Determinism . وقد كانت الحتمية العلمية مبدأ أنطولوجيا «وجوديا» وإبستمولوجيا «معرفيا» في آن واحد، أي تصور لطبيعة الوجود الفيزيقي - طبيعة الكون ومسار أحداثه، ولطبيعة المعرفة به أي العلم وقوانينه. ولا غرو، فلم تكن المعرفة العلمية أو نسق العلم الحديث بأسره إلا تمثيلا مجردا لهذا الوجود الذي نحيا فيه.
40
لم تكن الحتمية آنذاك مجرد مبدأ من مبادئ العلم، بل كانت ركيزة يرتكز عليها وفي الوقت نفسه هدفا منشودا يسعى للوصول إليه، وبين هذا وذاك نجدها أيضا المحك المعتمد طوال الطريق العلمي، وهذا ما عبر عنه كلود برنار قائلا: إنه لا بد للعقل من نقطة ارتكاز أولى، ونقطة الارتكاز هذه هي مبدأ الحتمية المطلقة ولولاها لكان قد قضي على الإنسان وعقله أن يدور في دائرة مفرغة وألا يتعلم شيئا قط،
41
هكذا آمن العلماء، ولم يكتفوا بأن الحتمية هي الأساس، بل سلموا أيضا بأن الغرض الأولي من كل دراسة علمية تجريبية هو تعيين حتمية موضوعها، وصولا إلى الحتمية الشاملة التي هي الحقيقة المطلقة، وبالتالي هدف العلم النهائي، وفي غضون الطريق السائر من ذاك الأساس إلى هذا الهدف المنشود، يظل مبدأ الحتمية أيضا هو المحك التجريبي، والعلاقات الحتمية هي مقياس الحقيقة المنشودة، فيؤكد برنار أنها المبدأ الوحيد الذي يسندنا في وصولنا إلى النظريات العلمية وفي حكمنا عليها.
42
إلى كل هذا الحد سلم العلماء آنذاك بمبدأ الحتمية وبأنه المعبر الوحيد المفضي إلى العلم الحقيقي، وأن إليه يرجع الفضل فيما أصابه العلم من تقدم، والتسليم به سرعان ما جعل قوانين العلم تنطلق بسلاسة من نجاح إلى نجاح أعظم، ومن يقين إلى يقين أدق، ومن الناحية الأخرى أكد اطراد الطبيعة البادي أمام العلماء في ذلك العصر، وتواتر صدق قوانين العلم، خضوع تلك الطبيعة للحتمية، من هنا كانت الحتمية مؤكدة أنطولوجيا وإبستمولوجيا.
أنطولوجيا «أي وجوديا» تعني الحتمية أن نظام الكون مطرد ثابت شامل، لا يشذ عنه في أي زمان ولا في أي مكان شيء، فهو ذو علاقات علية ضرورية ثابتة تجعل كل حدث من أحداثه نتيجة ضرورية «معلولا» لما سبق، ومقدمة شرطية «علة» لما سيلحق أوضاع الكون في أي لحظة محصلة للوضع السابق، تبعا لقوانين ثابتة وهكذا دواليك، حتى إن مجرى الأحداث بجملته حتمته اللحظة الأولى في تاريخ العالم، ومنذ أن تحددت تلك اللحظة والطبيعة تسلك طريقا واحدا لا سواه، يستكشفه العلم، فتعني الحتمية - إبستمولوجيا - عمومية قوانين العلم وثبوتها واطرادها ويقينها، فلا استثناء لها ولا تخلف عنها ولا اتفاق فيها أو جواز أو إمكان أو عرضية، طالما أنه لا مصادقة في الواقع، وكل حدث محتوم وسواه مستحيل.
إن العلم يتوصل إلى القوانين التي تحكم مسار الطبيعة الأوحد؛ لذلك يستنبط أو يتنبأ مما هو حادث بما سوف يحدث في المستقبل، وبما كان من أمر الماضي كما هو - مثلا - في علوم الجيولوجيا والتاريخ البيولوجي والإنساني. تنبؤات العلم يقينية، وكذلك قوانينه ونظرياته، إنه يقين في يقين. واليقين هو التحديد المطلق الجازم الذي لا خطأ فيه ولا احتمال. إنهم يعملون بالرياضيات الإقليدية، ولا يعرفون إلا قيمتي الصدق والكذب، ولا وسط بينهما. صحيح أن الظواهر التي بدت مصادفة وموضع احتمال قد لفتت أنظارهم، حتى إن رجالات ذلك العصر هم مؤسسو الإحصاء وحساب الاحتمال، إلا أنهم فسروه تفسيرا ذاتيا، أي بإرجاعه إلى الذات العارفة وليس موضوع المعرفة، إلى الإنسان وعجزه عن إدراك العلة الحقيقية أو الكافية. نسبة الاحتمال إذن تعبر عن الجهل - فالعلم لا يكون إلا يقينا - وهي مسألة مؤقتة ستضمحل بالتقدم العلمي، لنصل يوما ما إلى اليقين في هذه الظواهر كما وصلنا إليه في سواها. إن اليقين هو التمثيل العيني للعلم بعالم يسير في مسار محتوم.
وأصبح كل هذا مثبتا حين أصبح العلم رياضيا. الرياضيات دائما هي الأنموذج الأمثل لليقين وللضرورة المطلقة. في كل مكان يظل دائما «2 + 2 = 4»، والمثلث شكلا محوطا بثلاثة أضلاع؛ لأن إنكار هذا يعني إنكار أن المثلث مثلث! وطالما أمكن التعبير عن القوانين الفيزيائية في صورة رياضية بلغت حد المعادلات التفاضلية للامتناهي في الصغر - كما رأينا، فمعنى هذا أن الضرورة الرياضية المطلقة قد أصبحت حتمية كونية شاملة، والواقع أن السمة الرياضية هي التي قلبت الحتمية من مبدأ فلسفي - يمكن أن تختلف بشأنه وجهات النظر - إلى مبدأ علمي صريح لا بد وأن يسلم به الجميع تسليمهم بالعلم.
صفحة غير معروفة