20
ولكنه تساؤل اكتسب خطورة كبيرة لما تصدر العلم التجريبي مسيرة العرفان في العصر الحديث.
أول ما يتبادر إلى الذهن أن الاستقراء يمارس - كما أوضحنا - على أساس الحتمية والعلية والاطراد. والعلية بالذات هي اطراد التعاقب في الطبيعة وهي الوجه الآخر للحتمية التي افترض العلماء أنها تحكم عالم الظواهر. وبفضل الحتمية الكونية تغدو العلية شاملة لا تعرف استثناء ولا جوازا، وكما حكمت الوقائع الماثلة سوف تحكم كل الوقائع المماثلة. فيمكن تعميم ما لوحظ على ما لم يلاحظ. هكذا سلم فلاسفة العلم «بقانون العلية» كمبدأ للاستقراء نمارس على أساسه التجريب ونعمم الوقائع، وانقسموا في هذا إلى فريقين يعبران عن اتجاهي الفلسفة الأساسيين:
أولا:
الاتجاه التجريبي - خصوصا الإمبيريقي - يرى أن العقل لا يعرف ولا يصل إلى المبادئ أو غيرها إلا عن طريق الاستقراء. الاستقراء مردود إلى العلية، والعلية بدورها توصلنا إليها - كما توصلنا إلى كل شيء في عقولنا - عن طريق التجريب. فالتجارب تدل على أن الظواهر ترتبط ببعضها ارتباطا ضروريا هو بلا شك ارتباط العلة بالمعلول. وعلى أساس العلية نقيم الاستقراء ومبدأه إقامة تجريبية، أبرز الممثلين لهذا الاتجاه جون ستيوارت مل، وسار وراءه معظم دراويش النزعة الاستقرائية.
بيد أن الدوران المنطقي هنا شديد الوضوح، تبرير الاستقراء - أي العلية - يبرره الاستقراء، التجريب الذي دلنا على العلية! فما زلنا في حاجة إلى مبدأ لتبرير الاستقراء وقفزته التعميمية.
ثانيا:
الاتجاه العقلي: يصدق أيضا على أن الاستقراء يستند على العلية، لكنه يجعلها مبدأ عقليا أوليا سابقا على التجربة كامنا في الذهن سلفا. إن مبدأ الاستقراء ومبرره - أي قانون العلية - ليس مشتقا من التجريب، ولكن هذا هو ما يعرف بالنزعة الأولانية
Apriorism ، أي المصادرة على مبادئ معينة بزعم أنها كامنة في الذهن سلفا، وما أيسر الالتجاء إلى هذا حين يستحيل العثور على مصدر أو تبرير معقول لتلك المبادئ.
وأبرز ممثلي هذا الاتجاه إيمانويل كانط ، وأيضا برتراند رسل
صفحة غير معروفة