3
متحول، هو حب القتل والفتك بالأرواح خضوعا لمقررات پافلوف، كما أن الدفاع عن النفس ليس كل ما في الحرب من باعث، فقتل الأسرى والضعفاء والنساء والأطفال والتخريب وقذف المدن التي تجردت من وسائل الدفاع بالقنابل المدمرة، شهوة تستولي على المحاربين بعد أن ينقلب حب الدفاع عن النفس إلى فعل عكسي متحول - كما أوضحنا - وإذن يصبح القتل في الحرب شهوة، والشهوة تدفع إلى تحصيل لذة الفتك وسفك الدماء، وهذه هي لذة الساعة التي أنت فيها، أو اللذة الراهنة كما اصطلحنا أن نسميها. •••
على الضد من الضمير في احتياجه إلى أحكام العقل، تجد أن الشهوة لا تخضع للعقل، بل هي ثائرة ملحة، ترمي إلى غرض معين لا يمكن بحال من الأحوال إذا استقوت على المشاعر أن يقرب الغرض الأصلي الذي ترمي إليه غرض آخر، مهما كان في الغرض الذي ترمي إليه من تنافر مع أحكام العقل، ومهما كان في أي غرض آخر من اتفاق مع المنطق السليم؛ إذن فالشهوة هي القوة المحتكمة في أفعال الإنسان، وتحصيل اللذة الراهنة هي القاعدة التي يجري عليها سلوك الإنسان ويخضع لها.
4
إذا كان اللذة والألم أصلين ضروريين في الحياة، وإذا كانت الحياة الإنسانية قد قيدت آدابها ببواعث الشهوة التي تدفعنا إلى تحصيل اللذة الراهنة، فهل من أمل في تقويم الخلق البشري، بأن يتحرر من انفعالاته وشهواته إلى درجة يستقوي فيها حب الخير على الشر، وتستعلي فيه الفضيلة على الرذيلة؟ سؤال يجب أن نفكر طويلا قبل أن نحاول الإجابة عليه.
ولكن لا بد من الرجوع إلى تاريخ نشوء الإنسان من الحيوانات التي هي أحط منه، ليمكن أن نعرف إن كان الإنسان سائرا في تطوره نحو الارتقاء الشعوري، أم أن ارتقاء العقل فيه، قد تابعه تطور في العواطف والانفعالات والشهوات، أشعلها وجعلها تخضع العقل إخضاعا.
ولكن الظاهر أن لا علاقة بين تطور العقل وتطور المشاعر، فكلاهما - على ما يظهر - يرتقي ويتطور في ناحية بعينها، ولا شك في أن المشاعر تنتحي في تطورها السمت الأعلى من فضائل الأخلاق، على ما تحتاج الطبيعة البشرية أن تكون الفضائل الخلقية باعتبار الزمان والمكان.
ولا شبهة في أن الحيوانات العليا من الرئيسات
تحوز كل الصفات التي نراها في الإنسان، ولكن بدرجة أقل، فهي تتفق مع الإنسان في أن لها غرائز وميولا وعقولا وانفعالات وشهوات، غير أن هذه الظاهرات فيها أحط منها في الإنسان، والدليل على هذا أن حس الجمال في الإنسان أقوى، والمطامع أطغى، والآمال أوسع وأشهى، واتصال الإنسان بالمستقبل البعيد صفة تفقدها الحيوانات، حتى القرود العليا، أبناء عمومتنا الأقربين. وكثيرا ما يتطور إحساس الإنسان من حيث صلته بالمستقبل إلى صورة من الجشع الاجتماعي تقوي انفعالاته وتوقظ شهواته. لهذا نحكم بأن الإنسان سائر نحو المادية الأدبية، ونقصد بها تغلب الشهوات على الحس الأدبي، والتخلص من محكمة الضمير على مقتضى حاجات الزمان والمكان، وتحكم الاقتصاديات الرأسمالية. •••
يدلنا على أن الإنسان آخذ في سبيل التخلص من محكمة الضمير أن أكثر المرافق التي تكون حضارة الإنسان، كالتجارة والصناعة والزراعة ونظام الأحزاب والديمقراطيات بأنواعها والحريات على مختلف ألوانها؛ أكثر ما تحركها الانفعالات، وتقودها الشهوات، وتحتكم فيها المطامع والأغراض، وأقل ما تكون خضوعا لمحكمة الضمير، ولو أن إخضاع هذه المرافق لمحكمة الضمير أجدر بالنوع البشري وأجدى، ولكنك لا تجد لها من أثر، إلا في المثاليات دون الواقع.
صفحة غير معروفة