ومنذ العقود الأخيرة في القرن العشرين باتت السمة الغالبة على الليبرالية المعاصرة هي أنها تراجعت تماما عن إصرارها على ألا تتدخل الدولة إطلاقا في الأنشطة الاقتصادية، وسلم الجميع بوجوب وضع قوانين توجه الأنشطة الاقتصادية للصالح العام، وتحفظ حقوق الطبقة العاملة التي لا تملك، وأيضا حقوق المستهلكين. إنها الآن تتخذ موقفا وسطا أبعد عن الرجعية المحافظة وأقرب إلى الاشتراكية التي كانت قوة كابحة لها، بلغت مداها مع إعصار الماركسية الذي علا وخبا؛ فماذا عن هذا؟
الاشتراكية
النظريات والمذاهب الاشتراكية عديدة مديدة، لعل أوجه الاختلاف بينها أكثر من أوجه التقارب، ربما كانت الماركسية أشهر وأهم النظريات الاشتراكية، إلا أنها ليست الأوسع انتشارا على أرض الواقع الذي يشهد صنوفا شتى من الأحزاب الاشتراكية، والتطبيقات الاشتراكية والتشريعات الاشتراكية.
فما هي الاشتراكية؟
هي نظام اجتماعي واقتصادي يحاول أن يكون عادلا بأن يقوم على الملكية العامة لوسائل الإنتاج، منعا لاستغلال أقلية من الملاك لأكثرية عاملة؛ قد تتخذ هذه الملكية العامة شكل ملكية الدولة، كاشتراكية كارل ماركس (1818-1883م)، أو الملكية التعاونية كاشتراكية سان سيمون (1760-1825م) في فرنسا وروبرت أوين (1771-1825م) في إنجلترا، التي تؤكد على عدم تركيز رأس المال في أيد قليلة، أو ملكية الجماعة كاشتراكية شارل فورييه (1772-1858م) الذي رأى أن الإنسان خير بطبعه وليس في حاجة إلى القمع، وأن ارتكابه للأخطاء والجرائم بسبب خلل في المجتمع وليس فيه؛ لذلك كان شارل فورييه فوضويا لا سلطويا، حارب مفهوم الدولة، وقال إن شموليتها واتساعها يقودان إلى المركزية والبيروقراطية، ورأى أن ينقسم البشر إلى جماعات صغيرة أسماها «الزمر»، تمثل كل جماعة وحدة إنتاجية تكفي احتياجات أعضائها، ويعمل كل فرد فيها بواعز من ضميره ساعات عمل قليلة، وتكون الملكية مشاعا بينهم.
ثمة أيضا الاشتراكية الفابية، وهي حركة إنجليزية تنتمي لأقدم جمعية اشتراكية في العالم، وتمثل واحدا من أقوى تيارات الاشتراكيات اللاماركسية التي ترفض الثورة الدموية والانقلاب الكلي المفاجئ إلى المجتمع الشيوعي اللاطبقي؛ وقد اتخذت اسمها نسبة إلى القائد فابيوس الذي انتصر على هانيبال عن طريق استراتيجية مؤداها ألا يهاجم الجيش ككل أبدا، بل ينتظر ريثما تأتي اللحظة المناسبة فينفرد بميمنة الجيش، حتى إذا فرغ منها وتركها حطاما انتقل إلى الميسرة ثم المقدمة وهكذا، وفي النهاية كان له النصر.
هكذا يتبنى الاشتراكيون الفابيون استراتيجية تدريجية لتحقيق المجتمع الاشتراكي وإلغاء الفقر، عن طريق التشريع والإدارة وسيطرة المجتمع على إنتاجه وعلى حياته؛ وذلك على أساس أن تكون الاشتراكية أولا ديمقراطية تتحقق عن طريق قبول الأغلبية والقرارات التي تحظى بأعلى نسبة في الاقتراع العام؛ لذلك لا بد أن تكون السبل ممهدة في عقول الجماهير، فينبغي العمل على تنويرها بالحقائق الواقعية عن أوضاع العمال، والدعوة إلى الاشتراكية والإقناع بها، وتكون هذه الاشتراكية - ثانيا - تدريجية حتى لا تسبب قلقلة واضطرابا في الأوضاع؛ وتكون - ثالثا - دستورية سلمية؛ ورابعا لا تعتمد على أية قرارات يعتبرها الجمهور لا أخلاقية، من قبيل استلاب الملكيات الخاصة عنوة، أو مهاجمة الدين والمؤسسات الدينية.
وقد تبلور الفكر الاشتراكي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، نتيجة لتفاقم مساوئ النظام الرأسمالي، خصوصا بعد قيام الثورة الصناعية، وبداية الهجرة من الريف، وزيادة حجم الطبقة العاملة، وزيادة إمكانية استغلالها بصورة بشعة، تطرقت حتى استغلال النساء والأطفال بأجور منخفضة وساعات عمل طويلة، تستغرق هي وساعات النوم كل عمر العامل، بلا أية ضمانات أو تأمينات، مما جعل استغلال العمال شكلا آخر من أشكال العبودية.
الماركسية
كان كارل ماركس هو الفيلسوف الاشتراكي الذي استطاع أن يخرج بفلسفته من قاعات البحث الأكاديمي، ويجعلها تدفع من يؤمن بها إلى حد بذل الحياة من أجل تحقيقها، وتؤرق من لا يؤمن بها، بحيث كانت حتى العقد قبل الأخير من القرن العشرين صداع العالم المزمن.
صفحة غير معروفة