المقدمة
ليس في التاريخ كله أمة أشد صلابة وتماسكا مثل الأمة الصينية، كما إن التاريخ كله لم يشهد أمة طالت بين أهلها النزاعات والحروب مثل الأمة الصينية أيضا. فالعبارة الأولى صحيحة برغم الثانية، بمثل ما أن العبارة الثانية سبب ونتيجة للأولى، ولا تناقض هناك أو تضاد، بل مجرد تعيين لقاعدة من قواعد الفكر الفلسفي في الصين القديمة ترى أن الأضداد يمكن أن تخلق تجاذبا أو تنافرا بين حدود متقابلة مثلما يمكن أن تراوح بين أطراف متعادلة تحفظ للأشياء والناس حركة دائمة ومتصلة ، وتحافظ على طبيعة متأصلة في الحياة الصينية الاجتماعية والفكرية. ترى في الثنائيات المتقابلة أساسا راسخا من أسس البقاء، فمن لقاء الأرض والسماء يأتي الملوك، أبناء السماء، لكنهم ليسوا من الآلهة ولا هم على شاكلة البشر، ومن رحم الجبال والأنهار تولد الطبيعة، وبين الملوك والدهماء يكتب التاريخ الصيني صحائف بقائه ملء الزمان. وكانت مخططات الفكر الكونفوشي تنتظم ثنائية طرق وأساليب التعامل بين الآباء والأبناء، والإخوة الكبار والصغار، والرجال والنساء، والحكام والمحكومين ... إلخ.
بين الحرب والسلام قامت التسويات، وبين كل ألوان الصراعات قامت حدود وسطى للتسوية، بل إنك تستطيع القول بأن التسوية هي جوهر الفكر الصيني كله. وليس غريبا أن يزعم دارسو الفلسفة بأن السمة الغالبة على الثقافة الصينية طوال عهودها هي «الوسطية»؛ فتاريخ الصين عبارة عن حركة جدل بين متناقضات متقابلة تنتج دائما تسويات مؤقتة لا تلبث أن تسلم قيادها إلى طرفي صراع جديد. كان ذلك حال الفكر في الصين حتى قبل أن تفد إليها «المادية الجدلية» في العصر الحديث. «الوسطية» إذن هي طبيعة الفكر الصيني، و«التسوية» بين طرفي نقيض أو أطراف متنازعة هي جوهر التاريخ الاجتماعي والفكر الفلسفي في الصين (هذا إذا تجاوزنا عما يثار أحيانا ومن مفكرين ومحللين هنا وهناك من أنه لم يكن لدى الصين، يوما، فلسفة على أي نحو!) تاريخ الصين هو حكاية التسويات لنزاعات متواصلة، فالصراعات، في حقيقة الأمر، مجرد آراء متضاربة بين أبناء بيت واحد، والبنية الفكرية (أو «البيت الذهني») للصين على حد تعبير صحيح وواع للمترجم القدير الأستاذ شوقي جلال، اعتادت المواءمة بين أطرافه المتصارعة بتسويات متجددة، حتى لقد يحار المرء متسائلا عما يسبق الآخر في أحوال تاريخ الفكر في الصين، هل هو النزاع أم التسوية؟
خرج الفكر الفلسفي الصيني من قلب الصراعات، وعرف كيف يتعامل معها وكيف يحترم شئون البشر بكل ما فيها من تناقضات، فتاريخ الفكر في الصين غارق حتى أذنيه وسط حشود البشر، يعيش بينهم ويكتب سجل الحياة بأيديهم، ويصوغ مقولاته فلاسفة لا يعلم أحد أين عاشوا بالضبط، ولا متى وكيف ولدوا وماتوا. والفلسفة الصينية، على عكس مثيلتها في اليونان، لم تتعال على الناس ولا سخرت من الدهماء، ولا اعتبرت الفكر ترفا للسادة المهذبين أو حكرا عليهم وحدهم دون العبيد، ولا وضعت فوق البشر مثالا أرفع وأكمل، ولا سبحت في غياهب ما وراء الطبيعة.
قامت الفلسفة الصينية على أساس الصيغة الوسطى، والتسوية بين أطراف المتناقضات، والاعتداد بشئون البشر وسياسة أحوالهم. ف «السياسة» بمعنى تدبر أمر ما ينشأ بين الناس والمجتمعات والدويلات من نزاع أو تعارض والالتفات إلى ما يتصل بمعاشهم وعلاقاتهم الاجتماعية من مصالح وتعيين الحدود «الوسطى» العادلة فيما يتوجب عليهم من قواعد معاملات. كل ذلك يمثل العنصر الأساس في الفكر الصيني. ولطالما انشغلت الفلسفة الصينية بما هو قائم في هذه الدنيا دون أن تتطلع إلى ما هو أبعد من حدود المجتمع الإنساني، وإذا كان صحيحا أن حدود اهتمامها بالإنسان لم تتطابق كثيرا مع الشروط الواجبة لمراعاة حقوق أفراده من منظور الفلسفة الأوروبية، فقد كانت النزعات الفردية وجموح الجماعات القليلة الخارجة عن نمط الثقافة السائد والأعراف الاجتماعية تؤدي دائما إلى الفوضى، وتبدد قيمة الحياة في مجتمع لم يعرف لبقائه قيمة إلا في حياته؛ فلم يكن لدى الصينيين مثال أفلاطوني خارج وجوده، متعال عليه، ولا جوهر أرسطي (شبيه بالمثال في تعاليه) يتجاوز قيمته وتمثيله لحقائق حدود المجتمع الإنساني، وإنما كانت الصين ترى في الناس وحياتهم ومجتمعهم الكبير أكبر قيمة وأهم وجود، بالدرجة التي يتضاءل معها أي وجود آخر غيره، من ثم لا نستغرب ما يبديه الصينيون من استنكار عندما توصف سياسة بلادهم بأنها تنتهك حقوق الإنسان، فالتجربة التاريخية والحضارية استوجبت تنوعا في رؤيتها لقيمة الوجود الإنساني، ولا يبدو غريبا لدارس الثقافة الصينية أن يرى ثمة فرقا بين من يعد مثال الفرد الأقرب للمثال/الحقيقة هو النموذج المكتمل لمعنى الإنسانية مقابل تصور آخر يرى في الحشد الاجتماعي أو الكتلة الحضارية الهائلة المتحركة عبر التاريخ مشهد حقيقة كاملة.
كثيرا ما كانت الحقائق في الصين تسكن وسط حشود البشر، الذين لم يحدث قط أن جاءهم مبشر بمثال ولا بعالم وراء هذه الدنيا (ولا كانت الدنيا دنيئة بهذا اللفظ!) بل إن كونفوشيوس نفسه كثيرا ما كان يقرر لمستمعيه أنه لم يأت بقواعد أو تصورات أو أنماط أخلاقيات من عنده، بل هو مجرد ناقل للتراث، ولطالما أكد على ذلك المعنى في تحقيقاته للكتب القديمة، وقصارى ما كان يمكن أن ينسبه لنفسه هو أنه مجدد لقيم المجتمع القديم!
غريب حقا أمر أولئك الذين يشايعون تصورات لحقوق الإنسان القائمة، في حقيقتها، على مقولات مستمدة من مجتمع كانت مواريثه تنتقص من كمال الوجود الإنساني لصالح مثال ضبابي غائم هو أكثر من رمز متعال، وأغرب منه هو محاولة فرض ذلك التصور بشيء أقرب لما كان يفعله أحد المهرجين في الأساطير الصينية القديمة، ممن كانوا يبيعون الأحذية للغرباء ويطالبونهم - عندما تضيق على أقدامهم مقاسات الأحذية فتبرز منها رءوس أصابعهم - بأن يقطعوا الأصابع بالمقص لعلها تنضبط مع قالب الحذاء!
ليس في نماذج الفكر نمط أفضل، لكن التصورات المقتطعة من سياق تجعله يبدو كذلك، والمفارقة أن مشاهد الحياة في المجتمع الإنساني - الصيني - كانت تنفر من التجريد وتتأبى على الخضوع لمثال متجاوز حدود الملموس في علاقات الناس بعضهم ببعض، ولم تستدع تعقيدات الواقع مثالا أرفع وأكمل بقدر ما استدعت مفاهيم تقوم على قواعد للسياسة والأخلاق.
فالسياسة والأخلاق هما أركان البناء التقليدي في الفلسفة الصينية، ومن عباءتهما خرجت كل الأفكار والفلسفات الصينية، على أن أهم المدارس الفكرية ظهرت في فترة اصطبغت بالصراع الدامي بين أجزاء الوطن الذي انقسم إلى دويلات تناوئ بعضها بعضا، تتحارب تارة وتتصالح أخرى، حتى قام بين حدودها جدار دفاعي عظيم ، وتاريخ الأمة الصينية شاهد على أن النزاع - حتى العسكري منه - بين أقاليم يضمها تاريخ مشترك وثقافة واحدة ولغة ووجدان ومصير واحد يمكن أن يكون عرضا لتقلبات كيان تاريخي تعتريه التقلبات والهزات وتقع بين قطاعاته من آن لآخر شقوق غائرة، وتدمي أطرافه الجروح النازفة ثم لا تلبث أن تلتئم، خصوصا أن الحروب التي جرت سجالا بين الأقاليم كانت تنبع أصلا من قاعدة في الأخلاق والسياسة الصينية ترى بأن هدف الحرب هو الوصول إلى الحل السياسي، وقصارى ما يسعى إليه المقاتل هو التسوية بإخضاع الأطراف المناوئة للقبول من بين اختيارات متاحة، وليس بالإبادة أو التفرقة أو الاستغلال أو الاستعباد، فقد كانت الحرب، في الفكر الصيني، هي السياسة بوسائل أخرى، حتى قبل أن يقرر تلك المقولة «كلاوزفيتز» بما يقرب من ألفي عام، لكن كيف؟
من يقرأ التاريخ الصيني القديم يلاحظ أن معظم المدارس الفكرية نشأت - أو نشطت، في الواقع - في فترة من أكثر فترات التاريخ اشتعالا بالحروب والمواجهات بين الدويلات الصينية القديمة، حتى ليقال بأن «المائة مدرسة فكرية» التي ترمز إلى التنوع الهائل في ساحات الجدل الصيني القديم بين اتجاهات الفلسفة المختلفة، تشكلت كلها على وجه التقريب، في الفترة الممتدة من العصر التاريخي المسمى ب «الربيع والخريف» (770ق.م.) إلى العهد الذي يطلق عليه «الدول المتحاربة» (475-221ق.م.) وهي الفترة التي تحققت في نهايتها وحدة الصين الكبرى في كيان شامل إبان عهد تشين (221-206ق.م.). ليس صحيحا، تقريبا، أن اشتعال الحروب بين دويلات أمة واحدة كان سببا لفنائها، ولم يحدث على مر التاريخ في الصين أن تبدد الإيمان ببقاء الأمة أو باستمرار الكيان الحضاري الذي صنعته الأجيال، لم يكفر أحد بمواريث الوحدة ولا بهويته برغم عهود النزاع والصراعات الطويلة، لم يكفر أحد بالأمة ولا صالح أعداءه عبثا في لحظة طيش، وأقصد هنا أعداء وحدته ومسيرة حياته (أعداء الخارج، كان لهم شأن آخر) صحيح أنه كان هناك على الحدود أعداء من القبائل المتاخمة، وكانت الصين، بكل ما هو راسخ في أعماقها من إحساس بالتفوق على كل ما هو خارج تلك الحدود، تنظر إليها في إباء وشموخ، فمن ثم لم يكن ممكنا لها أن تصالح أحدا من أولئك الأدنى منزلة وحضارة، وكانت لحظة الطيش الوحيدة التي ارتكبها أحد الأباطرة القديسين - ولم يسامحه فيها المؤرخون - هي ارتداؤه زي إحدى تلك القبائل الهمجية، أثناء حفل عشاء أقيم احتفالا باتفاق تم توقيعه بين كل الأطراف ضمانة لاستقرار الأحوال.
صفحة غير معروفة