12
إن السياسة ليس لها مبدأ واحد لم تستمده من الأخلاق، فماذا عسى أن يكون التشريع في الممالك إذا كان لا يستند إلى علم الأخلاق؟ وما عسى أن يكون حال الحكومة وقد خلت من العدل؟ وما مصير الجمعيات الإنسانية بلا أخلاق؟ ألا إن العلم الأساسي المتقدم على غيره بفضل أنه شخصي، والسامي عن غيره بسبب أنه يعطي القانون ولا يأخذ منه، إنما هو علم الأخلاق.
تلك كلمة عن علاقة الأخلاق بسائر فروع الفلسفة الهامة وما يتصل بها، وهي وإن كانت موجزة إلا أنها تكفينا الآن.
المبحث الرابع
الخلق وتعريفه، تكونه، المؤثرات فيه، أساليب تكوين الأخلاق
(1) الخلق وتعريفه (1-1) تعريفه
عرف بعض فلاسفة الأخلاق الخلق بأنه «عادة الإرادة»، وعرفه آخرون بأنه «تغلب ميل من الميول على غيره باستمرار»، فما الميل الذي إذا تغلب على المرء دائما صار خلقا؟ وما الإرادة التي إذا اعتادت شيئا سميت عادتها خلقا؟ لبيان ذلك يجب أن نتكلم أولا على العمليات والحالات النفسية التي تسبق العمل، وعلى درجات التوجه والتنبه في النبات والحيوان والإنسان. (1)
الحاجة: تسبح جذور النبات في الأرض طلبا للغذاء، وتتجه فروعه وأغصانه للشمس والهواء طلبا لحاجتها منهما، فإن فقد شيئا من ذلك يبس وذوى. إلا أن هذا التوجه من النبات عمل سخرته له الطبيعة تسخيرا، فهو لا يتصور نفس اتجاهه ولا يشعر بهذا الشيء الذي يتوجه إليه ولا بالغاية المترتبة على حصوله، وهذا التوجه اصطلح على تسميته بالحاجة، «فهي مجرد اتجاه أعمى من النبات نحو غرض معين لا بد منه لحياته، دون تصور ما للشيء المتجه إليه ولا للغاية المتحققة به.» (2)
الشهوة: أما الحيوان فهو، وإن كان مثل النبات في توجهه نحو ما به قوام حياته دون إدراك الغاية المترتبة على حصوله، يمتاز عنه بأنه يتصور هذا الشيء الذي يطلبه وإن كان تصورا غامضا، بل ويحس باللذة عند فوزه بما يطلب وبالألم عند حرمانه منه، فالحيوان الظمآن مثلا يتجه نحو الماء ويتصوره ويشعر بلذة الري، غير أنه لا يشعر بالغاية المترتبة عليه. وهذا التوجه والإحساس الحيواني هو ما يسمى بالشهوة، ومن الممكن تعريفها بأنها «توجه الحيوان إلى ما به تقوم حياته، مع التنبه القليل للمتجه له، دون شعور بالغاية التي تترتب على تحقيقه.» (3)
الميل: نرتقي بعد ذلك للإنسان، فنجده يسعى لما يحتاج إليه، وهو شاعر تماما به متصور اللذة التي تعقب وجوده والألم الذي ينتابه لفقده، كما يتصور أيضا الغاية التي يسعى لدركها، وبهذا التصور للغاية ووضوح الشعور بالمطلوب امتاز الميل في الإنسان عن الشهوة في الحيوان. ويصح لنا بعد ذلك أن نعرف الميل بأنه «توجه من الإنسان لشيء متصور بوضوح مع إدراك الغاية المترتبة على الحصول عليه.»
صفحة غير معروفة