وبعد أن يفرغ أفلاطون من التدليل على ضرورة هذا التمازج يعمد إلى الكلام في القيمة النسبية التي تكون لكل من العنصرين، وهنا يضطر إلى أن يغوص بك إلى الأعماق القصية من «طبيعة الأشياء»، ولأول وهلة يسقط بك على أمرين معينين: اللامتناهي والمتناهي.
ولا شك في أن أفلاطون إنما يتأثر في موقفه هذا بالفيثاغوريين وبالفيلسوف «فيلولاوس
» وكان فيلولاوس هذا من معاصري سقراط، فيقرر أفلاطون أن كل شيء فيه كثافة يعتبر في حيز «اللامتناهي»؛ لأن درجات الكثافة تتضمن حقيقة الاستمرار في التجزئة إلى غير حد، أما كل الأقيسة والأعداد وكذلك الفكرات التي تتضمن بالضرورة أقيسة وأعدادا، فتدخل في حيز المتناهي، ومن تمازج الأصلين أو المؤثرين، أو بالأحرى الكائنين، اللامتناهي والمتناهي، ينتج كل ما ترى في الطبيعة من جمال وقوة وكل ما تلمح من نظام واطراد إلى غير ذلك مما يمكن أن تستبينه في الأشياء.
هنا ينتقل أفلاطون إلى أوج آخر يقرر فيه أن مزج المؤثرين اللذين ذكرناهما «اللامتناهي والمتناهي» ينتج مؤثرا ثالثا، ثم يضيف إلى هذه المؤثرات الثلاثة مؤثرا رابعا هو «العامل» الذي ينتج من امتزاج المؤثرين الأولين: «اللذة والمعرفة».
وبهذا يكمل أفلاطون مذهبه في المؤثرات أو «العوامل الأربعة» التي تتسلط على الكون كله، ومن ثم يضع قاعدة للمقابلة بين القيم
Values ، وعلى هذا يقضى بأن اللذة والألم ضربان من ضروب الأشياء «اللامتناهية» ولذا يضعهما في مرتبة أقل من مرتبة «المعرفة» التي هي عنده في المرتبة الأولى من الشأن؛ لأنها تدخل في حيز المتناهي.
ولا شبهة في أن تدرج هذا البحث كان لا بد من أن يجر أفلاطون إلى البحث في طبيعة اللذة والألم، فما هي اللذة؟ وما هو الألم؟ سؤالان لم نعثر فيما خلف أرسطبس على جواب لهما.
فإذا كانت اللذة عند أرسطبس حركة لطيفة، والألم حركة عنيفة، فما هي إذن طبيعة هذه الحركة، وكيف تحدث؟ ما هي أسبابها، وما هي نتائجها؟ أما أفلاطون فيجيب على هذين السؤالين؛ فيقول: إن الألم ظاهرة تصاحب انحلال الوحدة التي يحدثها تمازج المؤثرين الرئيسيين: «اللامتناهي والمتناهي» وإن اللذة ظاهرة تصاحب رجوع المؤثرين إلى وحدتهما.
ومن ثم يمايل بين اللذة والألم القائمين على الحالات الطبيعية، باللذة والألم الناتجين عن الترقب؛ أي القائمين على الحالات النفسية، ويدخل مع هذين حالة ثالثة؛ هي حالة الحياد الانفعالي، ويجعلها خاصة بالحياة العقلية، ولتساميها عن القدرة البشرية خص بها الآلهة، فإذا كانت في الإنسان، فلا أقل من أن تكون لها المرتبة الثانية من المراتب التي قسم بها أفلاطون مؤثراته هذه.
أما ما يستنتج أفلاطون من هذا البحث التركيبي الرائع فجملة نتائج نفسية لها روعتها، ولها فخامتها الجديرة بعقل الفيلسوف الآلهي.
صفحة غير معروفة