يجب أن نقلل من مظاهر الحزن؛ مثل احتفال الأربعين للمتوفى، أو التفجع في الجرائد على المتوفين؛ لأن هذه المظاهر تحيي الحزن القديم عند الغير.
وهذا أحسن ما نستطيع أن نقول في مجتمع المباراة الذي نعيش فيه، وهو مجتمع سيئ في أساسه.
التربية
لا تقل طفولتنا البيولوجية عن 17 سنة، ولا تقل طفولتنا الاجتماعية عن 30 سنة، ومعنى هذا أن مدة التربية عندنا طويلة؛ وذلك أننا لا نولد بأجهزة من الغرائز التامة التي نعمل بها بلا تعليم، كما تفعل صغار السمك التي تسبح عندما تخرج من بيضها، ولا بأجهزة ناقصة كما تفعل صغار الطيور التي تحتاج إلى شيء من التعليم كي تطير وتجرؤ على اقتحام الجو.
ذلك أننا نحن البشر قد استغنينا عن الكثير من غرائزنا، أو قد وضعناها في الصفوف الخلفية من كياننا النفسي، وأقمنا العقل وصيا عليها يديرها ويوجهها؛ حتى إننا لا نأكل ولا نتناسل في استسلام كامل للغرائز؛ إذ إننا نسلط العقل هنا أيضا، ونجعل له التصرف الأعلى. وصحيح أننا لا نستطيع أن نخمد هذه الغرائز، ولكننا نستطيع التصرف بها وتوجيهها.
وتسلط العقل يجعل التربية ضرورية لكل فرد منا؛ وخاصة إذا كنا نعيش في مجتمع راق؛ أي أرقى وأكثر تركبا من المجتمع الزراعي أو البدوي. وتتجه التربية في عصرنا إلى إيجاد عادات ومهارات نكسب بهما العيش، وليس من شك في قيمة التربية؛ وخاصة في مجتمع لا يزال يعيش على اقتصاديات القلة وليس على اقتصاديات الوفرة التي يلتمع فجرها الآن في الأمم المتقدمة في الإنتاج الآلي، ولكن التربية يجب أن تكون للحياة قبل أن تكون للكسب.
وكذلك يجب ألا ترمي التربية إلى تعليمنا المعارف والثقافة فحسب، وإنما يجب أن توجهنا الوجهة التي نتعلم بها وحدنا. وكي نوضح قصدنا نطلب إلى القارئ أن يقارن بين أرسطوطاليس وبين تلميذ في السنة الثالثة أو الرابعة من مدارسنا الثانوية؛ فليس من شك أن التلميذ يفضل هذا الفيلسوف في كثير من معارفه الكيماوية والبيولوجية والطبيعية والجغرافية، ولكن أرسطوطاليس يمتاز باتجاه معين نحو البشر والكون والمعارف. وهذا الاتجاه يحتاج تلميذنا إلى خمسين أو ستين سنة حتى يصل إليه، بل قد لا يصل إليه لأنه لا يجد من يرشده.
ليست التربية السديدة أن أعرف، وإنما هي أن أعرف كيف أعرف؛ أي كيف أعلم نفسي، وأزيد معارفي، وأكون طالبا مدى حياتي. وليست التربية أني أعرف كيف أكسب العيش، بل هي أن أعرف كيف أعيش سبعين أو ثمانين سنة على هذا الكوكب في نمو لشخصيتي وترقية لذهني. ويجب ألا يكون هدف التربية - كما هو الآن - النجاح الحرفي للكسب؛ إذ يجب أن تهدف إلى النجاح في الحياة؛ لأن الحياة أكبر من الحرفة، والنجاح فيها يقتضي النجاح في الصحة والثقافة والعلاقات الاجتماعية والعائلية، والارتقاء الفني والذهني ... إلخ.
يجب أن تهدف التربية إلى أن تحمل كلا منا على الاهتمام بالأثاث الأنيق والرسم الفني كما نهتم للكسب في مجتمع اقتنائي يعيش أفراده بالمباراة، ويجب أن تحرك استطلاعنا إلى درس الطاقة الذرية أو زراعة القطن كما تحركه إلى تقدير ألوان الجمال في الطبيعة: القمر في الريف، والشمس في البزوغ، والبحر والقفر والجبل والسهل؛ لأن هذا الكوكب كوكبنا، ويجب أن نستمتع بما فيه من روعة الطبيعة ومجدها.
والحياة الفنية تحتاج قبل كل شيء إلى درس الفنون، وإلى ترقية الإحساس الفني، بحيث نسلك ونتصرف ولنا في كل ذلك مأرب فني، حتى إذا سرنا في حديقة استمتعنا بالزهور وهي على شجرتها في إشراقها وإيناعها دون أن يبعثنا روح الاقتناء على بترها وقطفها.
صفحة غير معروفة