49

فن الحياة

تصانيف

وأقرب الوسائل إلى الانتفاع بفراغنا أن تتعدد اهتماماتنا ودراساتنا وأعمالنا، أو بكلمة أخرى: يجب ألا يكون طريقنا منفردا في الحياة، لا نعرف غير وسيلة واحدة للكسب والعيش، ولا غير وسيلة واحدة للترفيه والترويح؛ إذ يجب أن يكون طريقنا مزدوجا، بل خير لنا أن تتعدد الطرق.

وقلما يخلو بيت في أوروبا من غرفة يستأثر بها الزوج لا يجوز لزوجته أن تتدخل في ترتيبها، وفي أغلب الأحيان تكون هذه الغرفة منزوية قريبة إلى سطح البيت، وهي مريحة في فوضى الأثاث والأوراق، وهي ملجأ أو معتكف يلجأ إليها الزوج كي ينفس عن كظومه، أو يفرج عن توتراته، وهي من المرافق الاجتماعية التي تمهد العقبات، وتسوي النتوءات التي تنشأ من العمل أو من العائلة.

وقد تكون الهواية دراسة أو دراسات معينة. ومعظم الذين يسعدون بشيوختهم، حين يحيلهم المجتمع على التقاعد، يكونون - في الأغلب - قد هووا الدراسة فلازمتهم هوايتها إلى الشيخوخة، وهناك هوايات أخرى عملية؛ كالنجارة، أو تجليد الكتب، أو - للمرأة - أنواع من التطريز والوشي والنسيج.

وأذكر أني زرت ذات مرة أحد الأندية النسوية في القاهرة، فوجدت طرازا جميلا خفيفا من الكراسي، عرفت حين سألت عن صانعه أن هذا الصانع موظف كتابي في الحكومة قد هوى هذا العمل وأتقنه، لا يبغي منه فائدة مادية، ولكن الفائدة المادية جاءته عفوا بحيث يستطيع الآن أن يستغني عن وظيفته الحكومية ويقتصر على النجارة.

والرجل أو المرأة الذي تشغله هواية ما يسعد بفراغه، ويستطيع أن يفتن بهوايته ويتأنق في أدائها؛ لأنه لا يعجل ولا يهرول؛ إذ هو في فراغ ينبسط أمامه، فهو يتقن ويتأنق. وحبذا المرأة تشغل فراغها بهواية مفيدة ترتقي بها اجتماعيا أو إنسانيا، وتجد فيها أيضا ما يغنيها عن الاستماع للفارغات من النساء اللاتي يملأن فراغهن بالقيل والقال.

وربما لا يكون الزمن بعيدا حين تعلم المدارس وتخرج تلاميذها أو طلبتها للحياة وليس للحرفة، وحين تعنى بالفراغ والهواية أكثر مما تعنى بالعمل والكسب. وفي هذه الدنيا الواسعة هناك لا أقل من مليون هواية تنتظر من يبحث عنها ويهتدي إليها. وقد تكون إحدى هذه الهوايات بذرة لاختراع أو اكتشاف جديد يحتاج إليه البشر. وهل فكرت - أيها القارئ - وذكرت أن كثيرا من المخترعات والمكتشفات إنما كان ثمرة إحدى الهوايات التي ملأت فراغ أحد الهواة؟

وفي ظروفنا الاجتماعية الحاضرة يحتاج كل منا إلى هواية؛ أولا: لأن حياتنا حافلة بما ينغص ويبعث على توترات وكظوم مختلفة متكررة، والهواية هنا تخفف وتعيد لنا اتزاننا النفسي؛ لأننا نجد فيها كل يوم انتصارا وحماسة، وثانيا: لأننا نرتقي بممارسة هواية ما؛ إذ نتعلم فنا أو أي مهارة أخرى تحرك ذكاءنا أو عضلاتنا، وثالثا: تحول الهواية دون الوقوع في العادات السيئة.

وأنت - أيها القارئ - عندما تجول في شوارع القاهرة، وتجد المئات من الشباب السادرين الذين يقعدون على القهوات، ويدخنون في ذهول كأنهم نائمون، أو يكرعون الخمر في غير مبالاة، أو تجد النساء في شجار سافر أو مستتر، فإنك لا بد عند التأمل واجد أيضا أنهم يكابدون توترات وكظوما قد جهلوا طرق التخلص منها، وخير الطرق في ظروفنا الحاضرة هو هواية لذيذة تملأ فراغهم.

وكثير مما ذكرنا في هذا الفصل قد سبق أن أشرنا إليه في فصول سابقة، ولكنا احتجنا إلى جمع بعض الملاحظات هنا لما لها من الدلالة على قيمة الهواية.

الخلوة

صفحة غير معروفة