ويقرر فيكو مبدأ سياسيا هاما وهو أن نشأة التنظيمات السياسية ترجع لطبيعة الشعوب بحيث توافق هذه التنظيمات طبيعة الشعوب المحكومة؛ ولهذا تطورت أشكال الحكم لدى الأجناس البشرية الأولى ومرت بمراحل ست أو أنواع ستة: النوع الأول (السيكلوب) كان ضروريا في المرحلة الأسرية وضرورة وجود فرد واحد يخضع له الآخرون. النوع الثاني الذي يتصف بالزهو والغرور (مثل أخيل) كان ضروريا لبناء النظم الأرستقراطية على قاعدة النظام الأسري. النوع الثالث الذي يتصف بالشجاعة (مثل أرستيدس) كان ضروريا لفتح الطريق للحرية الشعبية. النوع الرابع (مثل الإسكندر وقيصر) لإقامة ملكيات أو إمبراطوريات جديدة. النوع الخامس (مثل تيبرس) كان ضروريا لإقرار هذه الإمبراطوريات واستقرارها. النوع السادس (مثل نيرون وكاليجولا) لتدميرها ... ويلخص فيكو مبادئ التاريخ المثالي في المسلمات التالية: «شعر البشر الأولون بالحاجات الضرورية فبحثوا عن الأدوات النافعة، ثم اتجهوا إلى أساليب الراحة، ثم انغمسوا في الترف ليسعدوا أنفسهم، وأخيرا أصابهم الجنون فضيعوا ثروتهم وفقدوا جوهرهم الحقيقي» (مسلمة 66). «كانت طبيعة الشعوب الأولى في البداية قاسية وتدرجت من الخشونة إلى الاعتدال والرقة وأخيرا إلى الانغماس في اللذات أو التحلل» (مسلمة 67). «ظهرت الأجناس البشرية الأولى في أشكال غريبة (مثل السيكلوب) ثم أجناس تتصف بالزهو والغرور (مثل أخيل) ثم الشجاعة (مثل أرستيدس) ثم أجناس حققت نصرا شعبيا ومجدا حقيقيا (مثل الإسكندر وقيصر) ثم أجناس يغلب عليها طابع التأمل (مثل تيبرس) وأخيرا الانغماس في الملذات والجنون (مثل نيرون وكاليجولا)» (مسلمة 68). «يجب أن تتكيف الحكومات أو تطابق وتوافق طبيعة المحكومين»
17 (مسلمة 69).
ويفسر فيكو نشأة نظم الحكم في الشعوب الأولى مبتدئا بالنظم الملكية وهي أول شكل من أشكال الحكم في العالم، فبعد أن استقر الجنس البشري في الأرض واحترف الناس الزراعة وكونوا الأسر، وأصبح لهم طقوس عبادة وإله يعبدونه. كان آباء الأسر هم الملوك والحكماء الذين يتلقون التكهنات من الآلهة ويبلغونها لأسرهم وهذا ما تؤكده المسلمات التالية: «بدأت كل الأمم بطقوس العبادة، أي عبادة إله معين، وكان آباء الأسر هم الحكماء المطلعون على نبوءات الآلهة، وكانوا يبلغون أسرهم بالقوانين الإلهية.» (مسلمة 72) «يقضي التراث الشعبي بأن أول من حكم العالم ملوك» (مسلمة 73). «إن الشعوب تنتخب أكثر الناس جدارة» (مسلمة 74). «إن الملوك في العصور الأولى كانوا حكماء؛ ولذا اشتاق أفلاطون إلى العصور القديمة التي كان فيها الفلاسفة ملوكا أو كان الملوك فلاسفة» (مسلمة 75). «إن الشكل الأول لكل حكومات العالم القديم كانت حكومات ملكية»
18 (مسلمة 76).
ثم يقدم فيكو مجموعة من المسلمات التي تقوم على افتراض أساسي لتفسير نشأة التجمعات البشرية
Commonwealths ؛ فبعد أن طاف العمالقة كما ذكرنا في غابات الأرض الواسعة وأرعدت السماء لأول مرة بعد الطوفان، لجأ بعض العمالقة إلى الكهوف ودفعهم الخوف من الإله إلى نظام الزواج من امرأة واحدة، وكونوا أسرا واستقروا في الأرض وزرعوها وظل باقي العمالقة في تجوالهم البهيمي خارجين عن القانون، وبعد مرور حقبة طويلة من الزمن لجأ هؤلاء العمالقة إلى الأراضي المزروعة لآباء الأسر لطلب الحماية والاستقرار، فاتخذهم الآباء كأتباع أو عبيد للأرض يفلحونها. وبمرور الزمن بدأ هؤلاء العبيد في التمرد، فتحالف الآباء ووحدوا أنفسهم في تنظيمات لمواجهة عبيد الأرض الثائرين، وأقروا لهم بنوع من الإقطاع الريفي كسبا لطاعتهم، وسمى رؤساء التنظيمات أنفسهم ملوكا وواجهوا هؤلاء العبيد المتمردين، وأصبحت السلطة العائلية لآباء الأسر - التي لا يمكن أن نفهمها إلا على أنها كانت نوعا من إقطاعات النبلاء - خاضعة للقوى السياسية لهذه التنظيمات الحاكمة. وأصبحت التجمعات البشرية أرستقراطية من تلقاء نفسها؛ إذ نشأ النظام الأرستقراطي عن ضرورة ملحة هي الضرورة التي فرضها عبيد الأرض على آباء الأسر، ويقدم فيكو هذا الفرض لتفسير نشأة التجمعات البشرية، ويدعونا إلى التسليم بأنه صحيح لأنه فرض بسيط وطبيعي، ولأن الآثار السياسية المترتبة عليه لا حد لها، وإذا لم نسلم به فلن نفهم كيف نشأت سلطة الدولة من سلطة أخرى ولا كيف تمخضت السلطة الإقطاعية العامة عن الإقطاع الخاص، ولا كيف تألفت الجماعة من تنظيم يضم عددا قليلا يصدر أوامره وأغلبية من العامة تخضع لهذه الأوامر. ولنقرأ الآن المسلمات التي تتناول نشأة التجمعات البشرية: «يجب أن نسلم أن بعض الناس الخارجين عن القانون انسحب منهم مجموعة من الأقوياء وكونوا أسرا وزرعوا الأرض، وبعد فترة طويلة من الزمن جاء باقي الخارجين عن القانون ليعيشوا في نفس الأرض المزروعة لآباء الأسر» (مسلمة 70). «العادات الفطرية لا تتغير كلها دفعة واحدة، وإنما تتغير تدريجيا وتستغرق فترات طويلة من الزمن» (مسلمة 71). «إن أسماء الأسر ترجع إلى عبيد الأرض الذين أطلقوا على الأسر أسماءها» (مسلمة 78). «لا يمكن أن نتصور قيام اتحادات قبل وصول أولئك اللاجئين الذين جاءوا للآباء لكي ينقذوا حياتهم وتعهدوا بزراعة الأرض ردا لهذا الصنيع»
19 (مسلمة 79).
هكذا نشأ المجتمع الأرستقراطي الإقطاعي ومنح النبلاء إقطاعات من الأرض كانت أول قانون زراعي في العالم، وانقسم المجتمع إلى طبقتين طبقة نبلاء وطبقة عبيد، وأقسم النبلاء على العداء الأبدي للعامة فنشب الصراع الطبقي. وكان النبلاء هم الأبطال المحاربون ولهم وحدهم شرف البطولة، كما كانوا حريصين دائما على ألا تنال العامة هذا الشرف. ويوضح فيكو كيف ينشب الصراع البطولي في الحكومات الأرستقراطية التي كانت تفتقر إلى القانون المدني الذي ينظم العلاقات بين الأفراد، وهذا يبين قسوة النبلاء تجاه العامة مما يتجلى بوضوح في التاريخ الروماني حيث كانوا يلقون بهم في أهوال الحروب ويغرقونهم في الديون والفوائد ويضربونهم بالسياط على أجسادهم العارية فيدفعون الثمن سخرة في العمل. وتحليل فيكو للصراع الطبقي يقوم على أمور ثلاثة : طموح طبقة العامة للمشاركة في الحقوق المدنية والقوانين التي كان يتمتع بها الآباء؛ إصرار الآباء على الاحتفاظ بهذه الحقوق داخل طبقتهم؛
20
حكمة المشرعين في تفسير تلك القوانين ومد منفعتها شيئا فشيئا وتعديلها لما يستجد من حالات أخرى. وهذه هي المسلمات عن نشأة النظام الأرستقراطي والنظام الإقطاعي كضرورة تطلبتها الحياة المدنية: «كان طبيعيا أن يتجه المجتمع البشري بعد ذلك للنظام الإقطاعي الذي يقوم على المقايضة؛ لأنهم رأوا فيه أفضل المنافع والفوائد التي يتطلعون إليها في الحياة المدنية» (مسلمة 80). «من صفات الأقوياء أن ما كسبوه بالقوة لا يتخلون عنه بسهولة أو لا يترددون في الدفاع عنه، وإنما يتخلون عن جزء منه عندما تقتضي الضرورة وبالتدريج وفي أضيق الحدود الممكنة» (مسلمة 81). «كل الشعوب القديمة كان لها أتباع أو عبيد للأرض» (مسلمة 82). «إن قانون الإقطاع الريفي (الذي يقر للعبيد بجزء من الأرض) هو القانون الزراعي الأول في العالم؛ لأننا لا نستطيع على الإطلاق أن نتصور نظاما آخر يعطي أقل من هذا القدر» (مسلمة 83).
صفحة غير معروفة