201

فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية

تصانيف

وترتكز هذه الإجابة - والحق منطق الإبستمولوجيا البوبرية بأسره - على قاعدة منطقية صارمة، هي قاعدة اللاتماثل المنطقي

Logical Asymmetry

بين التحقيق، أي إثبات الصدق وبين التكذيب، عن طريق الوقائع التجريبية. المنطق يقضي باختلاف المنزلة المنطقية بين التحقيق والتكذيب، ألف حالة لا تثبت القضية؛ لذا برزت مشكلة الاستقراء، لكن حالة نفي واحدة تحسم القول في كذب القضية ويكون رفض الإثبات وقبول النفي صوابا منطقيا نقيم عليه منطق التجريب العلمي، كما سيفعل معيار التكذيب.

القضية: كل البجع أبيض «لن يثبت صدقها ملايين البجعات البيضاء، فمن أدرانا أنه توجد بجعة ليست بيضاء، لكن لم تصادفنا ولم نرها بعد، أما رؤية بجعة واحدة غير بيضاء فهي كافية لإثبات كذب القضية. وعلى هذا الأساس يمكن الانتقال إلى السؤال الثالث في صياغة بوبر لمشكلة الاستقراء، وهو: هل يمكن للوقائع التجريبية أن تبرر تفضيل بعض من النظريات العمومية المتنافسة مع الأخرى؟

بوبر يرد على هذا بالإيجاب بناء على ما سبق، فإذا توصلنا إلى إثبات كذب بعض من المفروض المتنافسة، أي تم تفنيدها، أصبح من الواضح منطقيا تفضيل الفروض التي لم يتم تفنيدها بعد. وهذه نتمسك بها مؤقتا بوصفها حد التقدم العلمي حتى اللحظة الراهنة، ثم نستأنف الجهود العلمية التالية المسير منها بأن نحاول تفنيدها هي الأخرى، ونحاول أن تضع بدلا منها فروضا أكثر اقترابا من الصدق، نأخذ أفضلها نسبيا ونتمسك بها مؤقتا فقط؛ لأنها أفضل ما لدينا حتى الوقت الراهن إلى أن يتم تفنيدها هي الأخرى والوصول إلى فروض أفضل، نسلم بها بصفة مؤقتة ... وهلم جرا.

هكذا لا يتوقف العلم أبدا، بل يسير سيرا متصلا في إطار منطق للتقدم المستمر. ولا توجد فجوة أو قفزة لا عقلانية كتلك التي تمثلت في التعميم الاستقرائي، فأين اللاعقلانية في معرفة تسير بمنهج نقدي، يبحث عن الخطأ في النظريات المتنافسة؟! إنه منهج التفضيل العقلاني تماما، الذي يتحول إلى لا عقلاني فقط حين نبحث عن التبرير، عن اليقين والنظرية الصادقة أبدا. وكما أوضح مفهوم الصدق والتناظر، التخلي عن مطلب اليقين لا يعني أبدا التخلي عن الصدق. والبحث العلمي محكوم دائما بفكرة الكشف عن نظرية أكثر اقترابا من الصدق، أكثر تقدما. وعلى هذا النحو تتسق تماما الأسس المنطقية للعلم التجريبي، بلا مشاكل استقرائية، ما دامت منطقا للكشف والتقدم وليس للتبرير.

وكانت مشكلة الاستقراء التي أثارها هيوم ذات شق سيكولوجي، وسوف يحيط بوبر به عن طريق مبدأ الطرح

، وخلاصته أن ما يصدق في المنطق يصدق أيضا في علم النفس، أو يطرح عليه، كأن نقول: إن ما يصدق في منهج العلم يصدق أيضا في تاريخ العلم، ويضع بوبر السؤال السيكولوجي هكذا: هل نشعر باليقين من النظريات العمومية حتى المختبرة جيدا كنظرية شروق الشمس كل يوم مثلا؟ بوبر يجيب بالنفي، فاليقين دائما مستحيل الشمس قد لا تشرق غدا، فقد تنفجر أو تقوم القيامة. ولكن إذا كان المبرر العقلاني للشعور باليقين مستحيلا، فهناك بالضرورة اعتقادات قوية نتصرف على أساسها في حياتنا العملية.

إن الحياة العملية لا بد أن تسير، وهي لن تسير إلا إذا اخترنا من بين البدائل أو الاحتمالات المطروحة بديلا نتصرف على أساسه، ومن هذه الزاوية العملية البرجماتية نهمل البدائل الضعيفة - كاحتمال عدم شروق الشمس غدا - ونتصرف على أساس اعتقاداتنا القوية الناجمة عن البدائل المختبرة جيدا، والتي صمدت أمام النقد ومحاولات التفنيد، أي نتصرف - مثلا - على أساس شروق الشمس غدا، بغير أن يعني هذا يقينا مبررا.

إذا في هذا المستوى المبدئي أيضا تتسق علاقة العقل الإنساني بالعالم التجريبي، كما اتسقت في المستوى الأعلى مستوى البحث العلمي، ولا توجد قفزات لا عقلانية غير مبررة، أي تتبخر تماما مشكلة الاستقراء؛ لأن الاستقراء ذاته قد تبخر. ولكي يحسم بوبر هذا يعاود التأكيد على أن اعتقاداتنا السيكولوجية القوية التي نتصرف على أساسها في حياتنا العملية ليست البتة نتيجة التكرار كما أوضح في نقده لهيوم، وأن العقل هو الذي يفرض مفهوم التكرار على الواقع بناء على توقعاته الفطرية السابقة على التجربة، هذه التوقعات كفيلة بأن تجتث الاستقراء من أعمق الجذور. يقول عالم النفس جيرولد كاتس

صفحة غير معروفة