فلسفة كارل بوبر: منهج العلم … منطق العلم

يمنى طريف الخولي ت. 1450 هجري
156

فلسفة كارل بوبر: منهج العلم … منطق العلم

تصانيف

هي المرحلة البدائية، بتحديد بوبر، المرحلة السابقة على حضارة الإغريق، ولما كانت محاولات المعرفة بدأت مع أول إنسان في التاريخ فإن المجتمعات البدائية لها موقف معرفي لها محاولات لتفسير العالم بالأساطير والديانات البدائية بالخرافات والخزعبلات، وكان التمسك بها قطعيا وصارما، وكانوا يعتبرون الشك فيها أو حتى محاولات التفكير فيها لتقييمها أو نقدها جريمة ما بعدها جريمة، التساؤل عن مدى صدقها كان محرما ينتهي بالموت، أو على الأقل بنفي المتسائل، إنها مرحلة لا تسمح بالخطأ، ولا بأي إمكان أو احتمال له، وكانت الفكرة الخاطئة - أي الحل الخاطئ للمشكلة - لا بد لها من الهلاك، كان أميز ما يميز مرحلة التفكير الدوجماطيقي، أن المخطئ فيها يموت أو يهلك بهلاك عقيدته الخاطئة، كان التقدم فيها مأساويا خطيرا إن أمكن أصلا.

21 ⋆

مرحلة التفكير النقدي:

بدأت حينما عرف الإنسان سر التقدم، النقد ثم تقبله؛ لذلك كانت المدرسة الأيونية أعظم مدرسة في التاريخ؛ لأنها علمت الإنسان أعظم درس والأهم على وجه الإطلاق؛ ألا هو النقد وتقبله، لأول مرة في التاريخ لم يتحرج أنكسمندر من نقد أستاذه طاليس وتبيان أخطائه، بل والإتيان بنظرية أفضل من نظريته، والأدهى: على مرأى ومسمع من أستاذه، بل وبترحيب وتشجيع منه، في هذه المرحلة حينما تكون المحاولة - أي الفكرة - خاطئة، فإن الهلاك لها وحدها، معتنقوها لا يهلكون معها بل هم الذين يهلكونها ليحاولوا المحاولات الأفضل، وليضعوا نظريات أقرب إلى الصدق.

ولما كان بوبر يرى أن القوانين العلمية ليست مستقرأة من الواقع، بل مفروضة عليه، فهو يقول: إن العلم التجريبي النقدي يصنع أساطير، تماما كالتي يصنعها الدين الدوجماطيقي، لكن الاختلاف بين أساطيرهما كالاختلاف بين الدوجماطيقية والنقدي، فالاتجاه النقدي للعلم من شأنه أن يغير الأساطير ويطورها فلا تبقى على حال واحد أبدا، إنها في تغير مستمر، والتغير في اتجاه وضع الشرح الأفضل، والاقتراب من الصدق أكثر وأكثر؛ لأن النقد يحذف الخطأ، ويقلل دوما من نطاقه.

22

غير أن هذه النظرية ليست ذات أدنى تناظر مع نظرية كونت في المراحل الثلاثة المتعاقبة لتاريخ الفكر؛ ذلك لأن التفكير الدوجماطيقي والتفكير النقدي، ليسا مرحلتين متعاقبتين زمانيا فحسب، بل منطقيا أيضا، بل، وكعادة بوبر في التعميم الشديد لأفكاره، عمم هذا التقسيم، حتى أدخلهما في صميم كل محاولة على وجه الأرض، وفي صميم الحياة بصفة عامة، فإذا كانت الأميبا وسائر الحيوانات الدنيا تعيش إلى الأبد في أسر المرحلة الدوجماطيقية، فإن الإنسان المعاصر - وكل إنسان - في نزوعه للبحث عما يريده وفرض القوانين على الطبيعة، في فرض نزوعاته وتوقعاته - خصوصا توقع الاطراد - هو أسير الاتجاه الدوجماطيقي، لا يخرج منه إلا حينما يحاول النقد واستبعاد الخطأ.

كما أن الاتجاهين ليسا متعارضين، والعلاقة بينهما ليست تناقضا، هما متعاقبان زمانيا وموضوعيا، لكل منهما سمات وخصائص قد تختلف وقد تتفق مع سمات الأخرى الواحدة منهما لا تسير بغير الأخرى، لكن يكون للتفكير العلمي مسار، المرحلة النقدية ضرورية للدوجماطيقية؛ كي تقي شر هلاك محتوم، والدوجماطيقية ضرورية للنقدية؛ كي تمثل لها المادة الخام، وأكثر من هذا فإن الدوجماطيقية ليست شرا محضا، بل لا بد من قدر منها حتى في البحث العلمي، فالعالم أثناء اختبار نظريته لا بد وأن يتمسك بها تمسكا دوجماطيقيا نوعا ما، فلا يتخلى عنها بسهولة، ثم إن الدفاع عنها في مواجهة النقد من شأنه أن يطورها ويحسنها، إن بوبر لم يعن بهذا التقسيم أكثر من الإشارة إلى الاعتقاد القوي، الذي يثبتنا عن انطباعاتنا الأولى، وهو الاتجاه الدوجماطيقي، بينما الاتجاه النقدي يشير إلى الاستعداد لتعديل الأفكار وتصحيحها، إلى السماح بالشك والاختبار، إلى تقبل النقد وإقرار الخطأ، ببساطة إلى الاعتقاد الضعيف، بمعنى الاعتقاد المتبصر غير المتزمت.

خلاصة القول: التفكير الإنساني بصفة عامة، إنما يسير عبر هاتين المرحلتين، ويبلغ السمة العلمية مع سيادة المرحلة النقدية، وهذه النظرية - نظرية المرحلتين الدوجماطيقية والنقدية - هي بحق من أجمل مواطن إبداع بوبر فهي نظرية منطقية إبستمولوجية ميثودولوجية سيكولوجية أنثربولوجية. (6) تلك هي الأفكار - من طيات فلسفة بوبر - في سياق الإجابة على السؤال التقليدي: ما هو منهج العلم؟ ولكنها لم تكن إجابة تقليدية، وأكثر من هذا، لم تكن القواعد التي ترسيها قواعد مختصة بالعلم فحسب، بغض النظر عن التفصيلات الفنية التكذيبية للخطوة «أ أ»، بل هي قواعد للنقاش العقلاني بصفة عامة؛ لأنها أساسا قواعد منهج المحاولة والخطأ الذي يحكم شتى المحاولات على وجه الأرض. (2) الداروينية المنهجية (1) في فصل «المعرفة موضوعية» بدا أن الصياغة «م1

ح ح

صفحة غير معروفة