يدلك على صحة هذا القول أنه لا يستعصي عليك - بقليل من صفاء النفس والحب والعطف - أن تكسب صداقة من تريد من الناس، مهما بعد ما بينك وبينهم من الفوارق الثقافية والسلالية، ذلك بأن الطبع البشري أصيل في كل الناس، ولا شك في أنه يستجيب لبواعث بعينها، ويستيقظ مطاوعة لمنبهات خلقية واحدة، ولا شبهة في أنك لا تحتاج إلى وسيلة اللغة لتوقظ في غيرك استجابات الطبع، فإن الابتسامة توقظ الابتسامة، والخير يوقظ الخير، والحزن يوقظ الشفقة، والألم يبعث العطف، كذلك نجد أن الغضب والخوف والمقت والتعجب والفخر والاستكانة والحب إلى غير ذلك من الصفات الفطرية؛ تظهر ملابسة لصور واحدة، وتتبعها حركات وإشارات لا تتغير على وجه التقريب بتغير الأفراد والشعوب، وليس هذا بمحصور في الأفراد البالغين، فإن الأطفال الذين لا يستطيعون استعمال كثير من الكلمات يفقهون من تلك الحركات والإشارات نفس ما تؤديه الكلمات، وتستقوي عليهم معها نفس الاستجابات التي توحي بها اللغة، وهنالك أشخاص يرهبهم الأطفال على اختلاف سلالاتهم، وهنالك غيرهم يألفهم الأطفال ويلجئون إلى أحضانهم وعلى شفاههم ابتسامة الغبطة والحبور.
وفي كل هذا براهين ظاهرة على أن خصائص الطبع البشري مشاع بين كل السلالات البشرية، ولكن مم تتكون هذه الصفات؟ وإلى أي حد يذهب أثرها؟ وعلى أن العلم يعجز عن الإجابة عن مثل هذه الأسئلة على صورة محدودة كاملة، فإن شرح بعض الأصول التي يتكون منها الطبع البشري يكفي في هذا الموطن للدلالة على ما نقصد من الكلام، في أن مذهب أرسطبس أقرب إلى مطالب الطبع البشري من كل المذاهب الأخلاقية التي ذاعت في بلاد الإغريق القديمة، وعلى الأخص فلسفة أرسطوطاليس.
وليس لنا في هذا الموطن أن نستطرد إلى بحث كل من تلك الصفات الفطرية، ولكن لنا أن نعدد أكثرها أثرا في سلوك الإنسان، وأظن أن مجرد تعدادها يظهر الباحث على أنها من خصائص الطبع وليست الملكات التي تكسب بالمرانة والعادة، وإليك هي: (1)
الذكاء. (2)
الميول الانفعالية. (3)
قواسر الطبع. (4)
الميل الجنسي.
هذه بعض الطبائع الرئيسة في فطرة الإنسان، وتحت كل منها ينطوي عدد من الصفات الثابتة في تضاعيفه، فهل يجدر بنا أن ننكرها لنقول بالمثاليات، أم ندرسها لنهذبها ونضبط انفعالاتها، ودرجات تنوحها بين حدي الإفراط والتفريط.
إن أرسطوطاليس يقول بنكرانها البتة بجانب المثاليات التي يدعو إليها، بل يقول بقمعها لتصح نظرياته، أما أرسطبس فيعترف بها ليستطيع أن يحكمها ويهذبها، وهذا فرق بين فلسفة المعلم الأول، ومذهب الفيلسوف القوريني، ولهذا كان اعتماد أهل الكلام على فلسفة أرسطوطاليس عاما شاملا، كما أن نفورهم من أصحاب اللذة والقائلين بالمذهب الذري كان عاما شاملا.
ولكن لنا أن نتساءل بجانب هذا: متى، وفي أي عصر من العصور استقوت النظريات الأخلاقية على نزعات الطبع؟ وفي أية جماعة من الجماعات الإنسانية استطاع المنطق - مهما كان سليما - أن يخضع الميول والشهوات؟ إنما يكون الطريق إلى تحويل النزعات وتهذيبها ممهدا ذلولا، والعمل في سبيل الاستقواء على بعض الميول الدنية بتقوية بعض الميول السامية ممكنا مستطاعا، إذا نحن أكببنا على درسها الدرس الوافر أو تحليل أجزائها والنظر في مفصلاتها نظرا شاملا صحيحا، وكيف يمكن الوصول إلى هذا إذا نحن أنكرنا خصائص الطبع وميول الفطرة وحاولنا أن نقمعها بالنظريات والمنطق؟
صفحة غير معروفة