مقدمة
فصل في إثبات النبوة وكيفية دعوة النبي إلى الله تعالى والمعاد إليه1
فصل في العبادات ومنفعتها في الدنيا والآخرة1
فصل في عقد المدينة وعقد البيت وهو النكاح والسنن الكونية في ذلك
فصل في الخليفة والإمام ووجوب طاعتهما والإشارة إلى السياسات والمعاملات والأخلاق1
تحليل
مقارنات وتعليقات
ملحق
مقدمة
فصل في إثبات النبوة وكيفية دعوة النبي إلى الله تعالى والمعاد إليه1
فصل في العبادات ومنفعتها في الدنيا والآخرة1
فصل في عقد المدينة وعقد البيت وهو النكاح والسنن الكونية في ذلك
فصل في الخليفة والإمام ووجوب طاعتهما والإشارة إلى السياسات والمعاملات والأخلاق1
تحليل
مقارنات وتعليقات
ملحق
الناحية الاجتماعية والسياسية في فلسفة ابن سينا
الناحية الاجتماعية والسياسية في فلسفة ابن سينا
تأليف
محمد يوسف موسى
مقدمة
ابن سينا فيلسوف خالد من فلاسفة المسلمين، ولم تمنعه الفلسفة من أن يكون رجل سياسة ورجل دولة، فكان له من هذا ما يكون لأمثاله من حظوة ومتعة ونعيم أحيانا، كما كان له حظه أحيانا أخرى من المتاعب والاضطهاد، ذلك بأنه لم ير لنفسه أن يعيش وحده بعيدا عن الحياة العامة كما فعل سلفه العظيم «الفارابي»، بل كان رجلا عمليا أسهم في الحياة العامة بنصيب كبير.
وهذه النزعة العملية جعلته لا يتقيد في تفكيره بمذهب خاص من مذاهب من سبقوه في القديم والحديث، بل - بعد أن استوعب ما سبقه من فلسفات - فكر لنفسه وأخذ يختار من آراء سابقيه ما يوافق ميوله وتفكيره، لا يبالي أين يجد ذلك. ومن أجل هذا نجد في تآليفه سمات وخصائص من المذاهب المختلفة التي عرفها تاريخ الفكر والفلسفة، وإن كانت عبقريته وقوة فكره غطتا هذه السمات حتى لا يكاد القارئ يحس بها، ومن ثم يعتقد بأن كل تفكير فيلسوفنا طريف لم يلتمس منه شيئا لدى غيره من أسلافه.
وساعد على هذا ما يلمسه القارئ في كتابات ابن سينا من قوة الشخصية والنزعة إلى الاستقلال في الرأي والتفكير، حتى لقد أثر عنه أنه كان يقول: «حسبنا ما كتب من شروح لمذاهب القدماء، فقد آن لنا أن نضع فلسفة خاصة بنا .»
وابن سينا بعد هذا شغل الباحثين من بعده الذين عكفوا على كتاباته يمحصونها، وعلى آرائه يدرسونها ويصدرون الأحكام لها أو عليها، بعد مقارنتها بآراء غيره من سابقيه ومعاصريه واللاحقين به، وكانوا في هذا التقدير لآرائه والحكم لها أو عليها بين المقصر والغالي.
على أن هذه الدراسات - أو على الأقل الجانب الأكبر منها - توجهت إليه كطبيب خلد ذكره في عالم الطب بقانونه، وكفيلسوف منطقي وطبيعي وميتافيزيقي أو إلهي.
ومن الذين درسوه في عمق وإطالة من هذه النواحي الأخيرة - ولكن في تجن كبير أحيانا - حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي، وليس هنا طبعا مجال الحديث عن هذه الدراسة التي نجدها في كتاب «تهافت الفلاسفة»، ثم نجد التعقيب القادر عليها في كتاب «تهافت التهافت» لفيلسوف الأندلس الأشهر ابن رشد.
والذي نريد أن نشير إليه هنا الآن هو أن جمهرة الباحثين أغفلوا تماما - أو كادوا - دراسة الشيخ الرئيس كفيلسوف اجتماعي له في هذه الناحية آراء لم تخلق جدتها مع تتابع القرون، ومن ثم تضعه بحق في مصاف المفكرين الاجتماعيين المحدثين في أكثر من ناحية من النواحي الاجتماعية، هذه النواحي التي تجعل موضوع دراساتها الفرد والمجتمع من مختلف الزوايا.
وهذا ما سنلمسه واضحا من تحليلنا للفصول التي اخترنا نشرها من كتابه الشفاء، وهي الفصول الأخيرة من المقالة العاشرة في فن الإلهيات، ومقارنة ما فيها من آراء في الاجتماع والسياسة بما يتصل بها من آراء أمثاله من المفكرين في هذه الناحية.
وقد جعلنا نسخة طهران المعروفة أصلا لهذه النصوص وقابلنا عليها النسخ الأخرى، وهذه النسخة في مجلدين طبع طهران عام 1303ه، وقد رمزنا لها بحرفي «طه»، أما تلك النسخ الأخرى فهي: (1)
النسخة رقم 140 حكمة تيمور بدار الكتب المصرية، وتشتمل على قسم من الطبيعيات ثم الإلهيات كلها، وتاريخ كتابتها 535ه، وقد رمزنا لها بحرف «ت». (2)
نسخة مكتبة الأزهر رقم 331 حكمة وفلسفة، آلت إليها عن مكتبة الشيخ بخيت؛ ولذلك رمزنا لها بحرف «ب»، ويلوح أنها كتبت في القرن السابع، وهي كاملة وبخط نسخي دقيق واضح، وبأوراقها أكل أرضة وترميم وآثار رطوبة، وعدد أوراقها 421 ورقة. (3)
نسخة دار الكتب المصرية رقم 144 فلسفة، وهي لا تشمل إلا الإلهيات في مجلد، بقلم تعليق، بخط محمد الكرماني في عام 683ه، وبهامشها تقييدات. وهي في 223 ورقة، ورمزنا إليها بحرفي «مك». (4)
نسخة دار الكتب المصرية رقم 826 فلسفة، وتشمل الإلهيات فقط، وفي مجلد، بقلم نسخي، بخط صفر الكرماني، وفرغ من كتابتها في 15 شوال سنة 1084ه، وعلى هامشها تقييدات كسابقتها، وعدد أوراقها 157 ورقة، ورمزنا إليها بحرفي «صك». (5)
نسخة دار الكتب المصرية رقم 363 حكمة وفلسفة طلعت؛ ولذلك رمزنا إليها بحرف «ط»، ولا تشمل إلا الإلهيات، بقلم تعليق دقيق جدا، وعدد أوراقها 64 ورقة، وتاريخ الانتهاء من كتاباتها 26 رجب سنة 1105ه.
فصل في إثبات النبوة وكيفية دعوة النبي إلى الله تعالى والمعاد إليه1
ونقول الآن: إنه من المعلوم أن الإنسان يفارق سائر الحيوانات بأنه لا يحسن معيشة
2
لو انفرد وحده شخصا واحدا يتولى تدبير أمره، من غير شريك يعاونه على ضروريات حاجته، فإنه
3
لا بد من أن يكون الإنسان مكفيا بآخر من نوعه، ويكون ذلك الآخر
4
أيضا مكفيا به وبنظيره، فيكون هذا مثلا
5
يبقل لذلك،
6
وذاك يخبز
7
لهذا، وهذا يخيط للآخر، والآخر يتخذ الإبرة لهذا، حتى إذا اجتمعوا كان أمرهم مكفيا؛ ولهذا ما اضطروا إلى عقد المدن والاجتماعات، فمن كان منهم غير محتاط في عقد مدينته على شرايط المدينة، وقد
8
وقع منه ومن شركائه الاقتصار على الاجتماع فقط، فإنه يتحيل
9
على جنس بعيد الشبه من الناس وعادم لكمالات الناس، ومع ذلك فلا بد لامتثاله من اجتماع ومن تشبه بالمدنيين.
فإذا كان هذا ظاهرا، فلا بد في وجود الإنسان وبقائه من مشاركة، ولا تتم
10
المشاركة إلا بمعاملة، كما لا بد في ذلك من سائر الأسباب التي تكون له.
11
ولا بد في المعاملة من سنة وعدل، ولا بد للسنة والعدل من سان ومعدل، ولا بد من أن يكون هذا بحيث يجوز أن يخاطب الناس ويلزمهم السنة، ولا بد من أن يكون هذا
12
إنسانا. ولا يجوز أن يترك الناس وآراءهم في ذلك فيختلفون، ويرى كل منهم ما له عدلا وما له ظلما. فالحاجة إلى هذا الإنسان في أن يبقى نوع من الناس
13
ويتحصل وجوده، أشد من الحاجة إلى إنبات الشعر على الأشفار
14
على الحاجبين
15
وتقعير الأخمص من القدمين
16
وأشياء أخرى من المنافع التي لا ضرورة فيها في البقاء، بل أكثر ما لها أنها ينتفع [بها]
17
في البقاء. ووجود الإنسان الصالح لأن يسن ويعدل ممكن كما سلف منا ذكره، فلا يجوز أن يكون العناية الأولى يقتضي تلك المنافع، ولا يقتضي هذه التي هي أسها، ولا أن يكون المبدأ الأول والملائكة بعد يعلم ذلك ولا يعلم هذا، ولا أن يكون ما يعلمه في نظام الأمر الممكن
18
وجوده الضروري حصوله لتمهيد نظام الخير لا يوجد، بل كيف يجوز ألا يوجد وما هو متعلق بوجوده مبني على وجوده بوجود آخر.
19
فواجب إذن أن يوجد نبي، وواجب أن يكون إنسانا، وواجب أن يكون له خصوصية ليست لسائر الناس، حتى يستشعر الناس فيه أمرا لا يوجد لهم فيتميز به منهم،
20
فيكون له المعجزات التي أخبرنا بها.
وهذا
21
الإنسان إذا وجد، وجب أن يسن للناس في أمورهم سننا، بإذن الله تعالى
22
وأمره ووحيه وإنزاله الروح المقدس عليه. ويكون الأصل الأول فيما يسنه تعريفه إياهم أن لهم صانعا واحدا قادرا، وأنه عالم بالسر والعلانية، وأن من حقه أن يطاع أمره، فإنه
23
يجب أن يكون الأمر لمن له الخلق، وأنه قد أعد لمن
24
أطاعه المعاد المسعد ولمن عصاه المعاد المشقي، حتى يتلقى الجمهور رسمه المنزل على لسانه من الإله والملائكة
25
بالسمع والطاعة. ولا ينبغي له أن يشغلهم بشيء من معرفة الله فوق معرفة أنه واحد حق لا شبيه له.
26
فأما
27
أن يعدى بهم
28
إلى أن يكلفهم أن يصدقوا بوجوده، وهو غير مشار إليه في مكان، ولا مقسم
29
بالقول، ولا خارج العالم ولا داخله، ولا شيء من هذا الجنس، [فقد
30
عظم عليهم الشغل وشوش فيما بين أيديهم الدين، وأوقعهم فيما لا تخلص
31
عنه، إلا لمن
32
كان المعان الموفق الذي يشذ
33
وجوده ويندر كونه]؛ فإنه
34
لا يمكنهم أن يتصوروا هذه الأحوال على وجهها
35
إلا بكد
36
وإنما يمكن القليل منهم أن يتصوروا حقيقة هذا التوحيد والتنزيه، فلا يلبثون أن يكذبوا بمثل هذا الوجود ويقعوا في تنازع وينصرفوا إلى المباحثات
37
والمقايسات التي
38
تصدهم عن أعمالهم المدنية، وربما أوقعتهم
39
في آراء مخالفة لصلاح المدينة ومنافية لواجب الحق،
40
وكثرت
41
فيهم الشكوى والشبه، وصعب الأمر على اللسان في ضبطهم، فما كل بميسر
42
له في الحكمة الإلهية، ولا اللسان يصلح له
43
أن يظهر أن عنده حقيقة يكتمها عن
44
العامة. بل يجب ألا يرخص في تعرض شيء من ذلك، بل يجب أن يعرفهم جلال
45
الله تعالى
46
وعظمته برموز وأمثلة من الأشياء التي هي عندهم جليلة وعظيمة،
47
ويلقي إليهم مع هذا هذا القدر، أعني أنه لا نظير له ولا شريك له
48
ولا شبيه.
49
وكذلك يجب أن يقرر عندهم أمر المعاد على وجه يتصورون كيفيته، ويسكن إليه نفوسهم، ويضرب للسعادة والشقاوة أمثالا مما يفهمونه ويتصورونه. وأما الحق في ذلك فلا يلوح لهم منه إلا أمرا
50
مجملا، وهو أن ذلك شيء لا عين رأته ولا أذن سمعته، وأن هناك من اللذة ما هو ملك عظيم ومن الألم ما هو عذاب مقيم.
واعلم أن الله تعالى يعلم أن وجه الخير في هذا، فيجب أن يوجد معلوم الله تعالى على وجهه على ما علمت. ولا بأس أن يشتمل
51
خطابه على رموز وإشارات تستدعي المستعدين بالجبلة للنظر إلى البحث الحكمي.
فصل في العبادات ومنفعتها في الدنيا والآخرة1
ثم إن الشخص الذي هو النبي ليس مما يتكرر وجود مثله في كل وقت، فإن المادة التي تقبل كمال مثله يقع في قليل من الأمزجة، فيجب لا محالة أن يكون النبي
صلى الله عليه وسلم
2
قد دبر لبقائه ما يسنه ويشرعه في أمور المصالح الإنسانية تدبيرا عظيما.
3
ولا شك أن القاعدة في ذلك هي
4
استمرار الناس على معرفتهم بالصانع والمعاد، وحسم سبب وقوع النسيان فيه مع انقراض القرن الذي يلي النبي
5
صلى الله عليه وسلم . فيجب أن يكون على الناس أفعال وأعمال يسن تكرارها عليهم في مدة متقاربة، حتى يكون الذي «ميقاته مطل»
6
مصاقبا للمنقضى منه فيعود به التذكر من رأس، وقبل أن ينفسخ «يلحق عاقبه».
7
ويجب أن يكون هذه الأفعال مقرونة بما يذكر [الله
8
والمعاد لا محالة، وإلا فلا فائدة فيها. والتذكير
9
لا يكون] إلا بألفاظ تقال أو نيات تنوى في الخيال، وأن يقال لهم إن هذه الأفعال تقرب
10
إلى الله تعالى ويستوجب بها
11
الجزاء الكريم، وأن يكون تلك الأفعال بالحقيقة على هذه الصفة، وهذه الأفعال مثل العبادات المفروضة على الناس. وبالجملة يجب أن يكون منبهات، والمنبهات إما حركات وإما إعدام حركات تفضى
12
إلى حركات. فأما الحركات فمثل الصلاة، وأما إعدام الحركات فمثل الصوم، فإنه وإن كان معنى عدميا فإنه يحرك من الطبيعة تحريكا شديدا ينبه صاحبه على أنه
13
على جملة من الأمر ليس هذرا، فيتذكر سبب ما ينويه
14
من ذلك وأنه التقرب
15
إلى الله تعالى.
16
ويجب إن أمكن أن يخلط هذه الأحوال مصالح أخرى في تقوية السنة وبسطها، والمنافع الدنيوية
17
للناس أيضا أن يفعل
18
ذلك،
19
وذلك مثل الجهاد والحج. على أن يعين مواضع من البلاد بأنها أصلح المواضع لعبادة الله تعالى، وأنها خاصة لله تعالى.
20
ويعين أفعالا
21
مما لا بد منها للناس، وأنها
22
في ذات الله تعالى،
23
مثل القرابين فإنها
24
مما يعين في هذا الباب معونة شديدة.
والموضع الذي منفعته في هذا الباب هذه المنفعة، إذا كان فيه مأوى
25
الشارع ومسكنه، فإنه يذكره أيضا، وذكراه في المنفعة المذكورة تالية لذكر الله تعالى
26
والملائكة. والمأوى
27
الواحد ليس يجوز أن يكون نصب عين الأمة كافة، فبالحري أن يفرض إليه مهاجرة وسفرة. ويجب أن يكون أشرف هذه
28
العبادات من وجه هو ما يفرض متوليه أنه مخاطب
29
لله تعالى ومناج
30
إياه وصائر
31
إليه وما [ثل
32
بين يديه، وهذا
33
هو الصلاة. فيجب أن يسن للمصلي من الأحوال] التي يستعد بها للصلاة ما جرت [العادة
34
بمؤاخذة
35
الإنسان نفسه به عند لقاء الملك الإنساني] من الطهارة والتنظيف، [وأن
36
يسن في الطهارة والتنظيف سننا بالغة، وأن يسن عليه فيها ما جرت العادة] بمؤاخذته نفسه به عند «لقاء الملوك»،
37
من الخشوع والسكون وغض البصر وقبض الأطراف وترك الالتفات والاضطراب. وكذا يسن
38
له في كل وقت من أوقات العبادة «آدابا ورسوما»
39
محمودة. فهذه الأحوال
40
ينتفع بها العامة من رسوخ ذكر الله تعالى
41
والمعاد في أنفسهم، فيدوم لهم التثبت بالسن والشرائع بسبب ذلك. وإن لم يكن لهم
42
مثل هذه المذكرات، تناسوا جميع ذلك مع انقراض قرن أو قرنين.
43
وينفعهم أيضا في المعاد منفعة عظيمة، فيما تنزه
44
به أنفسهم، على ما عرفته. وأما الخاصة فأكثر منفعة هذه الأشياء إياهم في المعاد.
فقد قررنا حال المعاد الحقيقي، وأثبتنا أن السعادة في الآخرة مكتسبة بتنزيه النفس، وتنزيه النفس بتعبدها عن اكتساب الهيئات البدنية المضادة لأسباب السعادة. وهذا
45
التنزيه يحصل بأخلاق وملكات، تكتسب بأفعال من شأنها أن تصرف النفس عن البدن والحس، وتديم تذكيرها للمعدن
46
الذي لها، فإذا كانت كثيرة الرجوع إلى ذاتها، لم تنفصل من الأحوال البدنية. ومما يذكرها ذلك ويعينها عليه أفعال متعبة خارجة
47
عن عادة الفطرة، بل هي إلى التكلف، فإنها تتعب البدن والقوى الحيوانية وتهدم
48
إرادتها، من الاستراحة والكسل
49
ورفض العناء وإخماد الحرارة الغريزية واجتناب الارتياض إلا في اكتساب أغراض اللذات البهيمية. ويفرض
50
على النفس عند
51
المحاولة لتلك الحركات ذكر
52
الله تعالى
53
والملائكة وعالم السعادة شاءت أم
54
أبت، «فيتقرر لذلك»
55
فيها هيئة الانزعاج عن هذا البدن وتأثيراته وملكة التسلط على البدن فلا ينفعل عنه.
فإذا جرت عليها أفعال بدنية لم تؤثر فيها هيئة وملكة تأثيرها «لو كانت مخلدة»
56
إليها منقادة
57
لها من كل وجه؛ ولذلك
58
قال
59
القائل الحق:
إن الحسنات يذهبن السيئات . فإن دام هذا الفعل من الإنسان، استفاد ملكة التفات إلى جهة الحق وإعراض عن الباطل، وصار
60
شديد الاستعداد للتخلص إلى السعادة بعد المفارقة البدنية. وهذه الأفعال لو فعلها فاعل ولم يعتقد أنها فريضة من عند الله، وكان مع اعتقاده ذلك يلزمه
61
في كل فعل أن يتذكر الله ويعرض عن غيره؛ لكان جديرا بأن يفوز من هذا الزكاء بحظ،
62
فكيف إذا استعملها من يعلم أن النبي من عند الله تعالى،
63
وبإرسال الله تعالى،
64
وواجب في الحكمة الإلهية إرساله، وأن جميع ما يسنه فإنما هو
65
مما وجب من عند الله أن يسنه،
66
وأن جميع ما يسنه من عند الله تعالى
67
فالنبي فرض عليه
68
من عند الله أن يفرض عبادته؟ ويكون الفائدة في العبادات للعابدين فيما يبقى به فيهم السنة والشريعة التي هي أسباب وجودهم، وفيما يقربهم عند المعاد من الله زلفى بزكائهم. «ثم
69
هذا الإنسان هو الملي بتدبير أحوال الناس على ما ينتظم به أسباب معايشهم ومصالح معادهم، وهو إنسان متميز عن سائر الناس بتألهه.»
فصل في عقد المدينة وعقد البيت وهو النكاح والسنن الكونية في ذلك
ويجب
1
أن يكون القصد
2
الأول للسان في وضع السنن وترتيب المدينة على أجزاء ثلاثة: المدبرون، والصناع، والحفظة، وأن يرتب في كل جنس منهم رئيسا مرتب
3
تحته رؤساء
4 «يلونه،
5
يترتب تحتهم رؤساء» يلونهم، إلى أن ينتهي إلى أفناء الناس، فلا يكون في المدينة إنسان معطل ليس له مقام محدود، بل يكون لكل واحد منهم منفعة في المدينة، وأن يحرم البطالة والتعطل، وألا يجعل لأحد سبيلا إلى أن يكون له من غيره الحظ الذي لا بد منه للإنسان، وتكون جنبته معفاة
6
ليس يلزمها كلفة، فإن هؤلاء يجب أن يردعهم كل الردع، فإن لم يرتدعوا نفاهم
7
من الأرض. وإن كان
8
السبب في ذلك مرضا
9
أو آفة، أفرد لهم موضعا يكون فيه أمثالهم
10
ويكون عليهم قيم.
ويجب أن يكون في المدينة وجه مال مشترك، بعضه من حقوق يفرض على الأرباح المكتسبة والطبيعية
11
كالثمرات والنتاج، وبعضه يفرض عقوبة، وبعضه
12
يكون من أموال المنابذين للسنة وهو
13
الغنايم، ويكون ذلك عدة لمصالح مشتركة وإزاحة لعلة الحفظة الذين لا يشتغلون بصناعة، ونفقة على الذين حيل بينهم وبين الكسب بأمراض وزمانات، ومن الناس من رأى قتل الميئوس من صلاحه
14
منهم، وذلك قبيح، فإن قوتهم
15
لا يجحف بالمدينة. فإن
16
كان لأمثال هؤلاء من قرابته من يرجع إلى فضل استظهار من قوته،
17
فرض عليه كفايته.
والغرامات كلها
18
لا يسن على صاحب جناية ما،
19
بل يجب أن يسن بعضها على أوليائه وذويه الذين
20
لا يزجرونه ولا يحرسونه، ويكون ما يسن من ذلك عليهم مخففا فيه بالمهلة للمطالبة،
21
ويكون ذلك في جنايات تقع خطأ ولا يجوز إهمال أمرها مع وقوعها خطأ.
22
وكما أنه يجب أن يحرم البطالة كذلك يجب أن يحرم الصناعات التي يقع فيها انتقالات الأملاك أو المنافع من غير مصالح يكون بإزائها، وذلك مثل القمار، فإن القامر يأخذ من غير أن يعطي منفعة البتة، بل يجب أن يكون الأخذ أخذا من صناعة يعطى بها «فائدة
23
يكون عوضا، إما عوض
24
هو جوهر، أو عوض هو» منفعة، أو عوض هو ذكر جميل، «أو
25
غير ذلك مما هي
26
معدودة في الخيرات البشرية». وكذلك «يجب أن»
27
يحرم الصناعات التي [تدعو
28
إلى أضداد المصالح أو المنافع، مثل تعلم السرقة] واللصوصية والقيادة وغير ذلك.
ويحرم أيضا الحرف التي تغني
29
الناس عن تعلم الصناعات الداخلة في الشركة مثل المراباة، فإنها طلب زيادة كسب من غير حرفة تحصله وإن كان بإزاء منفعة. ويحرم أيضا الأفعال التي إن وقع
30
فيها ترخيص أدى ضد ما
31
عليه بناء أمر المدينة مثل الزنا واللواط،
32
التي
33
تدعو إلى الاستغناء عن أفضل أركان المدينة وهو التزوج.
ثم أول ما يجب أن يشرع فيه هو أمر التزاوج المؤدي إلى التناسل، وأن يدعو إليه ويحرص عليه، فإن به بقاء الأنواع التي بقاؤها دليل وجود الله تعالى.
34
وأن يدبر في أن يقع ذلك وقوعا ظاهرا لئلا يقع ريبة في النسب، فيقع بسبب ذلك خلل في انتقال المواريث التي هي أصول الأموال؛ لأن المال لا بد منه في المعيشة. والمال منه أصل ومنه فرع، والأصل موروث أو ملقوط أو موهوب، وأصح الأصول من هذه الثلاثة الموروث؛ فإنه ليس عن بخت واتفاق بل عن مذهب كالطبيعي. وقد يقع في ذلك - أعني خفاء المناكحات - أيضا خلل في وجوه أخرى، مثل وجه وجوب نفقة بعض على بعض، ومعاونة
35
بعض لبعض، وغير ذلك مما إذا تأمله العاقل عرفه. ويجب أن يؤكد الأمر أيضا في ثبوت هذه الوصلة، حتى لا يقع مع كل نزق فرقة فيؤدي ذلك إلى تشتت الشمل الجامع للأولاد ووالديهم، وإلى تجدد احتياج كل إنسان إلى المزاوجة، وفي ذلك أنواع من الضرر كثيرة.
ولأن «أكثر أسباب»
36
المصلحة المحبة، والمحبة لا تنعقد إلا بالألفة، والألفة لا تحصل إلا بالعادة، والعادة لا تحصل إلا بطول المخالطة، وهذا التأكيد
37
يحصل من جهة المرأة بألا يكون في يديها إيقاع هذه الفرقة، فإنها بالحقيقة واهية العقل مبادرة إلى طاعة الهوى والغضب. ويجب
38
أن يكون إلى الفرقة سبيل ما، وألا يسد
39
ذلك من كل وجه؛ لأن حسم أسباب التوصل
40
إلى الفرقة بالكلية يقتضي وجوها
41
من الضرر والخلل، منها أن من الطبائع ما لا يألف
42
بعض الطبائع، فكلما اجتهد في الجمع بينهما زاد الشر والنبو
43
وتنغصت المعايش. ومنها أن من الناس من يمنى بزوج غير كفء ولا حسن المذاهب في العشرة، أو بغيض تعافه الطبيعة، «فيصير
44
ذلك داعية إلى الرغبة في غيره»، إذ الشهوة طبيعية، وربما أدى «ذلك
45
إلى وجوه من الفساد، وربما كان» المتزاوجان لا يتعاونان على النسل، فإذا «بدلا
46
بزوجين آخرين تعاونا، فيجب أيضا أن يكون إلى المفارقة» سبيل، ولكنه
47
يجب أن يكون مشددا فيه.
48
فأما
49
أنقص الشخصين عقلا وأكثرهما اختلافا واختلاطا وتلونا، فلا يجعل في يديه من ذلك شيء، بل يجعله إلى الحكام، حتى إذا عرفوا سوء صحبة يلحقها
50
من الزوج الآخر فرقوا. وأما من جهة الرجل، فإنه يلزمه في ذلك غرامة، لا يقدم عليه إلا بعد التثبت، وبعد استطابة
51
ذلك لنفسه من كل وجه. ومع ذلك فالأحسن أن يترك للصلح وجه آخر
52
من غير أن يمعن في توجيهه، فيصير سببا إلى طاعة الطيش، بل يغلظ الأمر في المعاودة أشد من التغليظ في الابتداء، فنعم ما أمر به أفضل الشارعين أنها لا تحل له بعد الثالثة إلا بعد أن يوطن نفسه على تجرع مضض لا مضض فوقه، وهو تمكين رجل آخر من حليلته
53
بأن
54
يتزوجها بنكاح صحيح ويطأها بوطء صريح! فإنه إذا كان بين عينيه مثل هذا الخطب، لم يقدم على الفرقة بالجزاف
55
إلا أن يصمم على الفرقة التامة، أو يكون هناك ركاكة فلا يرى بأسا بفضيحة تصحبها لذة، وأمثال هؤلاء خارجون عن استحقاق طلب المصلحة لهم.
ولما كان من حق المرأة أن تصان لأنها مشتركة في شهوتها وداعية جدا إلى نفسها، وهي مع ذلك أشد انخداعا وأقل للعقل طاعة، والاشتراك فيها يوقع أنفة وعارا عظيما وهي من المضار المشهورة، والاشتراك في الرجل لا يوقع عارا بل حسدا، والحسد غير ملتفت إليه فإنه طاعة للشيطان؛ فبالحري أن يسن عليها في بابها التستر
56
والتخدر. فلذلك ينبغي
57
ألا تكون المرأة من أهل الكسب كالرجل،
58
فلذلك يجب أن يسن لها أن تكفى من جهة الرجل فيلزم الرجل نفقتها. لكن الرجل يجب أن يعوض من ذلك عوضا، وهو أن يملكها وهي لا تملكه، فلا يكون لها أن تنكح غيره، وأما الرجل فلا يحجر عليه في هذا الباب، وإن حرم عليه تجاوز
59
عدد لا يفي بإرضاء ما وراءه ويعوله،
60
فيكون البضع المملوك من المرأة بإزاء ذلك. ولست أعني بالبضع المملوك الجماع، فإن الانتفاع بالجماع مشترك بينهما وحظها أكثر من حظه، والاغتباط والاستمتاع بالولد كذلك، بل ألا يكون إلى استعماله
61
لغيره سبيل. ويسن في الولد أن يتولاه كل واحد من الوالدين
62
بالتربية، أما
63
الوالدة فيما يخصها، وأما الوالد فبالنفقة. وكذلك الولد أيضا يسن عليه خدمتهما وطاعتهما وإكبارهما وإجلالهما، فهما سبب وجوده ومع ذلك فهما قد احتملا مؤنته
64
التي لا حاجة إلى شرحها لظهورها.
فصل في الخليفة والإمام ووجوب طاعتهما والإشارة إلى السياسات والمعاملات والأخلاق1
ثم يجب أن يفرض السان طاعة من يخلفه، وألا يكون الاستخلاف إلا من جهته
2
أو بإجماع
3
من أهل السابقة على من يصححون علانية عند الجمهور أنه مستقل بالسياسة، وأنه أصيل العقل حاصل عنده
4
الأخلاق الشريفة من الشجاعة والعفة وحسن التدبير، وأنه عارف بالشريعة حتى لا أعرف منه؛ تصحيحا يظهر ويستعلن ويتفق عليه الجمهور عند الجميع. ويسن عليهم أنهم إذا افترقوا وتنازعوا للهوى والميل، أو أجمعوا على غير من وجد الفضل فيه والاستحقاق له؛ فقد كفروا بالله. والاستخلاف بالنص أصوب،
5
فإن ذلك لا يؤدي إلى التشاغب والاختلاف.
ثم يجب أن يحكم في سنته أن من خرج فادعى خلافته
6
بفضل قوة أو مال، فعلى الكافة من أهل المدينة قتاله وقتله،
7
فإن قدروا ولم يفعلوا فقد عصوا الله وكفروا به، ويحل دم من قعد عن ذلك وهو متمكن بعد أن يصح
8
على رأس الملأ ذلك منه. ويجب أن يسن أنه لا قربة عند الله تعالى بعد الإيمان بالنبي أعظم من إتلاف هذا المتغلب. فإن صحح الخارجي أن المتولي للخلافة غير أهل لها، وأنه منوا بنقص، وأن ذلك النقص غير موجود في الخارجي، فالأولى أن يطابقه أهل المدينة. المعمول عليه
9
الأعظم العقل وحسن الإبالة - يريد: حسن السياسة - فمن كان متوسطا في الباقي ومتقدما في هذين، بعد ألا يكون غريبا في البواقي وصائرا إلى أضدادها، فهو أولى ممن يكون متقدما في البواقي ولا يكون بمنزلته في هذين، فيلزم أعلمهما أن يشارك أعقلهما ويعاضده ويلزم أعقلهما أن يعتضد به
10
ويرجع إليه
11
مثل ما فعل
12
عمر وعلي عليه السلام.
13
ثم يجب أن يفرض في العبادات أمور لا يتم إلا بالخليفة تنويها بها
14
وجذبا إلى تعظيمه.
15
وتلك الأمور هي الأمور الجامعة مثل الأعياد، فإنه يجب أن يفرض اجتماعات مثل هذه، فإن فيها دعاء للناس إلى التمسك بالجماعة، وإلى استعمال عدد الشجاعة، وإلى المنافسة، وبالمنافسة يدرك الفضائل. وفي الجماعات
16
استجابة الدعوات ونزول
17
البركات على الأحوال التي عرضت من أقاويلنا.
وكذلك يجب أن يكون في المعاملات معاملات يشترك فيها الإمام، وهي المعاملات التي تؤدي إلى ابتناء أركان المدينة، مثل المناكحات والمشاركات الكلية. ثم يجب أن يفرض أيضا في المعاملات المؤدية إلى الأخذ والعطاء سننا تمنع
18
وقوع الغرر
19
والحيف، وأن يحرم المعاملات التي فيها غرر،
20
والتي يتغير فيها الأعواض قبل الفراغ من الإيفاء أو الاستيفاء كالعرف والنسيئة وغير ذلك. وأن يسن على الناس معاونة الناس والذب عنهم، ووقاية أموالهم وأنفسهم، من غير أن يغرم
21
متبرع فيما يلحق بتبرعه .
22
وأما الأعداء والمخالفون للسنة، فيجب أن يسن مقاتلتهم وإفناءهم، بعد أن يدعوا إلى الحق، وأن يباح أموالهم وفروجهم؛ فإن تلك الأموال والفروج إذا لم تكن مدبرة بتدبير المدينة الفاضلة، لم تكن
23
عائدة بالمصلحة التي يطلب المال والفروج
24
لها،
25
بل معينة على الفساد والشر. ولا بد «من ناس يخدمون الناس»،
26
فيجب أن يكون أمثال هؤلاء
27
يجبرون على خدمة أهل المدينة العادلة. وكذلك من كان من الناس بعيدا عن تلقي الفضيلة فهم عبيد بالطبع مثل الترك والزنج. [لعل هذا يجعلنا نوقن بأن ابن سينا لم يكن تركيا!]، وبالجملة
28
الذين نشئوا في غير الأقاليم الشريفة التي أكثر أحوالها أن ينشأ فيها أمم حسنة الأمزجة صحيحة القرائح والعقول.
وإذا
29
كانت غير مدينته مدينة
30
ولها سنة حميدة لم يتعرض لها، إلا أن يكون الوقت يوجب التصريح بأن لا سنة غير السنة النازلة، فإن الأمم والمدن إذا ضلت فسنت عليها سنة فإنه يجب أن يؤكد إلزامها، وإذا أوجب
31
إلزامها فربما أوجب توكيدها
32
أن يحصل عليها العالم بأسره. وإذا
33
كان أهل المدينة الحسنة السيرة يجد
34
هذه السنة أيضا حسنة محمودة، في
35
تجددها إعادة أحوال مدن فاسدة إلى الصلاح، ثم صرحت بأن هذه السنة ليس من حقها أن تقبل،
36
وكذبت السان في دعواه أنها نازلة على المدن كلها؛ كان في ذلك وهن عظيم يستولي على السنة، ويكون للمخالفين أن يحتجوا في ردها بامتناع أهل تلك المدينة
37
عنها. فحينئذ يجب أن يؤدب هؤلاء أيضا ويجاهدوا، ولكن مجاهدة دون مجاهدة أهل الضلال الصرف، أو يلزموا غرامة على ما يؤثرونه، ويصحح عليهم أنهم مبطلون، وكيف لا يكونون
38
مبطلين وقد امتنعوا عن
39
طاعة الشريعة التي أنزلها الله تعالى؟! فإن هلكوا فهم لها أهل، فإن في هلاكهم فسادا لأشخاصهم وصلاحا باقيا، وخصوصا إذا كانت السنة الجديدة أتم وأفضل. ويسن في بابهم
40
أيضا أنهم
41
إن رئيت مسالمتهم على فداء أو جزية فعل. وبالجملة يجب ألا يجريهم وهؤلاء الآخرين مجرى واحدا .
ويجب أن يفرض عقوبات وحدودا ومزاجر يمنع
42
بذلك عن معصية الشريعة، فليس كل إنسان ينزجر لما يخشاه في الآخرة. ويجب أن يكون أكثر ذلك في الأفعال المخالفة للسنة، الداعية إلى فساد نظام المدينة، مثل الزنا والسرقة، ومواطأة أعداء المدينة وغير ذلك. فأما ما يكون من ذلك مما يضر الشخص في نفسه، فيجب أن يكون فيه تأديب
43
لا يبلغ به المفروضات. ويجب أن يكون السنة في العبادات والمزاوجات
44
والمزاجر معتدلة، لا تشدد فيها ولا تساهل. ويجب أن يفوض كثير من الأحوال، خصوصا في المعاملات، إلى الاجتهاد، فإن للأوقات أحكاما لا يمكن أن تضبط.
45
وأما ضبط المدينة بعد ذلك بمعرفة ترتيب الحفظة ومعرفة الدخل والخرج وإعداد أهب الأسلحة
46
والحقوق والثغور وغير ذلك؛ فينبغي أن يكون ذلك إلى السائس من حيث هو الخليفة، ولا يفرض فيها أحكام جزئية؛ فإن فرضها فساد لأنها تتغير مع تغيير الأوقات، وفرض الكليات فيها مع تمام الاحتراز غير ممكن، فيجب أن يجعل ذلك إلى أهل
47
المشورة.
ويجب أن يكون السان يسن أيضا في الأخلاق والعادات
48
سننا يدعو
49
إلى العدالة التي
50
هي الوساطة. والوساطة تطلب في الأخلاق والعادات بجهتين؛
51
فأما ما فيها من كسر غلبة القوي، فلأجل زكاء النفس خاصة واستفادتها
52
الهيئة الاستعلائية، وأن يكون تخلصها من البدن تخلصا نقيا، وأما ما فيها من استعمال هذه القوى فلمصالح دنيوية، وأما استعمال اللذات فلبقاء البدن والنسل،
53
وأما الشجاعة فلبقاء المدينة. والرذائل الإفراطية تجتنب
54
لضررها في المصالح الإنسانية، والتفريطية لضررها في المدينة. والحكمة الفضيلة، التي هي ثالثة العفة والشجاعة، فليس يعنى بها الحكمة النظرية، فإنها لا يكلف فيها التوسط البتة، بل الحكمة العملية التي في الأفعال الدنيوية
55
والتصرفات الدنيوية، فإن الإمعان في تعرفها والحرص على التفنن
56
في توجيه الفوائد من كل وجه منها، واجتناب أسباب المضار من كل وجه، حتى يتبع ذلك وصول أضداد ما يطلبه لنفسه إلى شركائه أو يشغله عن اكتساب الفضائل الأخرى؛ فهو الجربزة.
57
وجعل اليد مغلولة إلى العنق هو إضاعة من الإنسان نفسه وعصره وآلة صلاحه وبقائه إلى وقت استكماله.
ولأن الدواعي شهوانية وغضبية وتدبيرية، فالفضائل ثلاثة: هيئة التوسط في الشهوانية ، مثل لذة المنكوح والمطعوم والملبوس والراحة، وغير ذلك من اللذات الحسية والوهمية،
58 «وهيئة
59
التوسط في الغصبيات كلها، مثل الخوف والغضب والغم والأنفة
60
والحقد والحسد وغير ذلك»،
61
وهيئة التوسط في التدبيرية. ورءوس هذه
62
الفضائل عفة وحكمة
63
وشجاعة، ومجموعها العدالة، وهي خارجة عن الفضيلة
64
النظرية. ومن اجتمعت له
65
معها الحكمة النظرية فقد سعد، ومن فاز مع ذلك بالخواص النبوية كاد
66
أن يصير ربا إنسانيا، وكان أن تحل
67
عبادته بعد الله تعالى،
68 «وكاد أن يفوض إليه أمور عباد الله»،
69
وهو سلطان
70
العالم الأرضي وخليفة الله فيه.
71
تحليل
في الفصل الأول الذي عقده «ابن سينا» لإثبات النبوة وكيفية دعوة النبي لله والمعاد، نجده يذكر أن الإنسان يفارق سائر الحيوانات بأنه لا تحسن معيشته لو انفرد وحده؛ إذ لا بد من أن يكون الإنسان مكفيا بآخر من نوعه، كل منهم يخدم الآخر في ناحية من نواحي الحياة، ومن أجل هذا كان مضطرا إلى عقد المدن والاجتماعات، حتى يكون بعضهم لبعض وإن لم يشعروا خدم.
1
ويخلص من هذا بأن يستنتج بأنه لا بد إذن في وجود الإنسان وبقائه من مشاركة، وأنه لا تتم هذه المشاركة إلا بمعاملة الناس بعضهم لبعض، ولا بد في المعاملة من أن تكون على أساس من سنة وعدل، ولا بد للسنة من شارع يجيء بها وعادل يجريها كما يجب، وهذا لا بد أن يكون إنسانا. والنتيجة لهذا كله بيان أنه من الضروري أن يوجد نبي يرسله الله للناس بهذه السنة والعدل، وأن هذا النبي يجب أن يكون إنسانا لا ملكا من الملائكة.
وهذا النبي إذا وجد يجب أن يسن للناس من السنن والشرائع، بإذن الله ووحيه، ما تصلح أمورهم دنيا وأخرى، ومنها يعرفون أن لهم صانعا واحدا قادرا من حقه أن يطاع أمره، وأنه لا نظير له ولا شريك. كما يجب عليه أن يعرف الناس جلال الله وعظمته برموز وأمثلة مما يعرفون؛ إذ لا بأس من اشتمال خطابه على رموز وإشارات تدعو المستعدين بالفطرة للبحث والنظر. وأخيرا، يجب أن يقرر عندهم المعاد للحياة الأخرى على وجه تسكن إليه نفوسهم.
وفي الفصل الثاني الذي خصصه لبيان الهام من العبادات التي يجب أن يأتي بها هذا الرسول، وبيان منفعة هذه العبادات في هذه الدار الدنيا والدار الأخرى، نرى فيلسوفنا يذكر أنه يجب أن يعمل النبي لبقاء ما يسنه ويشرعه من تشريعات مختلفة تتناول المصالح الإنسانية عامة. على أن يكون الأصل في هذا العمل على استمرار الناس على معرفتهم بالصانع والمعاد في الدار الأخرى، وذلك يكون بما يفرضه عليهم من العبادات التي تتكرر، فيحصل لذلك تنبيه لهم إلى ما يريد، وذلك مثل الصلاة والصوم. وكذلك يجب أن يشرع لهم ما يذكرهم به دائما، وذلك يكون بالحج إلى مأواه ومقره حيا وميتا.
وكذلك يجب عليه أن يعمل لتأكيد سعادة الناس دنيا وأخرى، وذلك بما يكون من شأنه تنزيه النفس عن الخبيث من الطباع والقول والعمل، وهذا التنزيه يحصل بأخلاق وملكات تكتسب بأفعال من شأنها أن تصرف النفس عن البدن والحس، وتديم تذكرها للمعدن الطيب الشريف الذي لها.
على النبي فرض هذه العبادات ونحوها التي تعود فائدتها على العابدين، وذلك بإبقائه فيهم السنة والشريعة التي هي أسباب وجودهم. نقول بأن على النبي هذا لأنه الإنسان المليء القادر على تدبير أحوال الناس على ما ينتظم أسباب معايشهم ومصالح معادهم، ولا عجب! فهو إنسان يتميز عن سائر الناس بتألهه.
وهؤلاء الناس الذين يجيء بهم النبي، ويسن لهم من السنن والشرائع ما أشرنا إلى بعض منها، يعيشون طبعا في مدينته التي لا بد لها من نظم تقوم عليها، وبيان هذا كله هو موضوع الفصل الثالث. وفي هذا الفصل نجد الشيخ الرئيس يرتفع في الناحية الاجتماعية إلى الذروة؛ إذ نجد له آراء لم تكد تعرف إلا في هذا العصر الحديث، وبخاصة ما يتصل بالعمل والبطالة والصناعة وحقوق المرأة.
إنه يبدأ الفصل بقوله بأنه يجب أن يجعل السان أو المشرع ترتيب المدينة على دعائم ثلاث: المدبرون، والصناع، والحفظة ، وهنا نلمح رأي أفلاطون في هذه الناحية.
2
ثم يذكر بأن كل طبقة من هذه الطبقات يكون عليها رئيس تحته رؤساء، وهكذا حتى نصل إلى أفناء الناس، وحينئذ يكون لكل فرد عمل ومقام محدود، وإذن فالبطالة والتعطل محرمان تماما.
فإن وجد فعلا قوم متعطلون من العمل يجب أن ننظر في أمرهم، فإن كانوا قادرين على العمل، وكان الامتناع منه يرجع للكسل، وجب ردعهم أو نفيهم من الأرض إن لم ينفع فيهم الردع والتأديب. وإن كان السبب في البطالة مرضا أو زمانة أو نحو هذا وذاك، وجب أن يجمعوا في مكان خاص - ملجأ بلغة هذا العصر - يكون عليهم فيه قيم ينظر في أمورهم، ولا بد من مال ينفق عليهم منه وتصلح به أمورهم، وهذا المال يجب في رأي «ابن سينا» أن يجمع من ضرائب على الأرباح الطبيعية أو المكتسبة، ومن عقوبات على المخالفين لبعض ما تجيء به السنة، ومن الغنائم التي تنالها الأمة من الأعداء غير المسلمين. ومعنى هذا أن فيلسوفنا كان رجلا عمليا يفكر في المشكلة وفي حلها أيضا.
على أنه لم ينس أن يفكر لنا بأن من الناس - يريد به أفلاطون ومن أخذ أخده - رأى قتل الميئوس من صلاحه، لكنه يرى أن ذلك قبيح، فإن قوتهم لا يجحف بالمدينة. على أنه مع هذا يرى - بحق - إلزام القادر من قرابات هؤلاء الذين لا يرجى صلاحهم ببعض نفقتهم في غير إجحاف ولا إلحاح.
3
ثم رأى بعد ذلك أن هناك جنايات قد تقع، وأن منها ما يكون خطأ يجب ألا يمر دون عقاب من غرامة يدفعها الجاني، لكن هذه الغرامة قد تئود الجاني الذي قد يكون وليه أو قريب له قد قصر في زجره ومنعه منها؛ ولهذا أوجب أن يسهم في هذه الغرامات الأولياء وذوو القربى الذين عليهم بعض التبعة في وقوع هذه الجنايات، تحقيقا للتضامن والمسئولية.
4
ولأن المدينة لا تقوم إلا على الصناعات التي يتمثل فيها الأخذ والإعطاء، كما تتحقق فيها المصلحة العامة المشتركة، يرى ابن سينا أن على السان أو المشرع أن يحرم الصناعات التي لا عوض إزاء منافعها كالقمار؛ فإن القامر يأخذ من دون أن يعطي منفعة البتة، وكذلك المراباة، فإن طلب زيادة كسب من غير حرفة تحصله، وإن كان بإزاء منفعة.
5
وكذلك يجب تحريم ما يؤدي إلى هذا للمصلحة العامة للمدينة، كالسرقة والقيادة والزنا واللواط.
وهنا يصل إلى الزواج وما يتصل به، فنراه يشدد فيه لأن به - كما يقول - بقاء الأنواع التي بقاؤها دليل وجود الله تعالى. ثم يجب أن يقع الزواج ظاهرا، حتى لا يقع خلل في انتقال المواريث التي هي أصول الأموال.
6
ثم لكي تدوم هذه الوصلة الشرعية بين الرجل والمرأة، يجب ألا يكون الطلاق بيد المرأة؛ فإنها - في رأيه - بالحقيقة واهية العقل مبادرة إلى طاعة الهوى والغضب.
7
على أنه يجب أن يكون إلى الفرقة سبيل ما، وألا يسد ذلك من كل وجه؛ لأن في حسم أسباب التوصل إلى الفرقة وجوها من الضرر الشديد. مثلا، اختلاف الطبائع إلى حد عدم الألفة، وسوء الخلق في العشرة، مما يؤدي إلى جعل المعيشة شقية، وربما كان الزوجان لا يتعاونان على النسل، فإذا بدلا بزوجين آخرين تعاونا.
8
وكما منع ابن سينا أن يكون الطلاق بيد المرأة، جعل من السنة أن تكون مستورة مخدرة في دارها، فلذلك ينبغي ألا تتكسب كالرجل الذي عليه نفقتها. وأخيرا، فإن تربية ما يكون للزوجين من ولد يجب أن تكون للأب والأم معا؛ هذه بما شقيت في حمله، وذاك بما عليه من نفقته وإصلاحه.
9
وهذا الفصل الرابع، وهو الأخير من الفصول التي اخترناها لهذه المناسبة للنشر والتحليل والمقارنة، يخصصه ابن سينا للحديث عن الخليفة أو الإمام الذي يخلف السان أو الشارع، نعنى عن الشروط الواجب توفرها فيه، وعن وجوب طاعته، ثم عن وجوه من السياسات العامة والمعاملات والأخلاق التي تؤدي إلى السعادة.
إنه يذكر أولا أنه يجب أن يفرض السان طاعة من يخلفه على المدينة، وألا يكون الاستخلاف إلا من جهته أو بإجماع من أهل الرأي والسابقة، والاستخلاف بالنص أصوب فإن ذلك لا يؤدي إلى التشعب والتشاغب والاختلاف. ثم هذا الخليفة أو الإمام لا بد أن يكون إنسانا ممتازا؛ ولذلك يشترط فيه أن يكون مستقلا بالسياسة، أصيل العقل، متخلقا بشريف الأخلاق، كالشجاعة والعفة وحسن التدبير، وأن يكون مع هذا كله عارفا بالشريعة حتى لا أحد أعرف منه.
10
ويتشدد «ابن سينا» في رعاية هذه الشروط فيمن يختار للإمامة، حتى ليقول بأنه إذا أجمعت الأمة على ولاية غير المستحق الفاضل كان ذلك كفرا بالله، كما يوجب قتال وقتل الخارج على المستحق للخلافة مستندا بفضل قوة أو مال، وأن من قدر على قتاله ولم يفعل كان عاصيا لله كافرا به أيضا. على أنه في حالة تصحيح الخارج أن المتولي للخلافة غير أهل لها، كان الأولى أن يطابقه أهل المدينة، وحينئذ يتعاون الاثنان في الحكم والتدبير، ويتعاضدان ويكمل أحدهما الآخر، ويكون في ذلك الخير للمدينة.
11
وهناك ضرب من العبادات والمعاملات يجب ألا يتم إلا بالخليفة، تنويها بها وتعظيما للخليفة نفسه، وذلك مثل الأعياد والمشاركات الكلية. ولعل فيلسوفنا يريد بهذه الشركات والجمعيات العامة ذوات الخطر في حياة الأمة.
12
ولأنه كان رجلا عمليا، ومترجما صادقا لروح عصره، ومن هنا كان له أثره العظيم في التاريخ، نراه لا ينسى أنه كان هناك حينذاك دول عديدة ذات علاقات مشتركة، وإذن ينبغي ألا يتعرض بسوء لما قد يكون هناك من مدن أخرى، خلاف المدينة الفاضلة، ما دام كل منها يسير على سنة حميدة، اللهم إلا إذا كان هناك ما يوجب التصريح العلني بألا سنة طيبة حميدة غير السنة النازلة من عند الله، أي السنة التي عليها المدينة الفاضلة. لكن إذا كذب أهل مدينة من تلك المدن المشرع في دعواه عموم الشريعة، وجب تأديبهم، على ألا يبلغ ذلك تأديب أهل الضلال الصرف.
وفيلسوفنا يعرف، معرفة تستند إلى الواقع والتجربة، أن الله يزع بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن، وأن هناك كثيرا لا تخالط من أول الأمر قلوبهم حلاوة الطاعة والفضيلة وفعل الخير حتى يعملوا ذلك من أنفسهم تقديرا للفضيلة وحبا لها؛ لذلك يوجب فرض عقوبات دنيوية على من لا يقف عند أوامر السنة ونواهيها، فليس كل إنسان ينزجر لما يخشاه في الآخرة .
على أنه بسبب نزعته العملية أيضا، ولأنه عرف الزمن ونوازله، وعرف أن لكل وقت أحداثه وأحكامه التي تناسبه وبها تصلح أمور من يعيشون فيه؛ رأى أنه «يجب أن يفوض كثير من الأحوال إلى الاجتهاد، خصوصا في المعاملات التي تكون بين الناس بعضهم وبعض، فإن للأوقات أحكاما لا يمكن أن تضبط.»
وأخيرا، لا ينسى الشيخ الرئيس أن من الناس من لا يساعدهم استعدادهم الفطري على معرفة الخير والشر في الأخلاق والعادات؛ لذلك يكون على الشارع أيضا أن يتعرض في شريعته لهذه الناحية، فيسن «أيضا في الأخلاق والعبادات سننا تدعو إلى العدالة»، ويعني بها التوسط بين الطرفين اللذين كلاهما ذميم.
والسعادة تكون في التخلق بهذه الأخلاق الفاضلة، وبالجمع بين شطري الحكمة النظرية والعملية، ومن فاز، مع ذلك، بالخواص النبوية «كاد - كما يقول ابن سينا - أن يصير ربا إنسانيا، وكاد أن تحل عبادته بعد الله تعالى، وكاد أن يفوض الله أمور عباد الله، وهو سلطان العالم الأرضي وخليفة الله فيه.»
هكذا ختم فيلسوفنا كتابة الشفاء، أي بالإشارة إلى أن الخير للعالم لا يكون على تمامه إلا إذا حكم الفلاسفة أو تفلسف الحكام، وما أجل ذلك من ختام لأكبر عمل قام به أكبر فيلسوف في الإسلام!
مقارنات وتعليقات
(1)
هذه الفكرة، وهي أن الإنسان مدني بالطبع، لا يستطيع أن يعيش وحده، نجدها قبل ابن سينا لدى الفلاسفة والمفكرين الذين نظروا في الاجتماع. فأفلاطون في المقالة الثانية من الجمهورية يرى أن الاجتماع ظاهرة طبيعية سببها عجز الفرد عن القيام بكل حاجاته العديدة وحده، وكذلك نراها لأرسطو في المقالة الأولى من كتاب السياسة؛ إذ يقرر أن الذي لا يحتاج لغيره هو إما بهيمة أو إله. هذا في القديم، وفي الحديث نجدها أيضا لدى مسكويه؛ إذ يرى في كتابه «الفوز الأصغر» ص62، طبعة بيروت، سنة 319ه، أن الإنسان اجتماعي بالطبع، أي إنه «لم يخلق خلق من يعيش وحده ويتم له البقاء بنفسه»، وإذا كان الأمر كذلك فمن العدل أن «نعين الناس بأنفسنا كما أعانوننا بأنفسهم، ونبذل لهم عوض ما بذلوا لنا.» ص64. وأخيرا، نرى الفارابي المعلم الثاني يقرر نفس الظاهرة، فيرى أنه «لا يمكن أن يكون الإنسان ينال الكمال الذي لأجله جعلت له الفطرة الطبيعية، إلا باجتماعات جماعة كثيرة متعاونين، يقوم كل واحد لكل واحد ببعض ما يحتاج إليه في قوامه». آراء أهل المدينة الفاضلة، مطبعة النيل بمصر، ص77. (2)
حقيقة، لقد استلهم ابن سينا أفلاطون في هذه الناحية في كتاب «الجمهورية» المقالة الثانية، وظاهر أن كليهما نظر في هذا إلى الإنسان وقواه الثلاث، وإلى الترتيب الطبيعي الواقع في أية مدينة من المدن. إلا أن الشيخ الرئيس خالف فيلسوف الأكاديمية فيما رآه من وجوب الشيوعية في المال والنساء بالنسبة للحراس، نعني الحكام والجند، فلا يملكون شيئا كما يقول في المقالة الثانية من الجمهورية، وكذلك لا يكون لأحد منهم أسرة خاصة كما يقول في المقالة الخامسة. ونعتقد أن ابن سينا، وقد اتبع في ذلك الشريعة الإسلامية، تأثر أيضا بأفلاطون نفسه حين رجع عن هذه الشيوعية في كتاب «القوانين» المقالة الخامسة، وبأرسطو حين نقد رأي أستاذه ولم ير التضحية بالملكية والأسرة في سبيل الدولة، وحين قرر أن الشيوعية في النساء - وما يكون عن ذلك من أولاد - تضر ضررا كبيرا، مثلها في هذا مثل الشيوعية في المال، وبخاصة والمال، كسائر الخيرات الخارجية، لا بد منه لتمام فضيلة المرء ليستعين به على معالي الأمور. انظر في هذا كله كتاب السياسة المقالة الثانية. (3)
قتل الميئوس من صلاحه، أو ناقص التركيب، أو المريض الذي لا رجاء في شفائه، أو عديم النفع لأي سبب كان؛ فكرة كانت من المسلمات عند كثير من مفكري العصر القديم. نجدها عند مفكري إسبارطة، وعند أفلاطون في المقالة الخامسة من «الجمهورية»، وعند تلميذه المعلم الأول في كتاب «السياسة»، وقد أحسن جدا ابن سينا حين أعرض عن هذا الرأي.
إنه رأى بلا شك في ذلك انتهاكا لحرمة النفس الإنسانية بلا ذنب جنته، وبخاصة وتكاليف حياتهم - كما يقول - لا تثقل المدينة. وهنا لا يسعنا أن نمر دون أن نلاحظ أن الشريعة الإسلامية أوجبت على الأب نفقة ولده الصغار الفقراء، وكذلك الأولاد الكبار الإناث مطلقا أو الذكور العاجزين عن كسب حياتهم بسبب كبر السن ونحوه، وكذلك أوجبت على المرء نفقة ذي الرحم المحرم منه، الصغير أو الأنثى مطلقا أو الكبير العاجز عن الكسب بنحو زمانة وعته وفلج. انظر في هذا كتاب «حاشية ابن عابدين» على كتاب «رد المحتار على الدر المختار»، ج2، 727 و728، وكذلك ص62 و63 من الجزء نفسه، بخصوص أن نفقة الفقراء الذين لا أولياء لهم تكون في بيت المال، والزيلعي «شرح الكنز» الطبعة الأولى ببولاق القاهرة، سنة 1313ه، ج3، 59 و62 و64. وبدهي تأثر الشيخ الرئيس في رأيه ذلك بالشريعة الإسلامية. (4)
في هذه الفكرة، فكرة مشاركة الغريب للجاني في تحمل غرامة جنايته، نرى تأثر ابن سينا بالفقه الإسلامي واضحا؛ ففي «ابن عابدين» (المرجع السابق ذكره)، ج5 ص562-567، من طبعة القاهرة عام 1299ه، نجد أن عاقلة المرء هم أهل ديوانه جنديا كان أو كاتبا، أو قبيلته وأقاربه ومن يتناصر بهم إن لم يكن من أهل الديوان، وأن على العاقلة كل دية وجبت بنفس القتل، تؤخذ من عطاياهم في ثلاث سنين، وانظر أيضا «الزيلعي» (المرجع السابق ذكره)، ج6، 176-180. (5)
هذه الصناعات، حسب تعبير الشيخ الرئيس، التي رأى أن على المشرع تحريمها، نجدها محرمة طبعا في الشريعة الإسلامية (ينظر القرآن أو أي كتاب من كتب الفقه)، لما فيها من مضار خطيرة تصيب المدينة والأمة. ونشير هنا إلى أن أرسطو رأى في المقالة الأولى من كتاب السياسة أن الربا، من بين هذه الصناعات، أبشع الوسائل غير الطبيعية لكسب الثروة، وأنه لهذا عقيم لا ينتج منه خير. (6)
تشدد ابن سينا في الزواج وإيجاب إعلانه، لما ذكره من أسباب، من الأمور التي أكدتها كل الشرائع السماوية، انظر فيما يختص بالشريعة الإسلامية «ابن عابدين» (المرجع السابق ذكره) ج2، 382، حيث يذكر أن التزوج فرض عند تيقن الزنا، وواجب عند التوقان، وص383 حيث يذكر أنه سنة مؤكدة عند الاعتدال ، ومكروه عند خوف الجور، وحرام عند تيقنه، ويندب إعلانه للناس. وانظر أيضا «الزيلعي» (المرجع السابق ذكره) ج2، 94 و95 و98 في إعلان الزواج والإشهاد عليه. (7)
هنا يمس الشيخ الرئيس مسألة هامة لها خطرها في كل آن ، وتثور من أجلها هذه الأيام مناقشات عنيفة من وقت لآخر، نعني بها مسألة مساواة المرأة للرجل، أو أنها أدنى منه مرتبة لهذا السبب أو ذاك. ولسنا نتعرض هنا لهذه المشكلة من ناحية ترجح أحد الجانبين، ولكنا فقط نشير إلى أن أرسطو - في المقالة الأولى من كتاب «السياسة» التي تكلم فيها عن تدبير المنزل وجعلها مقدمة لدراسة الدولة - يرى أن المرأة أقل عقلا من الرجل؛ ولذلك يكون إليه أمور المنزل والمدينة، وإليها هي أمور المنزل والأولاد تحت عنايته وإشرافه. والشأن كذلك في كتب الشريعة الإسلامية، بل في القرآن نفسه والحديث، ولسنا في حاجة للإشارة إلى مراجع في هذا، فالأمر واضح كل الوضوح.
على أن ابن سينا يتخذ من كون المرأة «واهية العقل» سببا لجعل الطلاق بيد الرجل وحده حتى لا تلجأ إليه كثيرا إن كان بيدها، بينما الشريعة الإسلامية أجازت للرجل أن يملكها الطلاق بأن يشرط لها هذا في عقد الزواج، وكذلك للقاضي أن يطلقها على الرجل بشروط خاصة وفي حالات خاصة، مثل حالة عدم استطاعة الزوج الإنفاق عليها، أو حالة ما إذا كان سيئ الخلق والعشرة معها. انظر «ابن عابدين» (المرجع السابق ذكره)، ج2، 514 وما بعدها وص711، و«الزيلعي» على «الكنز»، ج2، 188 و219 و222 و225. (8)
الذي يشير إليه الشيخ الرئيس هنا من التشديد في أمر الطلاق نراه في كتب الفقه الإسلامي، ففي كتاب «فتح القدير» للكمال بن الهمام المتوفى عام 861ه، الطبعة الأولى بالمطبعة الأميرية ببولاق بالقاهرة عام 1316ه، ج3، 21؛ أن من أسباب الطلاق تباين الأخلاق وعروض البغضاء بين الزوجين التي تجعل العشرة الطيبة بينهما متعذرة أو فيها عسر شديد، وفي ص22 منه أن من محاسن الطلاق التخلص من المكاره الدينية والدنيوية. ونجد في كتاب «ابن عابدين» (المرجع السابق ذكره)، ج2، 450 و451، أن الطلاق محظور إلا لحاجة كريبة، وكبر سن، وتباين أخلاق، وعروض بغضاء موجبة لعدم إقامة حدود الله، أو أن تكون المرأة مؤذية للزوج أو لغيره، أو أن يكون في عدم الطلاق فوات الإمساك بمعروف كما لو كان الزوج خصيا أو عنينا أو مؤذيا. (9)
ما يتكلم عنه فيلسوفنا هنا من وجوب نفقة الزوجة على زوجها حتى تكون مصونة في دارها، ويتبع ذلك طبعا أن تكون نفقة الأولاد على أبيهم، ومن وجوب جعل تربية هؤلاء بين الأب والأم معا؛ كل هذا نجده مفصلا في كتب الفقه الإسلامي حتى لتكفي الإشارة إلى بعض المراجع الهامة. انظر «ابن عابدين» (المرجع السابق ذكره)، ج2، 698 و727 و728. وفي تربية الولد، بنتا أو ابنا، وأنها في حالة الطلاق تعطى للأم في سن خاصة ثم للأب بعد هذا السن، انظر «الزيلعي» على «الكنز» ج3، 46 وما بعدها إلى ص50، «وابن عابدين» (المرجع السابق ذكره) ج2، 686 وما بعدها إلى ص698. ومن ذلك نعرف مبلغ استلهام ابن سينا هنا أيضا للشريعة الإسلامية. (10)
المعروف من التاريخ الإسلامي من أن ولاية الخليفة كانت تكون بعهد من سابقه أو باختيار أهل الحل والعقد. وانظر في هذا كتاب «الآداب السلطانية» لأقضى القضاة أبي الحسن علي البصري البغدادي، طبع القاهرة عام 1298ه ص5، وكذلك «الإرشاد» لإمام الحرمين، نشر وتحقيق الدكتور محمد موسى والأستاذ علي عبد المنعم عبد الحميد، طبع السعادة بالقاهرة سنة 1950 ص424.
هذا ويذكرنا ابن سينا بهذه الشروط التي رأى وجوب توفرها في الإمام، بما كان يراه أفلاطون من وجوب أن يحكم الفلاسفة أو يتفلسف الحكام، للأسباب التي تحدث عنها طويلا في الجمهورية؛ مقالات 4 و5 و6 بصفة خاصة، والفارابي لم يبعد عن هذا؛ إذ يرى (آراء أهل المدينة الفاضلة، طبعة مصر السابقة الذكر، ص83-86، 57-59 من طبعة ليدن) أن الرئيس هو من جمع بين الحكمة والفيض الإلهي؛ ولذلك يكون (ص89 مصر، 61 ليدن) عالما بالشرائع والسنن، جيد الروية والاستنباط، جيد الإرشاد بالقول إلى شرائع الأولين، متميزا بالشجاعة وأعمال الحرب، ومع هذا كله حكيما.
وفي الشروط الواجب وجودها في الإمام راجع «إمام الحرمين الجويني» (المرجع السابق ذكره)، ص426-427، و«أبا الحسن البصري البغدادي» (كتابه المذكور)، ص4-5. (11)
من هذا نرى أن ابن سينا لا يرى أن يكون هناك إمامان إلا عند الضرورة القصوى، والفارابي (المرجع السابق ذكره ص89 طبعة مصر، 61 طبعة ليدن) يرى أنه إذا وجدت الحكمة في واحد وباقي الشرائط في آخر كانا هما رئيسين معا في المدينة، بل إذا تفرقت هذه الشرائط في أكثر من واحد وكانوا متلائمين، كانوا - مع الحكيم - الرؤساء الأفاضل معا. لكن إمام الحرمين الجويني (المرجع السابق ذكره ص425) ذهب في ذلك مذهبا جيدا وسطا، وذلك إذ يقول: «ذهب أصحابنا إلى منع عقد الإمامة لشخصين ... والذي عندي فيه أن عقد الإمامة لشخصين في صقع واحد متضايق الخطط والمخالف غير جائز، وقد حصل الإجماع عليه، وأما إذا بعد المدى، وتخلل بين الإمامين شسوع النوى، فللاحتمال فيه مجال، وهو خارج عن القواطع»، ونظن أن التاريخ الإسلامي بما كان يحدث من تعدد الخلفاء والأمراء يشهد لهذا الرأي الوسط. (12)
اشتراط الإمام في صحة بعض الشعائر الدينية أو الأعمال أو العقود العامة، تنويها بهذا وذاك، نراه في الفقه الإسلامي. فمن المعروف، مثلا، أن صلاة الجمعة لا تصح عند أبي حنيفة إلا بحضور السلطان أو نائبه، وكذلك نعرفه في غير الصلاة في أيامنا هذه بمصر، نعني بهذا اشتراط مرسوم أو أمر ملكي لقيام بعض الشركات المالية أو الجمعيات العامة، وفي بعض الوظائف الكبيرة، أو ذات الطابع الخاص كمناصب القضاء.
الدكتور
محمد يوسف موسى
ملحق
نرى من الخير أن نقارن هنا، في إيجاز، بين تفكير الشيخ الرئيس وتفكير بعض فلاسفة أوروبا في مسألة العمل والعمال والعاجزين عن العمل، وما يكون لهم على الدولة من حق توفير العيش الطيب لهم: (1)
عندنا مثلا «آدم سميث»، الفيلسوف الأسكتلندي المتوفى عام 1790، إنه يعتبر العمل هو مصدر الثروة، وأن قيمة الشيء لا ترجع إلى صفات ذاتية فيه، بل إلى العرض والطلب. كما كان يرى أن الإنسان ينجح في إفادة المجتمع وهو يعمل لصالح نفسه أكثر مما لو قصد تخصيص مجهوده لصالح المجتمع، وفي هذا يقول: «لم أعرف أن خيرا كثيرا تم على أيدي أولئك الذين يتخذون من الصالح العام تجارة لهم.»
1
هذا الفيلسوف كان لا يرى ضريبة على الأرباح؛ لأنه من العسير تقدير قيمة رأس المال تقديرا حقا صادقا، وهذا بعكس الأراضي، كما أنه من السهل الفرار برأس المال غير الثابت إلى نواح أخرى عندما يحس صاحبه ثقل عبء الضريبة عليه، ومن الواضح أن في هذا الرأي خسارة على الدولة وتضييعا لجانب كبير من الضرائب التي يجب جبايتها لتنفق في صالح الفقير والمحتاج من المواطنين؛ ولهذا لا يذهب إلى هذا الرأي الاقتصاديون في الوقت الحاضر.
وعلى كل فابن سينا كان أبعد نظرا، وأرفق بالفقراء والمحتاجين لعون الدولة حين رأى - كما قدمنا من قبل - فرض ضريبة على الأرباح الطبيعية والأرباح المكتسبة لتصرف في خير المعوزين، ولعل الضريبة على المال غير الثابت تدخل فيما سماه «الأرباح المكتسبة». (2)
والفيلسوف الألماني فخته
Fichte (1762-1814) يرى أن على الدولة أن تكفل لكل فرد من أهلها عملا، وهذا ما يسمى ب «مبدأ حق العمل» الذي نادى هذا الفيلسوف به.
2
ومن بعده نجد كارل ماركس المتوفى عام 1883، يذكر في البيان الذي ضمنه مطالب الحزب الشيوعي في ألمانيا أنه «يجب أن تضمن الدولة المعيشة لجميع العمال، وأن تتولى أمر العاجزين عن العمل.»
3
حق كل مواطن في أن يعمل، وواجب الدولة في ضمان العيش المقبول الكريم لكل مواطن عاجز عن العمل أو لا يجد إليه سبيلا؛ هذا الحق وهذا الواجب اللذان لم يتقررا في أوروبا إلا بعد ثورات اجتماعية أريقت الدماء في بعضها، لم ير ابن سينا أي عناء في تقريرهما، باعتبارهما من الحقوق الطبيعية للإنسان ما دام عضوا في مجتمع ومواطنا في دولة. ومن هذا نرى كم كان تفكير الشيخ الرئيس في هذه المشكلة مشكلة العمل والبطالة، سليما وأصيلا، مثله مثل المشاكل الأخرى التي عالجها في هذا البحث!
صفحة غير معروفة