وبعد، فهذه أمثلة تدل على فلسفة الغزالي - أي على ملكته الذهنية التي يعالج بها معضلات ما وراء الطبيعة ويصيب فيها المحز حيث يضرب غيره ولا يقطع، أو حيث يقطع في غير مفصل، ومن هذه الأمثلة نرى أن الغزالي لم يعطل عمل العقل في مباحث العقيدة، بل كان عمل العقل فيها على أقواه وأنفعه في كل ما تشتغل به العقول من هذه المعضلات.
وللفلسفة - كما نعلم - معنى آخر يشيع في مباحث الأخلاق، عند الذين يتكلمون عن الفيلسوف ويريدون به الحكيم، ويريدون بحكمته طريقته في أدب السلوك ومزاولة العيش أو معاملة الناس ... فالغزالي الحكيم في هذه الفلسفة كذلك لا يعطل عمل العقل ولا يستضعف الفائدة التي يجنيها العابد والعالم والسالك في سبيل دينه ودنياه من احتكامه إلى تفكيره، ولا بد أن يحتكم إليه إمام مسلم يعلم من آيات كتابه وأحاديث نبيه أن التفكير فريضة واجبة في الإسلام.
ولعلنا نقرب الأمر بالتشبيه المحسوس لإدراك موقف الغزالي من العقل، وموقف المعطلين للعقل من القائلين باستلهام الكشف بغير مقدمات من التفكير.
فإذا جاز أن يقال عن هؤلاء الكشفيين: إن الكشف عندهم جناح يغنيهم عن سلم العقل، فالعقل عند الغزالي درج يرتفع به إلى درج أرفع منه، وأدنى إلى أن يبلغ به أسباب السماء.
ويخطئ الذين حسبوه في رياضته لنفسه قد تجافى عن العقل وراض نفسه على قمع خواطره كما راض نفسه على قمع أهوائه وشهواته، فأتى في اجتهاده وتعليمه لنفسه بسنة غير سنن التفكير المستقيم، أو سنن الحياة العملية في مصطلحات العصر الحديث.
من ذاك أنه كان يدمن الخلوة ويزاول العمل المهين مما تعافه النفوس ويمعن في التقشف والاشتداد على الجسد، ويهرب كما قال من الشواغل والعلائق، ويكاد يخرج من عالمه ما وسعه الخروج منه وهو بقيد الحياة.
هذه خطة من الرياضة الخلقية لا يرتضيها الكثيرون من (المفكرين العمليين) بمصطلح العصر الحديث، وليس عليهم أن يرتضوها إذا بدا لهم أنهم يملكون رياضة الأخلاق ومعالجة الأهواء على غير منحاه.
ولكننا إذا تتبعنا أقوال الغزالي وأعماله قبل هذه الرياضة وأثناء هذه الرياضة وبعدها، علمنا أنها خطة واحدة معقولة، ومسلك واحد يتأدى بعضه إلى بعض، وتجربة متلاحقة تلائم فلسفة التفكير، كما تلائم فلسفة النسك والرياضة، وتقوم على أساس واحد وتمضي إلى غاية واحدة وهي القدرة على التجرد أو على التجريد.
يقول رضي الله عنه: «أقل درجات العالم أن يتميز عن العامي الغمر، فلا يعاف العسل وإن وجده في محجمة الحجام، ويتحقق أن المحجمة لا تغير ذات العسل، فإن نفرة الطبع منه مبنية على جهل عامي منشؤه أن المحجمة إنما صنعت للدم المستقذر، فيظن أن الدم مستقذر لكونه في المحجمة ولا يدري أنه مستقذر لصفة في ذاته، فإذا عدمت هذه الصفة في العسل فكونه في ظرفه لا يكسبه تلك الصفة فلا ينبغي أن يوجب له استقذار، وهذا وهم باطل وهو غالب على أكثر الخلق، فمهما نسبت الكلام وأسندته إلى قائل حسن فيه اعتقادهم قبلوه وإن كان باطلا، وإن أسندته إلى من ساء فيه اعتقادهم ردوه وإن كان حقا ...»
تلك أقل درجات العالم، أن يفصل بين العسل وظرفه.
صفحة غير معروفة