلة بترجمتها. وبطبيعة الحال يعود فشل التصميم في الغالبية العظمى من اللوحات إلى أنها لا تطابق أي رؤية انفعالية، ولكن حالات الفشل المثيرة للاهتمام هي تلك الحالات التي سنحت فيها الرؤية للفنان غير أنه لم يقبض عليها كما يجب ولم يحققها تحقيقا كاملا. إن الفنانين الذين فشلوا في تسجيل ما أحسوه واستوعبوه بسبب افتقارهم للمهارة التكنيكية يمكن أن يحصوا على أصابع اليد الواحدة - إن كان هناك من أحد حقا لكي يحصى، ولكن أينما توجهنا نجد لوحات شائقة تبدو بها الثغرات في تصور الفنان واضحة جلية، لقد واتته الرؤية ذات مرة، تامة مكتملة، غير أنه عاجز عن استردادها؛ فالوجد لن يعود، والقوة الإبداعية العليا مفقودة. إن هناك ثغرات وعليه أن يسدها بالمعجون، المعجون نعرفه جميعا عندما تقع عليه أعيننا - عندما نحسه، فهو مادة ميتة - نسخ حرفي من الطبيعة، آلية فكرية، أشكال لا يناظرها شيء تم إدراكه انفعاليا، أشكال لم يوقدها الإيقاع الذي تراعش خلال الرؤية الأولى ل «كل ذي دلالة».
يتحلى كل تصميم جيد بضرورة مطلقة، تنبع من تصوري من حقيقة أن طبيعة كل شكل وعلاقته بجميع الأشكال الأخرى هي أمر تحدده حاجة الفنان إلى التعبير بدقة عما أحسه ، ومن الجائز بالطبع ألا يتحقق التطابق التام بين التعبير والتصور في المحاولة الأولى أو الثانية، ولكن إذا كان العمل مقدرا له أن يكون عملا ناجحا فسوف تأتي لحظة يتمكن فيها الفنان من الإمساك التام بساعة إلهامه أو دقيقته، والتعبير الكامل عنها، وإذا لم تأت هذه اللحظة فسوف يفتقر التصميم إلى الضرورة؛ فرغم أن الحس الإستطيقي للفنان يمكنه، كما سنرى، من أن يقول ما إذا كان تصميم ما صحيحا أم خاطئا، فليس غير هذه القدرة البارعة على الإمساك برؤيته والقبض عليها ما يمكنه من أن يصنع تصميمه على النحو الصحيح. إن التصميم الرديء يفتقر إلى الترابط، والتصميم الجيد يتحلى به، وإذا كنت أحدس بأن سر الترابط هو التحقيق الكامل لتلك الهزة التي تغشى الفنان عندما يدرك عمله بوصفه كلا، فسوف لا أنسى أن ذلك حدس، ولكن ليس حدسا أن أقول إننا عندما نصف تصميما ما بالجودة فإننا نعني أنه، بوصفه كلا، يثير انفعالا إستطيقيا، وأن التصميم الرديء هو كومة من خطوط وألوان قد تكون مرضية إذا أخذت على حدة، ولكنها لا تحرك مشاعرنا بوصفها كلا.
ذلك أنه ليس بإمكان المشاهد في النهاية أن يحدد إن كان تصميم ما جيدا أم رديئا إلا باكتشاف ما إذا كان التصميم يحرك مشاعره أم لا، وإن بوسع المشاهد بعد أن يقوم بهذا الكشف أن يمضي قدما لينقد العمل بالتفصيل، غير أن نقطة البداية لكل حكم إستطيقي ولكل نقد هي الأفعال، فبعد أن يتركني العمل باردا خليا من الانفعال، هنالك أبدأ في ملاحظة ذلك التنظيم القاصر للأشكال الذي أسميه تصميما رديئا، وهنا، في أحكامي حول تصميمات معينة، لا أزال واقفا على أرضية ثابتة، ولا أشرع في الدخول إلى عالم الحدس والتخمين إلا عندما أحاول أن أعلل للقوة المحركة للمشاعر التي تتحلى بها تجمعات معينة، ورغم ذلك فإنني أعتقد أن حدوسي عن الحقيقة ليست بعيدة، وأن بإمكاننا استنادا إلى الفرضية نفسها أن نفسر الفرق بين الرسم الجيد والرسم الرديء.
إن التصميم هو تنظيم الأشكال، والرسم هو صوغ الأشكال ذاتها، ومن الواضح أن هناك نقطة يمتزج عندها الاثنان، ولكن هذا أمر لا يهمنا الآن. عندما أقول إن الرسم رديء فإنني أعني أنني لم أهتز لحدود الأشكال التي تكون العمل الفني، وباعتقادي أن أسباب رداءة الرسم مماثلة لأسباب رداءة التصميم، تأتي رداءة الرسم عندما لا يتطابق الشكل المرسوم مع جزء من تصور انفعالي؛ فالهيئة التي يتخذها كل شكل في العمل الفني يجب أن يمليها الإلهام ويفرضها. وأرى أن يد الرسام يجب أن تقودها ضرورة التعبير عن شيء ما قد أحسه لا إحساسا شديدا فقط بل إحساسا محددا أيضا. إن على الرسام أن يعرف مهمته، ومهمته إن كنت صائبا هي أن يترجم إلى شكل مادي شيئا ما قد أحس به في نوبة من النشوة؛ ولذا فإن الأشكال التي لا ترسم إلا لملء فجوات هي أشكال رديئة الرسم، وإن الأشكال التي تنتج عن نظرية في فن الرسم أو عن تقليد الأشياء الطبيعية أو تقليد أشكال الأعمال الفنية الأخرى؛ كل هذه أشكال لا قيمة لها، إنما يجب أن يكون الرسم ملهما، وأن يكون تجليا طبيعيا لتلك الهزة التي تصاحب الفهم الانفعالي للشكل.
وتبقى كلمة نختم بها هذا الحديث، ليس هناك ناقد بلغت به الغفلة أن يعني بالرسم الرديء ذلك الرسم الذي لا يمثل الأنموذج تمثيلا صحيحا. إن آلهة المدارس الفنية من أمثال ميكلانجلو
Michelanglo
ومانتنيا
Mantegna
ورفائيل
Raffael
قد تلاعبوا بالتشريح أغرب تلاعب، وكلنا يعرف أن شخوص جوتو
Giotto
أقل دقة في الرسم من شخوص سير إدوار بوينتر
Sir E.
، وما من أحد يزعم أنها ليست أجود رسما. إننا نملك بالفعل معيارا نستطيع به أن نحكم على الرسم، ولا يمكن لهذا المعيار أن تكون له علاقة بالصدق حيال الطبيعة. إننا نحكم على الرسم بأن نركز حساسيتنا الإستطيقية على جزء معين من التصميم، وما نعنيه حين نتحدث عن «رسم جيد» و«رسم رديء» هو شيء لا لبس فيه. إننا نعني «مثير إستطيقيا» و«غير دال إستطيقيا»، أما لماذا يحرك مشاعرنا بعض الرسم ولا يحركها البعض الآخر فهو سؤال جد مختلف. لقد طرحت فرضية أمكنني أن أكتب فيها نقدا نافذا إلى حد ما، ورغم ذلك فإنني أترك هذه المهمة لأقلام أكثر استعدادا، وأكتفي هنا بقولي إنه مثلما يعرف الموسيقي القدير عن يقين متى تكون آلة ما ناشزة عن التناغم برغم أن المعيار لا يقيم إلا في حساسيته الخاصة، كذلك يمكن لناقد مرهف للفن البصري أن يكشف الخطوط والألوان التي تفتقر إلى الحيوية، وسواء كان ينظر إلى مخطط زخرفي أو إلى دراسة تشريحية دقيقة، فإن المهمة دائما واحدة؛ لأن المعيار دائما واحد؛ فالذي يجب عليه أن يقضي به هو ما إذا كان الرسم دالا إستطيقيا أم غير دال.
ربما يكون الإلحاح على التصميم هو أكثر خصائص الحركة وضوحا؛ فالكل يألف تلك الخطوط السوداء المحيطة التي قصد بها أن تمنح الأشكال تحديدا وتبرز بنية اللوحة؛ ذلك أن جميع الفنانين الشبان تقريبا - وإن يكن بونارد
Bonnard
استثناء واضحا - يتبنون هذه الطريقة المعمارية في التصميم، والتي غدت حقا الطريقة المفضلة لدى عامة الفنانين الأوربيين. والفرق بين «التصميم المعماري»
architectural design
وما أسميه «التصميم المقحم»
imposed design
سيتضح لكل من يقارن بين لوحة لسيزان ولوحة لويسلر. والأفضل بعد أن تقارن بين أي لوحة فلورنسية من المرتبة الأولى من لوحات القرن الرابع عشر أو الخامس عشر وبين لوحة من عهد أسرة سنج
Sung ، فها هما طريقتان لبلوغ الهدف نفسه، متساويتان في الجودة، حسبما يسعني أن أحكم، ومختلفتان غاية الاختلاف. إننا لنشعر نحو لوحة لسيزان أو ماساتشو أو جوتو مثلما نشعر نحو كنيسة رومانسكية؛ فالتصميم يبدو كأنه يشرئب إلى أعلى، والكتلة تركم نفسها على الكتلة، والأشكال يوازن بعضها بعضا كالمبنى، ثمة إحساس بالتوتر وبالقدرة على احتمال التوتر. تحول الآن إلى لوحة صينية، تجد الأشكال كأنها مشبوكة بالقماشة الحريرية بدبوس، أو معلقة من أعلى، ليس ثمة إحساس بالضغط أو التوتر، بل حشد هدبي لضرب ما من النبات المعترش لا ندري أين جذوره يلصق نفسه على طول الجدار في هيئة أحبال أنيقة من زهور، ورغم أن التصميم المعماري سمة دائمة للفن الغربي، فثمة أربعة عهود أرى أن التصميم المعماري هو سمة طاغية فيها بحيث يحق أن نقول إنها سمتها المميزة، وهذه العهود هي: العهد البيزنطي في القرن السادس، والعهد البيزنطي من القرن التاسع حتى القرن الثالث عشر، والعهد الفلورنسي في القرن الرابع عشر والخامس عشر، والحركة المعاصرة.
حين نقول إن فناني الحركة يلحون على التصميم، فإن هذا لا ينفي أن بعضهم ملونون ممتازون بدرجة استثنائية. إن سيزان مثلا واحد من أعظم الملونين الذين شهدتهم الدنيا، وهنري ماتيس ملون عظيم، إلا أن كلهم، أو كلهم تقريبا، يستخدمون اللون كحالة للشكل، إنهم يصممون باللون؛ أي يجبلون تصميمهم في هيئة أشكال ملونة، وقليل جدا من وقع منهم في خطأ اعتبار اللون غاية في ذاته أو اعتباره شيئا مختلفا عن الشكل. إن اللون في حد ذاته قليل الدلالة أو لا دلالة له على الإطلاق، ومجرد رصف درجات اللون بعضها بجوار بعض لا يكاد يحرك فينا ساكنا، أو كما يحلو للملونين أنفسهم أن يقولوا «إن المقادير هي ما يهم.» إنما نميز الملون لا بمزجه الألوان واختيارها، بل بالأشكال التي تتخذها ألوانه وتضافرات تلك الأشكال، ولا يصبح اللون دالا إلا عندما يصبح شكلا. وإنه لمن مناقب الفنانين المعاصرين أنهم ناهضوا بشدة عادة رصف بقع جميلة من اللون دون كثير اعتبار لعلاقاتها الشكلية، وأنهم سعوا إلى أن ينظموا درجات اللون بحيث تسمو بالشكل إلى أعلى دلالة له. ولكن ليس من المستغرب أن جيلا من الملونين الفائقي البراعة والجاذبية على افتقارهم الشكلي لا بد أن يصدمهم إقحام تلك الخطوط السوداء التي تبدو كأنها تغتصب حبيبتهم! إنهم يتأذون من اللوحات التي تخلو من السحر العارض للتحدر اللوني الرقيق والتوزع الموفق للضوء والظل (الكياروسكيورو
chiaroscuro )، ولا يروقهم العزم الصارم لهؤلاء الشبان على جعل عملهم مستقلا ومتكئا على ذاته وغير مدين بالفضل لحلى خارجية، وهم عاجزون عن فهم هذا الولوع بالأعمال التي تروق بوصفها كلا. وهذا الإلحاح العنيف على التصميم، وهذا الاستعداد لترك البناء عاريا إذا كان من شأن ذلك أن يعين المشاهد على تصور الخطة. إن نقاد العصر الانطباعي محنقون من جراء تلك العظام والعضلات العارية بلوحات ما بعد الانطباعية، إلا أنني من جانبي، ورغم إصرار هؤلاء الفنانين الشبان على تبني شكل عاطل أجرد يفوق كل ما وقعت عليه أبصارنا، فليس لي أن ألوم زمرة من المتنسكين الزاهدين في عصر الطلاوة غير المشكلة؛ إذ يصرون على الأهمية الكبرى للتصميم. (3) المغالطة الوجدانية (التشخيص)
The Pathetic Fallacy
15
أتصور أنه لو سئل العديد من أولئك المتحمسين للحركة الجديدة عما يعتبرونه أهم خصائصها لأجابوا: التعبير عن وجهة نظر جديدة ومتفردة. ولقد سمعت أناسا يقولون «ما بعد الانطباعية هي تعبير عن الأفكار والمشاعر الخاصة بتلك النهضة الروحية التي تتنامى الآن إلى ثورة مشبوبة.» وهذا بالطبع ما لا يمكنني أن أوافق عليه، فإذا كان الفن تعبيرا عن أي شيء فهو تعبير عن انفعال عميق وعام وشائع (أو على الأقل ممكن) في جميع العصور وليس مميزا لأي عصر، ولكن إذا كان هؤلاء المتعاطفون مع الحركة الجديدة يعنون (كما أظن) أن فن هذه الحركة هو مظهر لشيء ما مختلف عنها (سيقولون أكبر منها)، لثورة روحية في الحقيقة، فلن أختلف معهم في ذلك. إن الفن مؤشر أمين للحالة الروحية لهذا العصر مثلما هو لغيره. وفي محاولة الفنانين تخليص فن التصوير مما يعلق به من تقاليد الماضي القريب واستخدامه كوسيلة لا ترمي إلا إلى أسمى الانفعالات، فقد نقرأ دلائل عصر يستحوذ عليه حس جديد بالقيم ويتوق إلى استغلال هذا الاستحواذ استغلالا صالحا. إن من غير الممكن أن نزور معرضا حديثا جيد المستوى دون أن نحس أننا قد رددنا إلى عالم لا يخلو من شبه بذلك العالم الذي أنتج لنا الفن البدائي، فها هم أناس يأخذون الفن مأخذ الجد، وربما يأخذون الحياة أيضا مأخذ الجد. ولكنهم إن كانوا يكبرون الحياة فلا لشيء إلا لأن بها أشياء (كالنشوة الإستطيقية مثلا) جديرة بالإكبار. إن بوسعهم في الحياة أن يميزوا بين الغابة وبين بضع الشجرات الجميلة، أما الفن فإنهم يعرفون انه أمر أجل من أن يكون نقدا للحياة. لن يزعم هؤلاء أن الفن تجارة في أسباب الراحة المنزلية؛ فهم يعرفون أنه ضرورة روحية. إنهم لا ينجرون أثاثا جميلا ولا يصوغون حليا صغيرة تافهة ولا تذكارات رائقة، إنهم يخلقون أشكالا تثير أروع الانفعالات وأعجبها.
مثل هذا الفن يغري بأن نفترض أنه يتضمن موقفا ما تجاه الحياة، فهو ينطوي فيما يبدو على اعتقاد بأن المستقبل لن يكون مجرد تكرار للماضي، بل سينتزع لهم، بفضل أناس مريدين فاعلين، حياة تحقق فيها مطالب الروح والعاطفة وبعض التقدم ضد ضروريات الوجود المادي. أقول «فيما يبدو»، غير أن من التهور أن نعتبر أي شيء من هذا أمرا مفروغا منه، ومن جهتي فإنني أشك في أن يكون الفنان الجيد مكترثا بالمستقبل أكثر من الماضي، فلماذا يتعين على الفنانين أن يكترثوا بمصير الإنسانية؟ إذا كان الفن لا يبرر نفسه فإن النشوة الروحية تبرر نفسها، أما هل قدر لهذه النشوة أن تستشعرها أجيال المستقبل من الصانعين الفضلاء والقانعين، فتلك مسألة ليس لها أهمية نظرية: النشوة تكفي، وليس لدى الفنان حاجة إلى الاكتراث بالآتي أكثر مما لدى العاشق بين ذراعي حبيبته، ثمة لحظات في الحياة هي غايات ليس بالكثير عليها أن يكون تاريخ البشرية بأسره وسيلة إليها، من بين هذه اللحظات، لحظات النشوة الإستطيقية، ومن العبث أن تتصور أن الفنان يقوم بعمله وإحدى عينيه مصوبة إلى الدولة العظمى المستقبلية، مثلما هو من العبث أن تلتمس في فنه تعبيرا عن الآراء السياسية أو الاجتماعية. ليس موقف هؤلاء الفنانين تجاه الدولة أو تجاه الحياة هو ما يجعل الحركة الجديدة معبرة عن العصر، بل موقفهم الخالص والجاد تجاه فنهم، إنهم أناس يرفضون أي تنازل، ولا يقبلون أن يتخذوا موقفا وسطا بين ما يعتقدونه وما يريده الجمهور، أناس يرفضون تماما، وبحدة زائدة أحيانا، أن يشغلوا أنفسهم أقل شغل بما يرونه تافها غير ذي بال. إن من السخف أن نسمي فن الحركة الجديدة فنا ديمقراطيا كما فعل البعض؛ فجميع الفنانين أرستقراطيون بمعنى معين؛ إذ ليس هناك فنان يعتقد في المساواة البشرية اعتقادا صادقا، أما أن ننعت فنانا بأنه أرستقراطي أو ديمقراطي بأي معنى آخر فهو بمثابة أن ننعته بشيء غير ذي صلة أو بشيء مهين. إن من يخلق الفن خصيصا لكي يحرك مشاعر الفقراء، أو لكي يسر الأغنياء، إنما هو عاهر مهما حاز من فضائل ، وكم من فنان عطل نفسه أو دمرها حين زعم أنه إلى جانب التمييز بين الفن الجيد والفن الرديء هناك تمييز آخر بين الفن الأرستقراطي والفن العامي. إن كل فن هو فوضوي بمعنى ما، فمن يأخذ الفن بجدية لا يسعه أن يأخذ التقاليد والمبادئ التي تقوم عليها المجتمعات مأخذ الجد، ولنا أن نقول دون أن ننأى كثيرا عن الصواب إن ما بعد الانطباعية هي حركة فوضوية بشكل خاص؛ لأنها تؤكد بإصرار شديد على ما هو جوهري وتتحدى بعنف شديد التعاليم التقليدية للفن، مما يتضمن في افتراضي تحديا للتصور التقليدي للحياة، وهي برفعها الفن إلى أعلى مكانة، إنما تحط من شأن الحضارة الصناعية وتنزلها أدنى منزلة؛ ومن ثم فهي قد تتفق هنا مع الروح الأشمل والأخفى للعصر. إن محاولة إنتاج فن جاد قد تكون مؤشرا على وجود تململ تحتي وسأم من النزعة المادية المتغطرسة وتصور للحياة أكثر عمقا وروحية. إن فن الحركة الجديدة، بوصفه فنا، لا يعبر عن أي شيء زماني أو محلي، ولكنه قد يكون تجليا لشيء ما يحدث هنا والآن، شيء لا يزال صعبا فيما يبدو على غالبية البشر أن يعوه.
ينصرف النساء والرجال الذين اهتزوا من فورهم للدلالة الإستطيقية الخالصة لأحد الأعمال الفنية، ويمضون إلى الحياة الخارجية وهم في حالة من الإثارة والطرب تجعلهم أكثر حساسية لكل ما يجري حولهم. وهكذا يدركون بحدة زائدة معنى الحياة وإمكانها، وليس من المستغرب أنهم لا بد أن يتأولوا هذا الحس الجديد بالحياة ويقرءوه في ذلك الشيء الذي أنتجه، لا بأس بذلك الفعل على الإطلاق ولن أنازعهم في شأنه؛ فأن تتحرك مشاعرك للفن أهم بكثير من أن تعرف على وجه التحديد ما الذي يحركها، فقط أريد أن أذكرهم رغم ذلك بأنه إذا كان الفن لا يعدو ما يتخيلون أحيانا أنه الفن، لما كان له أن يحرك مشاعرهم بهذه الطريقة. إذا كان الفن مجرد إيعاز بمشاعر الحياة فلن يمنح العمل الفني لكل شخص أكثر مما جلبه كل شخص معه، إنما يحركنا الفن بهذا العمق وهذه السرية لأنه يضيف إلى خبرتنا الانفعالية شيئا ما جديدا، شيئا يأتي لا من الحياة البشرية بل من الشكل الخالص. أما أن الفن بالنسبة للكثيرين لا يكتفي بإضافة شيء جديد بل يبدو أنه يغير القديم ويثريه؛ فهو أمر مؤكد ولا يدعو إلى أدنى ابتئاس.
والحق أن هذا الفن المتقد والصارم للحركة المعاصرة ليس دليلا على الخميرة العامة فحسب، إنه أيضا الإلهام، بل والمعيار، لجيل شاب وعنيف وقوي. إنه المظهر الأكثر بروزا ونجاحا لإرادتهم، أو هو ذلك في نظرهم. إن الإصلاح السياسي والإصلاح الاجتماعي، وحتى الأدب، يتحرك ببطء، سائخا في النزعة المادية والتقليد المائع، يدعي الاشتراكيون، وإن كانت لهم مبرراتهم، أن الليبراليين يمتطون جيادهم ولا يزال الفوارس يلبسون الأزرق والسترة العسكرية، ويقف مستر لويد جورج بلا ثبات على كتفي مستر جلادستون، بينما يتعلق معظم زملائه بظهره، فلو أننا جعلنا الأدب محك الاختبار لتمنينا من فورنا أن نرد إلى القرن التاسع عشر، فليس هناك روائي من الطبقة الأولى في أوروبا (إلا أن يكون توماس هاردي)، وليس هناك شاعر من الطبقة الأولى، ودون غض من شأن دانزيو وشو وكلوديل يمكننا أن نقول إن إبسن هو أعظمهم. ومنذ موزار لم تتخلص الموسيقى تماما من الواقعية والرومانسية والميلودراما. ويبدو أن الموسيقى تقف الآن حيث كان التصوير في زمن كوربيه
Courbet ، إنها تنتقل الآن خلال عقلانية معقدة وواقعية مسخطة براقة، لكي تصل، فيما آمل، إلى درجة أكبر من الخلوص.
16
لعل فن التصوير المعاصر هو النصر الوحيد الظاهر للعصر الجديد، ولا يجرؤ أحد، حتى أكبر الناس سنا وحكمة، على الاستخفاف به. إن أولئك الذين يعجزون عن حب سيزان وماتيس فهم يبغضونهما، وهم لا يقولون ذلك فحسب بل يجأرون به، ليس بدعا إذن أن يكون الفن البصري، الذي يبدو للكثيرين مرآة يرون فيها مثلهم العليا الخاصة متحققة، قد أصبح لدى البعض دينا جديدا؛ فهؤلاء لا يكتفون من الفن بدلالته الإستطيقية فيلتمسون فيه ملهما للحياة كلها. إن بعضنا يعد الدلالة الإستطيقية إلهاما كافيا، أما الآخرون فلن أغلظ لهم القول؛ إنهم إلى الفن يأتون معهم بأعمق انفعالاتهم وأخفاها، وأنبل أفكارهم وأعز أمانيهم، ومن الفن يجلبون عاطفة وطربا خصبين نقيين ومصادر جديدة للعاطفة والطرب، وفي الفن يتصورون أنهم يجدون تعبيرا عن أوثق مشاعرهم وأخفاها. ورغم أن هؤلاء يفوتهم (إلى حد ما) أفضل الذي يمنحه الفن، فليس لي عليهم لوم إذا جعلوا من الفن دينا.
في عهد ألكسندر سفيروس
Alexander Severus
كان يعيش في روما عبد يوناني معتق، وإذ كان الرجل صانعا ماهرا فلم يكن مقترا عليه في الرزق. لقد كان آمنا في نفسه ضامنا لقمته مشغول اليد والذهن بما يرضي ويسر، وكان يعيش وسط أناس أذكياء وأشياء جميلة، ويرخي لعواطفه العنان بالقدر المعقول الذي أوصى به أستاذه أبيقور، وكان يستيقظ كل صباح ليستقبل يوما هادئا يتوزع بين الإشباع المقدر، والضريبة المفروضة من عمل غير قاس، وقليل من المتعة الجسدية، وقليل من المحادثة العقلانية، وجدل هادئ، وإدراك حصيف لكل ما هو بوسع الفكر أن يعيه. وفجأة في هذا الوجود برز متعصب نزق بديانة، بالنسبة لليوناني، بدا أن نفسا من الحياة قد سرى خلال الشوارع الجهمة للإمبراطورية، ومع ذلك لم يتغير شيء في روما، باستثناء نفس واحدة خالدة، أو فانية؛ العيون ذاتها تنفتح على الأشياء ذاتها، إلا أن كل شيء كان قد تغير، كل شيء صار مشحونا بالمعنى، أشياء جديدة وجدت، كل شيء غدا ذا شأن وقيمة، وفي غمرة المساواة الشاملة للعاطفة الدينية نسي اليوناني وضعه وقوميته، صارت حياته معجزة ونشوة، ومثلما يستيقظ المحب العاشق، كان يقوم من نومه ليستقبل يوما مفعما بالدهش والبهجة. لقد تعلم أن يشعر، ولكي يشعر المرء يتوجب أن يعيش؛ ولذلك فقد كان من الخير أن يكون حيا.
أعرف رجلا واسع الاطلاع ذكيا، رجلا لم تكن حياته الجافة أفضل من نزلة برد طويلة بالرأس، رجلا لم يدخر ذلك الممسوس فان جوخ جهدا لإنقاذه.
الفصل الخامس
المستقبل
(1) المجتمع والفن
Society and Art
من المتفق عليه أن الاكتراث الزائد بأي شيء عدا الحاضر، لا يليق بمنزلة الحيوان البشري السوي، ورغم ذلك فكم منا من يستطيع أن يقاوم تلك اللذة الحمقاء، لذة التفكر في الماضي والتكهن بالمستقبل؟ سلم مرة بأن الحركة المعاصرة هي أمر خارج عن الشائع بعض الشيء، وأن فيها مخايل بداية، وستجد نفسك تسأل: «بداية ماذا؟» بدلا من أن تقر هادئا لتستمتع بالمشهد النادر - مشهد نهضة. إنه الفن، كما نأمل، جادا وحيا ومستقلا، يطرق الباب، ونحن مدفوعون لأن نسأل: «ماذا سوف ينجم عنه؟» هذا هو السؤال العام الذي ستجد أنه ينقسم إلى تساؤلين محددين تحديدا كافيا: «ماذا سيفعل المجتمع بالفن؟» و«ماذا سيفعل الفن بالمجتمع؟»
إنه لمن الخطأ أن نفترض أنه ما دام المجتمع لا يمكن أن يؤثر في الفن مباشرة فهو لا يمكن أن يؤثر فيه على الإطلاق. إن المجتمع يمكن أن يؤثر في الفن بشكل غير مباشر؛ فمن الجلي أنه إذا اعتبر خلق الأعمال الفنية جريمة عظمى فإن كمية النتاج الفني، إن لم تكن كيفيته، سوف تتأثر. وهناك مقترحات أقل همجية، ولكن أشد هولا بكثير، يطرحها من وقت لآخر مخططون حكوميون مثقفون، يريدون ألا يجعلوا الفنانين مجرمين بل موظفين مسئولين ذوي رواتب عالية. ورغم أن إدارة شئون الدولة لا يمكنها أن تفيد الفن فائدة إيجابية، فما يزال بإمكانها أن تجنبه الكثير من أذاها، وإن قدرتها على الأذى لكبيرة. إن الخير الوحيد الذي يمكن للمجتمع أن يسديه إلى الفنان هو أن يتركه وشأنه، أن يمنحه الحرية؛ فكلما تحرر الفنان من ضغط الذوق العام والرأي العام، ومن رجاء المكافآت ووعيد الأخلاق، ومن الخوف من الجوع التام أو الخوف من العقاب، ومن مخايل الثروة أو التقدير الشعبي؛ كان ذلك أفضل له وأفضل للفن، وأفضل بالتالي للجميع.
أطلقوا يد الفنان.
ها هو شيء يمكن أن يفعله للفن أولئك النفر ذوو النفوذ والشأن الذين يؤكدون دائما أنهم يودون أن يقدموا للفن أي شيء.
وبوسعهم أن يبدءوا عملية الرعاية بإلغاء المؤسسية في الفن وتجريده من الأوقاف، وسحب الإعانات من المدارس الفنية، ومصادرة الأموال التي تسيء الأكاديمية الملكية استخدامها. إن قضية المدارس عاجلة؛ فمدارس الفن لا تفعل سوى الأذى (ذلك أنها يتعين عليها أن تفعل شيئا). إن الفن لا يتعلم، وهو على أية حال لا يدرس، وكل ما بوسع مدرس الرسم أن يدرسه هو صنعة التقليد، والمدارس يتحتم فيها أن يوجد معيار للامتياز، وهذا المعيار لا يمكن أن يكون معيارا فنيا؛ ذلك أن مدرس الرسم يقيم المعيار الوحيد الذي يقدر على استخدامه؛ وهو الأمانة في نقل الأنموذج. ليس بإمكان أي معلم أن يصنع من الطالب فنانا، ولكن بإمكان جميع المعلمين أن يحولوا الصبية والفتيات التعساء الذين خلقوا فنانين بالفطرة إلى دجالين أو متهوسين أو مجرمين أو مجرد حمقى. الغلطة ليست غلطة المعلم، وما ينبغي أن يلام؛ فهو هنا لكي يهيئ جميع تلاميذه لمعيار معين للكفاءة يمكن أن يدركه المفتشون وعامة الجمهور، والصفة الوحيدة التي يمكن لهذا المعيار أن يحكم عليها هو مظهر الصدق
verisimilitude ، والأوجه الوحيدة التي يمكن أن تختلف بين عمل وآخر في نظر شخص فاقد الحساسية كالمعتاد (مثل مفتش لجنة التعليم) هي اختيار الموضوع وأمانة النقل؛ ومن ثم فحتى لو أمكن لمعلم الرسم أن يميز الموهبة الفنية فلن يكون بوسعه أن يرعاها، ليست المشكلة أن معلمي الرسم أشرار بل أن النظام فاسد، وأن مدارس الفن يجب أن تغلق.
وإنني لأجرؤ على القول بأن المال الذي تكرسه الدولة حاليا لإحباط الفن كان أجدى لها أن تعطيه للأغنياء. وقد كنت أود أن أحثها على ادخاره لشراء الأعمال الفنية. غير أن هذا ربما لا يفضي إلى شيء سوى الأذى؛ فمن غير المتصور أن يكون على أي حكومة كانت أن تشتري ما هو أجود من أعمال عصرها؛ فالسؤال هنا هو إلى أي حد يكون شراء الحكومة حتى للوحات القديمة الرفيعة ذا فائدة للفن؟ وهو سؤال لا يستأهل النقاش؛ فرغم احتمال أن تضم حكومة ما بين مستخدميها من هو قادر على تمييز العمل الفني الرفيع (شريطة أن يكون قديما بدرجة كافية) فإن الحكومة الحديثة ستولي عنايتها بمناوأة ذوقهم الرفيع الذي يشكل خطرا. إن اقتناء الدولة للفن القديم الرفيع قد يكون خطة مجدية وقد لا يكون ؛ وإنني لأجرؤ على القول بأنه سوف يكون، ولكن شراء أعمال أساتذة الدرجة الثالثة القدامى، و
objets d’art
لا يمكن أن يعود بأي نفع إلا على التجار. وكما آمل أن أوضح لاحقا، هناك ما يقال من أجل دعم صالات العرض والمتاحف وإثرائها، لو كان بالإمكان تغيير موقف الجمهور وتصور الحكومة تجاه هذه الأماكن. أما بالنسبة للفن المعاصر فتعد الرعاية الرسمية أضمن وسيلة لرعاية كل ما هو فاحش الخبث والحماقة فيه. إن أنصابنا العامة وتماثيلنا والمباني التي تشين شوارعنا والطوابع البريدية والنقود والبورتريهات الرسمية ليست أكثر من طعم للغرائز الدنيا لأراذل طلاب الفن، ومن إغراء هائل لأفاضلهم.
بعض من أولئك الأنبياء الكرماء الذين يقبعون في بيوتهم يحلمون بمجتمعات شيوعية خالصة، بلغت سماحتهم أن يجدوا مكانا للفنان في هذه المجتمعات. إن على ديموس
Demos
1
أن يحتفظ من أجل تسليته بوجار للدجالين. الفنانون في هذه المجتمعات سوف تختارهم الدولة وتدعمهم الدولة، الشعب هو الذي سيؤجر الزمار ويحدد اللحن، ولئن تنجح هذه الطريقة إلى حد كبير في اختيار السياسيين فإنها في مجال الفن سوف تكون موبقة. إن خلق وظائف فنية مريحة هو آخر وسيلة يحتمل أن تخدم الفن؛ فسوف يلجأ إليها المئات من فورهم، لا لأن لديهم ما يستوجب التعبير، بل لأن الفن يوفر فيما يبدو حياة مهنية سارة وأنيقة، وما دام الدخل مضمونا فلن تهبط أعداد الحالمين بالفن كمهنة، وعلى النقيض من ذلك، سيكون التنافس في دولة المستقبل العظمى رهيبا، وبإمكاني أن أتصور الضغط والكيد بين أصدقاء طلاب الوظيفة ونوابهم البرلمانيين، وبين النواب ووزير الفنون الجميلة، وبإمكاني أن أتصور الفن ينتج تنفيذا لأمر شعبي في عهد لن يكون فيه كابح للذوق الشعبي إلا الاستغلال الشخصي للوظيفة، ألسنا نتصور جميعا نوعية الشخص الذي سيتم اختياره؟ أليس لدينا خبرة بما يريده الجمهور ؟ أيها الرفقاء، أيها السادة والسيدات الديمقراطيون الأعزاء، واصلوا خططكم لإصلاح العالم بكل وسيلة، احلموا أحلامكم، تصوروا يوتوبيات، ولكن ارفعوا أيديكم عن الفنانين، أو انبئوني بصدق هل يعتقد أي منكم أنه كان يمكن لفنان جيد واحد خلال الثلاثمائة عام الأخيرة أن يجد دعما من مثل نظامكم؟ ولا تنسوا أن النظام لو لم يؤازره لما كان سمح له أن يوجد! تذكروا أيضا أن نظامكم يقتضي أن تتخيروا أو ترفضوا فنانيكم وهم بعد طلاب؛ إذ لن يكون بوسعكم أن تنتظروا حتى يفرض عليكم اسم ما بحكم سنوات من الصيت والمكانة لدى حفنة من القضاة الممتازين، فإذا كان ديجا
Degas
الآن يبجل كأستاذ من أساتذة الفن، فلأن لوحاته تحقق أسعارا عالية، ولوحاته تحقق أسعارا عالية لأن حفنة من الأشخاص (الذين كانوا حريين أن يعجل بطرحهم تحت المضخة الحكومية الكبرى) جعلوا لسنوات طويلة يقرون بأستاذيته، وخلال تلك السنوات الطويلة كيف كان يعيش ديجا؟ أكان يعيش على سخاء الشعب الذي يريد كل شيء جميلا أم على ذكاء وتمييز قلة من رعاة الفن الأغنياء أو الميسورين؟ في دولة المستقبل العظمى لن يكون بإمكانكم أن تتسلموا أساتذتكم جاهزين ناضجين ومن ورائهم سنوات من السمعة والمكانة، بل سيكون عليكم أن تنتقوهم بأنفسكم، وأن تلتقطوهم صغارا.
ها أنتم أولاء على باب معرضكم السنوي لأعمال الطلاب، جئتم لتتخيروا اثنين من المتقاعدين الحكوميين
2
وتصرفوا الباقين لكي ينظفوا مصارف ملبون. سيختار المتقاعدان بالتصويت الشعبي، وهي الطريقة العادلة الوحيدة لتقليد مطرب شعبي وظيفة أنيقة. ولكني، دون علمكم، قد دسست بين المعروضات رسمين لكلود
Claude
وواحد لأنجر
Ingres ، علما بأن فهرس هذا المعرض خلو من الأسماء. أتظنون أن صاحبي سوف يحصلان على صوت واحد؟ ربما، ولكن هل يجرؤ أحدكم أن يقول إن أيا منهما يمكن أن يكون له أمل في النجاح في منافسة مع أي واحد من تجار الإثارة الأرذال؟ تقولون «أوه، ولكن كل شخص في الدولة الجديدة سوف يكون رفيع التعليم.» وأجيب «ليكن رفيع التعليم كحملة ماجستير الفنون من أكسفورد وكمبردج الذين ظلوا يتعلمون من سن السادسة حتى السادسة والعشرين (وحتى هذا في ظني سيأتي باهظ الثمن). حسنا إذن، سلموا مجموعة الصور الغفل من الاسم إلى أناس مؤهلين لاختيار أعضاء البرلمان عن جامعتينا العريقتين، وإنكم لتعلمون جيدا أنكم لن تحصلوا على نتيجة أفضل، دعوكم إذن من هذا؛ فحتى الرعاية الخاصة أقل قتلا للفن من الرعاية العامة، ومهما تحصلوا في غير ذلك فلن تحصلوا أبدا على فنان بالاختيار الشعبي.»
تقولون: إن الدولة سوف تجعل هذا الاختيار بواسطة اثنين أو ثلاثة من المسئولين ذوي حساسية فنية عالية. وأقول إنكم أولا قد توجب عليكم أن تأتوا بمسئوليكم، ولا تنسوا أن هؤلاء أيضا في عيون زملاء عملهم سيعدون أناسا قد ظفروا بشيء مريح. إن الاعتبارات التي تحكم اختيار الفنانين المأجورين للدولة ستحكم أيضا اختيار خبرائها المأجورين؛ فبأية علامة سوف يميز الجمهور الشخص ذا الحساسية الفنية، مفترضين دائما أنه الشخص ذو الحساسية التي يريدها الجمهور؟ جون جونز، سمسار الأدوات المستعملة، يرى نفسه حكما جيدا في الفن يضاهي مستر فراي
Fry ، ويبدو أن مستر أسكويث يرى القائمين على الجاليري القومي أفضل من الاثنين، ولنفترض أنكم بمعجزة معينة قد وضعتم أيديكم على رجل ذي حساسية إستطيقية وجعلتموه مسئولكم، فلا يزال على هذا الرجل أن يبرر صفقاته أمام برلمان منتخب انتخابا شعبيا. إن الأمور بالغة السوء في الوقت الراهن، فلن يطيق الشعب نصبا عاما يكون عملا فنيا بحق، ولا خادمو الشعب المطيعون يودون أن يفرضوا عليه مثل هذا الشيء، ولكن عندما يستحيل على أي شخص أن يعيش كفنان دون أن يصبح خادما عاما، وعندما تكون جميع الأعمال الفنية أنصابا عامة، فهل تتوقعون جديا أن يكون لديكم أي فن على الإطلاق؟ عندما يصبح تعيين الفنانين جزءا من رعاية الحزب، فهل يشك أحدكم في أن عشرين مؤهلا سوف تنفع الطالب أكثر من أن يكون فنانا؟ تخيلوا مستر لويد جورج يعين مستر روجر فراي بوظيفة المنتخب الحكومي لفناني الدولة المأجورين! تخيلوا - ولست هنا أطلب منكم طلبا ثقيلا على قواكم - تخيلوا مستر فراي يعين طالبا مغمورا وصادما وذا موهبة غير تقليدية، وتخيلوا مستر لويد جورج ينزل إلى ليمهاوس ليبرر هذا التعيين أمام آلاف من المصوتين، معظمهم لديهم ابن أو أخ أو ابن عم أو صديق أو كلب صغير، يشعرون أنه بالتأكيد أفضل تأهلا للوظيفة من ذلكم الطالب بكثير.
إذا كان المجتمع الشيوعي العظيم عاقدا العزم على إنتاج الفن - والمجتمع الذي لا ينتج الفن الحي مجتمع ملعون - فهناك شيء واحد، وواحد فقط، يستطيع أن يفعله، اضمن لكل مواطن، سواء أكان يعمل أم كان متبطلا، مجرد حد أدنى من العيش، ولنقل ستة بنسات في اليوم وفراش في منيم عام، اجعل الفنان شحاذا يعيش على الإحسان العام، وامنح العاملين العمليين المجتهدين تلك الأشياء التي يحبونها؛ الرواتب الكبيرة، ساعات عمل قصيرة، المكانة الاجتماعية، المباهج المكلفة. وأعط الفنان كفافه وأدوات عمله؛ لا تطالبه بشيء، واجعل حياته من الناحية المادية بائسة بحيث لا تجذب أحدا، بذلك لن يلجأ أحد إلى الفن عدا أولئك الذين يسكنهم الروح الحارس المقدس حقا لا ريب فيه، واجعل للجميع خيارا بين حياة الوظيفة المرموقة السلسة العالية الأجر وحياة المتشرد المزرية. ليس لدينا شك يذكر حول اختيار الأغلبية، وليس لدينا شك على الإطلاق حول اختيار الفنان الحقيقي. إن الشبه كبير جدا بين الفن والدين، وفي الشرق، حيث يفهمون هذه الأشياء، كان هناك دائما انطباع بأن الدين يجب أن يكون شأن هواية. إن دعاة الهند شحاذون، فليكن فنانو العالم جميعا شحاذين أيضا. الفن والدين ليسا حرفتين، ليسا مهنتين يمكن أن يؤجر عليهما الناس. إن الفنان والقديس يفعلان ما يجب عليهما أن يفعلا، لا كسبا للعيش، بل امتثالا لضرورة سرية. إنهما لا ينتجان ليعيشا، بل يعيشان لينتجا، ولا مكان لهما في نظام اجتماعي يقوم على نظرية أن ما يصبو إليه الإنسان هو حياة ممتدة ممتعة. ليس بإمكانك أن تسلكهما في الآلة، بل يجب عليك أن تجعلهما غريبين عنها، يجب أن تجعلهما منبوذين؛ ذلك أنهما ليسا جزءا من المجتمع، بل هما ملح الأرض.
وحين أقول إن أغلب البشر لن يكونوا قادرين أبدا على إسداء أحكام إستطيقية مرهفة، فما أقول غير الحقيقة الواضحة؛ فالحساسية الوثيقة في الفن البصري هي في ندرة الأذن الموسيقية الجيدة على أقل تقدير، وما من أحد يتصور أن جميع الناس قادرون على تقييم الموسيقى أو أن الأذن الكاملة يمكن أن تكتسب بالدراسة. وحدهم الحمقى من يتصورون أن القدرة على التمييز الدقيق في الفنون الأخرى ليست ملكة خاصة، ورغم ذلك فليس هناك ما يمنع أن ترهف الأغلبية العظمى من حساسيتها أكثر مما هي عليه بكثير؛ فالأذن يمكن أن تدرب إلى مدى، أما للوصول إلى إدراك عال للفن، وكذا الوصول إلى إبداع سخي؛ فالأمر يحتاج إلى انطلاق أبعد. إن تسعة وتسعين من كل مائة زائر لمعارض الصور يجب أن يعتقوا من هذا الجو المتحفي الذي يحجب الأعمال الفنية ويخنق المشاهدين. هؤلاء التسعة والتسعون ينبغي تشجيعهم على أن يقربوا الأعمال الفنية بجسارة وأن يقيموها بما هي، وكثيرا ما يكون هؤلاء أكثر حساسية للشكل واللون مما يظنون. لقد رأيت أشخاصا يبدون ذوقا مرهفا في الأقطان والكاليكو وأشياء غير معترف بها كفن لدى القائمين على المتاحف، ثم لا يترددون في الإقرار بأن أي لوحة لأندريا دل سارتو
Andrea del Sarto
لا بد أن تكون أجمل من أي لوحة لأحد الأطفال أو أحد الهمجيين؛ فهم حين يتناولون الأشياء التي لا ينتظر منها أن تحاكي الأشكال الطبيعية أو تشابه الروائع القياسية، نراهم يطلقون العنان لحساسيتهم الأصلية، ولا تحل بهم الإعاقة التامة إلا في وجود فهرس. إن هيبة التراث هي ما يجثم على المشاهدين والمبدعين، وإن المتاحف عرضة تماما لأن تصبح اجتماعات «سرية» للتقاليد.
بإمكان المجتمع أن يصنع خيرا لنفسه وللفن بأن ينفخ عن المتاحف وصالات العرض غبار الثقافة المصنوعة
erudition
والعبق التفه لعبادة البطولة، فلنحاول أن نتذكر أن الفن ليس شيئا يبلغ بواسطة الدرس، لنحاول أن نراه كشيء يستمتع به كما يستمتع المرء بحالة حب، وأول شيء علينا أن نفعله هو أن نخلص الانفعالات الإستطيقية من استبداد الثقافة المصنوعة. أذكر أني كنت جالسا يوما خلف سائق حافلة قديمة تجرها الخيل، وإذا بصف من حملة الإعلانات يعبرون طريقنا حاملين ملصقة
The Empire (الإمبراطورية)، وكان اسم
Genée
على الإعلان، قال السائق ملتفتا نحوي: «البعض يسمي هذا فنا، ولكن سلنا نحن عن الفن.» (لعل شعري الطويل قد اكتشف زميلا ذواقة
connoisseur )
3 «إذا كنت تريد الفن فعليك أن تلتمسه في المتاحف.» لست أدري كيف نقذف بهذا الهراء الخبيث خارج رءوس الناس. لقد قذف به داخلها بوقار كبير ولأمد طويل معلمو المدارس والجرائد اليومية والكتب الدراسية الزهيدة والمؤرخون المتبحرون وزوار المناطق والوزراء ورجال الدين ورجال الدولة وقادة حزب العمال والممتنعون عن المسكرات ومناهضو القمار والمتبرعون للدولة من كل صنف - بحيث أوقن أن يحتاج إلى قول أبلغ وأشجع من قولي ليقذفها خارجا مرة أخرى، غير أنها يجب أن يطاح بها خارجا قبل أن يمكننا أن نظفر بأي حساسية عامة للفن؛ لأنها ما بقيت في أذهان الناس فإن العمل الفني بالنسبة لتسعة وتسعين بالمائة منهم سوف يموت لحظة يدخل صالة عرض عامة.
ترهبنا المتاحف وصالات العرض، تمحقنا التحذيرات الضمنية التي ترمقنا شزرا من كل زاوية أن هذه الكنوز معروضة للدراسة والإفادة لا لإثارة انفعال بأي حال من الأحوال. تذكر (أيها القارئ) إيطاليا؛ كل مدينة بمجموعتها الفنية العامة، وتذكر مشاهدي الفنون الدينية! كيف لنا أن نقنع هذه الحشود من الطبقة الوسطى الدائبة في بحثها بشكل يدعو إلى الرثاء، أن بإمكانهم حقا أن يجنوا بعض المتعة من الصور لو أنهم لم يعرفوا ولم يشغلهم أن يعرفوا من الذي رسمها. محال أن يكونوا جميعا غير حساسين للشكل واللون، ولو لم يكونوا محترقين لمعرفة أو تذكر من رسمها ومتى رسمت وماذا تمثل، فربما وجدوا فيها المفتاح إلى عالم ليس بمقدورهم الآن أن يعتقدوا بوجوده، والملايين الذين يقبعون في بيوتهم كيف نقنعهم أن الهزة التي تثيرها قاطرة أو خزان غاز هي الشيء الحقيقي؟ متى يفهمون أن المباني الحديدية التي شيدها مستر همفري هي أقرب إلى أن تكون أعمالا فنية من أي شيء يترقبون رؤيته في المعرض الصيفي للأكاديمية الملكية؟
4
أيمكننا أن نقنع الطبقات المسافرة أن أي كائن إنساني ذي حساسية عادية هو أقدر على تذوق عمل بدائي إيطالي من أي كاتب من كتاب سير القديسين؟ أيمكننا أن نحث الجموع أن يلتمسوا في الفن لا التثقيف بل الطرب؟ أيمكننا أن نجعلهم غير خجلين من الانفعال الذي يحسونه نحو الخطوط الجميلة لأحد مستودعات البضائع أو لأحد جسور السكة الحديدية؟ إذا أمكننا أن نفعل هذا نكون قد حررنا الأعمال الفنية من جو المتاحف، وهذا بالضبط ما يجب علينا فعله. يجب علينا أن نجعل الناس يفهمون أن الأشكال يمكن أن تكون دالة دون أن تشابه الكاتدرائيات القوطية أو المعابد الإغريقية؛ وأن الفن هو خلق الشكل وليس تقليده، عندئذ، وعندئذ فقط، يمكنهم أن يذهبوا وهم محصنون لكي يلتمسوا الانفعال الإستطيقي في المتاحف وصالات الصور.
يقال أحيانا، بحجج معقولة، إن الشعب المرهف الحس لن تكون به حاجة إلى المتاحف. ويقال إن من الخطأ ان تذهب في طلب الانفعال الإستطيقي، وأن الفن يجب أن يكون جزءا من الحياة؛ شيئا شبيها بجرائد المساء أو فاترينات المحال التجارية التي يستمتع بها الناس وهم ماضون في شئونهم، ولكن إذا كانت الحالة الذهنية لشخص يدلف إلى صالة عرض طلبا للانفعال الإستطيقي هي حالة غير مرضية بالضرورة، فبالمثل تكون حالة الشخص الذي يجلس ليقرأ شعرا. يغلق عاشق الشعر باب غرفته ويلتقط مجلدا لملتون وقد عقد النية على أن يخرج نفسه من عالم ويدخلها في عالم آخر. إن شعر ملتون ليس جزءا من الحياة اليومية، وإن يكن عند البعض مما يجعل الحياة اليومية محتملة. إن قيمة الصنف الرفيع من الفن لا تتمثل في قدرته على أن يصبح جزءا من الحياة العادية بل في قدرته على أن يخرج بنا منها. أعتقد أن وليم موريس هو الذي قال إن الشعر يجب أن يكون شيئا يستطيع إنسان أن يخترعه ويغنيه لرفاقه بينما هو يعمل على النول، لعل كثيرا جدا مما كتبه موريس قد اخترع أيضا بهذه الطريقة، ولكن لكي تخلق الفن الأعظم وتدركه فإن أقصى درجات الانفصال عن شئون الحياة تغدو أمرا ضروريا، ومثلما أن الرجال والنساء عبر العصور كانوا يذهبون إلى المعابد والكنائس بحثا عن نشوة لا صلة لها بمشاغل الحياة والكدح البشري. كذلك قد يذهبون إلى معابد الفن لكي يخبروا، خارج هذا العالم بعض الشيء، انفعالات تنتمي إلى عالم آخر . إن المتاحف والصالات تغدو مؤذية لا عندما تكون حرما نلوذ إليه من الحياة، حرما مكرسا لعبادة الانفعال الإستطيقي، بل عندما تكون فصولا ومعاهد بحث ومستودعات للتراث المنقول.
يجب أن ننفض عن الحساسية البشرية غبار المعرفة المصنوعة، ونخلصها من وطأة التراث، ولا بد أيضا أن نخلصها من جور الثقافة؛ فبين جميع أعداء الفن قد تكون الثقافة هي العدو الأشد خطورة لأنه الأشد خفاء، وقد تأتي كلمة «ثقافة» بطبيعة الحال لتعني شيئا لا غبار عليه مطلقا؛ فالثقافة قد تعني ضربا من التربية لا يهدف إلا إلى شحذ الحساسية وتقوية القدرة على التعبير عن النفس، إلا أن هذا النوع من الثقافة ليس للبيع. إنه يواتي البعض من التأمل الفردي، ويواتي البعض الآخر من الاتصال بالحياة، وفي كلتا الحالتين فهو لا يأتي إلا لأولئك الذين يقدرون على استخدامه. أما الثقافة الشائعة، من الجهة الأخرى، فهي تشترى وتباع في سوق مفتوحة. إن المجتمع المثقف، بالمعنى الاعتيادي للكلمة، هو كتلة من الأشخاص الذي علموا أن يميزوا «الحلو والطيب»
le beau et le bien ، والشخص المثقف هو شخص لم يفرض الفن نفسه عليه بل فرض، شخص لم تغمره دلالة الفن، بل يعرف أن أعلى الناس تهذيبا ورقيا يولونه اهتماما عجيبا، يتميز هذا الوسط المثقف بأنه رغم اهتمامه بالفن هو لا يأخذ مأخذ الجد، الفن عند هذا الوسط ليس ضرورة بل ترفا، ليس شيئا ما قد يصادفه المرء وينغمر به بين صفحات
Bradshaw ، بل شيء علينا أن نطلبه ونثني عليه في أوقات مناسبة وفي أماكن محددة، لا تستشعر الثقافة توقا مسيطرا إلى الفن كالذي يستشعره المرء تجاه الطباق، بل تنظر إلى الفن كشيء يجب أن تتناوله بجرعات محتشمة معتدلة، مثلما يود المرء أن يتناول الرفقة من معارفه الأقل تشويقا. والتعامل مع الفن هو عند الطبقات المثقفة مثل الممارسة الدينية عند الطبقة المتوسطة السفلى؛ هو جزية تدفعها المادة للروح، أو - بين الشرائح الأعلى - يدفعها الفكر للعاطفة، فلا المثقفون ولا أدعياء التقوى لديهم حساسية أصيلة تجاه الانفعالات الهائلة للفن والدين، بل كلاهما يعرف ما يليق به أن يحس ومتى ينبغي عليه أن يحسه.
فإذا كان إثم الثقافة لا يعدو خلق طبقة من السيدات والسادة الرفيعي التعليم الذين يقرءون الكتب ويرتادون قاعات الموسيقى ويسيحون في إيطاليا ويتحدثون الكثير عن الفن دون أن يخطر لهم قط أي ضرب من الأشياء هو؛ إذا كان إثم الثقافة لا يعدو ذلك لما كان أمرها يدعو إلى أي جلبة، لكن الثقافة لسوء الحظ مرض نشط يجلب لنا شرا محققا ويفوت علينا خيرا ممكنا. يرغب المثقفون أولا وقبل كل شيء في أن يثقفوا الآخرين؛ فالآباء المثقفون يثقفون أطفالهم، آلاف المخلوقات الصغيرة المسكينة يلقنون كل يوم أن يحبوا ما هو جميل، فإذا اتفق أنهم ولدوا غير مرهفي الحس فلا طائل من هذا التلقين. أما المؤلم في الأمر فهو أن نتصور حال أولئك الأطفال الذين كانت لديهم حساسية حقيقية دمرها آباء حريصون. إن من العسير جدا أن نحس انفعالا شخصيا أصيلا نحو شيء فرض علينا الإعجاب به بالتربية، إلا أن الأطفال لكي يصيروا في الكبر أعضاء مقبولين في الطبقة المثقفة فلا بد أن يلقنوا أن يتبنوا الآراء الصحيحة؛ أي لا بد أن يتعرفوا على المعايير، معايير الذوق هي جوهر الثقافة، هذا هو السر في أن المثقفين كانوا دائما أنصارا للقديم. لقد نشأ في فن الماضي تصنيف تقليدي للروائع القياسية يستطيع به حتى أولئك الذين لا يملكون حساسية أصلية أن يميزوا بين الأعمال الفنية، وهذا بالضبط ما تريده الثقافة؛ ومن ثم فهي تلح على تقديس المعايير، وتنظر شزرا إلى أي شيء لا يمكن تبريره بالرجوع إليها، تلك هي التهمة الخطيرة الموجهة إلى الثقافة. إن الشخص الملم بالروائع الأوربية ولكنه غير حساس تجاه الشيء الذي يجعلها روائع سيقف محيرا تماما أمام أي تجل جديد لذلك «الشيء» الخفي. إن علينا أن نحترم أساتذة الماضي، ذلك شيء طيب، والأطيب لو أننا نتلقى كل فن حي بالترحاب. الفن الحي ضرورة، والفن الحي تخنقه الثقافة التي تلح على الفنانين أن يحترموا المعايير، أو لنقل بصريح العبارة، أن يقلدوا أساتذة الماضي.
ومن ثم فإن المثقفين الذين يتوسمون في كل لوحة إشارة ما على الأقل إلى إحدى الروائع المعروفة، يخلقون عن غير وعي منهم مناخا غير صحي على الإطلاق؛ ذلك أنهم أغنياء ورعاة وأسخياء. إنهم الأعداء الأبرياء جدا للأصالة، ولكنهم أعداؤها الطبيعيون؛ لأن العمل الأصيل هو المحك الذي يكشف الذائقة المصنوعة المتنكرة في هيئة حساسية فنية، ومن المعقول، بالإضافة إلى ذلك، أن أولئك الذين كانوا دائما حريصين كل الحرص على أن يتعاطفوا مع الفنانين لا بد أنهم يتوقعون أن الفنانين يفكرون ويشعرون كما يفكرون هم ويشعرون. إلا أن الأصالة تفكر وتشعر لنفسها، والفنان الأصيل في عامة الأحوال لا يعيش تلك الحياة المهذبة الفكرية التي يمكن أن تلائم العشيق من الطبقة المثقفة. إنه ليس فاتنا، وربما يكون لا فنيا
5
على التحقيق. إنه ليس من النبلاء ولا الأوغاد؛ الثقافة غاضبة لا تصدق، فها هو امرؤ ينفق ساعات عمله في خلق شيء ما يبدو غريبا ومقلقا وقبيحا، ويكرس وقت فراغه للجوانب الحيوانية البسيطة. أليس من المؤكد أن رجلا مختلفا عنا كل هذا الاختلاف لا يمكن أن يكون فنانا؟ ولذا تهاجمه الثقافة وأحيانا ما تدمره، فإذا استمر بعد ذلك فإن على الثقافة أن تتبناه، بذلك يغدو جزءا من التراث، يغدوا معيارا، عصا ليقرع بها العبقري الأصيل القادم الذي يجرؤ على الخروج على التقليد متكئا على نفسه لا ولي له إلا فنه.
في القرن التاسع عشر ذهل المثقفون إذ وجدوا أن وغدين مثل كيتس
Keats
وبيرنز
Burns
كانا أيضا شاعرين عظيمين، فكان لا بد أن يقبلوهما، وأن يئولوا نذالتهما لإزالة الخلاف. أما انغماس بيرنز في الإدمان المغثي فقد رثي له في بضعة أسطر وضرب عنه صفح، كما لو أن بيرنز لم يكن سكيرا صميما مثلما هو شاعر صميم! وأما سوقية رسائل كيتس إلى فاني برون فقد نالها الاستهجان الودي من جانب ماثيو أرنولد الذي لا ينتظر منه أن يرى أن رجلا لا يقدر على كتابة مثل هذه الرسائل ما كان ليكتب «عشية عيد القديس أجنس»
The Eve of St. Agnes . والثقافة في يومنا بعد أن فشلت في قمع مستر أغسطس جون ترحب به بحماس فاقد التمييز أتى متأخرا عن أوانه حوالي عشر سنوات، قد يقتحم الباب هنا وهناك رجل ذو بأس. إلا أن الثقافة لا تحب الأصالة أبدا إلى أن تفقد مظهر الأصالة؛ فالعبقري الأصيل صعب أن يعاشر حتى يدركه الموت؛ فالثقافة لن تعيش معه، وستتخذ صاحب الصنعة المداهن عشيقا لها. إنها تهيم بالرجل الذي يملك المهارة الكافية لكي يقلد، لا أي عمل معين من أعمال الفن، بل الفن نفسه، تهيم الثقافة بالرجل الذي يقدم، على نحو غير متوقع، ما قد تلقنت بالضبط أن تتوقعه، فهي لا تريد الفن، بل تريد شيئا ما شديد الشبه بالفن؛ بحيث يمكنها أن تحس ذلك الصنف من العواطف الذي يجمل بها أن تحسه نحو الفن. ولنقل بصراحة إن المثقفين ليسوا أكثر شغفا بالفن من قدامى الفلسطينيين
،
6
ولكنهم يحبون الإثارة، ويحبون أن يروا وجوها قديمة تحت قلانس جديدة، تعجبهم مباذل مستر لافيري الإغرائية وأقاصيص م. روستاند الأدبية واللوذعية، ويتقبلون رينهاردت وباكست ويعيدونهما ببلاهة، ويبدو أن هؤلاء الحلوانيين يروقون لأفكار المثقفين الطبيعية ومشاعرهم ويحددون لها الفن وأماراته. إن الثقافة أخطر بكثير من الفلسطينية القديمة؛ لأن الثقافة أكثر ذكاء وتلونا، ولها مظهر خادع بأنها تقف إلى جانب الفنان، ولها فتنة من ذوقها المكتسب، وبإمكانها أن تفسد لأن بإمكانها أن تتحدث بثقة وسلطان غير معروفين في فلسطين القديمة. وهي إذ تتظاهر بالاهتمام بالفن يجد الفنانون أنفسهم مكترثين بأحكامها لا يسعهم أن يتجاهلوها. إن الثقافة لتنطلي على أولئك الأشخاص الذين دأبوا على أن يستخفوا بالذوق السوقي، ومع الثقافة نفسها، حتى بالمعنى المتدني الذي كنت أستخدم فيه الكلمة. لسنا بحاجة إلى أن نفتعل مشاجرة، ولكن علينا أن نحاول أن نحرر الفنان والجمهور أيضا من سطوة رأي المثقفين، ولن يتم الخلاص حتى يتعلم أولئك الذين أتقنوا احتقار رأي الطبقات المتوسطة السفلى أن يستخفوا أيضا بمعايير، واستنكار، أولئك الذين دفعهم قصور عواطفهم إلى أن يعتبروا الفن ترفا أنيقا.
إذا شئتم أن يكون لديكم فن جميل وتذوق جميل للفن، ينبغي أن يكون لديكم حياة حرة جميلة لفنانيكم ولأنفسكم. ذلك شيء آخر يمكن للمجتمع أن يسديه إلى الفن؛ يمكن أن يقتل المثل الأعلى للطبقة الوسطى، وهل وجد قط مثل أعلى بهذه الهشاشة؟ ذلك الممتهن الدءوب الذي يشق طريقه إلى النجاح المادي بالكدح والمثابرة على الاشتغال بالتوافه، ديك ويتنجتون
Dick Whittington ؛ أي مثل بطولي لأمة شجاعة! أي أحلام يحلمها عجائزنا، وأي رؤى تطوف برءوس عرافينا! ثماني ساعات من الإنتاج الذكي، وثماني ساعات من الاستجمام اليقظ، وثماني ساعات من النوم المنعش للجميع! يا لها من رؤية تتخايل أمام أعين شعب جائع، إذا كان ما تريدونه هو الفن العظيم والحياة الجميلة، فلا بد أن تتخلوا عن هذه الوسطية (النصفية
mediocrity ) الآمنة.
الراحة هي العدو، وما الإسراف إلا بعبع البورجوازية، الإسراف لم يحطم نفسا قط، ولا حتى الانغماس، إنما التآكل الدقيق المطرد الذي تحدثه الدعة هو ما يدمر، ذلك هو انتصار المادة على العقل، ذلك هو الطغيان الأخير. أتراهم أفضل حالا من العبيد أولئك الذين يتوجب عليهم أن يتوقفوا عن عملهم لأن حصة الغداء قد حانت، وأن يقطعوا حوارهم لكي يلبسوا للعشاء، وأن يغادروا على عتبتهم الصديق الذي لم يروه لسنوات من أجل ألا يفوتهم الترام المعتاد؟
بوسع المجتمع أن يفعل شيئا للفن؛ لأن بوسعه أن يزيد مساحة الحرية، وحتى السياسيون يمكنهم أن يقدموا إلى الفن خدمة؛ يمكنهم إلغاء قوانين الرقابة ورفع القيود عن حرية الفكر والقول والسلوك، ويمكنهم حماية الأقليات، ويمكنهم حماية الأصالة من سخط الدهماء الأنصاف، ويمكنهم أن يضعوا نهاية للمذهب القائل بأن من حق الدولة أن تقمع الآراء غير الشائعة لمصلحة النظام الشائع. كم من حرية عارمة تمنح لمن يتحدث إلى الغوغاء بمسلماتها المقبولة! فأقل ما يمكن للدولة أن تفعله هو أن تحمي من لديهم قول يحتمل أن يسبب شغبا. إن ما لا يؤدي إلى الشغب ربما لا يستحق أن يقال، وفي الوقت الراهن، لعل أفضل شيء يمكن أن يفعله أي شخص عادي من أجل تقدم الفن هو أن يثور من أجل مزيد من الحرية. (2) الفن والمجتمع
Art and Society
والفن ماذا عساه أن يسدي إلى المجتمع؟
يضيف إليه روحا، بل ربما يطلق سراحه؛ فالمجتمع يلزمه خلاص.
مع نهايات القرن التاسع عشر بدت الحياة كأنها تفقد نكهتها، وبدا العالم رماديا مفتقر الدم، يعوزه الوهج. الرصانة أصبحت زيا سائدا، ليس غير الأغبياء من يهمهم أن يبدوا روحيين، إن أواخر القرن التاسع عشر في أفضل جوانبها تذكر المرء بهزلية (فارس) مسفة عاطفيا، وفي أسوأ جوانبها تذكر بنكتة متحجرة القلب، ولكن، كما رأينا، فقبل منعطف القرن بدأت حركة انفعالية جديدة تعبر عن نفسها، في فرنسا أولا ثم في أوروبا، تطلبت هذه الحركة، كي لا تذهب سدى، قناة أو مجرى عساها تتدفق فيه إلى غاية ما، كانت مثل هذه القناة في العصر الوسيط دانية قريبة المأخذ؛ إذ اعتادت الخميرة الروحية أن تعبر عن نفسها من خلال الكنيسة المسيحية، رغم أنف المعارضة الرسمية في عامة الأحوال، أما في العصر الراهن فمن غير الممكن لأي حركة حديثة على أي قدر من العمق أن تعبر عن نفسها بهذه الطريقة، وأيا ما كانت الأسباب فتلك حقيقة مؤكدة. وفي اعتقادي أن السبب الرئيسي هو أن عقول أهل العصر الحديث لا يمكن أن تجد غناء في الدين الدوجماوي. ومن المؤسف أن المسيحية لم تشأ أن تقلع عن ألوان من الدوجما بعيدة عن جوهرها كل البعد. إن تورط الدين في الدوجما هو الذي أبقى العالم لا دينيا في ظاهره، ولكن، رغم أن مآل كل دين أن تعترشه الدوجما، فهناك واحد يمكنه أكثر من غيره أن ينفضها عنه دون عناء أو اكتراث، ذلك الدين هو الفن؛ فالفن دين، إنه تعبير عن، ووسيلة إلى، حالات ذهنية لا تقل قداسة عن أية حالة ذهنية يمكن للبشر أن يخبروها، وإنما إلى الفن يتجه الذهن الحديث، لا من أجل التعبير الكامل عن انفعال متعال فحسب، بل أيضا من أجل إلهام يعيش به.
وجد الفن منذ البدء بوصفه دينا متزامنا مع كل الأديان الأخرى، ومن البين أنه لا يمكن أن يكون هناك تضاد جوهري بينه وبينها؛ فالفن الأصيل والدين الأصيل مظهران لروح واحدة، كذلك شأن الفن الزائف والدين الزائف، ومنذ آلاف السنين والبشر يعبرون بالفن عن انفعالاتهم الفائقة الإنسانية، ويجدون فيه الغذاء الذي تعيش عليه الروح. الفن هو أعم وأبقى صور التعبير الديني جميعا؛ لأن دلالة التضافرات الشكلية يمكن أن يدركها أحد الأجناس وأحد العصور بنفس الكفاءة التي يدركها به جنس آخر وعصر آخر؛ ولأن تلك الدلالة هي شيء مستقل عن التقلبات البشرية، شأنها في ذلك شأن الحقيقة الرياضية، وعلى الإجمال، ليست هناك أداة أخرى لنقل الانفعال ولا وسيلة أخرى إلى النشوة قد أسعفت الإنسان مثلما أسعفه الفن. وما من فيض من طرب الروح إلا هو واجد في الفن قناة تتولاه وتحدوه، وحين يفشل الفن فإنما يفشل لافتقاد الانفعال وليس لافتقاد التكيف الشكلي. واليوم إذ تشرع الحركة الناشئة في البحث عن موئل تلجأ إليه وتعيش، فمن الطبيعي أن تتجه إلى الديانة الوحيدة ذات الأشكال اللانهائية والثورات الدائمة.
ذلك أن الفن هو الديانة الوحيدة التي تشكل نفسها بما يوافق الروح، والديانة الوحيدة التي لن يطول تقيدها بالدوجما على الإطلاق. إنه ديانة بلا كهنوت، ومن الخير ألا تودع الروح الجديدة في أيدي الكهنة؛ فالروح الجديدة في أيدي الفنانين، ذلك خير؛ فالفنانون، كقاعدة عامة، هم آخر من ينظمون أنفسهم في طوائف رسمية، وإذا نظمت هذه الطوائف فهي قلما تنطلي على أرواح الصفوة؛ فالمتمردون من الرسامين أكثر شيوعا بكثير من المتمردين من رجال الدين، وفي حالة «التوفيق» (الذي هو تلف كل ديانة؛ لأن الإنسان لا يمكنه أن يخدم سيدين) تصاب كل طوائف أوروبا تقريبا بالبدانة. عن طريق التوفيق نجح الكهنة بأعجوبة في الاحتفاظ بوعائهم سليما. أما الفنانون الأصلاء في كل حركة جديدة فإنهم يزدرون الوعاء ويقدسون الروح، وإن ازدراءهم الرقيق للوعاء لا يقل فائدة عن اعتقادهم الجليل في الروح. ونحن حين ننظر إلى تاريخ الفن فقد تبدوا لنا فترات القنوط والتوفيق طويلة، إلا أنها بالمقارنة بالأديان الأخرى تدهشنا بقصرها؛ إذ لا يلبث فنان حقيقي أن يظهر عاجلا أو آجلا، وكثيرا ما ينجح بمقدرته وحدها في أن يعيد تشكيل الوعاء بحيث يحتوي الروح احتواء كاملا.
والدين، وهو مسألة اقتناع وجداني، ينبغي ألا يكون له شأن باعتقادات الفكر. إن لدينا قناعة وجدانية بأن بعض الأشياء خير من بعضها الآخر، وأن بعض الحالات الذهنية طيب وبعضها ليس طيبا، ولدينا قناعة وجدانية قوية بأن العالم الجيد ينبغي أن تكون له الأفضلية على العالم الرديء، ولكن ليس ثمة براهين على هذه الأشياء، قليلة هي الأشياء الهامة التي تقبل البرهان؛ فالأشياء الهامة يتوجب أن يحس بها ويعبر عنها، ذلك هو السبب في أن الأشخاص الذين لديهم أشياء هامة تقال، يميلون إلى كتابة قصائد أكثر من ميلهم إلى كتابة دراسات أخلاقية، وإنني أقدم لنقادي هذه العصا هدية. إن الإثم الأصلي للدوجماويين هو أنهم لا يقنعون بأن يحسوا ويعبروا، بل يلزمهم دائما أن يخترعوا تصورا فكريا لكي يمثل هدفا لانفعالهم؛ فهم يستنتجون من طبيعة انفعالاتهم موضوعا يجدون أنفسهم مضطرين إلى البرهنة على وجوده بواسطة نسق ميتافيزيقي متقن الخداع، والنتيجة محتومة؛ يصير الدين إلى أن يعني لا الشعور بانفعال بل الولاء لعقيدة، وبدلا من أن يكون مسألة قضايا فكرية، وهنا يحق جدا للارتيابي (الشاك) أن يتدخل ويقوض للدوجماوي نسقه الميتافيزيقي الاحتيالي (
ad hoc )
7
باعتراضات مفحمة، يبدو لي ألا أحد من عقليي كمبردج يمكنه أن ينكر أنني أحس انفعالا معينا، غير أنني في اللحظة التي أحاول فيها أن أبرهن على موضوع الانفعال أضع نفسي في مأزق عسير.
ما من أحد رغم ذلك يود أن ينكر وجود الموضوع المباشر للانفعال الإستطيقي؛ وهو تجمعات الخطوط والألوان. أما ما اقترحته من احتمال وجود موضوع قصي للانفعال فهو قد يؤدي بي إلى مصاعب، غير أني إذا قوضت آرائي الميتافيزيقية بجرة قلم فذاك أمر لا يهم البتة ، وليس لأي آراء ميتافيزيقية في الفن أهمية، فكل ما يهم هو الانفعال الإستطيقي وموضوعه المباشر. أما عن وجود موضوع قصي وعن طبيعته الممكنة فهناك نظريات لا تحصى، معظمها، إن لم يكن كلها، قد كذبت، ورغم أن بضع نظريات منها قد وجدت من يدافع عنها ببسالة، فهي لم يكتب لها أبدا أن تزيح الفن تماما أو تقوم مقامه؛ فلم يحدث يوما أن نجحت الدوجما في أن تحل محل الدين. لقد تبين دائما بشكل ما أن دلالة الفن تتوقف بصفة رئيسية على الانفعال الذي يثيره، وأن الأعمال أهم من النظريات، ورغم أن هناك محاولات تمت لرفض أشتات من الدوجما، وتعريف الموضوع القصي وتوجيه الانفعال، فقد كانب قدرة فنان أصيل واحد، في عامة الأحوال، أن يحطم التقليد الزائف، وكان هناك دائما إدراك مبهم بأن اللوحة التي تحرك المشاعر الإستطيقية لا يمكن أن تكون خطأ، وأن النظرية التي تدينها بالهرطقة إنما تدين نفسها. ويظل الفن دينا غير دوجماوي، أنت فيه مدعو إلى أن تحس انفعالا لا أن تذعن لنظرية.
الفن إذن قد يشبع الحاجة الدينية لعصر ينمو بحدة لا يحتملها الدين الدوجماوي، ولكي ينجح في ذلك يجب أن يوسع من نطاق تأثيره، ينبغي أن يكون هناك مزيد من الفن الشعبي، مزيد من ذلك الفن الذي لا أهمية له بالنسبة للعالم ولكنه مهم بالنسبة للفرد؛ إذ من الجائز أن يكون الفن من المرتبة الثانية وهو مع ذلك فن أصيل، وينبغي كذلك ألا يكون الفن احترافيا كله، ونحن لن نحقق ذلك بأن نرشو أفضل الفنانين لكي يحطوا من قدر أنفسهم، بل بتمكين كل إنسان أن يبدع من الفن قدر استطاعته؛ فمن المحتمل أن معظم الناس قادرون على التعبير عن أنفسهم إلى حد ما في شكل، ومن المؤكد أنهم بهذا التعبير يمكن أن يظفروا بسعادة غير عادية، أما من ليس لديهم شيء يعبرون عنه على الإطلاق، وليس لديهم أية قدرة على التعبير فهم أخطاء الطبيعة. أولئك ينبغي أن يعالجوا بحنو إلى جانب المعتوهين الميئوس من حالتهم والمصابين باستسقاء الدماغ، أما بالنسبة للأغلبية فمن المتيقن أن لديهم انفعالات غامضة ولكن عميقة، ومن المتيقن أيضا أنهم لا يستطيعون أن يدركوا هذه الانفعالات إلا في التعبير الشكلي، أن يقفز المرء ويصيح، ذلك تعبير عن النفس وإن لم يشف غليلا، ولكن أدخل فكرة الشكلية تجد في الرقص والغناء بهجة مشبعة، الشكل هو الطلسم. وبالشكل تتحول الانفعالات الغامضة والعصية وغير الأرضية إلى شيء ما محدد ومنطقي وماثل فوق الأرض. إن صنع أشياء نافعة هو عمل موحش، ولكن صنعها وفقا للقوانين الباطنية للتعبير الشكلي هو في منتصف الطريق إلى السعادة، وإذا كان للفن أن يقوم مقام الدين فلا بد أن يكون في متناول من هم بحاجة إلى الدين، ومن السبل الواضحة لتحقيق ذلك أن ندخل في العمل النفعي هزة الإبداع.
ولكن العمل النفعي على أية حال يجب أن يظل آليا في معظمه، وإذا شاء العاملون النفعيون أن يعبروا عن أنفسهم على أتم نحو ممكن فلا بد لهم أن يقوموا بهذا التعبير في أوقات فراغهم. هناك صنفان من التعبير الشكلي متاحان للجميع؛ الرقص والغناء. ومن المحقق أنه في الرقص والغناء يكون العاديون من الناس أقرب ما يكونون من الإبداع. إن فناني الطبقة الأولى ندرة، وغير متاح أن يشهد منهم أي عصر من العصور أكثر من بضعة، ولكن ربما يحفل أي عصر من العصور بملايين من الفنانين الحقيقيين. إن الفن الذي لا يرقى إلى مستوى المعرض العام لا بأس بأن نبدعه رغم ذلك، لمتعتنا الخاصة، وما إن نستوعب هذا المبدأ حتى لا يعود أحد يستشعر خجلا حين يسمى هاويا. ولن يكون علينا أن ندعي أن جميع أصدقائنا فنانون عظام؛ لأنهم هم أنفسهم لن يزعموا مثل هذا الزعم، وهم في الدولة العظمى المأمولة لن يكونوا في فئة الشحاذين الإلهيين، بل سيكون أصدقاؤنا هواة يستخدمون الفن عن وعي كوسيلة إلى الغبطة الوجدانية، ولن يكونوا فنانين يستخدمون كل شيء عن وعي أو عن غير وعي كوسيلة إلى الفن، فلنرقص إذن ونغن؛ فالرقص والغناء فنون حقيقة، ليس فيها غناء مادي وإنما قيمتها كلها في دلالتها الإستطيقية. لنرقص، قبل كل شيء، ونبتكر رقصات؛ فالرقص فن شديد الخلوص، خلق للشكل المجرد، وإذا شئنا أن نجد في الفن إشباعا عاطفيا فمن الضروري أن نصبح خالقين للشكل، من الضروري ألا نقنع بمجرد التأمل بل يجب أن نبدع، يجب أن نكون إيجابيين في تعاملنا مع الفن.
وهنا سأصطدم ببعض الشخصيات الممتازة من الرجال والنساء الذين يحاولون أن «يدخلوا الفن في حياة الناس» بأن يزجوا بأطفال المدارس وفتيات المصانع زرافات خلال الجاليري القومي والمتحف البريطاني. من منا لم يألف رؤية هذه القطعان الصغيرة من الضحايا تلغط وتدلف خلال المعارض وتزيد جو المتحف كآبة على كآبته؟ أي فعلة يفعلها بحساسيتهم الأصلية معلم جاد وبيده فهرس التواريخ والأسماء والتعليقات المناسبة؟ ما علاقة كل هذه البطاقات في الميثولوجيا والتاريخ، وهذا الجذل البيداجوجي
8
والطرب المشائي، ما علاقة ذلك بالانفعال الأصيل؟ في زي أي دجال مريع مبهم يقدم الفن إلى الناس؟ إن الأثر الوحيد الذي يمكن أن تتركه الزيارات الشخصية للمتاحف هو أنها تؤكد للضحايا شكوكهم بأن الفن شيء بعيد غاية البعد مهيب موحش إلى غير حد. إنهم ينصرفون وفي قلوبهم إجلال مشوب بالرعب الدائم تجاه ذلك السفنكس (أبي الهول) القديم الرابض في ميدان ترافالجر يطرح على العابرين أحاجي لا تستأهل الإجابة، ذلك السفنكس الذي يعنى به المثقفون ويطعمه الأغنياء.
9
تعلم المشي أولا قبل أن تحاول العدو، فإذا كان بوسع صانع ذي حساسية فائقة أن يفيد فائدة ما من روائع الجاليري القومي (شريطة ألا يقترب منه مثقف يريد أن يخبره بما يجب أن يحسه، أو يمنعه أن يحس على الإطلاق بأن يدعوه إلى التفكير) فإن من الأفضل كثيرا للصانع ذي الحساسية العادية ألا يرتاد المعرض حتى يكتسب، بمحاولة التعبير عن نفسه في الشكل، بصيصا من الرأي الصائب عما يصبو إليه الفنانون، ومن المؤكد أن بمقدور كل إنسان تقريبا، رجلا كان أو امرأة، أن يكون فنانا صغيرا ما دام كل طفل تقريبا هو فنان، ثمة حس بالشكل يمكن أن نلمسه في معظم الأطفال، فماذا يحل به؟ إنها الحكاية القديمة: الطفل أبو الرجل، وإذا شئت أن تحتفظ للرجل بالهبة التي ولد بها، فلا بد أن تتعهده صغيرا، أو بالأحرى تحميه أن يتعهد! فهل نستطيع أن نرفع عنه أيدي الآباء والمعلمين وأنظمة التعليم التي تحول الأطفال إلى رجال ونساء عصريين؟ هل نستطيع أن ننقذ الفنان الكامن في كل طفل تقريبا؟ إننا نستطيع على الأقل أن نقدم بعض النصائح العملية؛ لا تعبثوا برد الفعل الانفعالي المباشر تجاه الأشياء الذي هو عبقرية الأطفال، لا تتصوروا أن البالغين هم بالضرورة أفضل من يقضي بما هو خير وما هو هام، لا تبلغ بكم الغفلة أن تفترضوا أن ما يثير انفعال العم هو أطرف مما يثير تومي، لا تظنوا أن طنا من الخبرة تعدل ومضة من البصيرة، ولا تنسوا أن معرفة الحياة لا تسعف أحدا في فهم الفن؛ ولذا لا تعلموا الأطفال أن يكونوا أي شيء أو يحسوا أي شيء، فقط ضعوهم على الطريق؛ طريق اكتشاف ماذا يريدون وماذا يكونون. حسبي بذلك من نصائح عامة، أما ما أود قوله على وجه التخصيص فهو ألا تأخذوا الأطفال إلى معارض الصور والمتاحف، وأهم من ذلك بالطبع ألا ترسلوهم إلى مدارس الفن التي تعلمهم النزعة التجارية الادعائية، لا تشجعوهم أن يلتحقوا بنقابات الفنون والحرف حيث يحتمل أن يتعلموا حرفة ولكنهم سيفقدون حسهم الفني، في هذه المؤسسات الموقرة يسود تصور سام عن العمل الصادق والحرفية الأمينة، فيا للأسف لماذا لا يتذكر أولئك الحريصون على الصدق والأمانة أن هناك أشياء أخرى في الحياة؟ إن لحرفيي النقابات الصادقين مثلا أعلى عمليا وجديرا بالثناء، غير أنه مثل محدود وضيق الأفق، مثل أخلاقي وليس فنيا. إن الحرفيين رجال مبدأ، وهم مثل كل رجال المبادئ قد أقلعوا عن عادة التفكير والشعور؛ لأنهم وجدوا أسهل عليهم أن يسألوا ويجيبوا عن سؤال «هل هذا يتفق مع مبادئي؟» من أن يسألوا ويجيبوا عن سؤال «هل أحس أن هذا خير أو حق أو جميل؟» ولذا أقول لكم لا تشجعوا طفلا أن ينخرط في «الفنون والحرف»
Arts and Crafts ؛ فالفن لا يقوم على الحرفة بل على الحساسية، إنه لا يعيش بالعمل الأمين بل بالإلهام، إنه شيء لا يعلم في الورش وفصول المدارس بواسطة الحرفيين والمعلمين المتحذلقين، وإن أمكن إنضاجه في الأستوديوهات بواسطة أساتذة من الفنانين، صحيح أن الصبي لا بد أن يكون حرفيا جيدا إذا شاء أن يكون فنانا جيدا، ولكن لندعه يعلم نفسه حيل صناعته بالتجربة، التجربة في الفن لا في الحرفة.
وأود أن أقول لأولئك الذين يشغلون أنفسهم بمسألة إدخال الفن في حياة الناس: لا تلهوا بلعبة «الإحياء». إن اللفظة ذاتها تحمل رائحة المدفن، الإحياء ينظر إلى الوراء، بينما الفن معني بالحاضر، ولن نغري الناس بالإبداع بأن نعلمها أن تقلد، وأرى أن إحياء رقصة المريسة
morris-dancing
والغناء الشعبي، ما لم يكونا ساحرين، ليسا أكثر من «فنون وحرف» في الهواء الطلق. إن عليهما غبرة المتحف، وهما قد يحولان الصبية والفتيات إلى بحاث أذكياء، لكنهما لن يجعلا منهم فنانين، ولا يمكن لعصرين مختلفين أن يعبرا عن حس الشكل بنفس الطريقة تماما؛ ومن ثم فإن كل المحاولات الرامية إلى خلق أشكال عصر آخر لا بد لها أن تضحي بالتعبير الانفعالي من أجل براعة التقليد، وما كان للقصف القديم الصاخب أن يشفي الجوع الروحي الحاد أكثر مما تشفيه الحرفية الدقيقة أو سويعات مع «كنوزنا الفنية»، ليس غير الإبداع المتأجج، والتأمل الواجد، ما يشبع حاجة أناس يبحثون عن ديانة.
وباعتقادي أنه من الممكن، على صعوبته الشديدة، أن نمنح الناس كلا الاثنين، إذا كان الناس حقا يريدونهما، إلا أن الإبداع، وأنا على يقين من ذلك، بالنسبة إلى أغلب الناس يجب أن يسبق التأمل، في مدرسة مسيو بواريه «إيكول مارتان»
Ecole Martaine
10
أعداد كبيرة من الفتيات الفرنسيات جمعن من الأزقة وما حولها، هن الآن يخلقن أشكالا ذات فتنة وأصالة مدهشتين، لا ينازع أحد في أنهن يجدن بهجة في عملهن. إنهن لا ينسخن من أي أصل، ولا يتبعن أي تقليد؛ فالذي يدن به للماضي، وهو كثير، قد استعرنه بطريقة لا شعورية تماما مع صنف أجسادهن وعقولهن، من تاريخ جنسهن وثقافته التقليدية، يختلف فنهن عن الفن البدائي مثلما تختلف أي متمهنة حياكة فرنسية عن أي أمريكية من الهنود الحمر. غير أنه يعدل فن البدائيين أصالة وحيوية. إنه ليس فنا عظيما، وليس عميق الدلالة، وكثيرا ما يكون من الدرجة الثالثة بلا خلاف، إلا أنه فن أصيل؛ ومن ثم فإنني أضع صانعات إيكول مارتان في صف أفضل الرسامين المعاصرين، لا بوصفهن فنانات، بل بوصفهن مظاهر للحركة الجديدة.
لست متيما بموسيقى الرجتيم
rag-time
ورقصة الديكة الرومية
turkey-trotting ، ولكنهما أيضا مظاهر للحركة الجديدة، في تلك الإيقاعات المغضبة المتهوسة أجد وعدا بفن شعبي أكبر مما في إحياء الغناء الشعبي ورقصة المريسة؛ فهي على الأقل تحمل علاقة ما بانفعالات أولئك الذين يغنونها ويرقصونها، إنها جيدة بقدر ما تحمل من دلالة، غير أن دلالتها ليست عظيمة؛ فليس في نفوس حاضني الأرانب تلتمس الروح الجديدة في أوجها، وما كان لرقصهم وغنائهم أن يوقظا العالم من سباته، ولن يدين لهم المستقبل بذلك الفضل الذي أوقن أنه سينساه سريعا. ليس في الرجتيم أو التانجو كبير دهش أو جدة، غير أن من الخطأ أن نغفل أي شكل تعبيري حي، ومن السخف المحض أن نهاجمه. إن التانجو والرجتيم طائرات ورقية يطير بها نفس الريح الذي يملأ الأشرعة العظيمة للفن البصري، ليس باستطاعة كل إنسان أن يقتني زورقا شراعيا، ولكن باستطاعة كل صبي أن يشتري طائرة ورقية، وفي عصر يبحث عن أشكال جديدة يعبر فيها عن ذلك الانفعال الذي لا يمكن أن يعبر عنه بكفاية إلا في الشكل وحده، سيتطلع الحكيم برجاء وأمل إلى أي صنف من الرقص أو الغناء يتصف بأنه شعبي وغير تقليدي في آن.
فليحاول الناس إذن أن يخلقوا الشكل لأنفسهم، ربما يفضي ذلك إلى خلط وفوضى من الشكل، ولكن لا ضير؛ فالمهم أن يكون لدينا فن حي وحساسية حية. إن الإنتاج الغزير لفن رديء هو مضيعة للوقت، ولكن لا ضير في ذلك ما دمنا لن نسمح له أن يمس الفن الجيد بأذى، فليجعل كل واحد من نفسه هاويا، ولنقلع عن فكرة أن الفن شيء يعيش في متاحف لا يفهمها إلا الدارسون. ولعل ممارسة الفن أن تكسب الناس حساسية؛ فإنهم لو اكتسبوا الحساسية لإدراك الفن الأعظم، ولو إلى حد ما، سيكونون قد ظفروا بالدين الجديد الذي كانوا يبحثون عنه. إنني لا أحلم بأي شيء يمكن أن يثقل أو يخفف من فهارس المؤرخين الكنسيين، ولكن إذا صح أن أهل العصر الحديث لا يجدون شفاء في الدين الدوجماوي، وإذا صح أن هذا العصر، كرد فعل ضد مادية القرن التاسع عشر، بات على وعي بحاجته الروحية ويتوق إلى إشباعها، فيبدو من المعقول أن أنصحهم بأن يلتمسوا في الفن ما يريدون وما يمكن أن يمنحه الفن. ما كان للفن أن يخذلهم، وإنما الخطب أن الأغلبية لا بد دائما أن تكون مفتقرة إلى الحساسية التي يمكنها أن تأخذ من الفن ما الفن معطيه.
سيكون ذلك مؤسفا جدا للأغلبية، ولكنه للفن لن يعني الكثير؛ فالفن لأولئك القادرين على الإحساس بدلالة الشكل لا يمكن أن يكون أقل شأنا من ديانة، فلا شك عندي أن هؤلاء يجدون في الفن ما وجدته الطبائع الدينية الأخرى وما تزال تجده في الصلاة والعبادة الجياشة، يجدون ذلك اليقين الوجداني، وتلك الثقة بالخير المطلق التي تجعل الحياة كلا هاما ومنسجما. •••
وحيث إن الانفعالات الإستطيقية هي شيء خارج الحياة وفوقها، فإن بوسع المرء أن يلوذ بها من الحياة. إن من قدر له يوما أن يعرف الوجد وأن يتبدد في أوه ألتيتودو
O Altitudo
11
واحدة، لن يكون له أن يؤخذ بإثارات العمل الفارغة ويغالي في تقديرها. ومن وهب القدرة على أن يأوي إلى عالم الوجد سيعرف كيف يتعامل مع الوقائع بحجمها. جدير ذلك الذي يختلف كل يوم إلى عالم الانفعال الإستطيقي أن يعود إلى عالم الشئون البشرية مسلحا لمواجهتها بشجاعة، وربما بشيء من الازدراء. وهو إذا كان يجد أغلب الولع البشري تافها بالقياس إلى النشوة الإستطيقية، فليس في ذلك ما يدعوه إلى الجفاء والبرود، بل إن بإمكان ديانة الفن من الناحية العملية أن تسعف إنسانا أكثر مما يسعفه الدين البشري؛ فقد يتعلم في عالم آخر (عالم الفن) أن يشك في الأهمية القصوى لهذا العالم. ولكن إذا كان هذا الشك يوهن من حماسته لبعض الأشياء الممتازة حقا فسوف يبدد أوهامه حول العديد من الأشياء غير الممتازة. إن ما ينتقص من رصيد حبه للبشر قد يضاف إلى رصيده من الشهامة، ولما كانت ديانته لا تستهل بوصية «أحب جميع الناس» فهي لن تنتهي، ربما، بحضه على أن يبغض أكثرهم.
صفحة غير معروفة