أعرف وأحس أن لي جسدا مركبا من عناصر مادية كيماويا كسائر الحيوانات والنباتات، وأعرف أن هذا الجسد يتغذى من تلك العناصر، وينمو ويلد كما ولد ويموت، وبين الولادة والموت يتحرك حركات ذاتية بقوة فيه يستمدها من غذائه، والعلماء يسمون هذه القوة حياة.
وأعرف أني أحس وأشعر وأفتكر وأتذكر وأستنتج، وأعرف أني أعرف. ومجموعة هذه الأفعال تسمى عقلا.
إذن أعرف وأحس أن في ثلاثة أشياء: جسد، وحياة، وعقل. وأشعر بوجود هذه الأشياء في مختلفة بعضها عن بعض، وأرى أن شخصيتي مركبة من هذه الأشياء الثلاثة، وأعلم أن هذه الأشياء مرتبطة بعضها ببعض ارتباطا وثيقا، وأن أي خلل يطرأ على أحدها يخل الاثنين الآخرين. تنمو هذه الثلاثة معا وتهلك معا. أعلم كل ذلك جيدا بوضوح وبغير التباس في فهمه.
ولكني أعرف أنه ليس في شيء آخر رابع يتميز عن هذه الثلاثة كما تتميز هي بعضها عن بعض، وأن هذا الرابع من ضروريات ذاتيتي بحيث إني إذا فقدته فقدت ذاتيتي كلها برمتها. هذا شيء لا أشعر به.
وإنما قيل لي منذ حداثتي أن لي روحا - أو نفسا - وأن هذه الروح مستقلة عن الجسد بحيث إنها تبقى بعد فنائه. والآن وقد تعلمت مبادئ العلوم المادية والجسدية والعقلية، وطالعت كثيرا، صرت أفكر وأبحث عن هذا الشيء الرابع الذي سموه لنا روحا. فما هي الروح؟
هذا السؤال كنت أوجهه إلى بعض المعتقدين بالروح، فبعضهم يقول: هي الحياة. وآخر يقول: هو العقل. وآخر يقول: إنه شيء مستقل عن الجسد والحياة، ولكنه يحمل العقل وما احتواه من أفكار وتذكارات. (1-2) التفنيد
أما أن الروح هي الحياة فلا قيمة لهذا القول؛ لأنه لا يفيد عن الروح سوى أنها لفظة مرادفة للفظ الحياة، والحياة لا تزال سرا غامضا، ولا يرضاه الخلوديون؛ لأن لحياة الفرد نهاية بالموت، كما أن لها بداية بالولادة أو بتكون الجنين، فمتى مات الفرد اضمحلت الروح - إذا كانت هي نفس الحياة. وإذن لا تكون الروح المرادفة للحياة شيئا رابعا في شخصية الإنسان.
وأما القول إن الروح هي العقل فيستلزم أن تكون الروح عرضة لخطر الفناء بموت الجسد؛ لأن العقل نفسه مرتبط بالجهاز العصبي الذي هو بعض الجسد، بل ما هو إلا مجموعة أفعال ننعتها بالعقلية، وهي بالحقيقة من مفاعيل خليات الدماغ التي تتعاقب فيها التفاعلات الكيماوية بين ذرات العناصر التي تؤلف منها تلك الخليات وبين جزيئاتها، وما وظيفة الخليات الدماغية إلا إصدار تلك الأفعال العقلية، فالعقل ليس ذاتية بل هو عمل أو وظيفة للدماغ.
وأما أسباب تلك التفاعلات التي تسبب تلك الأفعال العقلية، فلم تزل قيد البحث عند «الفزيكوسيكولوجيين» أي: علماء العقل ووظائف أعضاء الجسد. ولا بد أن يتوصلوا يوما من الأيام إلى تعليل كيفية صدور الأفعال العقلية تعليلا فزيولوجيا - جسديا.
فيستفاد مما تقدم أن العقل ليس ذاتا قائمة بنفسها، بل هي عمل دماغي يبطل بانحلال الجسد؛ فإذا كانت الروح عقلا فهي فانية بفنائه. (1-3) البراهين على وظيفة الدماغ
صفحة غير معروفة