فمن هذه المقطوعة وأمثالها نستطيع أن نخطط صورة نفسية لهذا الشاعر الفارس الذي عرف بإباء الضيم والاعتزاز بالنفس بل والكبرياء المشروعة، بينما نخرج من دواوين شوقي مثلا دون أن نستطيع أي تخطيط لصورته النفسية، وإذا جاز أن نتخذ العثور على شخصية الشاعر في شعره مقياسا لشاعريته، لجاز أن نرتفع بالبارودي درجة فوق شوقي على الرغم من انتمائهما معا إلى مدرسة البعث الشعري المعاصر.
خاتمة
وإذا كانت حركة البعث الشعري المعاصر قد استمرت بعد البارودي عند مدرسة بأكملها تزعمها شوقي وكان من كبارها حافظ إبراهيم ومحمد عبد المطلب وعلي الجارم وغيرهم ممن يعرفون اليوم بمدرسة الشعر التقليدي، فإنه قد ظهرت إلى جوارهم منذ أوائل هذا القرن مدارس شعرية أخرى كبيرة، مثل مدرسة شكري والمازني والعقاد التي اصطلحنا على تسميتها بمدرسة الديوان نسبة إلى كتاب الديوان الذي هاجموا فيه المدرسة التقليدية أعنف الهجوم، ثم المدرسة المهجرية التي تزعمها جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي، ومدرسة خليل مطران الذي تنتسب إليه جماعة أبوللو، وأخيرا المدرسة الجديدة التي تعرف اليوم بمدرسة الشعر الواقعي أو شعر الوجدان الجماعي على نحو ما سنفصل القول.
مدارس الشعر العربي الحديث
انتهينا من الحديث عن الشعر العربي التقليدي وتطوره في ضوء النظرية العامة للشعر، ووصلنا في استعراضنا السريع إلى حركة البعث الشعري الذي قام به في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحاضر شاعرنا الكبير محمود سامي البارودي، وهو البعث الذي كان إيذانا ببدء الحركة الشعرية المعاصرة وتنوع مدارسها استنادا إلى التراث العربي القديم حينا وإلى تأثيرات الآداب الغربية ومقتضيات حياتنا الجديدة حينا آخر، وها نحن أولاء ننظر اليوم في هذه المدارس.
المدرسة التقليدية
وقد كان أول هذه المدارس ظهورا وأوسع أصحابها شهرة «المدرسة التقليدية» التي تزعمها أمير الشعراء أحمد شوقي، وكان من فحولها شاعر النيل حافظ إبراهيم، وشاعر البداوة محمد عبد المطلب، وشاعر رشيد علي الجارم، والشاعر محمد الأسمر، ولا يزال من بين أنصارها الأحياء الشعراء: محمود عماد، وعلي الجندي، وعزيز أباظة.
ولقد يبدو غريبا أن يتزعم أحمد شوقي هذه المدرسة مع أنه أوفد في بعثة دراسية إلى فرنسا؛ حيث أقام أربع سنوات اتصل فيها بآدابها خاصة والآداب الأوروبية عامة، وتأثر أثناء إقامته بتلك الآداب حتى رأيناه يترجم شعرا قصيدة «البحيرة» للامارتين، كما ترجم عددا من أقاصيص «لافونتين» على ألسنة الحيوانات، وألف أقاصيص أخرى على غرارها، بل وألف الطبعة الأولى من مسرحية «على بك الكبير» سنة 1893، ولكن هذا العجب يمكن أن يزول إذا ذكرنا ظروف حياة شوقي الخاصة وإعداده نفسه؛ ليكون شاعر الأمير تمهيدا لأن يصبح أمير الشعراء ويبايعه العرب على ذلك في سنة 1927، فهو نفسه يحدثنا في مقدمة ديوانه الأول الصادر في سنة 1903 بأنه قد حاول أن يتأثر بالأدب الغربي، ولكنه لم يلبث أن تبين أن المطلوب منه هو أن يلتزم عمود الشعر العربي وتقاليده، وفعلا نهج هذا السبيل حتى إننا لنقرأ شعره فلا نكاد نتبين فيه أثرا واضحا للآداب الغربية، بل ولا للحياة الأوروبية التي عاشها أربع سنوات، وذلك فيما عدا القليل النادر إذا قورن بشاعر لاحق ك «علي محمود طه» الذي لم تتح له الإقامة المتصلة بأوروبا كما أتيحت لشوقي، ومع ذلك نحس أنه قد تأثر تأثرا عميقا بتلك الحياة ومشاهدها الطبيعية والإنسانية خلال زياراته الصيفية العابرة لأقطار أوروبا على نحو ما نشهد في عدد من قصائده ابتداء من «الجندول» إلى «بحيرة كومو»، بل إن قصيدة شوقي الوحيدة التي تردد بعض ذكريات باريس وهي قصيدة «غاب بولونيا» لا نحس فيها تعمقا من الشاعر في حياة تلك المدينة الصاخبة ولا غنى في تجاربه فيها، وإن تكن بالغة الجمال والعذوبة في نسيجها الشعري وما يشيع فيها من أسى مرهف؛ حيث يقول:
يا غاب بولون ولي
ذمم عليك ولي عهود
صفحة غير معروفة