فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية

يمنى طريف الخولي ت. 1450 هجري
38

فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية

تصانيف

وتتوالى فقرات «الأورجانون الجديد» لتفصيل هذا المنهج الذي جاء مع بيكون على جانبين أو قسمين: الأول سلبي مختص بالتنويه إلى الأخطاء المتربصة بالعقل البشري كي يتجنبها، والثاني إيجابي مختص بقواعد التجريب، والجانب الإيجابي - مهما كانت قدرته على التعبير عن روح العصر - يعبر عن مرحلة باكرة ومبدئية، فكان مشوبا بقصورات ومآخذ جمة كما سنرى. لذا يحق لنا الحكم بأن الجانب السلبي لا يقل عنه أهمية، إن لم يكن أهم؛ لأنه يمثل إضافة حقيقية ولفتة ثاقبة من بيكون، مثمرة وتظل صالحة لكل العصور. لقد انتهى القرن العشرون ولا تزال البشرية تعاني من تلك الأخطاء التي نوه إليها بيكون في الجانب السلبي من منهجه. ولا بد من الحذر بشأنها ليتجنب العقل البشري مزالقها.

إن العقل عند بيكون أداة مماثلة وتجريد وتصنيف لمعطيات الحواس، وفي تجسيده لخطورة هذه الأوهام المتربصة بالعقل يطلق عليها اسم الأوثان أو الأصنام

Idol ، فهي تتحكم في العقل تحكما رهيبا وتحجبه عن جادة الصواب، فتكون بمثابة أصنام يعبدها ... كأوهام يتشبث بها، وقد كرس لها بيكون أكثر من ثلاثين فقرة من فقرات الكتاب الأول في الأورجانون الجديد، وهو يقسمها إلى أربعة أنماط على النحو التالي: (1)

أوهام الجنس أو القبيلة: والمقصود الجنس البشري بعامة أو القبيلة الإنسانية بأسرها، أي إنها الأخطاء المتربصة بالعقل البشري من حيث هو كذلك، ومن أمثلتها سرعة التعميمات والقفز إلى الأحكام الكلية، فلا ينبغي التسرع في التعميم دون التثبت الكافي؛ كي لا نقع في أحكام خاطئة. وأيضا سيطرة فكرة معينة على الذهن، تجعلنا نختار من الأمثلة والوقائع ما يؤيدها ونغض البصر عما ينفيها، فلا بد من توخي النزاهة العلمية في التعامل مع الوقائع كي ندرأ هذه النوعية من الأخطاء، ومن أمثال هذه الأخطاء الشائعة في طريقة التفكير الإنساني بصفة عامة افتراض الانتظام والاطراد في الطبيعة أكثر مما هو متحقق فيها، حتى إذا صادفنا مثال شارد حاولنا إدخاله بأية طريقة في إطار القانون، فلا ينبغي افتراض أكثر مما هو متحقق فعلا. وثمة أخيرا ما يميل إليه عقل الإنسان من تجريد وإضفاء معنى الجوهر على المظاهر المتغيرة، وهذا يقود إلى عدم التمييز بين طبائع الأشياء ومظاهرها. (2)

أوهام الكهف: والمقصود بالكهف البيئة التي نشأ فيها الفرد، فهي إذن نوعية من الأوهام خاصة بالفرد المعين الذي نشأ في بيئة معينة، بخلاف أوهام الجنس العامة، أوهام الكهف تتمثل في التأثير الكبير لعوامل البيئة ومكوناتها وثقافتها على عقل الإنسان، فيتصور المتواضعات الخاصة بها وكأنها حقائق مطلقة وقد يقصر جهوده المعرفية على إثباتها، مما يحول بينه وبين اقتفاء جادة الصواب، ولو تأملنا مليا في مشكلة التشويه الأيديولوجي للعلوم بعامة والعلوم الإنسانية بصفة خاصة، والتي أشرنا إليها في الفصل السابق، واعتبرناها من كبريات مشاكل فلسفة العلوم الإنسانية، وسوف نعالجها في - الجزء الأخير من الفصل السادس - لوجدنا أن التشويه الأيديولوجي هو ذاته ما أسماه بيكون في الأورجانون الجديد، بأوهام الكهف. (3)

أوهام المسرح: وهي الأوهام أو الأخطاء الناتجة عن تأثير المفكرين القدامى على عقل الإنسان، فيصبح هذا العقل وكأنه خشبة مسرح يعرض عليها المفكرون السابقون رؤاهم المتضاربة والمنفصلة عن الواقع الراهن، إن المتفرجين قد يأسرهم الإعجاب بالممثل وبراعته في تجسيد الدور، فينسى المتفرج واقعه ومشكلاته، ويعيش بمجامع نفسه مع الممثل، يتألم لمآسيه ويفرح لظفره بالمحبوبة، حتى ولو كان بين المتفرج ومحبوبته فراسخ وأميال! المثل تماما يحدث حين يأسر الإنسان الإعجاب بممثلي الفكر السابقين، فيعيش في إطار مصنفاتهم ويلف ويدور حول قضاياهم منفصلا عن واقعه ومستجداته، وتبدو أوهام المسرح أخطر أنواع الأوهام، ربما كان أرسطو يلح على خاطر بيكون وهو يحذرنا من أوهام المسرح، ولكن إذا التفتنا حولنا في واقعنا العربي الراهن إبان الربع الأخير من القرن العشرين وجدناه يعاني من ظاهرة الجماعات الإسلامية المتطرفة التي أصبحت إرهابية. والواقع أنهم حالة مثلى لأوهام المسرح التي حذر بيكون منها؛ فقد سيطرت على أذهانهم مصنفات تراثية معينة، كانت نتاجا أو استجابة لظروف حضارية انتهت منذ قرون عديدة، ملغين ظروف واقعنا، ولا يلتفتون إلى أن فتاوى ابن تيمية لمواجهة المغول لا تصلح لمواجهة القوى الإمبريالية المعاصرة بعد أن تسلحت بالعولمة، أو أن معالم سيد قطب كانت على طريق الاصطدام مع التجربة الناصرية الاشتراكية التي أصبحت الآن أثرا بعد عين. وتماما كما أشار بيكون، الافتنان بممثلي الفكر السابقين لا ينجم عنه إلا خسران الواقع ومستجداته. (4)

أوهام السوق: وهي الناجمة عن الخلط اللغوي وسوء استخدام اللغة، وقد اعتبرها بيكون أبرز ما ينبغي تجنبه. فالضجيج يرتفع في الأسواق، يحجب الإنسان عن الإدراك الواضح للغة، فتنشأ الأوهام الناجمة عن هذا، كأن تستعمل أسماء لأشياء لا وجود لها، ثم نتصور وجود هذه الأشياء الزائفة، أو نترك أشياء حقيقية بلا أسماء نتيجة لقصور في الملاحظة. ويحذرنا بيكون من تلافي هذه الأخطاء عن طريق المناقشات اللفظية. فالفيصل الحق في الرجوع إلى الواقع. إن أوهام السوق تجعل الإنسان يتصور وكأنه هو الذي يملك زمام اللغة ويتحكم فيها ويستعملها كما يشاء، في حين أن اللغة قد تمارس تأثيرها على العقل الإنساني دون أن يعي هذا؛ لذلك ينبغي الحذر والحيطة؛ كي لا نقع في أسر أوهام السوق ... الاستعمالات الخاطئة للغة.

وسوف نرى أن أهم تيارات الفلسفة العلمية في القرن العشرين هو التيار التحليلي الذي جعل الفلسفة منصبة على اللغة وتحليلاتها للتخلص مما يشوب التعبيرات اللغوية من لبس أو غموض أو خلط أو زيف. فلم يكن جزافا إذا الحكم بأن أوهام بيكون أو الجانب السلبي من منهجه، أهم وأكثر حيوية من الجانب الإيجابي.

لقد عرض بيكون لهذه الأوهام ضمنا في كتاب سابق له، كتبه بالإنجليزية وأهداه للملك جيمس الأول ليساعده في النهوض بالبلاد، ونشره عام 1605م وهو كتاب «النهوض بالتعليم

Advancement of Learning »، ثم أعطاها أسماءها وفصلها تفصيلا في الكتاب الأول من «الأورجانون الجديد» الذي يغلب عليه الطابع النقدي؛ وذلك لكي يعقد الإنسان العزم على التحرر منها والتخلص من أدرانها، فيمارس التجريب بعقل تأهب تماما لجني مغانمه.

صفحة غير معروفة