تصدير
لقد اعتمدت في استخلاص العصارة التي ضمنتها هذا الكتيب، العزيز على نفسي، على نوعين من الدراسة، أولهما: الدراسة التاريخية لتطور الشعر عندنا وعند غيرنا من الدول؛ لكي أظل مرتكزا على ما أنتجت البشرية فعلا من شعر. وثانيهما: النظريات الأدبية والفنية، والمذاهب التي ظهرت عبر التاريخ. وكل ذلك لكي أستخلص في النهاية المقومات الأساسية التي لا يمكن أن ينهض الشعر بدونها، طبقا لأهدافه. فالشعر لا بد أن يثير فينا إحساسات جمالية وانفعالات وجدانية، وإلا فقد صفته. ولتحقيق هذه الأهداف هناك عدة وسائل أو خصائص لا بد من توافرها فيه: كالوجدان في مضمونه، والصور البيانية في تعبيره، وموسيقى اللغة في وزنه.
فإن كنت قد وفقت إلى ما قصدت إليه بفضل المنهج الذي اخترته، كان هذا خير جزاء على ما بذلت من جهد في استخلاص هذه العصارة، وتقديمها إلى القراء عامة في أبسط تعبير وأوضحه، ودون أن أثقل صفحات الكتيب بهوامش أو مراجع مما لا يتفق وطبيعة هذه المكتبة الثقافية التي توخت الوزارة أن تكون في متناول أكبر عدد من القراء، وإن كان المتخصصون يمكن أن يجدوا فيها هم أيضا بغيتهم.
محمد مندور
الشعر وفنونه
لم يعد الحديث عن الأدب عامة والشعر بخاصة من البساطة واليسر على نحو ما كان عند أجدادنا السابقين من العرب، بل أصبح من العجز أن نردد اليوم في محاولة تعريفنا للأدب وفنونه أمثال تلك التعاريف الساذجة التي كان يرددها أجدادنا مثل قولهم: «إن الأدب هو الإلمام من كل شيء بطرف»، وقولهم: «إن الشعر هو الكلام الموزون المقفى»، بعد أن أصبحت الثقافات العالمية تعج اليوم بمختلف الفلسفات الجمالية ومذاهب الأدب والفن؛ حتى أصبح لزاما علينا أن نعيد فهمنا للأدب عامة والشعر بخاصة على ضوء تلك الثقافات العالمية؛ حتى لا نظل متخلفين عن ركب الإنسانية العام.
ويحس من يريد أن يتحدث اليوم عن فن من فنون الأدب بحاجة جذرية إلى أن يبدأ من الكليات حتى يستطيع أن يرسي حديثه على أسس عامة تحدد وتوضح حقائق الأشياء، وكأنه يبدأ هذا الحديث بأبجدية الفن والأدب.
ومن هنا يجدر بنا أن نحاول أولا: الاتفاق على تعريف يجمع ما تصطلح الإنسانية اليوم على تسميته أدبا، ويمنع ما لا تعتبره داخلا في الأدب من أنواع الكتابات الأخرى؛ فنقول: إن الأدب هو كل ما يثير فينا - بفضل خصائص صياغته - انفعالات عاطفية أو إحساسات جمالية.
والأدب لا يزال ينقسم كما قال العرب القدماء إلى شعر ونثر، وإن تكن الفنون التي تنطوي تحت كل قسم تختلف اختلافا بينا عند الغربيين عنها عند العرب.
فالنثر - في تقاليد الأدب العربي - كان لا يدخل في مجال الأدب إلا إذا كان نثرا فنيا؛ أي في الغالب نثرا مصنوعا كنثر الرسائل والخطب والمقامات والأمثال السائرة، وذلك بينما يشمل النثر الأدبي عند الغربيين الكثير من الكتابات الفلسفية والتاريخية والاجتماعية، فضلا عن النثر في معناه الضيق الذي يشمل القصة والأقصوصة والمقالة والسيرة والمسرحية، وهو أدب أخذنا نحتذيه منذ نهضتنا المعاصرة؛ حتى وجدت لدينا كل الفنون النثرية، بينما اختفت فنون النثر العربي القديمة أو الكثير منها: كالمقامة وما إليها بعد أن تحلل نثرنا الحديث من الصنعة اللفظية التي كانت عماد تلك الفنون القديمة.
صفحة غير معروفة