، وهذه الكلمة الأخيرة مشتقة بدورها من الفعل اليوناني
ومعناها «يعمل» أو «يصنع» أو «يخلق»، وعلى هذا الأساس يكون معنى «الشعر » الاشتقاقي عندهم «الخلق» أو الإبداع، ومع ذلك نرى الفيلسوف الأول أرسططاليس يرجع الشعر، بل الفنون الأخرى جميعها إلى ما يسميه بالمحاكاة: أي محاكاة الطبيعة وواقع الحياة بشتى الوسائل التي تملكها الفنون المختلفة، وهي في حالة الشعر اللغة والموسيقى، وعند الفهم الصحيح لنظرية المحاكاة كما تحدث عنها أرسطو لا نجد هناك تعارضا بين معنى الشعر الاشتقاقي وحقيقته القائمة على المحاكاة؛ فأرسطو لم يقصد هو ولا غيره من المفكرين القدماء والمحدثين إلى القول بأن المحاكاة الفنية نقل آلي أو شبه آلي عن الطبيعة أو الحياة، ومثل هذا النقل هو وحده الذي تنتفي معه صفة الخلق والإبداع في الشعر بخاصة والفنون عامة، فالفنان أو الشاعر لا ينقل عن الطبيعة أو الحياة رأسا وبطريق مباشر آلي، وإنما ينقل عن الصورة التي تنعكس في نفسه عن بعض مشاهد الطبيعة أو الحياة، ولا أدل على ذلك من أن أرسطو لم يحصر المحاكاة فيما هو واقع في الطبيعة والحياة، بل رأى أنها كثيرا ما تكون محاكاة لما يمكن أن يكون أو لما يجب أن يكون، ولا يمكن أن تقتصر على ما هو كائن، وعلى هذا الأساس يميز أرسطو بين التاريخ والأدب؛ فالتاريخ يتقيد بما كان، بينما الأدب يحق له، بل يجب أحيانا، أن يعمل فيما كان من الممكن أن يكون؛ ولذلك يبحث الأدب عن العام المشترك، بينما ينحصر التاريخ في الخاص المفرد؛ فهو قد يصور مثلا استبداد «نيرون» ولكنه لا يصور الاستبداد في ذاته منطلقا من إطاري الزمان والمكان؛ ولذلك يقدم التاريخ أفرادا وشخصيات بينما يستطيع الأدب أن يقدم نماذج بشرية، وفي كل هذا ما يفسح المجال أمام الأدب عامة للخلق والإبداع؛ بحيث تقترب حقيقته عند أرسطو من المعنى الاشتقاقي للفظة الشعر في لغة أرسطو نفسه، أي اليونانية القديمة، وهو معنى الخلق والإبداع.
على أنه يلوح لنا أن أرسطو عندما أرجع الشعر إلى محاكاة الطبيعة والحياة إنما كان ينظر إلى فنين بالذات من فنون الشعر، وهما: فن الملاحم، وفن التمثيليات الشعرية؛ أي الفنين الموضوعيين قبل كل شيء ، وذلك بدليل أنه لم يتحدث عن فن الشعر الغنائي في كتابه الذي تحدث فيه عن الشعر عامة، وهو كتاب «الشعر»؛ إذ نراه يكتفي بأن يقسم الشعر إلى فنونه الثلاثة ثم يغفل بعد ذلك الحديث عن الشعر الغنائي؛ ليأخذ في تفصيل القول عن الفنين الآخرين اللذين يستقيم فهمهما، أو يمكن أن يستقيم، على ضوء نظرية المحاكاة باعتبار أن الملاحم والمسرحيات تعرض قطاعات من الحياة؛ أي تحاكيها بالمعنى الواسع للمحاكاة سواء أكانت تلك القطاعات من الماضي كما كان الحال في الملاحم والتراجيديات أو من الحاضر كما كانت الحال في الكوميديات، وبخاصة كوميديات أريستوفان.
وعلى ضوء هذا التفسير نستطيع أن نفهم كيف أن الفلسفة الأدبية الكلاسيكية التي تقيدت بآراء أرسطو في الفن وبنظريته عن المحاكاة؛ قد اتجهت وأنتجت بنوع خاص في فن موضوعي من فنون الشعر كفن الشعر التمثيلي، كما نستطيع أن نفهم كيف أن الرومانسية التي تمردت على الكلاسيكية وعلى فلسفة أرسطو في الفن عامة والشعر بخاصة؛ قد اتجهت وأنتجت بنوع خاص في فن الشعر الغنائي الذي تفوقت فيه، وجعلت أساسه الفلسفي التعبير لا المحاكاة، فالشعر عند الرومانسيين تعبير عن الذات الشاعرة قبل كل شيء، ومن الغريب أن نلتقي هنا مع الرومانسية عندما ننظر في المعنى الاشتقاقي لكلمة «شعر» في لغتنا العربية؛ إذ من الواضح أن الشعر من الشعور، أي إنه هو ما أشعرك كما كان يقول شاعرنا الكبير عبد الرحمن شكري وإخوانه من رواد التجديد في شعرنا العربي المعاصر؛ إذ نلاحظ أن دعوتهم تلك لم تكن إلا رجوعا إلى المعنى الاشتقاقي للفظة «شعر» ولغتنا العربية، وإن يكن من الواضح أن اتصالهم بالشعر الغربي الغنائي هو الذي ردهم إلى هذا المعنى الاشتقاقي الخالد.
كان الرومانسيون إذن هم العامل الفعال في تغيير الأساس الفلسفي للفنون عامة والشعر بخاصة من المحاكاة إلى التعبير، وبفضلهم قوي الشعر الغنائي بينما أخذ الشعر الموضوعي يتراجع، وبخاصة في الفن الأدبي التمثيلي ليخلي مكانه للنثر.
وإغفال أرسطو الحديث عن الفن الغنائي في كتابه عن «الشعر» عامة؛ لا يزال موضع مناقشات وتكهنات بين المفكرين والباحثين، فمنهم من يرجح ما أشرنا إليه من عدم تمشي الشعر الغنائي باتجاهاته جميعها مع نظرية المحاكاة التي جعلها أرسطو أساسا للشعر بخاصة والفنون عامة، بينما يرى البعض الآخر أن أرسطو إنما أغفل الكلام عن الشعر الغنائي في كتابه «الشعر»؛ لأنه رأى أن الشعر الغنائي أدخل في مجال الموسيقى وألصق به من مجال الأدب. ويزعم أصحاب هذا الرأي أن أرسطو لم يكن يؤمن بأن الشعر الغنائي نفسه يخرج عن مجال المحاكاة؛ بدليل أن شعراء الإغريق ومفكريهم السابقين عليه كانوا أنفسهم يرون أن الشعر كله ضرب من المحاكاة، وباستطاعتنا أن نعثر في أقوالهم على ما يؤيد هذا الرأي مثل قول شاعرهم الغنائي سيمونيدس: «إن الرسم شعر صامت، والشعر تصوير ناطق.» وواضح من هذه العبارة أن الشعر عند سيمونيدس شبيه بالرسم، ومن البديهي أن الرسم يسهل إرجاعه إلى المحاكاة، ولكننا نحسب أن مثل هذا القول إنما يصح على الشعر الوصفي، بينما يصعب تطبيقه على الشعر الوجداني الذي يبدو لنا أن أساسه الفلسفي هو حاجة الشاعر إلى التعبير لا ميله الغريزي إلى المحاكاة، وذلك ما لم ندفع الجدل إلى حد السفسطة الميتافيزيقية، فنزعم أن التعبير عن الوجدان ما هو إلا تصوير لحالات نفسية ومحاكاة لها.
ونحن إذ نفرغ إلى أن الشعر الغنائي بنوع خاص قد أصبح أساسه الفلسفي منذ الرومانسيين الحاجة إلى التعبير لا الميل الغريزي إلى المحاكاة.
ننتقل إلى النظر في هدف هذا التعبير لنرى هل هدفه كما يرى الفيلسوف كروتشي: التنفيس عن الذات الفردية دون نظر أو اعتبار إلى الجمهور المتلقي؛ أي إن الفنان يبدع لنفسه أولا وينفس عن عاطفته قبل أن يخاطب الجمهور، وبذلك نعثر على الأساس الفلسفي لما سميناه الشعر المهموس، أم أن الفنان يبدع كما قال تولستوي ليخاطب الغير ويعديه بمثل حالته النفسية التي يعبر عنها، وبذلك نجد أساسا فلسفيا لما يسمونه بالشعر الخطابي أو شعر المحافل ذي النغمات الرنانة الجهورية.
وإذا فرغنا إلى أن الشعر الغنائي تعبير عن الوجدان، ليشفي الشاعر نفسه، أو ليخاطب الغير وينقل إليه عدوى نفسه، فلا بد أن ننظر بعد ذلك في طبيعة هذا الوجدان، وهل هو الوجدان الفردي فحسب أم من الممكن أن يكون أيضا الوجدان الجماعي؛ بحيث لا يتحدث الشاعر عن آلامه وآماله وأشواق روحه الخاصة فحسب، بل يتحدث أيضا عن آمال شعبه وآلامه وأشواق روحه باعتبار أن وجدان الشاعر لا يمكن أن يكون ذاتيا خالصا في الأحوال العادية، وفي غير حالات الانعزال، أو الانطواء المرضي، أو الأثرة المسرفة، أو الغفلة التي لا تجعله يدرك أن وجدانه جزء من وجدان مجتمعه، متأثر به مؤثر فيه، وأن الشاعر مهما كانت أصالته إنما يتكون من رواسب ماضيه وماضي قومه، وإشعاع حاضرهم، وإرهاصات مستقبلهم.
ولا بد لنا أيضا من أن ننظر بعد كل ذلك في وسائل التعبير وطرائقه، وهل يكون هذا التعبير بالطريق المباشر وبالأسلوب التقريري الذي يكشف به الشاعر عن ذات نفسه، ويعرضها عارية محللة إلى عناصرها الأولية على القراء والسامعين، كما يفعل الرومانسيون، أم يحسن به أن يلجأ إلى الصورة والرمز فلا يفصح عن حالته النفسية، بل يلتقط صورا ترمز لتلك الحالة كما يفعل الرمزيون، وبذلك نعود إلى قول سيمونيدس إن الشعر تصوير ناطق، أو كما يقول بعض نقادنا العرب القدماء تصوير بياني.
صفحة غير معروفة