في أبسط صور الحياة - الميكروب - كالأميبا مثلا العقل شعور فقط بسيط جدا، وإنما في هذا الشعور جرثومة كل ظاهرة من ظاهرات العقل، الأميبا تصدم ذرة رمل فتصد عنها، ولكنها لا تصد عن حويصلة داي أتوم
Diatom ، بل تلتف عليها وتغلفها وتلتهمها. وكرية الدم البيضاء تصدم أية كرية أخرى فتصد عنها ولكنها تصدم ميكروبا مرضيا سبحيا - ستربتوكوك - مثلا فتلتف عليه وتلتهمه؛ أفليس هذا شعورا في الأميبا تميز به بين ذرة الرمل والداي أتوم؟ وشعورا في الكرية البيضاء تميز به المكروب المؤذي من الجرثومة الصالحة؟ فأين منشأ هذا الشعور؟ هل هو الألفة الكيمية فقط، أم هنا شيء آخر معها نجهله؟
نصعد درجة أو بعض درجات في سلم أنواع الأحياء؛ إلى النبات الصياد مثلا، فنرى هناك زهرة ماكرة مفتوحة تشتهي هوامة لكي تهتضمها، فتظل مفتوحة إلى أن تنقض ذبابة على ما فيها من رحيق مغر لها، فتنطبق هذه عليها وتهتضمها. لو وقعت عليها ذرة من التراب ما أطبقت عليها؛ فهنا شعور يميز بين الذبابة والذرة الترابية، وشهوة تتحين فرصة وقوع الذبابة، فهل السر في الألفة الكيمية بين الزهرة والذبابة؟ لا شك أن للألفة العمل الأول في هذا التصيد، ولكن للشعور والشهوة عملا آخر أيضا علاوة على الألفة.
فما الشعور وما الشهوة؟ لا نرى إلا حركتي انبساط وانقباض في كل من الأميبا والكرية البيضاء والزهرة: فما سبب هذه الحركة؟ سببه عمل كيماوي أيضا، ولكن ليس بسيطا، بل هو عمل مركب معقد، تحض عليه مصادمات جزيئات لجزيئات، وخليات لخليات، في ظروف خاصة لا يسهل إيضاحها.
نرتقي درجات أخرى في سلم أنواع الأحياء، فنرى العنكبوتة أو الرتيلاء تنسج شبكة لتصطاد بها ذبابة تأكلها؛ فهنا نرى شعورا وشهوة وإرادة وتفكيرا وتعقلا، نراها بسيطة محصورة في أسلوب واحد، هو عملية التصيد.
نترقي إلى الحيوانات الفقارية، فنرى جرثومة التفكير والإرادة والتعقل أوضح وأنضج بأساليب مختلفة، وكلما ترقينا إلى جهة الإنسان في سلم الأحياء رأينا القوى العقلية أظهر وأوضح وأنضج وأوسع دائرة بالأساليب.
فلا نستطيع أن نقول إن العقل ابتدأ من هذه الدرجة في سلم الأحياء. ابتدأ مع الحياة وتطور بتطورها إلى أن بلغ القمة في الإنسان. (3) الجهاز العصبي مقام للعقل
في بسائط الحياة العقل بسيط جدا، شائع في جسم الحي - يدعونه غريزة ، ولكنه كان كلما تنوعت أعضاء الجسم وتخصصت لوظائفها الحيوية كان العقل ينحصر في ناحية من نواحي الأعضاء، إلى أن انحصر في الجهاز العصبي في الحيوانات العليا، وكان كلما توالى التطور تعددت وظائف الجهاز العصبي بتعدد أقسامه، حتى أصبح هذا الجهاز في الإنسان عالما عظيما، متعدد الأعضاء، متعدد الوظائف، يسيطر على الجسم كله، وعلى أعمال الجسم الداخلية والخارجية. فأين العقل الأسمى؟ هذا السؤال لغز لا نكاد نجد له حلا.
إن الظاهرات تدلنا على أن مقام العقل هو في الجهاز العصبي فقط، ومركزه الرئيسي في الدماغ. ولكن ما هو؟
نبحث عنه في أعماق الدماغ، فلا نجد إلا حركات في مراكز الدماغ وسائر الجهاز، متوافقة في اتجاهاتها متكافلة في مآلها، الأمر الذي لا يمكن حدوثه إلا بتواطؤ بين ملايين خليات الجهاز وتعاونها وتكافلها.
صفحة غير معروفة