تنبأ ماركس باضمحلال الرأسمالية وبالتالي مجيء الشيوعية لتحل محلها، ولكن الرأسمالية التي عرفها ماركس وحللها هي رأسمالية عدم التدخل، أي الرأسمالية الحرة حرية مطلقة والتي لا تسمح بأي تدخل أو فرض قيود؛ فحتى لو تدخلت الدولة فهي - تبعا لنظرية ماركس - أداة البرجوازية ولن تتدخل إلا لحمايتها والإبقاء عليها. والأمر الواقع الذي كذب نبوءة ماركس هو أن مثل هذه الرأسمالية اختفت تماما فعلا، ولكن لم تكن الاشتراكية هي البديل الوحيد الذي حل محلها دائما. في معظم البلدان حل نظام الرأسمالية الخاصة المقيدة، أو نظام مختلط يجمع بين الملكية الخاصة والملكية العامة، وحتى في أكثر الدول رأسمالية تتدخل الحكومات بإرشاد والتوجيه والتخطيط والتحريم والإلزام، ومنح التسهيلات ورفع الجمارك والضرائب، وحماية حقوق العمال وشملهم بالضمانات والتأمينات الاجتماعية والمعاشات والتأمين ضد البطالة، بل أصبح للعمال حق الإضراب عن العمل وإجبار أصحاب رءوس المال على رفع أجورهم.
وكانت السويد هي التي قامت بأولى الخطوات الحاسمة في هذا الطريق حين حددت ساعات العمل بثمان وأربعين ساعة في الأسبوع. لقد عاش ماركس حتى رأى بعض الإصلاحات في أحوال العمال، لكنه لم ير في هذا تفنيدا لنبوءته، بل إيذانا بانهيار الرأسمالية.
وكان ماركس في هذا قصير النظر؛ فالتعديل التدريجي والحلول التوفيقية التي أنجزت الكثير وسوف تنجز الأكثر، لم تكن إلا تطويرا لشكل من أشكال الرأسمالية وإبقاء عليها. وإذا رأى العمال أنهم يستطيعون تحسين أحوالهم تدريجيا بالتطوير السلمي، فما الذي يدفعهم إلى المخاطرة بثورة دموية تدمر كل شيء؟!
هكذا كذب الواقع نبوءات ماركس، ليتضح أنها تحاول أن تتعلمن، وأن تجعل العلم التاريخي جدليا رغما عنه وعن الواقع التاريخي، وإذا كانت تنصب على تحليل عملية الإنتاج الاقتصادي، فقد كان يمكنها أن تقتصر على وصف ماضي تاريخ الإنتاج وليس مستقبله الذي يظل في عوالم الاحتمال، وبذلك تكون وظيفة المادية الجدلية هي إيجاد منهج نقدي للمجتمع المعاصر، ولا يمكن أن يكون ما قاله ماركس ذا قيمة إلا إذا كان قد كف عن التنبؤ بالمستقبل وعن تأكيد حتمية مجيء المجتمع الشيوعي اللاطبقي.
ديدن العلم هو الاختبار التجريبي، بمعنى أن نستنبط من النظرية ما يلزم عنها من نتائج وتنبؤات لنواجهها بالواقع التجريبي، فإذا كان ثمة تطابق ظلت النظرية حائزة للقبول، أما إذا كان ثمة تناقض فالنظرية في موقف حرج ويتم تركها أو تعديلها. وقد تناقضت تنبؤات الماركسية إلى كل هذا الحد مع الواقع والوقائع التاريخية، ثم تصدعت البقية الباقية من أركان ادعائها السمة العلمية بعد أن حل الاحتمال - في العلم المعاصر - محل الحتمية التي تقوم عليها الماركسية وتؤكد بها مجيء الشيوعية، حين حاولت أن تتعلمن كعلم عصرها، علم القرن التاسع عشر الذي كان حتميا.
إذن لم يستطع ماركس أن يعلمن التاريخ، ويعلمن مجيء الاشتراكية، أي لم يستطع أن يكون عالما ناجحا؛ فهل استطاع أن يكون فيلسوفا ناجحا؟
ثانيا: نقد الماركسية من حيث هي نظرية فلسفية
انتهينا من نقد الماركسية من حيث هي نظرية علمية، أي بوصفها نظرية ذات مضمون معرفي ومحتوى إخباري عن الواقع، يمكننا من التنبؤ بمقبل أحداثه، واتضح أنها حاولت أن تكون علمية ففشلت، وعلينا الآن أن نناقشها على الأرض التي بقيت لها، أي من حيث هي نظرية فلسفية.
إذا كان النقاش أو بالأحرى الاختبار العلمي التجريبي يعتمد أساسا على الواقع والوقائع، فإن النقاش الفلسفي لا يعول كثيرا على هذا. ليس يحط من قدر النظرية الفلسفية أنها لا تنطبق على هذا العالم الفج المضطرم؛ فالفلسفة سوف تعنى دائما بتصور ما ينبغي أن يكون، وربما تترك ما هو كائن للعلم.
لكن ما هو إذن معيار النقاش الفلسفي والحكم على منازل النظريات الفلسفية؟ المعيار الفلسفي يتكون عادة من شقين؛ الأول هو الاتساق أي اتساق النظريات مع نفسها ومسلماتها وقواعد منهجها، ومع مقولات المنطق ومقولات التفكير بعامة . أما الشق الثاني فهو قوة البرهنة والتدليل، فليس يجوز في الفلسفة إلقاء القول على أعنته وفرض الفروض جزافا، ولا يحق البتة للفيلسوف أن يطرح قضية ليست بديهية واضحة بذاتها ويطلب منا التسليم بها، ما لم يكن قد أتى بالمسوغات الكافية والبراهين المثبتة لها. وحين نناقش الماركسية من هذا المنظور سنجد أنها وقعت في تناقضات كثيرة وزلت قدمها في مواطن عدة.
صفحة غير معروفة