فالنوع الإنساني على هذه الصورة رعية متمردون يخضعون للقوة، ويتملصون منها بالحيلة والعصيان كلما وجدوا لهم سبيلا إلى التملص والاحتيال.
وعلى هذه الصورة وقعت الخطايا الأولى التي جرت عليهم غضب الله وحرمتهم نعمة الخلود، وهي الأكل من الشجرة، والعيث في الأرض بالفساد.
وقد غضب الله كما جاء في سفر التكوين؛ لأن الإنسان أكل من الشجرة التي نهي عنها، وهي شجرة معرفة الخير والشر، أو شجرة المعرفة الإلهية، فقال الرب الإله: «هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا، عارفا الخير والشر، والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل ويحيا إلى الأبد ...»
ومن هنا حاقت اللعنة بالإنسان؛ لأنه أكل من الشجرة، وبالمرأة؛ لأنها استمعت إلى غواية الحية، وبالحية؛ لأنها سولت لهما هذا العصيان، وكان قضاء مبرما على نوع الإنسان كله بعد آدم، فقال الرب الإله للحية: «لأنك فعلت هذا؛ ملعونة أنت من جميع البهائم ومن جميع وحوش البرية، وعلى بطنك تسعين، وترابا تأكلين كل أيام حياتك، وأضع عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها: هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه. وقال للمرأة تكثيرا أكثر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولادا، وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك، وقال لآدم: لأنك سمعت لقول امرأتك وأكلت من الشجرة التي أوصيتك قائلا: لا تأكل منها، ملعونة الأرض بسببك، بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك ... بعرق وجهك تأكل خبزا حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها؛ لأنك تراب، وإلى تراب تعود.»
ولم يكن الإنسان بالمتمرد الوحيد على إرادة الله؛ فإن أبناء الله سكان السماء - ويراد بهم الملائكة - نظروا إلى بنات الناس فرأوا أنهن حسنات فاتخذوا منهن نساء، وغضب الرب فقال: «لا يدين روحي في الإنسان إلى الأبد؛ لزيغانه، وهو بشر وتكون أيامه مائة وعشرون سنة!»
وبعد ذلك أيضا: «دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم أولادا، وهؤلاء هم الجبابرة المشهورون ...!» «فرأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض ، وأن تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم، فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض، وتأسف قلبه، فقال الرب: أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته: الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء؛ لأني حزنت أنني عملته، وأما نوح فوجد نعمة في عين الرب!»
ويمكن أن يقال على هذا: إن الخطيئة الكبرى هي طموح الإنسان إلى العلم والخلود اللذين استأثر بهما الله، فالله على هذه الصورة مالك يكره من رعاياه أن ينفسوا عليه أسرار الحكم والبقاء، وهو يملك التقدير والتدبير، ولكن كما يملك الحاكم فرض الشرائع وفرض الجزاء والعقاب، وقد يراجع نفسه فيما قضاه فيبطله ويلغيه ويندم عليه، كما يفعل الملوك في سياسة الرعايا المحكومين.
وقد جاء في الأسفار المتعددة كلام صريح عن تقسيم الحظوظ بين الآحاد وبين الشعوب من قبل الميلاد، فمن ذلك تمييز بني إسرائيل على غيرهم وتمييز يعقوب على عيسى، وذرية يعقوب على ذرية عيسى، وكلاهما جنين في بطن أمه ... «وتراحم الولدان في بطنها ... فمضت تسأل الرب، فقال لها الرب: في بطنك أمتان، ومن أحشائك يفترق شعبان، شعب يقوى على شعب، وكبير يستعبده صغير».
وترقى الوعاظ والأنبياء في فهم عظمة الله، فدعا أشعيا إلى عبادة الله الذي علم الأشياء منذ القدم وهو «المخبر منذ البدء بالأخير».
ولكن «القدر» لم يزل عند بني إسرائيل مشيئة حاكم يأمر وينهى ويرجع عما أمر به وقضاه، ولم يفهموا القدر قط على أنه نظام شامل للوجود محيط بالأكوان، لا يكل عملا من أعماله إلى الغيب المجهول؛ ليمضي فيه بعد ذلك أو يرجع عنه رجوع الندم وخطأ الحساب.
صفحة غير معروفة