والحدس هو الذي يزيل الحواجز الزمانية المكانية بين المبدع والموضوع، ويجعله ينفذ إليه بنوع من التعاطف
Sympathy ، ويعرف بيرجسون هذا الحدس الخلاق بأنه الغريزة، وقد صارت غير مبالية أو مكترثة، بل شاعرة بنفسها فقط وقادرة على تأمل موضوعها، وقد ركز بيرجسون في كتاباته الأخيرة على الجهد العقلي المبذول في عملية الإبداع، ولكن هذا لا ينفي الدور الأساسي للعنصر اللاعقلاني في عملية الإبداع. (2) لم يوافق بعض الباحثين على هذا العنصر اللاعقلاني، فقد أبدى بول بيرنايز
دهشته، فكيف يرفض بوبر رسم خطوات منهجية منطقية تؤدي إلى الفرض،
42
وقد يرى البعض أنها تتناقض مع عنوان المؤلف المذكور فيه «منطق الكشف العلمي»، ويعتبرها محاولة من بوبر لتفادي تدخل العناصر السيكولوجية في البحث، وإننا إذا ما أخذنا بوجهة نظر بوبر فإننا بالضرورة ينبغي وأن نستأصل مبحث الفرض من مجال البحث في دائرة المنطق.
43
والحق أن هذه النظرة من بوبر هي الأسلوب السليم في النظر إلى مصدر الفرض، وليست محاولة لتفادي العناصر السيكولوجية، فلو حذفنا هذا العنصر اللاعقلاني، وحصرنا الموضوع في قواعد منطقية صارمة - كقواعد القياس مثلا - للوصول إلى الفرض، لاستطاع كل عالم أوتي عقلا أن يتبع هذه القواعد، ويصل إلى فرض علمي يحل المشكلة، كما يستطيع كل منطقي أوتي عقلا أن يتوصل إلى النتائج التي تلزم عن مقدمات القياس، غير أن الأمر الواقع ليس هكذا، قد يقضي عالم عمره في حل مشكلة ولا يستطيع، بينما يستطيع عالم آخر أكثر عبقرية أن يحلها فورا؛ لأن الكشف العلمي ليس عملية آلية، بل عملية خلق وتعديل ثوري، فهناك عنصر العبقرية وهو الأساس وعليه التعويل، ولن يجدي كل منطق الدنيا إذا لم يتوافر هذا العنصر اللامنطقي اللاعقلاني، ثم إنه لا يتناقض بأية حال مع عنوان «منطق الكشف العلمي»؛ لأن الكشف ليس هو الفرض الذي نبدأ منه، بل نتيجة اختبار هذا الفرض، والكتاب بأسره لا يعالج إلا أساليب هذا الاختبار نتائجه، فهل لو وضع العالم فرضا، ثم أثبت الاختبار خطأه كان كشفا؟ كلا بالطبع.
وأخيرا فإن موقف بوبر لا يجعلنا نستأصل مبحث الفرض من المنطق، بل فقط نجعله نقطة البداية التي لا بداية قبلها، أو بالأصح ما قبلها من اختصاص علم النفس، وليس منطق العلم، هذا مقابل الاستقراء الذي يجعل نقطة البداية هي الوقائع الملاحظة.
ويمكن أن نستأنف مناقشة هذا النقد أكثر، فنقول : إنه فور انتهائه نلقى تأكيدا للطبيعة الحدسية للكشف العلمي، وكيف أضفى عليه بوانكاريه طابع التركيز والمفاجأة واليقين الفوري، وأن الأفكار عادة ما ترد للعالم في ومضة
In flash ، كما وصف ولاس ند دارون: «وفجأة ومض في ذهني خاطر كالبرق، وهو أن هذه العملية التلقائية، قد ترقى بالجنس ... إذ ينزع الأصلح إلى البقاء.» وإسهاب في توضيح رأي جون ديوي في أن الومضة هنا تأتي في سرعة البرق الخاطف، وأنها تنطوي على عنصر المفاجأة والإثارة، فهي حدس شبهه كلود برنار بأنه شعاع من نور يهبط فجأة فيضيء السبيل، الأكثر أنه ثمة عروج على علم النفس لإعطاء صورة عامة لموقفه من الإبداع.
صفحة غير معروفة