Subjective
ما كانت تتضح وضوحا قويا، قدر ما تتضح عند القول بأن «الإنسان» إنما هو «مقياس كل الأشياء». وذلك ما شرحه بروطاغوراس في مقاله المعروف «في الفنون»، ففي هذا البحث تناول بروطاغوراس ناحية منه تدرج فيها إلى القول: «إذا كان اللاكائن يرى كأنه كائن، فإني لا أفهم كيف يجوز لإنسان أن يقول إنه غير كائن، ما دام أن العين تراه، والعقل يسلم بوجوده.»
على أن هذه العبارة التي مرقت من عقل بروطاغوراس مروق الومضة العابرة، قد أصبحت في عصرنا هذا المعقل الذي يتحصن فيه العقل ليدافع عن شهادة الحواس، عند القول بأن الحواس سبيل المعرفة، على أن المدافعين عن مذهب إدراك الحس في المعرفة في الأعصر الحديثة، قد تركوا لمهاجميهم أسوار ذلك المعقل الأولية، واحتموا بقلبه - أي بالحسوس ذاتها - فإنك مهما قلت بأن الحس لن يكون المجس الذي تسبر به الطبيعة أو الوجود الخاص بالأشياء الخارجية، فإن وجود الحس نفسه لا يمكن أن ينكر، ذلك بأن وجود الحس له قوام غير مشروط على غيره، وأنه باتحاده مع غيره من نظم الوعي أو الشعور يحدث جملة من المعرفة نجد أنها كافية كل الكفاية لتأدية أغراض الإنسان.
إن من يعتقد بصحة هذا المذهب لأول مرة - مذهب أن الحسوس كواذب - ويمضي موقنا - مجاراة لظاهر هذا المذهب - بأن العالم الخارجي لا وجود له؛ يمكن أن تلتمس له كل الأعذار، إذا ما خيل له أنه انتقل فجاءة إلى دار من دور المجانين، ذلك ما حدى بالفيلسوف «بركلي
Berkeley » وأنصاره إلى القول : «إنك إذا اعتقدت بصحة هذه النظرية، فلا حرج عليك إذا أنت رميت برأسك إلى الجدار، ذلك بأن الجدار غير الموجود لا يمكن أن يضير رأسك التي هي غير موجودة.»
وعلى هذا القول أجاب أنصار مذهب أن الحسوس كواذب بقولهم: «إننا لا ننكر حس المقاومة، ولا غيره من الحسوس التي منها يتكون جدار أو صورة جدار، أو رأس أو صورة رأس، أو أي شيء من الأشياء التي نأنسها في العالم الخارجي، أما الذي ننكر، وبالأحرى نعتقد أننا لا نعرف من حقيقته شيئا؛ فذلك الشيء الغامض المبهم الذي نؤمن بأنه كائن من وراء الظواهر؛ تلك الظواهر التي تلوح شيئا واحدا وعلى صورة معينة لكل من يحوزون ضربا واحدا من الوعي، والتي ترتبط جميعا برباط من السنن الثابتة، آيتها المتابعة والاشتراك في الوجود.»
يزودنا باحث من أعلام الباحثين المحدثين، هو «مل» الكبير،
3
بعبارات تشرح المقصود من هذه النظرية شرحا وافيا، قال: «إن ما ندعوه فكرة الشجرة، أو فكرة الحصان، أو فكرة الإنسان، إنما هي في الأصل مجموعة من الفكرات المفردة يؤديها عدد من الحسوس، كثيرا ما تلتقي دفعة واحدة، فنعبر عن التقائها وتجمعها بفكرة الوحدة.»
كذلك نقرأ لأفلاطون في كتابه «ثياطيطوس» قوله: «إننا نطلق على مثل هذه المجموعة من الحسوس اسم إنسان أو شجرة أو حجر أو غير ذلك، مما يقع عليه نظرنا في العالم الخارجي.»
صفحة غير معروفة