وإذا وجد الشاب أنه مع ذلك عاجز عن إبطال العادة السيئة، فعليه بالتحليل النفسي حتى يصل إلى الأصول الثابتة في كامنته «عقله الكامن»، فيكشفها وينفضها في الهواء، وعندئذ يسهل الإبطال.
ولكن العادة تحدث في النفس شهوة، وإبطالها كظم قد لا يطاق، وكثيرا ما رأينا آثار هذا الكظم في مدمن الخمر حين يتأخر عن ميعاد شرابه؛ فإنه يقلق في مكانه، وقد يرتعش أو يعرق أو يغضب؛ وهذا لأنه كظم الشهوة للشراب ساعة أو أقل أو أكثر فقط، فكيف بالإبطال التام؟
يجب على المدمن أن يأخذ بعادة أخرى قريبة أو مناسبة للعادة السابقة التي أبطلها؛ حتى تجد شهوته المكظومة المنفس والمخرج؛ كالقهوة بدل التدخين، أو الألعاب الرياضية بدلا من القمار، أو الطعام قبل ميعاد الشراب؛ حتى تمتلئ المعدة فلا يساغ الشراب. وإذا لم تنجع هذه الوسائل للإقلاع عن عادة سيئة؛ فيجب - كما قلنا - الالتجاء إلى التحليل النفسي، وإذا لم يكن هذا متيسرا فلا بأس من الاعتماد على ما يسمى: «الانعكاس المعدول»؛ أي إيجاد مركب نفسي سيئ، كأن نحقن شريب الخمر بحقنة مقيئة قبل الشراب، ثم نأذن له بكل ما يهوى من شراب؛ كما وكيفا، حتى إذا جرع كأسين أو ثلاثة ألفى نفسه في غثيان وقيء، فإذا صحا صار لا يشتهي الخمر إلا وفي نفسه هذا الجزع من الغثيان، فيكره الخمر.
وهذا هو ما تفعله الأم مع طفلها الرضيع حين تحتاج إلى فطامه؛ فإنها تطلي الحلمة بسائل مر فيكره الطفل الرضاع؛ لأنه يقرن المرارة إلى الحلمة.
ولكن المرارة للحلمة والغثيان وقت الشراب كلاهما عمل سلبي؛ أي إنه يكف ويزجر، والحاجة تدعو هنا إلى عمل إيجابي يغري ويجذب، وهو عند الأم تقديم طعام سائغ للطفل، وكذلك يجب أن نقدم شيئا للسكير له قيمة نفسية ترفيهية تقوم مقام الخمر، ولكل إنسان ظروفه التي تعين العلاج؛ فقد يعالج أحدهم بالرفقة المنعشة مع أحد الأصدقاء، وقد يعالج آخر باهتمامات لذيذة تملك نشاطه وتوجهه.
وحياتنا كلها سلسلة من العادات الجسمية والذهنية والنفسية، فإذا قصدنا إلى أن نجعل حياتنا فنا جميلا؛ فإننا نحتاج إلى تعود العادات التي تؤدي إلى الاقتصاد في مجهوداتنا، كما نحتاج إلى عادات التأنق: نتألق في لباسنا وطعامنا وتصرفنا؛ حتى نجعل الكيف يأخذ مكان الكم، فنطلب الكمال فوق الضرورة، ونقصد إلى الجمال في كل ما نتوخى من وسائل أو غايات.
عادة القراءة
تحدثنا في بعض الفصول السابقة عن القيمة العظمى لعادة القراءة، ولكنا مع ذلك نحتاج إلى التوسع في إيضاح هذه القيمة. وهذا الكتاب الذي نتوخى فيه جعل الحياة فنية يجب أن يحوي فصلا عن القراءة؛ لأن القراءة وحدها تجعل الحياة فنية في الكثير من معانيها؛ إذ هي ترفع القارئ من الاعتبارات المحلية ومن الضروريات المعيشية إلى قيم بشرية سامية، وإلى كماليات وتأنقات ذهنية لا يحصل عليها الأمي أو ذلك القارئ الذي يحيل نفسه إلى أمي لأنه يكره القراءة.
وفي أيامنا يعد توافر الكتب والمجلات والجرائد من أعظم انتصارات الحضارة العصرية؛ لأنه قد جعلنا بالقراءة المثابرة على وجدان دائم بعصرنا ودنيانا؛ فاتسعت آفاقنا الفكرية والعاطفية، وحفلت حياة القارئين باهتمامات جديدة ومتجددة، ولم يكن آباؤنا يعرفون شيئا منها. فإذا لم تكن حياتنا أطول من حياتهم فإنها على الأقل - بالقراءة - أعرض وأعمق منها.
وواضح أننا نقصد هنا القراءة المنيرة المنبهة لا القراءة المظلمة المخدرة؛ فإن هناك قراء وقارئات يشترون المجلة كما يشترون اللب أو اللبان للتسلية وقتل الوقت، كما أن هناك مؤلفين قد زودوا السوق «الأدبية» بهذه المخدرات التي تبنج العقل وتلغي الوجدان.
صفحة غير معروفة